ربع المنجيات
كتاب الصبر والشكر
পৃষ্ঠা - ১২১৯
وطول الأنس به ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة وروح الأنس بمناجاة الله تعالى لكان ذلك كافياً فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة نعم هذه اللذة لا تكون في ابتداء التوبة ولكنها بعد ما يصير عليها مدة مديدة وقد صار الخير ديدناً كما كان الشر ديدناً فالنفس قابلة ما عودتها تتعود والخير عادة والشر لجاجة
فإذن هذه الأفكار هي المهيجة للخوف المهيج لقؤة الصبر عن اللذات ومهيج هذه الأفكار وعظ الوعاظ وتنبيهات تقع للقلب بأسباب تتفق لا تدخل في الحصر فيصير الفكر موافقاً للطبع فيميل القلب إليه ويعبر عن السبب الذي أوقع الموافقة بين الطبع والفكر الذي هو سبب الخير بالتوفيق إذ التوفيق هو التأليف بين الإرادة وبين المعنى الذي هو طاعة نافعة في الآخرة وقد روي في حديث طويل أنه قام عمار بن ياسر فقال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ماذا بني فقال علي رضي الله عنه بني على أربع دعائم على الجفاء والعمى والغفلة والشك فمن جفا احتقر الحق وجهر بالباطل ومقت العلماء ومن عمي نسي الذكر ومن غفل حاد عن الرشد ومن شك غرته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب فما ذكرناه بيان لبعض آفات الغفلة عن التفكر وهذا القدر في التوبة كاف وإذا كان الصبر ركناً من أركان دوام التوبة فلا بد من بيان الصبر فنذكره في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى
كتاب الصبر والشكر
وهو الكتاب الثاني من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أهل الحمد والثناء المنفرد برداء الكبرياء المتوحد بصفات المجد والعلاء المؤيد صفوة الأولياء بقوة الصبر على السراء والضراء والشكر على البلاء والنعماء والصلاة على محمد سيد الأنبياء وعلى أصحابه سادة الأصفياء وعلى آله قادة البررة الأتقياء صلاة محروسة بالدوام عن الفناء ومصونة بالتعاقب عن التصرم والانقضاء
أما بعد فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر (¬1) كما وردت به الآثار وشهدت له الأخبار وهما أيضاً وصفان من أوصاف الله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبوراً وشكوراً فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بكلا شطري الإيمان ثم هو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن ولا سبيل إلى الوصول إلى القرب من الله تعالى إلا بالإيمان وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به الإيمان ومن به الإيمان والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به الإيمان وعن إدراك ما به الإيمان فما أحوج كلا الشطرين إلى الإيضاح والبيان ونحن نوضح كلا الشطرين في كتاب واحد لارتباط أحدهما بالآخر إن شاء الله تعالى
الشطر الأول في الصبر
وفيه بيان فضيلة الصبر وبيان حده وحقيقته وبيان كونه نصف الإيمان وبيان اختلاف
¬_________
(¬1) حديث الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر أخرجه أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد ضعيف
পৃষ্ঠা - ১২২০
أساميه باختلاف متعلقاته وبيان أقسامه بحسب اختلاف القوة والضعف وبيان مظان الحاجة إلى الصبر وبيان دواء الصبر وما يستعان به عليه فهي سبعة فصول تشتمل على جميع مقاصده إن شاء الله تعالى
بيان فضيلة الصبر وقد وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّابِرِينَ بِأَوْصَافٍ وَذَكَرَ الصَّبْرَ
فِي الْقُرْآنِ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ مَوْضِعًا وَأَضَافَ أَكْثَرَ الدَّرَجَاتِ وَالْخَيْرَاتِ إِلَى الصَّبْرِ وَجَعَلَهَا ثَمَرَةً لَهُ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وقال تعالى وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا وَقَالَ تَعَالَى وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانوا يعملون وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صبروا وَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب فَمَا مِنْ قُرْبَةٍ إِلَّا وَأَجْرُهَا بِتَقْدِيرٍ وَحِسَابٍ إلا الصبر ولأجل كون الصوم من الصبر وأنه نصف الصبر قال الله تعالى الصوم لي وأنا أجزي به فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات ووعد الصابرين بأنه معهم فقال تعالى واصبروا إن الله مع الصابرين وعلق النصرة على الصبر فقال تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وجمع للصابرين بَيْنَ أُمُورٍ لَمْ يَجْمَعْهَا لِغَيْرِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هم المهتدون فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول
وأما الأخبار فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ (¬1) على ما سيأتي وجه كونه نصفاً وقال صلى الله عليه وسلم من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرىء منكم بمثل عمل جميعكم ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً وينكركم أهل السماء عند ذلك فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ثم قرأ قوله تعالى ما عندكم ينفد وما عنده الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم الآية (¬2) الآية وروى جابر أنه سئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ الصبر والسماحة (¬3) حديث الصبر كنز من كنوز الجنة غريب لم أجده وسئل مرة ما الإيمان فقال الصبر (¬4) حديث الحج عرفه تقدم في الحج معناه معظم الحج عرفة وقال أيضا صلى صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس // حديث أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس لا أصل له مرفوعا وإنما هو من قول عمر بن عبد العزيز هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب محاسبة النفس وقيل أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام تخلق بأخلاقي وأن من أخلاقي أني أنا الصبور وفي حديث عطاء عن ابن عباس لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار فقال أمؤمنون أنتم فسكتوا فقال عمر نعم يا رسول الله قال وما علامة إيمانكم قالوا نشكر على الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء فقال صلى الله عليه وسلم
¬_________
(¬1) حديث الصبر نصف الإيمان أخرجه أبو نعيم والخطيب من حديث ابن مسعود وتقدم في الصوم
(¬2) حديث من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر الحديث بطوله تقدم في العلم مختصرا ولم أجده هكذا بطول
(¬3) حديث جابر سئل عن الإيمان فقال الصبر والسماحة أخرجه الطبراني في مكارم الآخلاق وابن حبان في الضعفاء وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر ضعيف ورواه الطبراني في الكبير من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده وقال أيضاً الصبر كنز من كنوز الجنة
(¬4) حديث سئل مرة عن الإيمان فقال الصبر أخرجه أبو منصور الديملى في مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ويزيد ضعيف وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفه
পৃষ্ঠা - ১২২১
مؤمنون ورب الكعبة (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما تكره خير كثير (¬2) وقال المسيح عليه السلام إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان الصبر رجلاً لكان كريماً والله يحب الصابرين (¬3) والأخبار في هذا لا تحصى
وأما الآثار فقد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران أحدهما أفضل من الآخر الصبر في المصيبات حسن وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر وقال علي كرم الله وجهه بني الإيمان على أربع دعائم اليقين والصبر والجهاد والعدل وقال أيضاً الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له وكان عمر رضي الله عنه يقول نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين يعني بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى والعلاوة ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشار به إلى قوله تَعَالَى {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هم المهتدون} وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب بكى وقال واعجباه أعطى وأثنى أي هو المعطي للصبر وهو المثني وقال أبو الدرداء ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر هذا بيان فضيلة الصبر من حيث النقل وأما من حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه إلا بعد فهم حقيقة الصبر ومعناه إذ معرفة الفضيلة والرتبة معرفة صفة فلا تحصل قبل معرفة الموصوف فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق
بيان حقيقة الصبر ومعناه
اعلم أن الصبر مقام من مقامات الدين ومنزل من منازل السالكين وجميع مقامات الدين إنما تنتظم من ثلاثة أمور معارف وأحوال وأعمال فالمعارف هي الأصول وهي تورث الأحوال والأحوال تثمر الأعمال فالمعارف كالأشجار والأحوال كالأغصان والأعمال كالثمار وهذا مطرد في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى واسم الإيمان تارة يختص بالمعارف وتارة يطلق على الكل كما ذكرناه في اختلاف اسم الإيمان والإسلام في كتاب قواعد العقائد وكذلك الصبر لا يتم إلا بمعرفة سابقة وبحالة قائمة فالصبر على التحقيق عبارة عنها والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم فإن الصبر خاصية الإنس ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها
وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً
وأما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف
وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب وليس له قوة الصبر البتة إذ الصبر عبارة عن
¬_________
(¬1) حديث عطاء عن ابن عباس دخل على الأنصار فقال أمؤمنون أنتم فسكتوا فقال عمر نعم يا رسول الله الحديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط من رواية يوسف بن ميمون وهو منكر الحديث عن عطاء
(¬2) حديث في الصبر على ما تكره خير كثير أخرجه الترمذى من حديث ابن عباس وقد تقدم
(¬3) حديث لو كان الصبر رجلاً لكان كريما أخرجه الطبراني من حديث عائشة وفيه صبيح بن دينار ضعفه العقيلى
পৃষ্ঠা - ১২২২
ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم واختص بصفتين إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ وأما الدواء النافع مع كونه مضراً في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوي ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد كما أن نور الهداية أيضاً يختلف في الخلق اختلافاً لا ينحصر
فلنسم هذه الصِّفَةُ الَّتِي بِهَا فَارَقَ الْإِنْسَانُ الْبَهَائِمَ فِي قمع الشهوات وقهرها باعثاً دينياً ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى والحرب بينهما سجال ومعركة هذا القتال قلب العبد ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى فالصبر عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ باعث الشهوة فإن ثَبَتَ حَتَّى قَهَرَهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّهْوَةِ فقد نصر حزب الله والتحق بِالصَّابِرِينَ وَإِنْ تَخَاذَلَ وَضَعُفَ حَتَّى غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ وَلَمْ يَصْبِرْ فِي دَفْعِهَا الْتَحَقَ بِأَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ
فإن ترك الأفعال المشتهاة عمل يثمره حال يسمى الصبر وهو ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضاداتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة فإذا قوي يقينه أعني المعرفة التي تسمى إيماناً وهو اليقين بكون الشهوة عدواً قاطعاً لطريق الله تعالى قوي ثبات باعث الدين وإذا قوي ثباته تمت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة فلا يتم ترك الشهوة إلا بقوة باعث الدين المضاد لباعث الشهوة وقوة المعرفة والإيمان تقبح مغبة الشهوات وسوء عاقبتها وهذان الملكان هما المتكفلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره إياهما وهما من الكرام الكاتبين وهما الملكان الموكلان بكل شخص من الآدميين وإذا عرفت أن رتبة الملك الهادي أعلى من رتبة الملك المقوي لم يخف عليك أن جانب اليمين هو أشرف الجانبين من جنبتي الدست الذي ينبغي أن يكون مسلماً له فهو إذن صاحب اليمين والآخر صاحب الشمال
وللعبد طوران في الغفلة والفكر وفي الاسترسال والمجاهدة فهو بالغفلة معرض عن صاحب اليمين ومسيء إليه فيكتب أعراضه سيئة وبالفكر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية فهو به محسن فيكتب إقباله له حسنة وكذا بالاسترسال هو معرض عن صاحب اليسار تارك للاستمداد منه فهو به مسيء إليه فيثبت عليه سيئة وبالمجاهدة مستمد من جنوده فيثبت له به حسنة وإنما ثبتت هذه الحسنات والسيئات بإثباتهما فلذلك سمياً كراماً كاتبين
পৃষ্ঠা - ১২২৩
أما الكرام فلانتفاع العبد بكرمهما ولأن الملائكة كلهم كرام بررة وأما الكاتبون فلإثباتهما الحسنات والسيئات وإنما يكتبان في صحائف مطوية في سر القلب ومطوية عن سر القلب حتى لا يطلع عليه في هذا العالم فإنهما وكتبتهما وخطهما وصائفهما وجملة ما تعلق بهما من جملة عالم الغيب والملكوت لا من عالم الشهادة وكل شيء من عالم الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالم ثم تنشر هذه الصحائف المطوية عنه مرتين مرة في القيامة الصغرى ومرة في القيامة الكبرى وأعني بالقيامة الصغرى حالة الموت إذ قال صلى الله صلى الله عليه وسلم من مات فقد قامت قيامته (¬1) وفي هذه القيامة يكون العبد وحده وعندها يقال ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وفيها يقال كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً أما في القيامة الكبرى الجامعة لكافة الخلائق فلا يكون وحده بل ربما يحاسب على ملأ من الخلق وفيها يساق المتقون إلى الجنة والمجرمون إلى النار زمراً لا آحاداً والهول الأول هو هول القيامة الصغرى ولجميع أهوال القيامة الكبرى نظير في القيامة الصغرى مثل زلزلة الأرض مثلاً فإن أرضك الخاصة بك تزلزل في الموت فإنك تعلم أن الزلزلة إذا نزلت ببلدة صدق أن يقال قد زلزلت أرضهم وإن لم تزلزل البلاد المحيطة بها بل لو زلزل مسكن الإنسان وحده فقد حصلت الزلزلة في حقه لأنه إنما يتضرر عند زلزلة جميع الأرض بزلزلة مسكنه لا بزلزلة مسكن غيره فحصته من الزلزلة قد توفرت من غير نقصان واعلم أنك أرضى مخلوق من التراب وحظك الخاص من التراب بدنك فقط فأما بدن غيرك فليس بحظك والأرض التي أنت جالس عليها بالإضافة الى بذلك ظرف ومكان وإنما تخاف من تزلزله أن يتزلزل بدنك بسببه وإلا فالهواء أبداً متزلزل وأنت لا تخشاه إذ ليس يتزلزل به بدنك فحظك من زلزلة الأرض كلها زلزلة بدنك فقط فهي أرضك وترابك الخاص بك وعظامك جبال أرضك ورأسك سماء أرضك وقلبك شمس أرضك وسمعك وبصرك وسائر خواصك نجوم سمائك ومفيض العرق من بدنك بحر أرضك وشعورك نبات أرضك وشعورك نبات أرضك وأطرافك أشجار أرضك وهكذا إلى جميع أجزائك فإذا انهدم بالموت أركان بدنك فقد زلزلت الأرض زلزالها فإذا انفصلت العظام من اللحوم فقد حملت الأرض والجبال فدكتادكة واحدة فإذا رمت العظام فقد نسفت الجبال نسفاً فإذا أظلم قلبك عند الموت فقد كورت الشمس تكويراً فإذا بطل سمعك وبصرك وسائر حواسك فقد انكدرت النجوم انكداراً فإذا انشق دماغك فقد انشقت السماء انشقاقاً فإذا انفجرت من هول الموت عرق جبينك فقد فجرت البحار تفجيراً فإذا التفت إحدى ساقيك بالأخرى وهما مطيتاك فقد عطلت العشار تعطيلاً فإذا فارقت الروح الجسد فقد حملت الأرض فمدت حتى ألقت ما فيها وتخلت ولست أطول بجميع موازنة الأحوال والأهوال ولكني أقول بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة الصغرى ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصك بل ما يخص غيرك فإن بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتثرت حواسك التي بها تنتفع بالنظر إلى الكواكب والأعمى يستوى عنده الليل والنهار وكسوف الشمس وانجلاؤها لأنها قد كسفت في حقه دفعة واحدة وهو حصته منها فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره ومن انشق رأسه فقد انشقت سماؤه إذ السماء عبارة عما يلي جهة الرأس فمن لا رأس له لا سماء له فمن أين ينفعه بقاء السماء لغيره فهذه هي القيامة الصغرى والخوف بعد أسفل والهول بعد مؤخر وذلك إذا جاءت الطامة الكبرى وارتفع الخصوص وبطلت السموات والأرض ونسفت الجبال ونمت الأهوال
¬_________
(¬1) حديث من مات فقد قامت قيامته أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب الموت من حديث أنس بسند ضعيف
পৃষ্ঠা - ১২২৪
واعلم أن هذه الصغرى وإن طولنا في وصفها فإنا لم نذكر عشير أوصافها وهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى فإن للإنسان ولادتين إحداهما الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم ونسبة سعة العالم الذي يقدم عليه العبد بالموت إلى سعة فضاء الدنيا كنسبة فضاء الدنيا أيضاً إلى الرحم بل أوسع وأعظم فقس الآخرة بالأولى فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وما النشأة الثانية إلا على قياس النشأة الأولى بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنتين وإليه الإشارة بقوله تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فالمقر بالقيامتين مؤمن بعالم الغيب والشهادة وموقن بالملك والملكوت والمقر بالقيامة الصغرى دون الكبرى ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين وذلك هو الجهل والضلال والإقتداء بالأعور الدجال
فما أعظم غفلتك يا مسكين وكلنا ذلك المسكين وبين يديك هذه الأهوال فإن كنت لا تؤمن بالقيامة الكبرى بالجهل والضلال أفلا تكفيك دلالة القيامة الصغرى أو ما سمعت قول سيد الأنبياء كفى بالموت واعظاً (¬1) او ما سمعت بكر به عليه السلام عند الموت حتى قال صلى الله عليه وسلم اللهم هون على محمد سكرات الموت (¬2) أو ما تستحي من استبطائك هجوم الموت اقتداءً برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون فيأتيهم المرض نذيراً من الموت فلا ينزجرون ويأتيهم الشيب رسولاً منه فما يعتبرون فيا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أم يحسبون أن الموتى سافروا من عندهم فهم معدمون كلا وإن كل لما جميع لدينا محضرون {ولكن} ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
ولنرجع إلى الغرض فإن هذه تلويحات تشير إلى أمور هي أعلى من علوم المعاملة فنقول ظهر أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ في مقاومة باعث الهوى وهذه المقاومة من خاصة الآدميين لما وكل بهم من الكرام الكاتبين ولا يكتبان شيئاً عن الصبيان والمجانين إذ قد ذكرنا أن الحسنة في الإقبال على الاستفادة منهما والسيئة في الإعراض عنهما وما للصبيان والمجانين سبيل إلى الاستفادة فلا يتصور منهما إقبال وإعراض وهما لا يكتبان إلا الإقبال والإعراض من القادرين على الإقبال والإعراض ولعمري إنه قد تظهر مباديء إشراق نور الهداية عند سن التمييز وتنمو على التدريج إلى سن البلوغ كما يبدو نور الصبح إلى أن يطلع قرص الشمس ولكنها هداية قاصرة لا ترشد إلى مضار الآخرة بل إلى مضار الدنيا فلذلك يضرب على ترك الصلوات ناجزاً ولا يعاقب على تركها في الآخرة ولا يكتب عليه من الصحائف ما ينشر في الآخرة بل على القيم العدل والولى البر الشفيق
¬_________
(¬1) حديث كفى بالموت واعظا أخرجه البيهقى فى الشعب من حديث عائشة وفيه الربيع بن بدر ضعيف ورواه الطبرانى من حديث عقبة بن عامر وهو معروف من قول الفضيل بن عياض رواه البيهى فى الزهد
(¬2) حديث اللهم هون على محمد سكرات الموت أخرجه الترمذى وقال غريب والنسائى فى اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عائشة بلفظ اللهم أعنى على سكرات الموت
পৃষ্ঠা - ১২২৫
إن كان من الأبرار وكان على سمت الكرام الكاتبين البررة الأخيار أن يكتب على الصبي سيئته وحسنته على صحيفة قلبه فيكتبه عليه بالحفظ ثم ينشره عليه بالتعريف ثم يعذبه عليه بالضرب فكل ولي هذا سمته في حق الصبي فقد ورث أخلاق الملائكة واستعملها في حق الصبي فينال بها درجة القرب من رب العالمين كما نالته الملائكة فيكون مع النبيين والمقربين والصديقين وإليه الإشارة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كهاتين في الجنة (¬1) وأشار إلى إصبعيه الكريمتين صلى الله عليه وسلم
بيان كون الصبر نصف الإيمان
اعلم أن الإيمان تارة يختص في إطلاقه بالتصديقات بأصول الدين وتارة يختص بالأعمال الصالحة الصادرة منها وتارة يطلق عليهما جميعاً وللمعارف أبواب وللأعمال أبواب ولاشتمال لفظ الإيمان على جميعها كان الإيمان نيفاً وسبعين باباً واختلاف هذه الإطلاقات ذكرناه في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات ولكن الصبر نصف الإيمان باعتبارين وعلى مقتضى إطلاقين
أحدهما أن يطلق على التصديقات والأعمال جميعاً فيكون للإيمان ركنان أحدهما اليقين
والآخر الصبر والمراد باليقين المعارف القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى أصول الدين والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفه أن المعصية ضارة والطاعة نافعة ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فقال من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر الحديث إلى آخره
الاعتبار الثاني أن يطلق على الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف وعند ذلك ينقسم جميع ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره فيهما وله بالإضافة إلى ما يضره حال الصبر وبالإضافة إلى ما ينفعه حال الشكر فيكون الشكر أحد شطري الإيمان بهذا الاعتبار كما أن اليقين أحد الشطرين بالاعتبار الأول وبهذا النظر قال ابن مسعود رضي الله عنه الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر وقد يرفع أيضاً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولما كان الصبر صبراً عن باعث الهوى بثبات باعث الدين وكان باعث الهوى قسمين باعث من جهة الشهوة وباعث من جهة الغضب فالشهوة لطلب اللذيذ والغضب للهرب من المؤلم وكان الصوم صبراً عن مقتضى الشهوة فقط وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب قال بهذا الاعتبار الصوم نصف الصبر لأن كمال الصبر بالصبر عن دواعي الشهوة ودواعي الغضب جميعاً فيكون الصوم بهذا الاعتبار ربع الإيمان فهكذا ينبغي أن تفهم تقديرات الشرع بحدود الأعمال والأحوال ونسبتها إلى الإيمان والأصل فيه أن تعرف كثرة أبواب الإيمان فإن اسم الإيمان يطلق على وجوه مختلفة
بيان الأسامي التي تتجدد للصبر بالإضافة إلى ما عنه الصبر
اعلم أن الصبر ضربان أحدهما ضرب بدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها وهو إما بالفعل كتعاطي
¬_________
(¬1) حديث أنا وكافل اليتيم كهاتين أخرجه البخارى من حديث سهل بن سعد وتقدم
পৃষ্ঠা - ১২২৬
الأعمال الشاقة إما من العبادات أو من غيرها وإما بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة وذلك قد يكون محموداً إذا وافق الشرع
ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى ثم هذا الضرب إن كان صبراً على شهوة البطن والفرج سمي عفة وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشق الجيوب وغيرهما وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس وتضاده حالة تسمى البطر وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً ويضاده التذمر وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام سمي كتمان السر وسمي صاحبه كتوماً وإن كان عن فضول العيش سمى زهدا ويضاده الحرص وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده الشره فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر ولذلك لما سئل عليه السلام مرة عن الإيمان قال هو الصبر لأنه أكثر أعماله وأعزها كما قال الحج عرفة وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبراً فقال تعالى والصابرين في البأساء أي المصيبة والضراء أي الفقر وحين البأس أي المحاربة {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} فإذن هذه أقسام الصبر باختلاف متعلقاتها ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه الأحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها من حيث رأى الأسامي مختلفة والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور الله تعالى يلحظ المعاني أولاً فيطلع على حقائقها ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة على المعاني فالمعاني هي الأصول والألفاظ هي التوابع ومن يطلب الأصول من التوابع لا بد وأن يزل وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم} فإن الكفار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلا بمثل هذه الانعكاسات نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه
بيان أقسام الصبر بحسب اختلاف القوة والضعف
اعلم إِنَّ بَاعِثَ الدِّينِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَاعِثِ الْهَوَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَقْهَرَ دَاعِيَ الْهَوَى فَلَا تَبْقَى لَهُ قُوَّةُ الْمُنَازَعَةِ وَيُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِدَوَامِ الصَّبْرِ وَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ وَالْوَاصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ هُمُ الْأَقَلُّونَ فَلَا جَرَمَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الْمُقَرَّبُونَ {الَّذِينَ قالوا ربنا الله ثم استقاموا} فهؤلاء لازموا الطريق المستقيم واستووا على الصراط القويم واطمأنت نفوسهم على مقتضى باعث الدين وإياهم ينادي المنادي {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَغْلِبَ دَوَاعِي الْهَوَى وَتَسْقُطُ بِالْكُلِّيَّةِ مُنَازَعَةُ بَاعِثِ الدِّينِ فَيُسَلِّمُ نَفْسَهُ إِلَى جند الشياطين ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغَافِلُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَرَقَّتْهُمْ شَهَوَاتُهُمْ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ شِقْوَتُهُمْ فَحَكَّمُوا أَعْدَاءَ الله في قلوبهم التي هي سر من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله وإليهم الإشارة بقوله تعالى {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم وقيل لمن قصد إرشادهم فأعرض عمن تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا
পৃষ্ঠা - ১২২৭
{ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط والغرور بالأماني وهو غاية الحمق كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أتبع نفسه هواها وتمنى على الله (¬1) وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال أنا مشتاق إلى التوبة ولكنها قد تعذرت علي فلست أطمع فيها أو لم يكن مشتاقاً إلى التوبة ولكن قال إن الله غفور رحيم كريم فلا حاجة به إلى توبتي وهذا المسكين قد صار عقله رقيقاً لشهوته فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار فهم يستسخرونه في رعاية الخنازير وحفظ الخمور وحملها ومحله عند الله تعالى محل من يقهر مسلماً ويسلمه إلى الكفار ويجعله أسيراً عندهم لأنه بفاحش جنايته يشبه أنه سخر ما كان حقه أن لا يستسخر وسلط ما حقه أن لا يتسلط عليه وإنما استحق المسلم أن يكون متسلطاً لما فيه من معرفة الله وباعث الدين وإنما استحق الكافر أن يكون مسلطاً عليه لما فيه من الجهل بالدين وباعث الشياطين وحق المسلم على نفسه أوجب من حق غيره عليه فمهما سخر المعنى الشريف الذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الذي هو من حزب الشياطين المبعدين عن الله تعالى كان كمن أرق مسلماً لكافر بل هو كمن قصد الملك المنعم عليه فأخذ أعز أولاده وسلمه إلى أبغض أعدائه فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته واستيجابه لنقمته لأن الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى والعقل أعز موجود خلق على وجه الأرض
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْجُنْدَيْنِ فَتَارَةً لَهُ الْيَدُ عَلَيْهَا وَتَارَةً لَهَا عليه وهذا من المجاهدين يعد مثله لَا مِنَ الظَّافِرِينَ وَأَهْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُمُ الَّذِينَ {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أن يتوب عليهم} هذا باعتبار القوة والضعف ويتطرق إليه أيضاً ثلاثة أحوال باعتبار عدد ما يصبر عنه فإنه إما أن يغلب جميع الشهوات أو لا يغلب شيئاً منها أو يغلب بعضها دون بعض وتنزيل قوله تعالى {خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} على من عجز عن بعض الشهوات دون بعض أولى وَالتَّارِكُونَ لِلْمُجَاهَدَةِ مَعَ الشَّهَوَاتِ مُطْلَقًا يُشَبَّهُونَ بِالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا إِذِ الْبَهِيمَةُ لَمْ تُخْلَقْ لَهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا تُجَاهِدُ مقتضى الشهوات وهذا قد خلق ذلك له وعطله فهو الناقص حقاً المدبر يقيناً ولذلك قيل
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
وينقسم الصبر أيضاً باعتبار اليسر والعسر إلى ما يشق على النفس فلا يمكن الدوام عليه إلا بجهد جهيد وتعب شديد ويسمى ذلك تصبراً وإلى ما يكون من غير شدة تعب بل يحصل بأدنى تحامل على النفس ويخص ذلك باسم الصبر وَإِذَا دَامَتِ التَّقْوَى وَقَوِيَ التَّصْدِيقُ بِمَا فِي العاقبة من الحسنى تيسر الصبر ولذلك قال تعالى {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} ومثال هذه القسمة قدرة المصارع على غيره فإن الرجل القوي يقدر على أن يصرع الضعيف بأدنى حملة وأيسر قوة بحيث لا يلقاه في مصارعته إعياء ولا لغوب ولا تضطرب فيه نفسه ولا ينبهر ولا يقوى على أن يصرع الشديد إلا بتعب ومزيد جهد وعرق جبين فهكذا تكون المصارعة بين باعث الدين وباعث الهوى فإنه على التحقيق صراع بين جنود الملائكة وجنود الشياطين ومهما أذعنت الشهوات وانقمعت وتسلط باعث الدين واستولى وتيسر الصبر بطول المواظبة أورث ذلك مقام الرضا كما سيأتي في كتاب الرضا فالرضا
¬_________
(¬1) حديث الكيس من دان نفسه الحديث تقدم فى ذم الغرور
পৃষ্ঠা - ১২২৮
أعلى من الصبر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير وقال بعض العارفين أهل الصبر على ثلاثة مقامات أولها ترك الشهوة وهذه درجة التائبين وثانيها الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين وثالثها المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصديقين
وسنبين في كتاب المحبة أن مقام المحبة أعلى من الرضا كما أن مقام الرضا أعلى من مقام الصبر وكأن هذا الانقسام يجري في صبر خاص وهو الصبر على المصائب والبلايا
واعلم أن الصبر أيضاً ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم فالصبر عن المحظورات فرض وعلى المكاره نفل والصبر على الأذى المحظور محظور كمن تقطع يده أو يد ولده وهو يصبر عليه ساكتا وكمن يقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن اظهاره الغيرة ويسكت على ما يجري على أهله فهذا الصبر محرم والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع فليكن الشرع محك الصبر فكون الصبر نصف الإيمان لا ينبغي أن يخيل إليك أن جميعه محمود بل المراد به أنواع من الصبر مخصوصة
بَيَانُ مَظَانِّ الْحَاجَةِ إِلَى الصَّبْرِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَلْقَى الْعَبْدُ فِي هذه الحياة لا يخلو من نوعين أحدهما هو الذي يوافق هواه والآخر هو الذي لَا يُوَافِقُهُ بَلْ يَكْرَهُهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّبْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ فِي جميع الأحوال لا يخلو عن أحد هذين النوعين أو عن كليهما فهو إذن لَا يَسْتَغْنِي قَطُّ عَنِ الصَّبْرِ
النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَالْمَالُ وَالْجَاهُ وَكَثْرَةُ الْعَشِيرَةِ وَاتِّسَاعُ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعُ مَلَاذِّ الدُّنْيَا وَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا والانهماك في ملاذها المباحة منها أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى حتى قال بعض العارفين البلاء يصبر عليه المؤمن والعوافي لا يصبر عليها إلا صديق وقال سهل الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء ولما فتحت أبواب الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم قالوا ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر وَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذكر الله} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عدواً لكم فاحذروهم} وقال صلى الله عليه وسلم الولد مبخلة مجبنة محزنة ولما نظر عليه السلام إلى ولده الحسن رضي الله عنه يتعثر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه ثم قال {صدق الله} إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني لما رأيت ابني يتعثر لم أملك نفسي أن أخذته ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار
فَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ وَمَعْنَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده وعسى أن يسترجع على القرب وَأَنْ لَا يُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْفَرَحِ بِهَا ولا ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب وَأَنْ يَرْعَى حُقُوقَ اللَّهِ فِي مَالِهِ بِالْإِنْفَاقِ وَفِي بَدَنِهِ بِبَذْلِ الْمَعُونَةِ لِلْخَلْقِ وَفِي لِسَانِهِ بِبَذْلِ الصِّدْقِ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ
পৃষ্ঠা - ১২২৯
وهذا الصبر متصل بالشكر فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر كما سيأتي وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى السَّرَّاءِ أَشَدَّ لِأَنَّهُ مقرون بالقدرة ومن العصمة أن لا تقدر والصبر على الحجامة والقصد إذا تولاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك وَالْجَائِعُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّعَامِ أَقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللَّذِيذَةُ وَقَدَرَ عَلَيْهَا فَلِهَذَا عَظُمَتْ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ
النَّوْعُ الثَّانِي مَا لَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَالطَّبْعَ وذلك لا يخلو إِمَّا أَنْ يَرْتَبِطَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي أو لا يرتبط باختيار كالمصائب والنوائب أولا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي إِزَالَتِهِ كَالتَّشَفِّي مِنَ الْمُؤْذِي بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أقسام
القسم الأول ما يرتبط باختياره وهو سائر أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية وَهُمَا ضَرْبَانِ
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الطَّاعَةُ وَالْعَبْدُ يَحْتَاجُ إلى الصبر عليها فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية ولذلك قال بعض العارفين ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استخف قومه فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره فإن استشاطته وغيظه عند تقصيرهم في خدمته واستعباده ذلك ليس يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوية في رداء الكبرياء
فإذن العبودية شاقة على النفس مطلقاً ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ومنها ما يكره بسببهما جميعاً كالحج والجهاد فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد
ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال الأولى قبل الطاعة وذلك في تصحيح النية والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات وعقد العزم على الإخلاص والوفاء وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص وآفات الرياء ومكايد النفس وقد نبه صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى // وقال تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدين ولهذا قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال تعالى إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات
الحالة الثانية حالة العمل كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ وهذا أيضاً من شدائد الصبر ولعله المراد بقوله تعالى نعم أجر العاملين الذين صبروا أي صبروا إلى تمام العمل
الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء والصبر عن النظر إليه بعين العجب وعن كل ما يبطل عمله ويحبط أثره كما قال تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وكما قال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله
والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعاً وقد جمعهما الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربى فالعدل هو الفرض والإحسان هو النفل وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ
الضَّرْبُ الثَّانِي المعاصي فما أحوج العبد إلى الصبر عنها وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ {وقال} صلى الله عليه وسلم المهاجر من هجر السوء والمجاهد من جاهد هواه
পৃষ্ঠা - ১২৩০
والمعاصي مقتضى باعث الهوى
وأشد أنواع الصبر الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة فإن العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة وَالْكَذِبِ وَالْمِرَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى النَّفْسِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا وَأَنْوَاعِ الْمَزْحِ الْمُؤْذِي لِلْقُلُوبِ وَضُرُوبِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يقصد بها الإزراء والاستحقار وذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم فإن ذلك في ظاهره غيبة وفي باطنه ثناء على النفس فللنفس فيه شهوتان إحداهما نفي الغير والأخرى إثبات نفسه وبها تتم له الربوبية التي هي في طبعه وهي ضد ما أمر به من العبودية ولاجتماع الشهوتين وتيسر تحريك اللسان ومصير ذلك معتاداً في المحاورات يعسر الصبر عنها وهي أكبر الموبقات حتى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب لكثرة تكريرها وعموم الأنس بها فترى الإنسان يلبس حريراً مثلاً فيستبعد غاية الاستبعاد ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس ولا يستنكر ذلك مع ما ورد في الخبر من ان الغيبة أشد من الزنا (¬1) وقال تعالى {ودع أذاهم وتوكل على الله} وقال تَعَالَى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جميلاً} وقال تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك} الآية وَقَالَ تَعَالَى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} أي تصبروا عن الْمُكَافَأَةِ وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَافِينَ عَنْ حُقُوقِهِمْ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صبرتم لهو} خير الصابرين {وَقَالَ} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ // ورأيت في الإنجيل قال عيسى بن مريم عليه السلام لقد قيل لكم من قبل إن السن بالسن والأنف بالأنف وأنا أقول لكم لا تقاوموا بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحول إليه
¬_________
(¬1) ومن لم يملك لسانه في المحاورات ولم يقدر على الصبر عن ذلك فيجب عليه العزلة والانفراد فلا ينجيه غيره فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة
وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاف الوساوس فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة ولا يمكن الصبر عنه أصلاً إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرقه كمن أصبح وهمومه هم واحد وإلا فإن لم يستعمل الفكر في شيء معين لم يتصور فتور الوسواس عنه
القسم الثاني مالا يَرْتَبِطُ هُجُومُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ اخْتِيَارٌ فِي دَفْعِهِ كَمَا لَوْ أُوذِيَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَجُنِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا وَتَارَةً يكون فضيلة قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم ما كنا نعد إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى وقال تعالى ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مالا فقال بعض الأعراب من المسلمين هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر رسول الله فاحمرت وجنتاه ثم قال يرحم الله أخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر
পৃষ্ঠা - ১২৩১
الخد الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك ومن سخرك لتسير معه ميلاً فسر معه ميلين وكل ذلك أمر بالصبر على الأذى فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر لأنه يتعاون فيه باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعاً
الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرِ الاختيار أوله وآخره كَالْمَصَائِبِ مِثْلُ مَوْتِ الْأَعِزَّةِ وَهَلَاكِ الْأَمْوَالِ وَزَوَالِ الصحة بالمرض وعمى العين وفساد الأعضاء وبالجملة سائر أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى مقامات الصبر قال ابن عباس رضي الله عنهما الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلثمائة درجة وصبر عن محارم الله تعالى فله ستمائة درجة وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة وإنما فضلت هذه الرتبة مع أنها من الفضائل على ما قبلها وهي من الفرائض لأن كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم
فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين فإن ذلك شديد على النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أسألك من اليقين ما تهون علي به مصائب الدنيا (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم انتظار الفرج بالصبر عبادة (¬2) وقال أنس حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه قال سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا قال الله تعالى جزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي // وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل إذا ابتليت عبدي ببلاءٍ فصبر ولم يشكني إلى عواده أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له وإن توفيته فإلى رحمتي وقال داود عليه السلام يا رب ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك قال جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه عنه أبداً وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه منها الصبر إلا كان ما عوضه منها أفضل مما انتزع منه وقرا خانما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وسئل فضيل عن الصبر فقال هو
¬_________
(¬1) فهذا صبر مستنده حسن اليقين
وقال أبو سليمان والله ما نصبر على ما نحب فكيف نصبر على ما نكره وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عز وجل إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله وولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً
(¬2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم اؤجرني بمصيبتي وأعقبني خيراً منها إلا فعل الله به ذلك
পৃষ্ঠা - ১২৩২
الرضا بقضاء الله قيل وكيف ذلك قال الراضي لا يتمنى فوق منزلته وقيل حبس الشبلي رحمه الله في المارستان فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا أحباؤك جاءوك زائرين فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون فقال لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة ويطالعها وكان فيها {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} ويقال أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها أما تجدين الوجع فقالت إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه وقال داود لسليمان عليهما السلام يستدل على تقوى المؤمن بثلاث حسن التوكل فيما لم ينل وحسن الرضا فيما قد نال وحسن الصبر فيما قد فات وقال نبينا صلى الله عليه وسلم من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك (¬1) قَالَ الرَّاوِي فَلَقَدْ رَأَيْتُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ في المسجد سبعة كلهم قد قرءوا القرآن وروى جابر أنه عليه السلام قال رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وقد قيل الصبرالجميل هو ان لا يعرف صاحب المصيبة من غيره وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الصَّابِرِينَ تَوَجُّعُ الْقَلْبِ ولا فيضان العين بالدمع إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء ولأن البكاء توجع القلب على الميت فإن ذلك مقتضى البشرية ولا يفارق الإنسان إلى الموت وَلِذَلِكَ لَمَّا مَاتَ إبراهيم وَلَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقِيلَ لَهُ أما نهيتنا عن هذا فقال إن هَذِهِ رَحْمَةٌ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرحما بل ذلك أيضاً لا يخرج عن مقام الرضا فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألم بسببه لا محالة وقد تفيض عيناه إذا عظم ألمه وسيأتي
¬_________
(¬1) ويروى عن بعض الصالحين أنه خرج يوماً وفي كمه صرة فافتقدها فإذا هي قد أخذت من كمه فقال بارك الله له فيها لعله أحوج إليها مني وروي عن بعضهم أنه قال مررت على سالم مولى أبي حذيفة في القتلى وبه رمق فقلت له أسقيك ماء فقال جرني قليلاً إلى العدو واجعل الماء في الترس فإني صائم فإن عشت إلى الليل شربته فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى
فإن قلت فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الأمر إلى اختياره فهو مضطر شاء أم أبى فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهية المصيبة فذلك غير داخل في اختيار فاعلم أنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الشَّكْوَى وَإِظْهَارِ الْكَآبَةِ وَتَغْيِيرِ الْعَادَةِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ والمطعم وهذه الْأُمُورَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ جميعها ويظهر الرضا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى عَادَتِهِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَدِيعَةً فَاسْتُرْجِعَتْ كَمَا روي عن الرميصاء أم سليم رحمها الله أنها قَالَتْ تُوُفِّيَ ابْنٌ لِي وَزَوْجِي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت فقدم أبو طلحة فقمت فَهَيَّأْتُ لَهُ إِفْطَارَهُ فَجَعَلَ يَأْكُلُ فَقَالَ كَيْفَ الصبي قلت بأحسن حال بحمد الله ومنه فإنه لَمْ يَكُنْ مُنْذُ اشْتَكَى بِأَسْكَنَ مِنْهُ اللَّيْلَةَ ثُمَّ تَصَنَّعْتُ لَهُ أَحْسَنَ مَا كُنْتُ أَتَصَنَّعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَصَابَ مِنِّي حَاجَتَهُ ثُمَّ قُلْتُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ جِيرَانِنَا قَالَ مَا لَهُمْ قُلْتُ أُعِيرُوا عَارِيَةً فَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمْ وَاسْتُرْجِعَتْ جَزِعُوا فَقَالَ بِئْسَ مَا صَنَعُوا فَقُلْتُ هَذَا ابْنُكَ كَانَ عَارِيَةً مِنَ اللَّهِ تعالى وإن الله قد قَبَضَهُ إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال اللهم بارك لهما في ليلتهما
পৃষ্ঠা - ১২৩৩
ذلك في كتاب الرضا إن شاء الله تعالى وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء إن أحق من عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده فيما أبقاه له واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك واعلم أن أجر الصابرين به فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه
فإذن مهما دفع الكراهة بالتفكر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب نال درجة الصابرين نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب وقد قيل من كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقة فقد ظَهَرَ لَكَ بِهَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ أَنَّ وُجُوبَ الصَّبْرِ عام في جميع الأحوال والأفعال فإن الذي كفى الشهوات كلها واعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهراً وعن الصبر عن وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ بَاطِنًا فَإِنَّ اخْتِلَاجَ الْخَوَاطِرِ لَا يسكن وأكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر فهو كيفما كان تضييع زمان وآلة العبد قلبه وبضاعته عمره فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنساً بالله تعالى أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى فهو مغبون هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصوراً عليه ولا يكون ذلك غالباً بل يتفكر في وجوء الحيل لقضاء الشهوات إذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده ويتوهم مخالفتهم له ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته ولا يزال في شغل دائم فللشيطان جندان جند يطير وجند يسير والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار وهذا لأن الشيطان خلق من النار وخلق الإنسان من صلصال كالفخار والفخار قد اجتمع فيه مع النار الطين والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة فلا يتصور نار مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها وقد كلف الملعون المخلوق من النار أن يطمئن عن حركته ساجداً لما خلق الله من الطين فأبى واستكبر واستعصى وعبر عن سبب استعصائه بأن قَالَ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}
فإذن حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده ومهما كف عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه وانقياده بالإذعان سجود منه فهو روح السجود وإنما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالة عليه بالاصطلاح ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصور ذلك كما أن الانبطاح بين يد المعظم المحترم يرى استخفافاً بالعادة فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر وقالب الروح عن الروح وقشر اللب عن اللب فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب وتحقق أن الشيطان من المنظرين فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد فتشغل قلبك بالله وحده فلا يجد الملعون مجالاً فيك فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين
ولا تظنن أنه يَخْلُو عَنْهُ قَلْبٌ فَارِغٌ بَلْ هُوَ سَيَّالٌ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَسَيَلَانُهُ مِثْلُ الْهَوَاءِ فِي الْقَدَحِ فَإِنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَخْلُوَ الْقَدَحُ عَنِ الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْغَلَهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَقَدْ طَمِعْتَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ بَلْ بِقَدْرِ مَا يَخْلُو مِنَ الْمَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ لَا مَحَالَةَ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَشْغُولُ بِفِكْرٍ مُهِمٍّ فِي الدِّينِ لا يَخْلُو عَنْ جَوَلَانِ الشَّيْطَانِ وَإِلَّا فَمَنْ غَفَلَ عن الله تعالى وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَرِينٌ إِلَّا الشَّيْطَانُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى
পৃষ্ঠা - ১২৩৪
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الشَّابَّ الْفَارِغَ // وَهَذَا لِأَنَّ الشَّابَّ إِذَا تَعَطَّلَ عَنْ عَمَلٍ يَشْغَلُ بَاطِنَهُ بِمُبَاحٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دِينِهِ كَانَ ظَاهِرُهُ فَارِغًا وَلَمْ يَبْقَ قَلْبُهُ فَارِغًا بَلْ يُعَشِّشُ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَيَبِيضُ وَيُفَرِّخُ ثُمَّ تَزْدَوِجُ أَفْرَاخُهُ أَيْضًا وتبيض مرة أخرى وتفرخ وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالداً أسرع من توالد سائر الحيوانات لأن طبعه من النار وإذا وجد الحلفاء اليابسة كثر توالده فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة بل تسري شيئاً فشيئاً على الاتصال فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة فإذن إذا تأملت علمت أن أعدى عدوك شهوتك وهي صفة نفسك ولذلك قال الحسين بن منصور الحلاج حين كان يصلب وقد سئل عن التصوف ما هو فقال هِيَ نَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْكَ
فَإِذَنْ حَقِيقَةُ الصَّبْرِ وَكَمَالُهُ الصَّبْرُ عَنْ كُلِّ حَرَكَةٍ مَذْمُومَةٍ وَحَرَكَةُ الْبَاطِنِ أَوْلَى بِالصَّبْرِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا صَبْرٌ دَائِمٌ لَا يَقْطَعُهُ إِلَّا الْمَوْتُ نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه
بيان دَوَاءُ الصَّبْرِ وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ وَوَعَدَ الشِّفَاءَ فَالصَّبْرُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا أَوْ مُمْتَنِعًا فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل فالعلم والعمل هما الأخلاط التي منها تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها ولكن يحتاج كل مرض إلى علم آخر وعمل آخر وكما أن أقسام الصبر مختلفة فأقسام العلل المانعة منه مختلفة وإذا اختلفت العلل اختلف العلاج إذ معنى العلاج مضادة العلة وقمعها واستيفاء ذلك مما يطول ولكنا نعرف الطريق في بعض الأمثلة
فنقول إذا افتقر إلى الصبر عن شهوة الوقاع مثلاً وقد غلبت عليه الشهوة بحيث ليس يملك معها فرجه أو يملك فرجه ولكن ليس يملك عينه أو يملك عينه ولكن ليس يملك قلبه ونفسه اذ تزال تحدثه بمقتضيات الشهوات ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر والأعمال الصالحة فنقول قد قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنْ مُصَارَعَةِ بَاعِثِ الدين مع باعث الهوى وكل متصارعين أَرَدْنَا أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَلَا طَرِيقَ لَنَا فِيهِ إِلَّا تَقْوِيَةُ مَنْ أَرَدْنَا أَنْ تَكُونَ لَهُ الْيَدُ الْعُلْيَا وَتَضْعِيفُ الْآخَرِ فَلَزِمَنَا هَهُنَا تَقْوِيَةُ بَاعِثِ الدِّينِ وَتَضْعِيفُ بَاعِثِ الشَّهْوَةِ
فأما باعث الشهوة فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور
أحدها ان تنظر إلى مادة قوتها وهي الأغذية الطيبة المحركة للشهوة من حيث نوعها ومن حيث كثرتها فلا بد من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصاد عند الإفطار على طعام قليل في نفسه ضعيف في جنسه فيحترز عن اللحم والأطعمة المهيجة للشهوة
الثاني قطع أسبابه المهيجة في الحال فإنه إنما يهيج بالنظر إلى مظان الشهوة إذ النظر يحرك القلب والقلب يحرك الشهوة وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة والفرار منها بالكلية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النظرة سهم من سهام إبليس وهو سهم يسدده الملعون ولا ترس يمنع منه إلا تغميض الأجفان أو الهرب من صوب رميه فإنه إنما يرمي هذا السهم عن قوس الصور فإذا انقلبت عن صوب الصور لم يصبك سهمه
الثالث تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي تشتهيه وذلك بالنكاح فَإِنَّ كُلَّ مَا يَشْتَهِيهِ الطَّبْعُ فَفِي الْمُبَاحَاتِ
পৃষ্ঠা - ১২৩৫
مِنْ جِنْسِهِ مَا يُغْنِي عَنِ الْمَحْظُورَاتِ مِنْهُ وهذا هو العلاج الأنفع في حق الأكثر فإن قطع الغذاء يضعف عن سائر الأعمال ثم قد لا يقمع الشهوة في حق أكثر الرجال ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء //
فهذه ثلاثة أسباب فالعلاج الأول وهو قطع الطعام يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح وعن الكلب الضاري ليضعف فتسقط قوته الثاني يضاهي تغيب اللحم عن الكلب وتغييب الشعير عن البهيمة حتى لا تتحرك بواطنها بسبب مشاهدتها والثالث يضاهي تسليتها بشيء قليل مما يميل إليه طبعها حتى يبقى معها من القوة ما تصبر به على التأديب
وأما تَقْوِيَةُ بَاعِثِ الدِّينِ فَإِنَّمَا تَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا إِطْمَاعُهُ فِي فَوَائِدِ الْمُجَاهَدَةِ وَثَمَرَاتِهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُكْثِرَ فِكْرَهُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فِي فَضْلِ الصَّبْرِ وَفِي حُسْنِ عواقبه في الدنيا والآخرة وفي الأثر إن ثواب الصبر على المصيبة اكثر مما فات وانه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر ومن أسلم خسيساً في نفيس فلا ينبغي أن يحزن لفوات الخسيس في الحال وهذا من باب المعارف وهو من الإيمان فتارة يضعف وتارة يقوى فإن قوي قوى باعث الدين وهيجه تهييجاً شديداً وإن ضعف ضعفه وإنما قوة الإيمان يعبر عنها باليقين وهو المحرك لعزيمة الصبر وأقل ما أوتي الناس اليقين وعزيمة الصبر
والثاني أن يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجاً قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر بها فيستجريء عليها وتقوى منته في مصارعتها فإن الاعتياد والممارسة للأعمال الشاقة تؤكد القوى التي تصدر منها تلك الأعمال ولذلك تزيد قوة الحمالين والفلاحين والمقاتلين وبالجملة فقوة الممارسين للأعمال الشاقة تزيد على قوة الخياطين والعطارين والفقهاء والصالحين وذلك لأن قواهم لم تتأكد بالممارسة
فالعلاج الأول يضاهي إطماع المصارع بالخلعة عند الغلبة ووعده بأنواع الكرامة كما وعد فرعون سحرته عند إغرائه إياهم بموسى حيث قال صلى الله عليه وسلم وإنكم إذاً لمن المقربين
والثاني يضاهي تعويد الصبي الذي يراد منه المصارعة والمقاتلة بمباشرة أسباب ذلك منذ الصبا حتى يأنس به ويستجرىء عليه وتقوى فيه منته فمن ترك بالكلية المجاهدة بالصبر ضعف فيه باعث الدين ولا يقوى على الشهوة وإن ضعفت وَمَنْ عَوَّدَ نَفْسَهُ مُخَالَفَةَ الْهَوَى غَلَبَهَا مَهْمَا أَرَادَ
فَهَذَا مِنْهَاجُ الْعِلَاجِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصبر ولا يمكن استيفاؤه وإنما أشدها كف الباطن عن حديث النفس وإنما يشتد ذلك على من تفرغ له بأن قمع الشهوات الظاهرة وآثر العزلة وجلس للمراقبة والذكر والفكر فإن الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب إلى جانب وهذا لا علاج له البتة إلا قطع العلائق كلها ظاهراً وباطناً بالفرار عن الأهل والولد والمال والجاه والرفقاء والأصدقاء ثم الاعتزال إلى زاوية بعد إحراز قدر يسير من القوت وبعد القناعة به ثم كل ذلك لا يكفي ما لم تصر الهموم هماً واحداً وهو الله تعالى ثم إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك مالم لم يكن له مجال في الفكر وسير بالباطن في ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله تعالى وسائر أبواب معرفة الله تعالى حتى إذا استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه وإن
পৃষ্ঠা - ১২৩৬
لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من القراءة والأذكار والصلوات ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور فإن الفكر بالباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة ثم إذا فعل ذلك كله لم يسلم له من الأوقات إلا بعضها إذ لا يخلو في جميع أوقاته عن حوادث تتجدد فتشغله عن الفكر والذكر من مرض وخوف وإيذاء من إنسان وطغيان من مخالط إذ لا يستغني عن مخالطة من يعينه في بعض أسباب المعيشة فهذا أحد الأنواع الشاغلة
وأما النوع الثاني فهو ضروري اشد ضرورة اشد من الأول وهو اشتغاله بالمطعم والملبس وأسباب المعاش فإن تهيئة ذلك أيضاً تحوج إلى شغل إن تولاه بنفسه وإن تولاه غيره فلا يخلو عن شغل قلب بمن يتولاه ولكن بعد قطع العلائق كلها يسلم له أكثر الأوقات إن لم تهجم به ملمة أو واقعة وفي تلك الأوقات يصفو القلب ويتيسر له الفكر وينكشف فيه من أسرار الله تعالى في ملكوت السموات والأرض مالا يقدر على عشر عشيره في زمان طويل لو كان مشغول القلب بالعلائق والانتهاء إلى هذا هو أقصى المقامات التي يمكن أن تنال بالاكتساب والجهد فأما مقادير ما ينكشف مبالغ ما يرد من لطف الله تعالى في الأحوال والأعمال فذلك يجري مجرى الصيد وهو بحسب الرزق فقد يقل الجهد ويجل الصيد وقد يطول الجهد ويقل الحظ والمعول وراء هذا الاجتهاد على جذبة من جذبات الرحمن فإنها توازي أعمال الثقلين وليس ذلك باختيار العبد نعم اختيار العبد في أن يتعرض لتلك الجذبة بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا فإن المجذوب إلى أسفل سافلين لا ينجذب إلى أعلى عليين وكل مهموم بالدنيا فهو منجذب إليها فقطع العلائق الجاذبة هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها وذلك لأن تلك النفحات والجذبات لها أسباب سماوية إذ قال الله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون وهذا من أعلى أنواع الرزق والأمور السماوية غائبة عنا فلا ندري متي ييسر الله تعالى أسباب الرزق فما علينا إلا تفريغ المحل والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أجله كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش ويبث البذر فيها وكل ذلك لا ينفعه إلا بمطر ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر إلا أنه يثق بفضل الله تعالى ورحمته أنه لا يخلي سنة عن مطر فكذلك فلما تجلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب عن حشيش الشهوات وبذر فيه بذر الإرادة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع وعند ظهور الغيم فيقوى انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة وعند اجتماع الهمم وتساعد القلوب كما في يوم عرفة ويوم الجمعة وأيام رمضان فإن الهمم والأنفاس أسباب بحكم تقدير الله تعالى لاستدرار رحمته حتى تستدر بها الأمطار في أوقات الاستسقاء وهي لا ستدراك أمطار المكاشفات ولطائف المعارف من خزائن الملكوت أشد مناسبة منها لاستدرار قطرات الماء واستجرار الغيوم من أقطار الجبال والبحار بل الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك وإنما أنت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك فصار ذلك حجاباً بينك وبينها فلا تحتاج إلا إلى أن تنكسر الشهوة ويرفع الحجاب فتشرق أنوار المعارف من باطن القلب وإظهار ماء الأرض بحفر القنى أسهل وأقرب من الاسترسال إليها من مكان بعيد منخفض عنها ولكونه حاضراً في القلب ومنسياً بالشغل عنه سمى الله تعالى جميع معارف الإيمان تذكراً فقال تَعَالَى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون وقال تعالى وليتذكر أولو الألباب وقال تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
পৃষ্ঠা - ১২৩৭
فهذا هو علاج الصبر عن الوساوس والشواغل وهو آخر درجات الصبر وإنما الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر
قال الجنيد رحمه الله السير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن وهجران الخلق في حب الحق شديد والسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد والصبر مع الله أشد فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق
وأشد العلائق على النفس علاقة الخلق وحب الجاه فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء وكيف لا تكون أغلب اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية والربوبية محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية وعنه العبارة بقوله تعالى قل الروح من أمر ربي وليس القلب مذموماً على حبه ذلك وإنما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالم الأمر إذ حسده على كونه من عالم الأمر فأضله وأغواه وكيف يكون مذموماً عليه وهو يطلب سعادة الآخرة فليس يطلب إلا بقاء لا فناء فيه وعزاً لا ذل فيه وأمناً لا خوف فيه وغنى لا فقر فيه وكمالاً لا نقصان فيه وهذه كلها من أوصاف الربوبية وليس مذموماً على طلب ذلك بل حق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له وطالب الملك طالب للعلو والعز والكمال لا محالة ولكن الملك ملكان ملك مشوب بأنواع الآلام وملحوق بسرعة الانصرام ولكنه عاجل وهو في الدنيا وملك مخلد دائم لا يشوبه كدر ولا ألم ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل وقد خلق الإنسان عجولاً راغباً في العاجلة فجاء الشيطان وتوسل إليه بواسطة العجلة التي في طبعه فاستغواه بالعاجلة وزين له الحاضرة وتوسل إليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الآخرة ومناه مع ملك الدنيا ملك الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى الله الأماني فانخدع المخذول بغروره واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر إمكانه ولم يتدل الموفق بحبل غروره إذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة فعبر عن المخذولين بقوله تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال تعالى إن هؤلاء يحبون العاجله ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً وقال تعالى فأعرض عمن تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدنيا ذلك مبلغهم من العلم
ولما استطار مكر الشيطان في كافة الخلق أرسل الله الملائكة إلى الرسل وأوحوا إليهم ما تم على الخلق من إهلاك العدو وإغوائه فاشتغلوا بدعوة الخلق إلى الملك الحقيقي عن الملك المجازى الذي لا أصل له إن سلم ولا دوام له أصلاً فنادوا فيهم يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وإبراهيم وكل كتاب منزل ما أنزل إلالدعوة الخلق إلى الملك الدائم المخلد والمراد منهم أن يكونوا ملوكاً في الدنيا ملوكاً في الآخرة أما ملك الدنيا فالزهد فيها والقناعة باليسير منها وأما ملك الآخرة فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه وعزاً لا ذل فيه وقرة عين أخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس
والشيطان يدعوهم إلى ملك الدنيا لعلمه بأن ملك الآخرة يفوت به إذ الدنيا والآخرة ضرتان ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له أيضاً ولو كانت تسلم له لكان يحسده أيضاً ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول
পৃষ্ঠা - ১২৩৮
الهموم في التدبيرات وكذا سائر أسباب الجاه ثم مهما تسلم وتتم الأسباب ينقضي العمر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس فضرب الله تعالى لها مثلاً فقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح والزهد في الدنيا لما أن كان ملكاً حاضراً حسده الشيطان عليه فصده عنه
ومعنى الزهد أن يملك العبد شهوته وغضبه فينقادان لباعث الدين وإشارة الإيمان وهذا ملك بالاستحقاق إذ به يصير صاحبه حراً وباستيلاء الشهوة عليه يصير عبداً لفرجه وبطنه وسائر أغراضه فيكون مسخراً مثل البهيمة مملوكاً يستجره زمام الشهوة آخذاً بمختنقه إلى حيث يريد ويهوى فما أعظم اغترار الإنسان إذ ظن أنه ينال الملك بأنه يصير مملوكاً وينال الربوبية بأن يصير عبداً ومثل هذا هل يكون إلا معكوساً في الدنيا منكوساً في الآخرة ولهذا قال بعض الملوك لبعض الزهاد هل من حاجة قال كيف أطلب منك حاجة وملكي أعظم من ملكك فقال كيف قال من أنت عبده فهو عبد لي فقال كيف ذلك قال أنت عبد شهوتك وغضبك وفرجك وبطنك وقد ملكت هؤلاء كلهم فهم عبيد لي فهذا إذن هو الملك في الدنيا وهو الذي يسوق إلى الملك في الآخرة فالمخدوعون بغرور الشيطان خسروا الدنيا والآخرة جميعاً والذين وفقوا للاشتداد على الصراط المستقيم فازوا بالدنيا والآخرة جميعاً
فإذا عرفت الآن معنى الملك والربوبية ومعنى التسخير والعبودية ومدخل الغلط في ذلك وكيفية تعمية الشيطان وتلبيسه يسهل عليك النزوع عن الملك والجاه والإعراض عنه والصبر عند فواته إذ تصير بتركه ملكاً في الحال وترجو به ملكاً في الآخرة
ومن كوشف بهذه الأمور بعد أن ألف الجاه وأنس به ورسخت فيه بالعادة مباشرة أسبابه فلا يكفيه في العلاج مجرد العلم والكشف بل لا بد وأن يضيف إليه العمل وعمله في ثلاثة أمور أحدها أن يهرب عن موضع الجاه كي لا يشاهد أسبابه فيعسر عليه الصبر مع الأسباب كما يهرب من غلبته الشهوة من مشاهدة الصور المحركة ومن لم يفعل هذا فقد كفر نعمة الله في سعة الأرض إذ قال تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها الثاني أن يكلف نفسه في أعماله أفعالاً تخالف ما اعتاده فيبدل التكلف بالتبذل وزي الحشمة بزي التواضع وكذلك كل هيئة وحال وفعل في مسكن وملبس ومطعم وقيام وقعود كان يعتاده وفاء بمقتضى جاهه فينبغي أن يبدلها بنقائضها حتى يرسخ باعتياد ذلك ضد ما رسخ فيه من قبل باعتياد ضده فلا معنى للمعالجة إلا المضادة الثالث أن يراعى في ذلك التلطف والتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبذل فإن الطبع نفور ولا يمكن نقله عن أخلاقه إلا بالتدريج فيترك البعض ويسلي نفسه بالبعض ثم إذا قنعت نفسه بذلك البعض ابتدأ بترك البعض من ذلك البعض إلى أن يقنع بالبقية وهكذا يفعل شيئاً فشيئاً إِلَى أَنْ يَقْمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي رَسَخَتْ فيه وإلى هذا التدريج الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى وإليه الإشارة بقوله عليه السلام لا تشادوا هذا الدين فإن من يشاده يغلبه //
পৃষ্ঠা - ১২৩৯
فإذن ما ذكرناه من علاج الصبر عن الوسواس وعن الشهوة وعن الجاه أضفه إلى ما ذكرناه من قوانين طرق المجاهدة في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات فاتخذه دستورك لتعرف به علاج الصبر في جميع الأقسام التي فصلناها من قبل فإن تفصيل الآحاد يطول ومن راعى التدريج ترقى به الصبر إلى حال يشق عليه الصبر دون كما كان يشق عليه معه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً وما كان مكروهاً عنده مشرباً هنيئاً لا يصبر عنه وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات فإن الصبي يحمل على التعلم في الابتداء قهراً فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم والصبر على اللعب وإلى هذا يشير ما حكي عن بعض العارفين أنه سأل الشبلي عن الصبر أيه أشد فقال الصبر في الله تعالى فقال لا فقال الصبر لله فقال لا فقال الصبر مع الله فقال لا فقال فأيش قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف وقد قيل في معنى قوله تعالى اصبروا وصابروا ورابطوا اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله وقيل الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد قيل في معناه
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود
وقيل ايضا الصبر يحمل في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يجمل
هذا آخر ما أردنا شرحه عن علوم الصبر وأسراره
الشطر الثاني من الكتاب في الشكر
وله ثلاثة أركان الأول في فضيلة الشكر وحقيقته وأقسامه وأحكامه الثاني في حقيقة النعمة وأقسامها الخاصة والعامة الثالث في بيان الأفضل من الشكر والصبر
الركن الأول في نفس الشكر بَيَانُ فَضِيلَةِ الشُّكْرِ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع أنه قال ولذكر الله أكبر فَقَالَ تَعَالَى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تكفرون وَقَالَ تَعَالَى مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شكرتم وآمنتم وقال تعالى وسنجزي الشاكرين وقال عز وجل إخباراً عن إبليس اللعين لأقعدن لهم صراطك المستقيم قيل هو طريق الشكر ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في الخلق فقال ولا تجد اكثرم شاكرين وقال تعالى وقليل من عبادي الشكور وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فقال تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم واستثنى في خمسة أشياء في الإغناء والإجابة والرزق والمغفرة والتوبة فقال تعالى فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء {وقال} فيكشف ما تدعون إليه إن شاء {وقال} يرزق من يشاء بغير حساب {وقال} ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {وقال} ويتوب الله على من يشاء وهو خلق من أخلاق الربوبية إذ قال تعالى والله شكور حليم وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى وقالوا الحمد لله الذي صدقناه وعده {وقال} وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
পৃষ্ঠা - ১২৪০
وأما الأخبار فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر (¬1) حديث عطاء دخلت على عائشة فقلت لها أخبرينا بأعجب ما رأيت من رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ واي امره لم يكن عجبا الحديث في بكائه في صلاة الليل اخرجه ابو الشيخ ابن حبان في كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طريقة ابن الجوزي في الوفا وفيه ابو جناب واسمه يحيى بن ابي حبة ضعفه الجمهور ورواه ابن حبان في صحيحه من رواية عبد الملك ابن ابي سليمان عن عطاء دون قولها واي امره لم يكن عجبا وهو عند مسلم من رواية عروة عن عائشة مقتصرا على آخر الحديث وهذا يدل على أن البكاء ينبغي أن لا ينقطع أبداً وإلى هذا السر يشير ما روي أنه مر بعض الأنبياء بحجر صغير يخرج منه ماء كثير فتعجب منه فأنطقه الله تعالى فقال منذ سمعت قوله تعالى وقودها الناس والحجارة فأنا أبكي من خوفه فسأله أن يجيره من النار فأجاره ثم رآه بعد مدة على مثل ذلك فقال لم تبكي الآن فقال ذاك بكاء الخوف وهذا بكاء الشكر والسرور وقلب العبد كالحجارة أو أشد قسوة ولا تزول قسوته إلا بالبكاء في حال الخوف والشكر جميعاً وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة قيل ومن الحمادون قال الذين يشكرون الله تعالى على كل حال (¬2) حديث الحمد رداء الرحمن لم اجد له اصلا وفي الصحيح من حديث ابي هريرة الكبر رداؤه الحديث وتقدم في العلم وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام إني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي في كلام طويل وأوحى الله تعالى إليه أيضاً في صفة الصابرين أن دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر وهو خير الكلام وعند الشكر أستزيدهم وبالنظر إلي أزيدهم ولما نزل في الكنوز ما نزل قال عمر رضي الله عنه أي المال نتخذ فقال عليه السلام ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً او قلبا شاكرا // حديث عمر ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلبا شاكرا الحديث تقدم في النكاح فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلاً عن المال وقال ابن مسعود الشكر نصف الإيمان
بيان حد الشكر وحقيقته
اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ وَالْحَالُ هُوَ الْفَرَحُ الْحَاصِلُ بِإِنْعَامِهِ وَالْعَمَلُ هُوَ الْقِيَامُ بِمَا هُوَ مَقْصُودُ الْمُنْعِمِ وَمَحْبُوبُهُ وَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْقَلْبِ وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإحاطة بكمال معانيه
¬_________
(¬1) حديث الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر علقه البخاري واسنده الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حيان من حديث ابي هريرة ورواه ابن ماجه من حديث سنان بن سنة وفي اسناده اختلاف وروى عن عطاء أنه قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت وأي شأنه لم يكن عجباً أتاني ليلة فدخل معي في فراشي أو قالت في لحافي حتى مس جلدي جلده ثم قال يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي فقالت قلت إني احب قربك لكني أوثر هواك فأذنت له فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبداً شكوراً ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي إن في خلق السموات والأرض الآية
(¬2) حديث ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون الحديث اخرجه الطبراني وابو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بلفظ أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الحديث وفيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور وفي لفظ آخر الذين يشكرون الله على السراء والضراء وقال صلى الله عليه وسلم الحمد رداء الرحمن
পৃষ্ঠা - ১২৪১
فالأصل الأول العلم وهو علم بثلاثة أمور بعين النعمة ووجه كونها نعمة في حقه وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه فإنه لا بد من نعمة ومنعم ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة فهذه الأمور لا بد من معرفتها هذا في حق غير الله تعالى فأما في حق الله تعالى فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله وهو المنعم والوسائط مسخرون من جهته
وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس إذ دخل التقديس والتوحيد فيها بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس ثم إذا عرف ذاتاً مقدسة فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد وما عداه غير مقدس وهو التوحيد ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط فالكل نعمة منه فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد كمال القدرة والانفراد بالفعل وعن هذا عبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قال من قال سبحان الله فله عشر حسنات ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون حسنة ومن قال الحمد لله فله ثلاثون حسنة (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله (¬2) وقال ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله (¬3) ولاتظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب فسبحان الله كلمة تدل على التقديس ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد والحمد لله كلمة تدل على النعمة من الواحد الحق فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين
واعلم أن تمام هذه المعرفة بنفي الشرك في الأفعال فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه بل منه بوجه ومن غيره بوجه فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق الملك نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما لأنه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضاً مضطران من جهة الملك في الإيصال وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك ارهاق وامر جزم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئاً فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد فلا يورث ذلك شركاً في توحيده من اضافة النعمة اليه إلى الملك
وكذلك من الكاتب وأن الحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل شاءت أم أبت كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلاً إلى مخالفة الملك ولو خلي ونفسه لما اعطاك ذروة مما في يده فكل من وصل إليك نعمة من الله تعالى على يده فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة وهيج عليه الدواعي وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك وأن غرضه المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيل إلى تركه فهو إذن إنما يعطيك
¬_________
(¬1) حديث من قال سبحان الله فله عشر حسنات الحديث تقدم في الدعوات
(¬2) حديث أفضل الذكر لا إله إلا الله وافضل الوعاء الحمد لله احرجه الترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه وابن حبان من حديث جابر
(¬3) حديث ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله لم اجده مرفوعا وانما رواه ابن ابي الدنيا في كتاب الشكر عن ابراهيم النخعي يقال إن الحمد اكثر الكلام تضعيفا
পৃষ্ঠা - ১২৪২
لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك فهو إذن إنما يطلب نفع نفسه بنفعك فليس منعماً عليك بل اتخذك وسبيله إلى نعمة أخرى وهو يرجوها وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطراً إلى الإيصال إليك فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله وكنت موحداً وقدرت على شكره بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكراً
ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف شكرك فقال الله عز وجل علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكراً
فإذن لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفاً لا بالنعمة ولا بالمنعم فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره فبنقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح وبنقصان فرحك ينقص عملك فهذا بيان هذا الأصل
الأصل الثاني الحال المستمدة من أصل المعرفة وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضعوهو أيضاً في نفسه شكر على تجرده كما أن المعرفة شكر ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإنعام ولعل هذا يتعذر عليك فهمه فنضرب لك مثلاً فنقول الملك الذي يريد الخروج الى سفره فأنعم بفرس على انسانيتصور أن يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه أحدها أن يفرح بالفرس من حيث أنه فرس وإنه مال ينتفع به ومركوب يوافق غرضه وإنه جواد نفيس وهذ فرح من لاحظ له في الملك بل غرضه الفرس فقط ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح الوجه الثاني أن يفرح به لا من حيث إنه فرس بل من حيث تستدل به على عناية الملك به وشفقته عليه واهتمامه بجانبه لو وجد هذا الفرس في صحراء أو أعطاه غير الملك لكان لا يفرح به أصلاً لاستغنائه عن الفرس أصلاً أو استحقاره له بالاضافة الى مطلوبه من نيل المحل في قلب الملك الوجه الثالث أن يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته القرب منه وربما يرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرساً ويعتني به هذا القدر من العناية بل هو طالب لأن لا ينعم الملك بشيء من ماله على أحد إلا بواسطته ثم إنه ليس يريد من الوزارة الوزارة بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه حتى لو خير بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختار القرب فهذه ثلاث درجات فالأولى لا يدخل فيها معنى الشكر أصلاً لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ففرحه بالفرس لا بالمعطى وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه وإنما الشكر التام في الفرح الثالث وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام فهذا هو الرتبة العليا وأمارته ان لايفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس لانه جواد ومهملج بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه ولذلك قال الشبلي رحمه الله الشكر رؤية المنعم
পৃষ্ঠা - ১২৪৩
لا رؤية النعمة وقال الخواص رحمه الله شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب وشكر الخاصة على واردات القلوب وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة ويستحلي الأشياء المرة كما قيل
ومن يك ذا فم مر مريض ... جد مراً به الماء الزلالا
فإذن هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى فإن لم تكن إبل فمعزى فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية أما الأولى فخارجة عن كل حساب فكم من فرق بين من يريد الملك للفرس ومن يريد الفرس للملك وكم من فرق بين من يريد الله لينعم عليه وبين من يريد نعم الله ليصل بها إليه
الأصل الثالث العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح أَمَّا بِالْقَلْبِ فَقَصْدُ الْخَيْرِ وَإِضْمَارُهُ لِكَافَّةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْمِيدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا بِالْجَوَارِحِ فَاسْتِعْمَالُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا على معصيته حتى إن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم وشكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه فيه فيدخل هذا في جملة شكر نعم الله تعالى بهذه الأعضاء والشكر باللسان لإظهار الرضا عن الله تعالى وهو مأمور به فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل كيف أصبحت قال بخير فأعاد صلى الله عليه وسلم وسلم السؤال حتى قال في الثالثة بخير أحمد الله وأشكره فقال صلى الله عليه وسلم وسلم هذا الذي أردت منك // حديث قال صلى الله عليه وسلم لرجل كيف أصبحت فقال بخير فأعاد السؤال حتى قال في الثالثة بخير أحمد الله واشكره فقال هذا الذي اردت منك اخرجه الطبراني في الدعاء من رواية الفضيل بن عمرو مرفوعا نحوه قال في الثالثة احمد الله وهذا معضل ورواه في المعجم الكبير من حديث عبد الله بن عمرو ليس فيه تكرار السؤال وقال احمد الله اليك وفيه راشد بن سعد ضعفه الجمهور لسوء حفظه ورواه مالك في الموطأ موقوفا على عمر بإسناد صحيح وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج الشكر لله تعالى ليكون الشاكر مطيعاً والمستنطق له به مطيعاً وما كان قصدهم الرياء بإظهار الشوق وكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر أو يشكو يسكت فالشكر طاعة والشكوى معصية قبيحة من أهل الدين وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى فهو المبلي والقادر على إزالة البلاء وذل العبد لمولاه عز والشكوى إلى غيره ذل وإظهار الذل للعبد مع كونه عبداً مثله ذل قبيح قال الله تعالى {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له} وقال تعالى {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} فالشكر باللسان من جملة الشكر وقد روي أن وفداً قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقام شاب ليتكلم فقال عمر الكبر الكبر فقال يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسكن منك فقال تكلم فقال لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك وإنما نحن وقد الشكر جئناك نشكرك باللسان وننصرف فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته
فأما قول من قال إن الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع فهو نظر إلى فعل اللسان مع بعض أحوال القلب وقول من قال إن الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه نظر إلى مجرد عمل اللسان وقول القائل
পৃষ্ঠা - ১২৪৪
إن الشكر هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة جامع لأكثر معاني الشكر لا يشذ منه إلا عمل اللسان وقول حمدون القصار شكر النعمة أن ترى نفسك في الشكر طفيلياً إشارة إلى أن معنى المعرفة من معاني الشكر فقط وقول الجنيد الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة إشارة إلى حال من أحوال القلب على الخصوص وهؤلاء أقوالهم تعرب على أحواهم فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق ثم قد يختلف جواب كل واحد في حالتين لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم اشتغالاً بما يهمهم عما لا يهمهم أو يتكلمون بما يرونه لائقاً بحالة السائل اقتصاراً على ذكر القدر الذي يحتاج إليه وإعراضاً عما لا يحتاج إليه فلا ينبغي أن تظن أن ما ذكرناه طعن عليهم وأنه لو عرض عليهم جميع المعاني التي شرحناها كانوا ينكرونها بل لا يظن ذلك بعاقل أصلاً إلا أن تعرض منازعة من حيث اللفظ في أن اسم الشكر في وضع اللسان هل يشمل جميع المعاني أم يتناول بعضها مقصوداً وبقية المعاني تكون من توابعه ولوازمه ولسنا نقصد في هذا الكتاب شرح موضوعات اللغات فليس ذلك من علم طريق الآخرة في شيء والله الموفق برحمته
بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر في حق الله تعالى
لعل يخطر ببالك أن الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم فلا يكونون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين أحدهما أن الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعاً سجداً فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع إذ لا حظ للملك فيه وهو غائب لا علم له ولا حظ لله تعالى في أفعالنا كلها الوجه الثاني أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته فكيف نشكر نعمة بنعمة ولو أعطانا الملك مركوباً فأخذنا مركوباً آخر له وركبناه أو أعطانا الملك مركوباً آخر لم يكن الثاني شكر للأول منا بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول ثم لا يمكن شكر الشكر الا بنعة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالاً في حق الله تعالى من هذين الوجهين ولسنا نشك في الامرين جميعاً والشرع قد ورد به فكيف السبيل إلى الجمع فاعلم أن هذا الخاطر قد خطر لداود عليه السلام وكذلك لموسى عليه السلام فقال يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك وفي لفظ آخر وشكري لك نعمة أخرى منك توجب على الشكر لك فأوحى الله تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني وفي خبر آخر إذا عرفت أن النعمة مني رضيت منك بذلك شكراً
فإن قلت فقد فهمت السؤال وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحى إليهم فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى فأما كون العلم باستحالة الشكر شكراً فلا أفهمه فإن هذا العلم أيضاً نعمة منه فكيف صار شكراً وكأن الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر وأن قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الأولى والفهم قاصر عن درك السر فيه فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه فاعلم أن هذا قرع باب من المعارف وهي أعلى
পৃষ্ঠা - ১২৪৫
من علوم المعاملة ولكنا نشير منها إلى ملامح ونقول ههنا نظران نظر بعين التوحيد المحض وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره وأن كل شيء هالك إلا وجهه وأن ذلك صدق في كل حال أزلاً وأبداً لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم ولا قيوم إلا واحد ولا يتصور أن يكون غير ذلك فإذن ليس في الوجود غير الحي القيوم وهو الواحد الصمد فإذا نظرت من هذا المقام عرفت أن الكل منه مصدره وإليه مرجعه فهو الشاكر وهو المشكور وهو المحب وهو المحبوب ومن ههنا نظر حبيب بن أبي حبيب حيث قرأ {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} فقال واعجباه أعطى وأثنى إشارة إلى أنه إذا أثنى على إعطائه فعلى نفسه أثنى فهو المثني وهو المثني عليه ومن ههنا نظر الشيخ أبو سعيد المهينى حيث قرىء بين يديه {يحبهم ويحبونه} فقال لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق يحبهم لأنه إنما يحب نفسه أشار به إلى أنه المحب وأنه المحبوب وهذه رتبة عالية لا تفهمها إلا بمثال على حد عقلك فلا يخفى عليك أن المصنف إذا أحب تصنيفه لقد أحب نفسه والصانع إذا أحب صنعته فقد أحب نفسه والوالد إذا أحب ولده من حيث إنه ولده فقد أحب نفسه وكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وصنعته فإن أحبه فما أحب إلا نفسه وإذا لم يحب الانفسه فبحق أحب ما أحب وهذا ما أحب وهذا كله نظر بعين التوحيد وتعبر الصوفية عن هذه الحالة بفناء النفس أي فني عن نفسه وعن غير الله فلم ير إلا الله تعالى فمن لم يفهم هذا ينكر عليهم ويقول كيف فني وطول ظله أربعة أذرع ولعله يأكل في كل يوم أرطالاً من الخبز فيضحك عليهم الجهال لجهلهم بمعاني كلامهم وضرورة قول العارفين أن يكونوا ضحكة للجاهلين وإليه الإشارة بقوله تعالى إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذ رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين ثم بين أن ضحك العارفين عليهم غدا أعظم إذ قال تعالى {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون} وكذلك أمة نوح عليه السلام كانوا يضحكون عليه عند اشتغاله بعمل السفينة قال {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} فهذا أحد النظرين النظر الثاني نظر من لم يبلغ إلى مقام الفناء عن نفسه وهؤلاء قسمان قسم لم يثبتوا إلا وجود أنفسهم وأنكروا أن يكون لهم رب يعبد وهؤلاء هم العميان المنكوسون وعماهم في كلتا العينين لأنهم نفوا ما هو الثابت تحقيقاً وهو القيوم الذي هو قائم بنفسه وقائم على كل نفس بما كسبت وكل قائم فقائم به ولم يقتصروا على هذا حتى أثبتوا أنفسهم ولو عرفوا لعلموا أنهم من حيث هم هم لا ثبات لهم ولا وجود لهم وإنما وجودهم من حيث أوجدوا لا من حيث وجدوا وفرق بين الموجود وبين الموجد وليس في الوجود إلا موجود واحد وموجد فالموجود حق والموجد باطل من حيث هو هو والموجود قائم وقيوم والموجد هالك وفان وإذا كان كل من عليها فان فلا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام الفريق الثاني ليس بهم عمى ولكن بهم عور لأنهم يبصرون بإحدى العينين وجود الموجود الحق فلا ينكرونه والعين الأخرى إن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً كما
পৃষ্ঠা - ১২৪৬
أن الذي قبله جاحد تحقيقاً فإن جاوز حد العمى إلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين فأثبت عبداً ورباً فبهذا القدر من إثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد ثم إن كحل بصره بما يزيد في أنواره فيقل عمشه وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أثبته سوى الله تعالى فإن بقي في سلوكه كذلك فلا يزال يفضي به النقصان إلى المحو فينمحي عن رؤية ما سوى الله فلا يرى إلا الله ليكون قد بلغ كمال التوحيد وحيث أدرك نقصاً في وجود ما سوى الله تعالى دخل في أوائل التوحيد وبينهما درجات لا تحصى فبهذا تتفاوت درجات الموحدين وكتب الله المنزلة على ألسنة رسله هي الكحل الذي به يحصل أنوار الأبصار والأنبياء هم الكحالون وقد جاءوا داعين إلى التوحيد المحض وترجمته قول لا إله إلا الله ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق والواصلون إلى كمال التوحيد هم الأقلون والجاحدون والمشركون أيضاً قليلون وهم على الطرف الأقصى المقابل لطرف التوحيد إذ عبدة الأوثان قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فكانوا داخلين في أوائل أبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً والمتوسطون هم الأكثرون وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال فتلوح له حقائق التوحيد ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت زماناً ولكن لا يدوم والدوام فيه عزيز
لكل إلى شأو العلا حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
ولما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب القرب فقيل له {واسجد واقترب} قال في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (¬1) حديث إنه ليغان على قلبي الحديث تقدم في التوبة وقبله في الدعوات فكان ذلك لترقيه إلى سبعين مقاماً بعضها فوق البعض أولها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى آخرها فكان استغفاره لذلك ولما قالت عائشة رضي الله عنها أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد
¬_________
(¬1) حديث قال في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك الحديث اخرجه مسلم من حديث عائشة أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم أعوذ بعفوك من عقابك كلام عن مشاهدة فعل الله فقط فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله فاستعاذ بفعله من فعله ثم اقترب ففني عن مشاهدة الأفعال وترقى إلى مصادر الأفعال وهي الصفات فقال أعوذ برضاك من سخطك وهما صفتان ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب ورقي من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال وأعوذ بك منك وهذا فرار منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه اذ رأى ذلك نقصاناً واقترب فقال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فقوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي خبر عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدتها وقوله أنت كما أثنيت على نفسك بيان أنه المثني والمثني عليه وأن الكل منه بدأ وإليه يعود وأن كل شيء هالك إلا وجهه فكان أول مقاماته نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله تعالى وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل فانظر إلى ماذا انتهت نهايته اذ انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية فكان يستغفر الله من الأولى ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ في اليوم والليلة سبعين مرة
পৃষ্ঠা - ১২৪৭
{قال} أفلا أكون عبداً شكوراً // حديث عائشة لما قالت له غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء الحديث رواه ابو الشيخ وهو بقية حديث عطاء عنها المتقدم قبل هذا بتسعة أحاديث وهو عند مسلم من رواية عروة عنها مختصرا وكذلك هو في الصحيحين مختصرا من حديث المغيرة بن شعبة معناه أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى {لئن شكرتم لأزيدنكم}
واذا تغلغنا في بحار المكاشفة فلنقبض العنان ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة فنقول الأنبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة وعقبات شديدة وإنما الشرع كله تعريف طريق سلوك تلك المسافة وقطع تلك العقبات وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى ومقام آخر فيظهر في ذلك المقام بإضافة إلى تلك المشاهدة الشكر والشاكر والمشكور ولا يعرف ذلك إلا بمثال فأقول يمكنك أن تفهم أن ملكاً من الملوك ارسل الى عبد قد بعد منه مركوبا وملبوسا ونقد الاجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ويقرب من حضرة الملك ثم يكون له حالتان إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم ببعض مهماته ويكون له عناية في خدمته والثانية أن لا يكون للملك حظ في العبد ولا حاجة به إليه بل حضوره لا يزيد في ملكه لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء وغيبته لا تنقص من ملكه فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه فمنزل العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى والثانية غير محال ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكراً في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه وأما في الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلاً ومع ذلك يتصور أن يكون شاكراً وكافراً ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق فقد شكره مولاه إذ اسْتَعْمَلَ نِعْمَتَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أَيْ فِيمَا أَحَبَّهُ لعبده لا لنفسه وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته أي استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضاً نعمته إِذَا أَهْمَلَهَا وَعَطَّلَهَا وَإِنْ كَانَ هَذَا دُونَ ما لو بعد منه فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم فيبعدون بها عن حضرته وإنما سعادتهم في القرب منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب وعن بعدهم وقربهم عبر الله تعالى إذ قال {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا} الآية فإذن نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب والله تعالى غني عنه قرب أم بعد والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية وإن عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو أيضاً كفر كفران إن لِلنِّعْمَةِ بِالتَّضْيِيعِ وَكُلُّ مَا خُلِقَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا خُلِقَ آلَةً لِلْعَبْدِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى سعادة الآخرة ونيل القرب من الله تعالى فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة وكل كسلان ترك الاستعمال أو عاص استعملها في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة ولكن لا تشملهما المحبة والكراهة بل رب مراد
পৃষ্ঠা - ১২৪৮
محبوب ورب مراد مكروه ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه وقد انحل بهذا الإشكال الأول وهو أنه إذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر وبهذا أيضاً ينحل الثاني فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد وفعلك عطاء من الله تعالى ومن حيث أنت محله فقد أثنى عليك وثناؤه نعمة أخرى منه إليك فهو الذي أعطى وهو الذي أثنى وصار أحد فعليه سبباً لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته فله الشكر على كل حال وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجب له كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق للعلم وموجده ولكن بمعنى أنك محل له وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء إذ جعلك خالق الأشياء شيئاً وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظانا لنفسك شيئاً من ذاتك فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئاً فأنت شيء إذ جعلك شيئاً فإن قطع النظر عن جعله كنت لا شيء تحقيقياً وإلى هذا أشار صلى الله الله عليه وسلم حيث قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له // حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له من حديث على وعمران بن حصين لما قيل له يا رسول الله ففيم العمل إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل فتبين أن الخلق مجاري قدرة الله تعالى ومحل أفعاله وإن كانوا هم أيضاً من أفعاله ولكن بعض أفعاله محل للبعض وقوله {اعملوا} وإن كان جارياً على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو فعل من أفعاله وهو سبب لعلم الخلق أن العمل نافع وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة وانبعاث الداعية أيضاً من أفعال الله تعالى وهو سبب لحركة الأعضاء وهي أيضاً من أفعال الله تعالى ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي الأول شرط للثاني كما كان خلق الجسم سبباً لخلق العرض إذ لا يخلق العرض قبله وخلق الحياة شرط لخلق العلم وخلق العلم شرط لخلق الإرادة والكل من أفعال الله تعالى وبعضها سبب للبعض أي هو شرط ومعنى كونه شرطاً أنه لا يستعد لقبول فعل الحياة إلا جوهر ولا يستعد لقبول العلم إلا ذو حياة ولا لقبول الارادة الاذو علم فيكون بعض أفعاله سبباً للبعض بهذا المعنى لا بمعنى أن بعض أفعاله موجد لغيره بل ممهد شرط الحصول لغيره وهذا إذا حقق ارتقى إلى درجة التوحيد الذي ذكرناه
فإن قلت فلم قال الله تعالى اعملوا وإلا فأنتم معاقبون مذمومون على العصيان وما إلينا شيء فكيف نذم وإنما الكل إلى الله تعالى فاعلم أن هذا القول من الله تعالى سبب لحصول اعتقاد فينا والاعتقاد سبب لهيجان الخوف وهيجان الخوف سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور وذلك سبب للوصول إلى جوار الله والله تعالى مسبب الأسباب ومرتبها فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له هذه الأسباب حتى يقوده بسلسلتها إلى الجنة ويعبر عن مثله بأن كلاً ميسر لما خلق له ومن لم يسبق له من الله الحسنى بعد عن سماع كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء فإذا لم يسمع لم يعلم وإذا لم يعلم لم يخف وإذا لم يخف لم يترك الركون إلى الدنيا وإذا لم يترك الركون إلى الدنيا بقي في حزب الشيطان وإن جهنم لموعدهم أجمعين فإذا عرفت هذا تعجبت من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل فما من أحد إلا وهو مقود الى الجنة بسلاسل الأسباب وهو تسليط العلم والخوف عليه وما من مخذول إلا وهو مقود إلى النار بالسلاسل وهو تسليط الغفلة والأمن والغرور عليه فالمتقون يساقون إلى الجنة قهرا والمجرمون يقادون إلى النار قهراً ولا قاهر إلا الله الواحد القهار
পৃষ্ঠা - ১২৪৯
ولا قادر إلا الملك الجبار واذا انكشفت الغطاء عن أعين الغافلين فشاهدوا الأمر كذلك سمعوا عند ذلك نداء المنادي {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم لا ذلك على الخصوص ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفعهم الكشف فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى فإنه أصل أسباب الهلاك
بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه
اعلم إِنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ وَتَرْكَ الْكُفْرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يكرهه إذ معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابه ومعنى الكفر نقيض ذلك إما بترك الاستعمال أو باستعمالها في مكارهه ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان أحدهما السمع ومستنده الآيات والأخبار والثاني بصيرة القلب وهو النظر بعين الاعتبار وهذا الأخير عسير وهو لأجل ذلك عزيز فلذلك أرسل الله تعالى الرسل وسهل بهم الطريق على الخلق ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْجُودٍ خَلَقَهُ إِذْ مَا خَلَقَ شَيْئًا فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَتَحْتَ الْحِكْمَةِ مَقْصُودٌ وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْبُوبُ وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى جَلِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ أَمَّا الْجَلِيَّةُ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الشَّمْسِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهَارُ مَعَاشًا وَاللَّيْلُ لِبَاسًا فَتَتَيَسَّرُ الْحَرَكَةُ عِنْدَ الْإِبْصَارِ وَالسُّكُونُ عِنْدَ الِاسْتِتَارِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ حِكَمِ الشَّمْسِ لَا كُلِّ الْحِكَمِ فِيهَا بَلْ فِيهَا حِكَمٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ دَقِيقَةٌ وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْغَيْمِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ وَذَلِكَ لِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ مَطْعَمًا لِلْخَلْقِ وَمَرْعًى لِلْأَنْعَامِ وَقَدِ انْطَوَى الْقُرْآنُ عَلَى جملة من الحكم الجليلة التي تحتملها أَفْهَامُ الْخَلْقِ دُونَ الدَّقِيقِ الَّذِي يَقْصُرُونَ عَنْ فَهْمِهِ إِذْ قَالَ تَعَالَى {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حباً وعنباً} الآية وأما الحكمة في سائر الكواكب السيارة منها والثوابت فَخَفِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كَافَّةُ الْخَلْقِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ فَهْمُ الْخَلْقِ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ لِتَسْتَلِذَّ الْعَيْنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} فَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ سَمَاؤُهُ وَكَوَاكِبُهُ وَرِيَاحُهُ وَبِحَارُهُ وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعظاء حَيَوَانَاتِهِ لَا تَخْلُو ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ عَنْ حكم كثيرة من حكمه واحدة إلى عشرة إِلَى أَلْفٍ إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ وَكَذَا أَعْضَاءُ الحيوان تنقسم إلا مَا يُعْرَفُ حِكْمَتُهَا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْإِبْصَارِ لا للبطش واليد للبطش لا للمشي والرجل للمشي لا للشم فأما الأعضاء الباطنة من الأمعاء والمرارة والكبد والكلية وآحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظ وسائر الصفات فلا يعرف الحكمة فيها سائر الناس والذين يعرفونها لا يعرفون منها إلا قدراً يسيراً بالإضافة إلى ما في علم الله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فَإِذَنْ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِي جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَلَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ فِيهِ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ إِذْ خُلِقَتْ لَهُ الْيَدُ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ كفر نعمة العين ونعمة الشمس إذ الإبصار يتم بهما وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما يضره فيهما فقد استعملها في غير ما اريد به وهذا لأن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا ولا أنس
পৃষ্ঠা - ১২৫০
إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن ولا يبقى البدن إلا بالغذاء ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهراً وباطناً فكل ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس والراجح إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة فلذلك قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق} الآية فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية ولتذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا وَلَكِنْ يُضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَمْلِكُ مَا يَسْتَغْنِي عنه كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا ثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تتناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يسوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوي مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلاً فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو فى معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعاني في غيره فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فِيهِمَا فَإِذَنْ مَنْ كَنَزَهُمَا فَقَدْ ظَلَمَهُمَا وَأَبْطَلَ الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولها الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين
পৃষ্ঠা - ১২৫১
بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاً ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس والحبس أهوك منه وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأواني لحفظ المائعات ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنة نار جهنم وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاماً ودابة إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض فى أعيانهما وموقهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره وكموقع المرآة من الألوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيداً عنده وينزل منزلا المكنوز وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار وهو ظلم
فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما جاز بيع الدرهم بمثله فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلاً قليلاً ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به وهو تيسر التوصل به إلى غيره وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضاً لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلا مضافات دقيقة في صفاته وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد وأما إذا باع درهماً بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لاحمد فيها ولا أجر فهو أيضاً ظلم لأنه إضاعة خصوص المسامحة وإخراجها في معرض المعارضة وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغنٍ عنها إذ من معه طعام فلم
পৃষ্ঠা - ১২৫২
لا يأكله إن كان محتاجاً ولم يجعله بضاعة تجارة وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجاً إليه فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضاً مستغنٍ عنه ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت في الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أوي من جميع ما أوردناه في الخلافيات وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكناً بالقوت وكان ممكناً بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضرورياً فلذلك قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف في وجوه التحديد كما يحد شرع عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء (¬1) وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر فأقول مثلاً لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل وتفضيل الناقص عدول عن العدل والله لا يأمر بالعدل ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف كأخذ المصحف وبعضها خسيس كإزالة النجاسة فإذا أخذت المصحف باليسار وأزلت النجاسة باليمين فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه وظلمته وعدلت عن العدل وكذلك إذا بصقت مثلاً في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها وإلى ما شرفها بأن وضع فيها بيتاً أضافه إلى نفسه استمالةً
¬_________
(¬1) حديث لولا أن الشياطين يحومون على بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء تقدم فى الصوم
পৃষ্ঠা - ১২৫৩
لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه بدنك في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات وإلى ما هي خسيسة كقضاء الحاجة ورمي البصاق فإذا رميت بصاقك إلى الجهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروهاً حتى إن بعضهم كان قد جمع إكراراً من الحنطة وكان يتصدق بها فسئل عن سببه فقال لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهواً فأريد أن أكفره بالصدقة نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون في ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين أحدهما الشرب والآخر الآخذ باليسار ومن باع خمراً في وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يقال خان من وجهين {أحدهما} بيع الخمر والآخر البيع في وقت النداء ومن قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه فالمعاصي كلها ظلمات بعضها فوق بعض فيمنحق بعضها في جنب البعض فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين وكذلك مَنْ كَسَرَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ غَيْرِ حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غَرَضٍ صَحِيحٍ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْأَشْجَارِ وَخَلْقِ الْيَدِ أَمَّا الْيَدُ فَإِنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ لِلْعَبَثِ بَلْ لِلطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ المعينة على الطاعة وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق لَهُ الْعُرُوقَ وَسَاقَ إِلَيْهِ الْمَاءَ وَخَلَقَ فِيهِ قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده فكسره قبل منتهى نشوة لَا عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِعُ بِهِ عِبَادُهُ مُخَالَفَةٌ لِمَقْصُودِ الْحِكْمَةِ وَعُدُولٌ عَنِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَلَهُ ذَلِكَ إِذِ الشَّجَرُ وَالْحَيَوَانُ جُعِلَا فِدَاءً لِأَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا فَانِيَانِ هَالِكَانِ فَإِفْنَاءُ الْأَخَسِّ فِي بَقَاءِ الْأَشْرَفِ مُدَّةً مَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ مِنْ تَضْيِيعِهِمَا جَمِيعًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السموات وما في الأرض جميعا منه نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضاً وإن كان محتاجاً لأن كل شجرة بعينها لاتفى بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحدة ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلماً فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به من غيره فيرجع جانبه بذلك فإن نبت ذلك في موات الأرض لا بسعي آدمي اختص بمغرسه أو بغرسه فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى أخذه فللسابقخاصية السبق فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقراء عن هذا الترجيح بالملك وهو مجاز محض إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذي له ما في السموات والأرض وكيف يكون العبد مالكاً وهو في نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدة لعبيده فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها
পৃষ্ঠা - ১২৫৪
من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكاً له بالأخذ باليد فإن اليد وصاحب اليد أيضاً مملوك ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله فى في عباده ولذلك نقول من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم وهو من الذين يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم لا يدخل هذا في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو بحكم نقصانهم لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} بل الحق الذي لا كدورة فيه والعدل الذي لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الشُّكْرِ واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق في قوله تعالى {وقليل من عبادي الشكور} وفرح إبليس لعنه الله بقوله {ولا تجد أكثرهم شاكرين} فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف معنى هذا كله وأموراً أخر وراء ذلك تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير
فإن قلت فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى حكمه في كل شيء وأنه جعل بعض أفعال العباد سبباً لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعاً من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضاً من فعل الله تعالى فأين العبد في البين حتى يكون شاكراً مرة وكافراً أخرى فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات بمباديها ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع في السير فضلاً عن أن يجول في جو الملكوت جولان الطير فنقول إن الله عز وجل في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادى إشراقها فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض
পৃষ্ঠা - ১২৫৫
في نور الشمس ولكن لضعف في أبصار الخفافيش فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادي حقائقها شيئاً ضعيفاً جداً فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله تعالى صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة المشيئة فهي توهم منها أمراً محملاً عند المتناطقين باللغات التي هى حروف وأصوات المتفاهمين بها وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كفصور لفظ القدر ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبة واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة وقيل إنهما جميعاً داخلان في وصف المشيئة ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمراً مجملاً عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات ثم انقسم عباده الذين هم أيضاً من خلقه واختراعه إلى من سبقت له المشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها ويكون ذلك قهراً في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته إلى غايتها في بعض الأمور فكان لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة فاستعير لنسبة المستعملين في إتمام الحكمة بهم عبارة الرضا واستعير للذين استوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة الغضب فظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها فاستعير له الكفران وأردف ذلك بنقمة اللعن والمذمة زيادة في النكال وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت بسببه الحكمة إلى غايتها فاستعير له عبارة الشكر وأردف بخلعة الثناء والإطراء زيادة في الرضا والقبول والإقبال فكان الحاصل أنه تعالى أعطى الجمال ثم أثنى وأعطى النكال ثم قبح وأردى وكان مثاله أن ينظف الملك عبده الوسخ عن أوساخه ثم يلبسه من محاسن ثيابه فإذا تمم زينته قال يا جميل ما أجملك وأجمل ثيابك وأنظف وجهك فيكون بالحقيقة هو المجمل وهو المثني على الجمال فهو المثني عليه بكل حال وكأنه لم يثني من حيث المعنى إلا على نفسه وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر والصورة فهكذا كانت الأمور فى الأزال وهكذا تتسلسل الأسباب والمسببات بتقدير رب الأرباب ومسبب الأسباب ولم يكن ذلك على اتفاق وبحث بل عن إرادة وحكمة وحكم حق وأمر جزم استعير له لفظ القضاء وقيل إنه كلمح بالبصر أو هو أقرب لفاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء الجزم بما سبق به التقدير فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض لفظ القدر فكان لفظ القضاء بإزاء الآمر الواحد الكلي ولفظ القدر بإزاء التفصيل المتمادي إلى غير نهاية وقيل إن شيئاً من ذلك ليس خارجاً عن القضاء والقدر فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفضيل وكان بعضهم لقصوره لا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء على مجامعه فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع وقيل لهم اسكنوا فما لهذا خلقتم لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وامتلأت مشكاة بعضهم نوراً مقتبساً من نور الله تعالى في السموات والأرض وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار فمسته نار فاشتعل نوراً على نور فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كلها كما هي عليه فقيل لهم تأدبوا بآداب الله تعالى واسكنوا وإذا
পৃষ্ঠা - ১২৫৬
ذكر القدر فأمسكوا (¬1) فإن للحيطان آذاناً وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك سبب هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس وكونوا كمن قيل فيهم
شربنا شراباً طيباً عند طيب ... كذلك شراب الطيبين يطيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضله ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلاً له وإذا كنت أهلاً له فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك والأعمى يمكن أن يقاد ولكن حدٍ ما فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلاً ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو بحال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل ينال بقوة اليقين ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء فقال صلى الله عليه وسلم لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء // حديث قيل له يقال إن عيسى مشى على الماء قال لو ازداد يقيناً لمشي على الهواء هذا حديث منكر لا يعرف هكذا والمعروف رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب اليقين من قول بكر بن عبد الله المزنى قال فقد الحواريون نبيهم فقيل لهم توجه نحو البحر فانطلقوا يطلبونه فلما انتهو إلى البحر إذا هو قد أقبل يمشى على الماء فذكر حديثا فيه أن عيسى قال لو أن لابن آدم من اليقين شعره مشى على الماء وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس بسند ضعيف من حديث معاذ بن جبل لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة والمحبة والرضا والغضب والشكر والكفران لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها وقد ضرب الله تعالى مثلاً لذلك تقريباً إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وقال تعالى {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى {ليضل عن سبيله} والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجاً إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكون فعله دون فعلي فإنك أخطات إذ أضفت ذلك إلى نفسك بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص المحبوب إتماماً للعدل فإن عدله تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها وتارة يتم فيك فإنك أيضاً من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب
¬_________
(¬1) حديث إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود وقد تقدم فى العلم ولم يصرح المصنف بكونه حديثا
পৃষ্ঠা - ১২৫৭
حركاتك في التعبير هو فعله الذي رتبه بالعدل ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت فلذلك تضيفه إلى نفسك وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلاً إلى لعب المشعبذ الذي يخرج صوراً من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهي مؤلفة من خرق لا تتحرك بأنفسها وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر فى ظلام الليل ورءوسها في يد المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحريك ولكنهم ربما لا يعلمون كيف تفصيله والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيده فكذلك صبيان أهل الدنيا والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى العلماء ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها المتحركة فيحيلون عليها والعلماء يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون إلا العارفون والعلماء والراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطاً دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضاً ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كي لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعبر عن هذه المشاهدات في القرآن وقيل {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً وهذه أمور لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى {يتنزل الأمر بينهن} فقال لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني وفي لفظ آخر لقلتم إنه كافر
ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار وامتزج بعلم المعاملة ما ليس منه فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول إذا رجع حقيقة الشكر إلى كون العبد مستعملاً في إتمام حكمة الله تعالى فأشكر العباد أحبهم إلى الله وأقربهم إليه وأقربهم إلى الله الملائكة ولهم أيضاً ترتيب وما منهم إلا وله مقام معلوم وأعلاهم في رتبة القرب ملك اسمه إسرافيل عليه السلام وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة وقد أصلح الله تعالى بهم الأنبياء عليهم السلام وهم أشرف مخلوق على وجه الأرض ويلي درجتهم درجة الأنبياء فإنهم في أنفسهم أخيار وقد هدى الله بهم سائر الخلق وتمم بهم حكمته وأعلاهم رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم إذا أكمل الله به الدين وختم به النبيين ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم في أنفسهم صالحون وقد أصلح الله بهم سائر الخلق ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه ومن غيره ثم يليهم السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء دينهم ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل من سائر الأنبياء فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم ولم يكن السيف والملك لغيره من الأنبياء ثم يلي العلماء والسلاطين الصالحون الذين أصلحوا دينهم ونفوسهم فقط فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع
পৃষ্ঠা - ১২৫৮
واعلم أن السلطان به قوام الدين فلا ينبغي أن يستحقر وإن كان ظالماً فاسقاً قال عمرو بن العاص رحمه الله إمام غشوم خير من فتنة تدوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ويفسدون وما يصلح الله بهم أكثر فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر // حديث سيكون عليكم أمراء يفسدون وما يصلح الله بهم أكثر الحديث أخرجه مسلم من حديث أم سلمة يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ورواه الترمذى بلفظ سيكون عليكم أئمة وقال حسن صحيح وللبزار بسند ضعيف من حديث ابن عمر السلطان ظل الله فى الأرض يأوى اليه كل مظلوم من عبادة فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر وأما قوله وما يصلح الله بهم أكثر فلم أجده بهذا اللفظ إلا أنه يؤخذ من حديث ابن مسعود حين فزع إليه الناس لما أنكروا سيرة الوليد بن عقبة فقال عبد الله اصبروا فإن جور إمامكم خمسين سنة خير من هرج شهر فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فذكر حديثا فيه والإمارة الفاجرة خير من الهرج رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد لا بأس به وقال سهل من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل وسئل أي الناس خير فقال السلطان فقيل كنا نرى أن شر الناس السلطان فقال مهلا إن لله تعالى له كل يوم نظرتين نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ونظرة إلى سلامة أبدانهم فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنبه وكان يقول الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من سبعين قاصاً يقصون
الركن الثاني من أركان الشكر
ما عليه الشكر
وهو النعمة فلنذكر فيه حقيقة النعمة وأقسامها ودرجاتها وأصنافها ومجامعها فيما يخص ويعم فإن إحصاء نعم الله على عباده خارج عن مقدور البشر كما قال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فنقدم أموراً كلية تجري مجرى القوانين في معرفة النعم ثم نشتغل بذكر الآحاد والله الموفق للصواب
بيان حقيقة النعمة وأقسامها
اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يسمى نعمة ولكن النعمة بالحقيقة هي السعادة الأخروية وتسمية ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وإما مجاز كتسمية السعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة نعمة فإن ذلك غلط محض وقد يكون اسم النعمة للشى صدقاً ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق فكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بوسطة واحدة أو بوسائط فإن تسمية نعمة صحيحة وصدق لأجل أنه يفضي إلى النعمة الحقيقية
والأسباب المعينة واللذات المسماة نعمة نشرحها بتقسيمات القسمة الأولى أن الأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم إلى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً كالعلم وحسن الخلق وإلى ما هو ضار فيهما جميعاً كالجهل وسوء الخلق وإلى ما ينفع في الحال المضر في المآل كالتلذذ باتباع الشهوة وإلى ما يضر في الحال ويؤلم ولكن ينفع في المآل كقمع الشهوات ومخالفة النفس فالنافع في الحال والمآل هو النعمة تحقيقاً كالعلم وحسن الخلق والضار فيهما هو البلاء تحقيقاً وهو ضدهما والنافع في الحال في المآل بلاء محض عند ذوي البصائر وتظنه الجهال نعمة ومثاله الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم فإنه يعده نعمة إن كان جاهلاً وإذا علمه علم أن ذلك بلاء سيق إليه والضار في الحال النافع في المآل نعمة عند ذوي الألباب بلاء عند الجهال ومثاله الدواء البشع في الحال مذاقه إلا أنه شاف من الأمراض والأسقام وجالب للصحة والسلامة فالصبي الجاهل إذا كلف شربه ظنه بلاء والعاقل يعده نعمة ويتقلد المنة ممن يهديه إليه ويقربه منه ويهيىء له أسبابه فلذلك تمنع الأم ولدها من الحجامة والأب يدعوه إليها فإن الأب لكمال عقله يلمح العاقبة والأم لفرط حبها وقصورها تلحظ الحال والصبي لجهله يتقلد منة من أمه دون أبيه
পৃষ্ঠা - ১২৫৯
ويأنس إليها وإلى شفقتها ويقدر الآب عدو له ولو عقل لعلم أن الأم عدواً باطناً فى سورة صديق لأن منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض وآلام أشد من الحجامة ولكن الصديق الجاهل شر من العدو العاقل وكل إنسان فإنه صديق نفسه ولكنه صديق جاهل فلذلك تعمل به مالا يعمل به العدو
قسمة ثانية اعلم أن كل الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها فقلما يصفو خيرها كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب وإلى ما ضره أكثر من نفعه في حق أكثر الأشخاص كالمال الكثير والجاه الواسع وإلى ما يكافىء ضرور نفعه وهذه أمور تختلف بالأشخاص فرب إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح وإن كثر فينفقه في سبيل الله ويصرفه إلى الخيرات فهو مع هذه التوفيق نعمة في حقه ورب إنسان يستضر بالقليل أيضاً إذ لا يزال مستصغراً له شاكياً من ربه طالباً للزيادة عليه فيكون ذلك مع هذا الخذلان بلاء في حقه
قسمة ثالثة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى ما هو مؤثر لذاته لا لغيره وإلى مؤثر لغيره وإلى مؤثر لذاته ولغيره فالأول ما يؤثر لذاته لا لغيره كلذة النظر إلى وجه الله تعالى وسعادة لقائه وبالجملة سعادة الأخرى التي لا انقضاء لها فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها بل تطلب لذاتها الثاني ما يقصد لغيره ولا غرض أصلاً في ذاته كالدراهم والدنانير فإن الحاجة لو كانت لا تنقضى بها فكانت هي والحصباء بمثابة واحدة ولكن لما كانت وسيلة إلى اللذات سريعة الإيصال إليها صارت عند الجهال محبوبة في نفسها حتى يجمعوها ويكنزوها ويتصارفوا عليها بالربا ويظنون أنها مقصودة ومثال هؤلاء مثال من يحب شخصاً فيحب بسببه رسوله الذي يجمع بينه وبينه ثم ينسى في محبة الرسول محبة الأصل فيعرض عنه طول عمره ولا يزال مشغولاً بتعهد الرسول ومراعاته وتفقده وهو غاية الجهل والضلال الثالث ما يقصد لذاته ولغيره كالصحة والسلامة فإنها تقصد ليقدر بسببها على الذكر والفكر الموصلين إلى لقاء الله تعالى أو ليتوصل بها إلى استيفاء لذات الدنيا وتقصد أيضاً لذاتها فإن الإنسان وإن استغنى عن الشيء الذي تراد سلامة الرجل لأجله فيريد أيضاً سلامة الرجل من حيث إنها سلامة فإذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً وما يؤثر لذاته ولغيره أيضاً فهو نعمة ولكن دون الأول فأما مالا يؤثر إلا لغيره كالنقدين فلا يوصفان أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة بل من حيث هما وسيلتان فيكونان نعمة في حق من يقصد أمر ليس يمكنه أن يتوصل إليه إلا بهما فلو كان مقصده العلم والعبادة ومعه الكفاية التي هي ضرورة حياته استوى عند الذهب والمدر فكان وجودهما وعدمهما عنده بمثابة واحدة بل ربما شغله وجودهما عن الفكر والعبادة فيكونان بلاء في حقه ولا يكونان نعمة
قسمة رابعة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى نافع ولذيذ وجميل فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال والنافع هو الذي يفيد في المآل والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال والشرور أيضاً تنقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم وكل واحد من القسمين ضربان مطلق ومقيد فالمطلق هو الذي اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة أما في الخير فكالعلم والحكمة فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة وأما في الشر فكالجهل فإنه ضار وقبيح ومؤلم وإنما يحس الجاهل بألم جهله إذا عرف أنه جاهل وذلك بأن يرى غيره عالماً ويرى نفسه جاهلاً فيدرك ألم النقص فتنبعث منه شهوة العلم اللذيذة ثم قد يمنع الحسد والكبر والشهوات البدنية عن التعلم فيتجاذبه متضادان فيعظم ألمه فإنه إن ترك التعلم تألم بالجهل ودرك النقصان وإن اشتغل بالتعلم تألم بترك الشهوات أو بترك
পৃষ্ঠা - ১২৬০
الكبر وذل التعلم ومثل هذا الشخص لا يزال في عذاب دائم لا محالة الضرب الثاني المقيد وهو الذي جمع بعض هذه الأوصاف دون بعض فرب نافع مؤلم كقطع الإصبع المتآكلة والسلعة الخارجة من البدن ورب نافع قبيح كالحمق فإنه بالإضافة إلى بعض الأحوال نافع فقد قيل استراح من لا عقل له فإنه لا يتهم بالعاقبة فيستريح في الحال إلى أن يحين وقت هلاكه ورب نافع من وجه ضار من وجه كإلقاء المال في البحر عند خوف الغرق فإنه ضار للمال نافع للنفس في نجاتها
والنافع قسمان ضروري كالإيمان وحسن الخلق في الإيصال إلى سعادة الآخرة وأعني بهما العلم والعمل إذ لا يقوم مقامهما البتة غيرهما وإلى ما لا يكون ضروريا كالسكنجبين مثلاً في تسكين الصفراء فإنه قد يمكن تسكينها أيضاً بما يقوم مقامه
قسمة خامسة اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ واللذات بالإضافة إلى الإنسان من حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع عقلية وبدنية مشتركة مع بعض الحيوانات وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات أما العقلية فكلذة العلم والحكمة إذ ليس يستلذها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن ولا الفرج وإنما يستلذها القلب لاختصاصه بصفة يعبر عنها بالعقل وهذه أقل اللذات وجوداً وهي أشرفها أما قلتها فلأن العلم لا يستلذه إلا عالم والحكمة لا يستلذها إلا حكيم وما أقل أهل العلم والحكمة وما أكثر المتسمين باسمهم والمترسمين برسومهم وأما شرفها فلأنها لازمة لا تزول أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة ودائمة لا تمل فالطعام يشبع منه فيمل وشهوة الوقاع يفرغ منها فتستثقل والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل ومن قدر على الشريف الباقي أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني في أقرب الآماد فهو مصاب في عقله محروم لشقاوته وإدباره وأقل أمر فيه أن العلم والعقل لا يحتاج إلى أعوان وحفظة بخلاف المال إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالإنفاق والمال يسرق والولاية يعزل عنها والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ ولا أيدي السلاطين بالعزل فيكون صاحبه في روح الأمن أبداً وصاحب المال والجاه في كرب الخوف أبداً ثم العلم نافع ولذيذ وجميل في كل حال أبداً والمال تارة يجذب إلى الهلاك وتارة يجذب إلى النجاة ولذلك ذم الله تعالى المال في القرآن في مواضع وإن سماه خيراً في مواضع وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم فإما لعدم الذوق فمن لم يذق لم يعرف ولم يشتق إذ الشوق تبع الذوق وإما لفساد أمزجتهم ومرض قلوبهم بسبب إتباع الشهوات كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مراً وإما لقصور فطنتهم إذ لم تخلق لهم بعد الصفة التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل والطيور السمان ولا يستلذ إلا اللبن وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة ولا استطابته اللبن تدل على أنه ألذ الأشياء فالقاصرون عزدرك لذة العلم والحكمة ثلاثة إما من لم يحي باطنه كالطفل وإما من مات بعد الحياة بإتباع الشهوات وإما من مرض بسبب إتباع الشهوات وقوله تعالى {في قلوبهم مرض} إشارة إلى مرض العقول وقوله عز وجل {لينذر من كان حياً} إشارة إلى من لم يحى حياة باطنة وكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى وإن كان عند الجهال من الأحياء ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وإن كانوا موتى بالأبدان الثانية لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء وذلك موجود في الأسد والنمر وبعض الحيوانات الثالثة ما يشارك فيها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج وهذه أكثرها وجوداً وهي أخسها ولذلك اشترك فيها كل ودرج حتى الديدان والحشرات ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة وهو
পৃষ্ঠা - ১২৬১
أشدها التصاقاً بالمتغافلين فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالثة فصار أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة لا سيما لذة معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله وهذه رتبة الصديقين ولا ينال تمامها إلا بخروج استيلاء حب الرياسة من القلب وآخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرياسة وأما شره البطن والفرج فكسره مما يقوى عليه الصالحون وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون فأما قمعها بالكلية حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجاً عن مقدور البشر نعم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل وعند هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام قلب لا يحب إلا الله تعالى ولا يستريح إلا بزيادة المعرفة به والفكر فيه وقلب لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله وإنما لذته بالجاه والرياسة والمال وسائر الشهوات البدنية وقلب أغلب أحواله الأنس بالله سبحانه والتلذذ بمعرفته والفكر فيه ولكن قد يعتريه في بعض الأحوال الرجوع إلى أوصاف البشرية وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية ويعتريه في بعض الأحوال تلذذ بالعلم والمعرفة أما الأول فإن كان ممكناً في الوجود فهو في غاية البعد وأما الثاني فالدنيا طافحة به وأما الثالث والرابع فموجودان ولكن على غاية الندور ولا يتصور أن يكون ذلك نادراً شاذاً وهو مع الندور يتفاوت في القلة والكثرة وإنما تكون كثرته في الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام فلا يزال يزداد العهد طولاً وتزداد مثل هذه القلوب قلة إلى أن تقرب الساعة ويقضي الله أمراً كان مفعولا وإنما وجب أن يكون هذا نادراً لأنه مبادي ملك الآخرة والملك عزيز والملوك لا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والجمال إلا نادراً وأكثر الناس من دونهم فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عبارة عن عالم الشهادة والآخرة عبارة عن عالم الغيب وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة والصورة في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة الوجود فإنها أولى في حق رؤيتك فإنك لا ترى نفسك وترى صورتك في المرآة أولاً فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة فالقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة والقلب المتأخر متقدماً وهذا نوع من الانعكاس ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم فكذلك عالم الملك والشهادة محاكٍ لعالم الغيب والملكوت فمن الناس من يسر له نظر الاعتبار فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فيسمى عبوره عبرة وقد أمر الحق به فقال {فاعتبروا يا أولي الأبصار} ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستنفتح إلى حبسه أبواب جهنم وهذا الحبس مملوء ناراً من شأنها أن تطلع على الأفئدة إلا أن بينه وبين إدراك المها حجاباً فإذا رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا الجنة والنار مخلوقتان ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة وعلم اليقين قد يكون في الدنيا ولكن للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين فلذلك قال الله تعالى {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} أي في الدنيا {ثم لترونها عين اليقين} أي في الآخرة فإذن قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزاً كالشخص الصالح لملك الدنيا
قسمة سادسة حاوية لمجامع النعم اعلم أن النعم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها وإلى ما هي مطلوبة لأجل
পৃষ্ঠা - ১২৬২
الغاية أم الغاية فإنها سعادة الآخرة ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور بقاء لا فناء له وسرور لا غم فيه وعلم لا جهل معه وغنى لا فقر بعده وهي النعمة الحقيقية وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لا عيش إلا عيش الآخرة (¬1) وقال ذلك في الشدة تسلية النفس وذلك في وقت حفر الخندق في شدة الضر وقال ذلك مرة في السرور منعاً للنفس من الركون إلى سرور الدنيا وذلك عند إحداق الناس به في حجة الوداع حديث قوله في حجة الوداع لا عيش إلا عيشة الآخرة رواه الشافعي مرسلا والحاكم متصلا وصححه وتقدم في الحج وقال رجل اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تعلم ما تمام النعمة قال لا قال تمام النعمة دخول الجنة حديث قال رجل اللهم إني أسألك تمام النعمة الحديث (¬2) أما الوسائل فتنقسم إلى الأقرب الأخص كفضائل النفس وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن وهو الثاني وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة للنفس كالتوفيق والهداية فهي إذن أربعة أنواع النوع الأول وهو الأخص الفضائل النفسية ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى الإيمان وحسن الخلق وينقسم الإيمان إلى علم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وإلى علوم المعاملة وحسن الخلق ينقسم إلى قسمين ترك مقتضى الشهوات والغضب واسمه العفة ومراعاة العدل في الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلاً ولا يقدم كيف شاء بل يكون إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال الله تعالى إن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان فمن خصي نفسه ليزيل شهوة النكاح أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من الآفات أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان ومن انهمك في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان وإنما العدل أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان فإذن الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى الله تعالى أربعة علم مكاشفة وعلم معاملة وعفة وعدالة ولا يتم هذا في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني وهو الفضائل البدنية وهي أربعة الصحة والقوة والجمال وطول العمر ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة المال والأهل والجاه وكرم العشيرة ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة والبدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة هداية الله ورشده وتسديده وتأييده فمجموع هذه النعم ستة عشر إذا قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحدة من الأربعة إلى أربعة وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى البعض إما حاجة ضرورية أو نافعة أم الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة الآخرة البتة إلا بهما فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا فكذلك حاجة الفضائل النفسية التي تكسب هذه العلوم وتهذب الأخلاق إلى صحة البدن ضروري وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم النفسية والبدنية إلى النعم الخارجة مثل المال والعز والأهل فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل إلى بعض النعم الداخلة
فإن قلت فما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة من المال والأهل والجاه والعشيرة فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح المبلغ والآلة المسهلة للمقصود أما المال فالفقير في طلب العلم والكمال وليس
¬_________
(¬1) حديث قوله عند حفر الخندق لا عيش إلا عيشة الآخرة متفق عليه من حديث أنس
(¬2) أخرجه الترمذي من حديث معاذ بسند حسن
পৃষ্ঠা - ১২৬৩
له كفاية كساع إلى الهيجا بغير سلاح وكبازي يروم الصيد بلا جناح ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ للرجل الصالح وقال صلى الله عليه وسلم نعم العون على تقوى الله المال 2 وكيف لا ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب الأقوات وفي تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة ثم يتعرض لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر والفكر ولا تندفع إلا بسلاح المال ثم ذلك يحرم عن فضيلة الحج والزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات
وقال بعض الحكماء وقد قيل له ما النعيم فقال الغنى فإني رأيت الفقير لا عيش له قيل زدنا قال الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له قيل زدنا قال العافية فإني رأيت المريض لا عيش له قيل زدنا قال الشباب فإني رأيت الهرم لا عيش له وكأن ما ذكره إشارة إلى نعيم الدنيا ولكن من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم من أصبح معافى بدنه آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حيزت له الدنيا بحذافيرها (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم في الولد إذا مات العبد انقطع عمله إلا في ثلاث ولد صالح يدعو له الحديث حديث إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وتقدم في النكاح وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كناب النكاح وأما الأقارب
فهما كثر أولاد الرجل وأقاربه كانوا له مثل الأعين والأيدي فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لمو انفرد به لطال شغله وكل ما يفرغ قلبك من ضرورات الدنيا فهو معين لك على الدين فهو إذن نعمة وأما العز والجاه فبه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم ولا يستغني عنه مسلم فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه وظالم يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه وقلبه رأس ماله وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه ولذلك قيل الدين والسلطان توأمان قال تَعَالَى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لفسدت الأرض} ولا معنى للجاه إلا ملك القلوب كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه فكما يحتاج إلى سقف يدفع عنه المطر وجبة تدفع عنه البرد وكلب يدفع الذئب عن ماشيته فيحتاج أيضاً إلى من يدفع الشر به عن نفسه وعلى هذا القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه وكذلك علماء الدين لا على القصد التناول من خزائنهم والاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم ولا تظن أن نعمة الله تعالى على صلى الله عليه وسلم حيث نصره وأكمل دينه وأظهره على جميع أعدائه ومكن في القلوب حبه حتى اتسع به عزه وجاهه كانت أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذي ويضرب حتى افتقر إلى الهرب والهجرة // حديث ما ناله صلى الله عليه وسلم من الأذى ونحوه حتى افتقر إلى الهرب والهجرة رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل الحديث وللترمذي وصححه وابن ماجة من حديث أنس لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله ولقد أذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد إتى علي ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شئ إبط بلال قال الترمذي معنى هذا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هاربا من مكة ومعه بلال وللبخاري عن عروة قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فدفعه عنه الحديث وللبزار وأبي يعلى من حديث أنس قال لقد ضربوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى غشي عليه فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وإسناده صحيح على شرط مسلم
¬_________
(¬1) حديث نعم المال الصالح للرجل الصالح رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث عمرو بن العاص بسند جيد
حديث نعم العون على تقوى الله المال رواه ابو منصور الديلمي في مسند الفردوس من رواية محمد بن المنكدر عن جابر ورواه أبو القاسم البغوي من رواية المنكدر مرسلا ومن طريقة رواه القضاعي في مسند الشهاب هكذا مرسلا
حديث من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث عبيد الله ابن محصن الأنصاري وقد تقدم
وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما إذ قال صلى الله عليه وسلم نعم العون على الدين المرأة الصالحة
حديث نعم العون على الدين المرأة الصالحة لم أجد له اسنادا ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة
পৃষ্ঠা - ১২৬৪
فإن قلت كرم العشيرة وشرف الأهل هو من النعم أم لا فأقول نعم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش (¬1) ولذلك كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم عليه السلام حديث كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة الأرومة الأصل هذا معلوم فروى مسلم من حديث واثلة بن الأسقى مرفوع إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم وفي رواية الترمذي إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وله من حديث العباس وحسنه وابن عباس والمطلب ابن ربيعة وصححه والمطلب بن أبي وداعة وحسنه إن الله خلق الخلق فجعلني من خير وفي حديث ابن عباس ما بالوا أقوام يبتذلون أصل فوالله لأنا أفضلهم أصلا وخيرهم موضعا وقال صلى الله عليه وسلم تخيروا لنطفكم الأكفاء (¬2) حديث اطلبوا الخير عند حسان الوجوه أخرجه أبو يعلي من رواية اسماعيل بن عياش عن خيرة بنت محمد بن ثابت بن سباع عن أمها عائشة وخيرة وأمها لا أعرف حالهما ورواه ابن حبان من وجه آخر في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر وله طرق كلها ضعيفة // وقال عمر
¬_________
(¬1) حديث الأئمة من قريش رواهالنسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح
(¬2) حديث تخيروا ليطفكم أرجه ابن ماجة من حديث عائشة وتقدم في النكاح وقال صلى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في المنبت السوء إياكم وخضراء الدمن تقدم فيه أيضا فهذا أيضاً من النعم ولست أعني به الانتساب إلى الظلمة وأرباب الدنيا بل الانتساب إلى شجرة صلى الله عليه وسلم وإلى أئمة العلماء وإلى الصالحين والأبرار المتوسمين في العلم والعمل
فإن قلت فما معنى الفضائل البدنية فأقول لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة والقوة وإلى طول العمر إذ لا يتم علم وعمل إلا بهما ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى حديث أفضل السعادة طول العمر في عبادة الله غريب بهذا اللفظ وللترمذي من حديث أبي بكرة أن رجل قال يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله وقال حسن صحيح وإنما يستحقر من جملته أمر الجمال فيقال يكفي أن يكون البدن سليماً من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات ولعمري الجمال قليل الغناء ولكنه من الخيرات أيضا أما في الدنيا فلا يخفي نفعه فيها وأما في الآخرة فمن وجهين {أحدهما} أن القبيح مذموم والطباع عنه نافرة وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهه في الصدور أوسع فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه إذ هو نوع قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات لا يقدر عليها القبيح وكل معين على قضاء حاجات الدنيا فمعين على الآخرة بواسطتها والثاني أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس لأن نور النفس إذ أتم إشراقه تأدى إلى البدن فالمنظر والمخبر كثيرا ما يتلازمان ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيآت البدن فقالوا الوجه والعين مرآة الباطن ولذلك يظهر فيه أثر الغضب والسرور والغم ولذلك قيل طلاقة الوجه عنوان ما في النفس وقيل ما في الأرض قبيح إلا ووجهه الأحسن ما فيه واستعرض المأمون جيشا فعرض عليه رجل قبيح فاستنطقه فإذا هو ألكن فأسقط اسمه من الديوان وقال الروح إذا أشرقت على الظاهر فصباحة أو على الباطن ففصاحة وهذا ليس له ظاهر ولا باطن وقد قال صلى الله عليه وسلم اطلبوا الخير عند صباح الوجوه
পৃষ্ঠা - ১২৬৫
رضي الله تعالى عنه إذا بعثتم رسولاً فاطلبوه حسن الوجه حسن الاسم وقال الفقهاء إذا تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجهاً أولاهم بالإمامة وقال تعالى ممتناً بذلك {وزاده بسطة في العلم والجسم} ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وتناصف خلقة الوجه بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه
فإن قلت فقد أدخلت المال والجاه والنسب والأهل والولد في حيز النعم وقد ذم الله تعالى المال والجاه وكذا رسول صلى الله عليه وسلم حديث ذم المال والجاه أخرجه الترمذي من حديث كعب بن مالك ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب المال والشرف لدينه وقد تقدم في ذم المال والبخل // وكذا العلماء قال تعالى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وقال عز وجل {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} وقال علي كرم الله وجهه في ذم النسب الناس أبناء ما يحسنون وقيمة كل امرىء ما يحسنه وقيل المرء بنفسه لا بأبيه فما معنى كونها نعمة مع كونها مذمومة شرعاً فاعلم أن من يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المؤولة والعمومات المخصصة كان الضلال عليه أغلب ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى إدراك العلوم على ما هي عليه ثم ينزل النقل على وفق ما ظهر له منها بالتأويل مرة وبالتخصيص أخرى فهذه نعم معينة على أمر الآخرة لا سبيل إلى جحدها إلا أن فيها فتنا ومخاوف فمثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم نافع فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سمها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة وإن أصابها السوادي الغر فهي عليه بلاء وهلاك وهو مثل البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلئ فمن ظفر بالبحر فإن كان عالماً بالسباحة وطريق الغوص وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر فقد ظفر بنعمه وإن خاضه جاهلاً بذلك فقد هلك فلذلك مدح الله تعالى المال وسماه خيرا ومدحه رسول صلى الله عليه وسلم وقال نعم العون على تقوى الله تعالى المال وكذلك مدح الجاه والعز إذ من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أظهره على الدين كله وحببه في قلوب الخلق وهو المعني بالجاه ولكن المنقول في مدحهما قليل والمنقول في ذم المال والجاه كثير وحيث ذم الرياء فهو ذم الجاه إذ الرياء مقصوده اجتلاب القلوب ومعنى الجاه ملك القلوب وإنما كثر هذا وقل ذاك لأن الناس أكثرهم جهال بطريق الرقية لحية المال وطريق الغوص في بحر الجاه فوجب تحذيرهم فإنهم يهلكون بسم المال قبل الوصول إلى ترياقه ويهلكهم تمساح بحر الجاه قبل العثور على جواهره ولو كانا في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى كل أحد لما تصور أن ينضاف إلى النبوة الملك كما كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولا أن ينضاف إليها الغنى كما كان لسليمان عليه السلام فالناس كلهم صبيان والأموال حيات والأنبياء والعارفون معزمون فقد يضر الصبي مالا يضر المعزم نعم المعزم لو كان له ولد يريد بقاءه وصلاحه وقد وجد حية وعلم أنه لو أخذها لأجل ترياقها لاقتدى به ولده وأخذ الحية إذا رآها ليلعب بها فيهلك فله غرض في الترياق وله غرض في حفظ الولد فواجب عليه أن يزن غرضه في الترياق بغرضه في حفظ الولد فإذا كان يقدر على الصبر عن الترياق ولا يستضر به ضرراً كثيراً ولو أخذها لأخذها الصبي ويعظم ضرره بهلاكهم فواجب عليه أن يهرب عن الحية إذا رآها ويشير على الصبي بالهرب ويقبح صورتها في عينه ويعرفه أن فيها سماً قاتلاً لا ينجو منه أحد ولا يحدثه أصلاً بما فيها من نفع الترياق فإن ذلك ربما يغره فيقدم عليه من غير تمام المعرفة وكذلك الغواص إذا علم أنه لو غاص في البحر بمرأى من ولده لاتبعه وهلك
পৃষ্ঠা - ১২৬৬
فواجب عليه أن يحذر الصبي ساحل البحر والنهر فإن كان لا ينزجر الصبي بمجرد الزجر مهما رأى والده يحوم حول الساحل فواجب عليه أن يبعد من الساحل مع الصبي ولا يقرب منه بين يديه فكذلك الأمة في حجر الأنبياء عليهم السلام كالصبيان الأغبياء ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنَا لكم مثل الوالد لولده وقال صلى الله عليه وسلم إنما تتهافتون على النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم وحظهم الأوفر في حفظ أولادهم عن المهالك فإنهم لم يبعثوا إلا لذلك وليس لهم في المال حظ إلا بقدر القوت فلا جرم اقتصروا على قدر القوت وما فضل فلم يمسكون بل أنفقوه فإن الإنفاق فيه الترياق وفي الإمساك السم ولو فتح للناس باب كسب المال ورغبوا فيه لمالوا إلى سم الإمساك ورغبوا عن ترياق الإنفاق فلذلك قبحت الأموال والمعنى به تقبيح إمساكها والحرص عليها للاستكثار منها والتوسع في نعيمها بما يوجب الركون إلى الدنيا ولذتها فأما أخذها بقدر الكفاية وصرف الفاضل إلى الخيرات فليس بمذموم وحق كل مسافر أن لا يحمل إلا بقدر زاده في السفر إذا صمم العزم على أن يختص بما يحمله فأما إذا سمحت نفسه بإطعام الطعام وتوسيع الزاد على الرفقاء فلا بأس بالاستكثار وقوله عليه الصلاة والسلام ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب معناه لأنفسكم خاصة ولا فقد كان فيمن يروي هذا الحديث ويعمل به من يأخذ مائة ألف درهم في موضع واحد ويفرقها في موضعه وإلا يمسك منها حبة ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأغنياء يدخلون الجنة بشدة استأذنه عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أن يخرج عن جميع ما يملكه فأذن له فنزل جبريل عليه السلام وقال مره بأن يطعم المسكين ويكسو العاري ويقري الضيف الحديث فإذن النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج دواؤها بدائها ومرجوها بمخوفها ونفعها بضرها فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقياً داءها ومستخرجاً دواءها ومن لا يثق بها فالبعد البعد والفرار الفرار عن مظان الأخطار فلا تعدل بالسلامة شيئاً في حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه لطريقه
فإن قلت فما معنى النعم التوفيقية الراجحة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد فاعلم أن التوفيق لا يستغني عنه أحد وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره وهذا يشمل الخير والشر وما هو سعادة وما هو شقاوة ولكن جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة من جملة قضاء الله تعالى وقدره كما أن الإلحاد عبارة عن الميل فخصص بمن مال إلى الباطل عن الحق وكذا الارتداد ولا خفاء بالحاجة إلى التوفيق ولذلك قيل
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته
পৃষ্ঠা - ১২৬৭
ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحاً فمن أين ينفعه مجرد الإرادة فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ولذلك قال تعالى {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وقال تَعَالَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زكى منكم أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى أي بهدايته فقيل وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أنا (¬1) وللهداية ثلاث منازل {الأولى} معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى {وهديناه النجدين} وقد أنعم الله تعالى به على كافة عباده بعضه بالعقل وبعضه على لسان الرسل ولذلك قال تعالى {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} فأسباب الهدى هي الكتاب والرسل وبصائر العقول وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا الحسد والكبر وحب الدنيا والأسباب التي تعمي القلوب وإن كانت لا تعمى الأبصار قال تعالى {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ومن جملة المعميات الإلف والعادة وحب استصحابهما وعنه العبارة بقوله تعالى {إنا وجدنا آباءنا على أمة} الآية وعن الكبر والحسد العبارة بقوله تعالى {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} وقوله تعالى {أبشرا منا واحداً نتبعه} فهذه المعميات هي التي منعت الاهتداء والهداية الثانية وراء هذه الهداية العامة وهي التي يمد الله تعالى بها العبد حالاً بعد حال وهي ثمرة المجاهدة حيث قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وهو المراد بقوله تعالى {والذين اهتدوا زادهم هدى} والهداية الثالثة وراء الثانية وهو النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدي بها إلا ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف وإمكان تعلم العلوم وهو الهوى المطلق وما عداه حجاب له ومقدمات وهو الذي شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه وإن كان الكل من جهته تعالى فقال تعالى {قل إنّ هدى الله هو الهدى} وهو المسمى حياة في قوله تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} والمعنى بقوله تعالى {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وأما الرشد فنعني به العناية الإلهية التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فتقوبه على ما فيه صلاحه وتفتره عما فيه فساده ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} فالرشد عبارة عن هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها فالصبي إذا بلغ خبيراً بحفظ المال وطرق التجارة والاستنماء ولكنه مع ذلك يبذر ولا يريد الاستنماء لا يسمى رشيداً لا لعدم هدايته بل لقصور هدايته عن تحريك داعيته فكم من شخص يقدم على ما يعلم أنه يضره فقد أعطي الهداية وميز بها عن الجاهل الذي لا يدري أنه يضره ولكن ما أعطى الرشد فالرشد بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية إلى وجوه الأعمال وهي نعمة عظيمة وأما التسديد فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه ليشتد في صوب الصواب في أسرع وقت فإن الهداية بمجردها لا تكفي بل لا بد من هداية محركة للداعية وهي الرشد والرشد لا يكفي بل لا بد من تيسر الحركات بمساعدة الأعضاء والآلات حتى يتم المراد مما انبعثت الداعية إليه فالهداية محض التعريف والرشد هو تنبيه الداعية لتستقيظ وتتحرك والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد وأما التأييد فكأنه جامع للكل وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج وهو المراد بقوله عز وجل {إذ أيدتك بروح القدس} وتقرب منه العصمة وهى
¬_________
(¬1) حديث ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله متفق عليه من حديث أبى هريرة لن يدخل أحدكم عمله الجنة قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة وفى رواية لمسلم ما من أحد يدخله عمله الجنة الحديث واتفقا عليه من حديث عائشة وانفرد به مسلم من حديث جابر وقد تقدم
পৃষ্ঠা - ১২৬৮
عبارة عن وجود إلهي يسبح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر يصير كمانع من باطنه غير محسوس وإياه عنى بقوله تعالى {ولقد همّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} فهذه هي مجامع النعم ولن تثبت إلا بما يخوله الله من الفهم الصافي الثاقب والسمع الواعي والقلب البصير المراعي المتواضع والمعلم الناصح والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وظلم الأعداء ويستدعي كل واحد من هذه الأسباب الستة عشر أسباباً وتستدعي تلك الأسباب أسباباً إلى أن تنتهي بالآخرة إلى دليل المتحيرين وملجأ المضطرين وذلك رب الأرباب ومسبب الأسباب وإذا كانت تلك الأسباب طويلة لا يحتمل مثل هذا الكتاب استقصاءها فلنذكر منها أنموذجاً ليعلم به معنى قوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وبالله التوفيق
بيان وجه الأنموذج في كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر
والإحصاء
اعلم أنّا جمعنا النعم في ستة عشر ضرباً وجعلنا صحة البدن نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب التي بها تتم نعمة الأكل فلا يخفى أن الأكل فعل وكل فعل من هذا النوع فهو حركة وكل حركة لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها ولا بد لها من قدرة على الحركة ولا بد من إرادة للحركة ولا بد من علم بالمراد وإدراك له ولا بد للأكل من مأكول ولا بد للمأكول من أصل منه يحصل ولا بد له من صانع يصلحه فلنذكر أسباب الإدراك ثم أسباب الإرادات ثم أسباب القدرة ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح لا على سبيل الاستقصاء
الطرف الأول في نعم الله تعالى في خلق أسباب الإدراك
اعلم أن الله تعالى خلق النبات وهو أكمل وجوداً من الحجر والمدر والحديد والنحاس وسائر الجواهر التي لا تنمى ولا تغذى فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي في الأرض وهي له آلات فبها يجتذب الغذاء وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة ثم تغلظ أصولها ثم تتشعب ولا تزال تستدق وتتشعب إلى عروق شعرية تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر إلا أن النبات مع هذا الكال ناقص فإنه إذا أعوزه غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من وضع آخر فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك فمن نعمة الله تعالى عليك أن خلق لك آلات الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في خلق الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك فأولها حاسة اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه وهذا أول حس يخلق للحيوان ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس لأنه إذا لم يحس أصلاً فليس بحيوان وأنقص درجات الحس أن يحس بما لا يلاصقه ويماسه فإن الإحساس مما يبعد منه إحساس أتم لا محالة وهذا الحس موجود لكل حيوان حتى الدودة التي في الطين فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب لا كالنبات فإن النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس بالقطع إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت
পৃষ্ঠা - ১২৬৯
ناقصاً كالدودة لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك بل ما يمس فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم إلا أنك تدرك به الرائحة ولا تدري أنها جاءت من أي ناحية فتحتاج إلى أن تطوف كثيراً من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذي شممت ريحه وربما لم تعثر فتكون في غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب وتبصر عدواً لا حجاب بينك وبينه وأما ما بينك وبينه حجاب فلا تبصره وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئاً حاضراً وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك كالشجرة يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذب وربما يكون ذلك سبب جفافها ثم كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق في مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حساً مشتركاً تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه ولولاه لطال الأمر عليك فإنك إذا أكلت شيئاً أصفر مثلاً فوجدته مراً مخالفاً لك فتركته فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر مضر ما لم تذقه ثانياً لولا الحس المشترك إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة فكيف تمتنع والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة فلا بد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعاً حتى إذا أردت الصفرة حكم أنه مر فيمتنع عن تناوله ثانياً وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات إذ للشاة هذه الحواس كلها فلو لم يكن لك إلا هذا لكنت ناقصاً فإن البهيمة يحتال عليها فتؤخذ فلا تدري كيف تدفع الحيلة عن نفسها وكيف تتخلص إذا قيدت وقد تلقي نفسها في بئر ولا تدري أن ذلك يهلكها ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه في الحال ويضرها في ثاني الحال فتمرض وتموت إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر فأما إدراك العواقب فلا فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى وهي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها في الحال والمآل وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع بعقلك في الأكل الذي هو سبب صحتك وهو أحسن فوائد العقل وأقل الحكم فيه بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله ومعرفة الحكمة في عالمه وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس الخمس في حقك فتكون الحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار الموكلين بنواحي المملكة وقد وكلت كل واحدة منها بأمر تختص به فواحدة منها بأخبار الألوان والأخرى بأخبار الأصوات والأخرى بأخبار الروائح والأخرى بأخبار الطعوم والأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة وغيرها وهذه البرد والجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة ويسلمونها إلى الحس المشترك والحس المشترك قاعد في مقدمة الدماغ مثل صاحب القصص والكتب على باب الملك يجمع القصص والكتب الواردة من نواحي العالم فيأخذها وهي مختومة ويسلمها إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها فأما معرفة حقائق ما فيها فلا ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم الإنهاءات إليه مختومة فيفتشها الملك ويطلع منها على أسرار المملكة ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود وهي الأعضاء مرة في الطلب ومرة في الهرب ومرة في إتمام التدبيرات التي تعن له
পৃষ্ঠা - ১২৭০
فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات ولا تظنن أنا استوفيناها فإن الحواس الظاهرة هي بعض الإدراكات والبصر واحد من جملة الحواس والعين آلة واحدة له وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية وبعض الأغشية كأنها نسج العنكوب وبعضها كالمشيمة وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض وبعضها كأنه الجمد ولكل واحدة من هذه الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وعرض وتدوير وتركيب ولو اختلت طبقة واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر وعجز عنه الأطباء والكحالون كلهم فهذا في حس واحد فقس به حاسة السمع وسائر الحواس بل لا يمكن أن تستوفي حكم الله تعالى وأنواع نعمه في جسم البصر وطبقاته في مجلدات كثيرة مع أن جملته لا تزيد على جوزة صغيرة فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه فهذه مرامز إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات
الطرف الثاني في أصناف النعم في خلق الإرادات
اعلم أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الغذاء من بعد ولم يخلق لك ميل في الطبع وشوق إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البشر معطلاً فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له وقد سقطت شهوته فلا يتناوله فيبقى البصر والإدراك معطلاً في حقه فاضطررت إلى أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك تسمى كراهة لتطلب بالشهوة وتهرب بالكراهة فخلق الله تعالى فيك شهوة الطعام وسلطها عليك ووكلها بك كالمتقاصى الذي يضطرك إلى التناول حتى تتناول وتغتذي فتبقى بالغذاء وهذا مما يشاركك فيه الحيوانات دون النبات ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا كالزرع فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب في أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى وكما خلقت لك هذه الشهوة حتى تأكل فيبقى به بدنك خلق لك شهوة الجماع حتى تجامع فيبقى به نسلك ولو قصصنا عليك عجائب صنع الله تعالى في خلق الرحم وخلق دم الحيض وتأليف الجنين من المني ودم الحيض وكيفية خلق الأنثيين والعروق السالكة إليها من الفقار الذي هو مستقر النطفة وكيفية انصباب ماء المرأة من الترائب بواسطة العروق وكيفية انقسام مقعر الرحم إلى قوالب تقع النطفة في بعضها فتتشكل بشكل الذكور وتقع في بعضها فتتشكل بشكل الإناث وكيفية إدارتها في أطوار خلقها مضغة وعلقة ثم عظماً ولحماً ودماً وكيفية قسمة أجزائها إلى رأس ويد ورجل وبطن وظهر وسائر الأعضاء لقضيت من أنواع نعم الله تعالى عليك في مبدأ خلقك كل العجب فضلاً عما تراه الآن ولكنا لسنا نريد أن نتعرض إلا لنعم الله تعالى في الأكل وحده كي لا يطول الكلام فإذن شهوة الطعام أحد ضروب الإرادات وذلك لا يكفيك فإنه تأتيك المهلكات من الجوانب فلو لم يخلق فيك الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك لبقيت عرضة للآفات ولأخذ منك كل ما حصلته من الغذاء فإن كل واحد يشتهي ما في يديك فتحتاج إلى داعية في دفعه ومقاتلته وهي داعية الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلى إلا ما يضر وينفع في الحال وإما في المآل فلا تكفي فيه هذه الإرادة فخلق الله تعالى لك إرادة أخرى مسخرة تحت إشارة العقل المعرف للعواقب كما خلق الشهوة والغضب مسخرة تحت إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بها انتفاعك بالعقل إذ كان مجرد المعرفة بأن هذه الشهوة مثلاً تضرك لا يغنيك في الاحتراز عنها ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب المعرفة وهذه
পৃষ্ঠা - ১২৭১
الإرادة أفردت بها عن البهائم إكراماً لبني آدم كما أفردت بمعرفة العواقب وقد سمينا هذه الإرادة باعثاً دينياً وفصلناه في كتاب الصبر تفصيلاً أوفى من هذا
الطرف الثالث في نعم الله تعالى في خلق القدرة وآلات الحركة
اعلم أن الحس لا يفيد إلا الإدراك والإرادة لا معنى لها إلا الميل إلى الطلب والهرب وهذا لا كفاية فيه ما لم تكن فيك آلة الطلب والهرب فكم من مريض مشتاق إلى شيء بعيد عنه مدرك له ولكنه لا يمكنه أن يمشي إليه لفقد رجله أو لا يمكنه أن يتناوله لفقد يده أو لفلج وخدر فيهما فلا بد من آلات للحركة وقدرة في تلك الآلات على الحركة لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلبا وبمقتضى الكراهية هرباً فلذلك خلق الله تعالى لك الأعضاء التي تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف أسرارها فمنها ما هو للطلب والهرب كالرجل للإنسان والجناح للطير والقوائم للدواب ومنها ما هو للدفع كالأسلحة للإنسان والقرون للحيوان وفي هذا تختلف الحيوانات اختلافاً كثيراً فمنها ما يكثر أعداؤه ويبعد غذاؤه فيحتاج إلى سرعة الحركة فخلق له الجناح ليطير بسرعة ومنها ما خلق له أربع قوائم ومنها ما له رجلان ومنها ما يدب وذكر ذلك يطول فلنذكر الأعضاء التي بها يتم الأكل فقط ليقاس عليها غيرها فنقول رؤيتك الطعام من بعد وحركتك إليه لا تكفي ما لم تتمكن من أن تأخذه فافتقرت إلى آلة باطشة فأنعم الله تعالى عليك بخلق اليدين وهم طويلتان ممتدتان إلى الأشياء ومشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات فتمتد وتنثنى إليك فلا تكون كخشبة منصوبة ثم جعل رأس اليد عريضاً بخلق الكف ثم قسم رأس الكف بخمسة أقسام هي الأصابع وجعلها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور على الأربعة الباقية ولو كانت مجتمعة أو متراكمة لم يحصل به تمام غرضك فوضعها وضعاً إن بسطتها كانت لك مجرفة وإن ضمتها كانت لك مغرفة وإن جمعتها كانت لك آلة للضرب وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة في القبض ثم خلق لها أظفارا وأسند إليها رءؤس الأصابع حتى لا تتفتت وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع فتأخذها برءوس أظفارك ثم هب أنك أخذت الطعام باليدين فمن أين يكفيك هذا ما لم يصل إلى المعدة وهي في الباطن فلا بد وأن يكون من الظاهر دهليز إليها حتى يدخل الطعام منه فجعل الفم منفذاً إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة سوى كونه منفذاً للطعام إلى المعدة ثم إن وضعت الطعام في الفم وهو قطعة واحدة فلا يتيسر ابتلاعه فتحتاج إلى طاحونة تطحن بها الطعام فخلق لك اللحيين من عظمتين وركب فيهما الأسنان وطبق الأضراس العليا على السفلى لتطحن بهما الطعام طحناً ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر وتارة إلى القطع ثم يحتاج إلى طحن بعد ذلك فقسم الأسنان إلى عريضة طواحين كالأضراس وإلى حادة قواطع كالرباعيات وإلى ما يصلح للكسر كالأنياب ثم جعل مفصل اللحيين متخلخلاً بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر حتى يدور على الفك الأعلى دوران الرخى ولولا ذلك لما تيسر إلا ضرب أحدهما على الآخر مثل تصفيق اليدين مثلاً وبذلك لا يتم الطحن فجعل اللحي الأسفل متحركاً حركة دورية واللحي الأعلى ثابتاً لا يتحرك فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى فإن كل رحى صنعه الخلق فيثبت منه الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذا الرحى الذي صنعه الله تعالى إذ يدور منه الأسفل على الأعلى فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأتم برهانه وأوسع امتنانه ثم هب أنك وضعت الطعام في فضاء الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان أو كيف تستجره الأسنان إلى نفسها وكيف يتصرف باليد في داخل الفم فانظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى
পৃষ্ঠা - ১২৭২
هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق والحكم التي لسنا نطنب بذكرها ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عيناً يفيض اللعاب منها وينصب بقدر الحاجة حتى يتعجن به الطعام فانظر كيف سخرها لهذا الأمر فإنك ترى الطعام من بعد فيثور الحنكان للخدمة وينصب اللعاب حتى تتحلب أشداقك والطعام بعد بعيد عنك ثم هذا الطعام المطحون المتعجن من يوصله إلى المعدة وهو في الفم ولا تقدر على أن تدفعه باليد ولا يد في المعدة حتى تمتد فتجذب الطعام فانظر كيف هيأ الله تعالى المريء والحنجرة وجعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثم تنضغط حتى يتقلب الطعام بضغطه فيهوي إلى المعدة في دهلين المريء فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح لأن يصير لحماً وعظماً ودماً على هذه الهيئة بل لا بد وأن يطبخ طبخاً تاماً حتى تتشابه أجزاؤه فخلق الله تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب فلا يزال لابثاً فيها حتى يتم الهضم والنضج بالحرارة التي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة إذ من جانبها الأيمن الكبد ومن الأيسر الطحال ومن قدام الترائب ومن خلف لحم الصلب فتتعدى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء من الجوانب حتى ينطبخ الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق وعند ذلك يشبه ماء الشعير فى تشابه أجزائه ووقته وهو بعد لا يصلح للتغذية فخلق الله تعالى بينها وبين الكبد مجاري من العروق وجعل لها فوهات كثيرة حتى يصب الطعام فيها فينتهي إلى الكبد والكبد معجون من طينة الدم حتى كأنه دم وفيه عروق كثيرة شعرية منتشرة في أجزاء الكبد فينصب الطعام الرقيق النافذ فيها وينتشر في أجزائها حتى تستولي عليه قوة الكبد فتصبغه بلون الدم فيستقر فيها ريثما يحصل له نضج آخر ويحصل له هيئة الدم الصافي الصالح لغذاء الأعضاء إلا أن حرارة الكبد هي التي تنضج هذا الدم فيتولد من هذا الدم فضلتان كما يتولد في جميع ما يطبخ إحداهما شبيهة بالدردي والعكر وهو الخلط السوداوي والأخرى شبيهة بالرغوة وهي الصفراء ولو لم تفصل عنها الفضلتان فسد مزاج الأعضاء فخلق الله تعالى المرارة والطحال وجعل لكل واحد منهما عنقاً ممدوداً إلى الكبد داخلاً في تجويفه فتجذب المرارة الفضلة الصفراوية ويجذب الطحال العكر السوداوي فيبقى الدم صافياً ليس فيه إلا زيادة رقة ورطوبة لما فيه من المائية ولولاها لما انتشر في تلك العروق الشعرية ولا خرج منها متصاعداً إلا الأعضاء فخلق الله سبحانه الكليتين وأخرج من كل واحدة منهما عنقاً طويلاً إلى الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلاً في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلاً في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدقيقة التي في الكبد إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ ولم يخرج من العروق فإذا انفصلت منه المائية فقد صار الدم صافياً من الفضلات الثلاث نقياً من كل ما يفسد الغذاء ثم إن الله تعالى أطلع من الكبد عروقاً ثم قسمها بعد الطلوع أقساماً وشعب كل قسم بشعب وانتشر ذلك في البدن كله من الفرق إلى القدم ظاهراً وباطناً فيجري الدم الصافي فيها ويصل إلى سائر الأعضاء حتى تصير العروق المنقسمة شعرية كعروق الأوراق والأشجار بحيث لا تدرك بالأبصار فيصل منها الغذاء بالرشح إلى سائر الأعضاء ولو حلت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصفراوية فسد الدم وحصل منه الأمراض الصفراوية كاليرقان والبثور والحمرة وإن حلت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السوداوي حدثت الأمراض السوداوية كالبهق والجذام والم اليخوليا وغيرها وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء وغيره ثم انظر إلى حكمة الفاطر الحكيم كيف رتب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة أما المرارة فإنها تجذب بأحد عنقيها وتقذف
পৃষ্ঠা - ১২৭৩
بالعنق الآخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة مزلقة ويحدث في الأمعاء لذع يحركها للدفع فتنضغط حتى يندفع الثفل وينزلق وتكون صفرته لذلك وأما الطحال فإنه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة وقبض ثم يرسل منها كل يوم شيئاً إلى فم المعدة فيحرك الشهوة بحموضته وينبهها ويثيرها ويخرج الباقي مع الثفل وأما الكلية فإنها تغتذي بما في تلك المائية من دم وترسل الباقي إلى المثانة ولنقتصر على هذا القدر من بيان نعم الله تعالى في الأسباب التي أعدت للأكل ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب والدماغ واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسية إلى صاحبه وكيفية انشعاب العروق الضوارب من القلب إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الحس وكيفية انشعاب العروق السواكن من الكبد إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الغذاء ثم كيفية تركب الأعضاء وعدد عظامها وعضلاتها وعروقها وأوتارها ورباطاتها وغضاريفها ورطوباتها لطال الكلام وكل ذلك محتاج إليه للأكل ولأمور أخر سواه بل في الآدمي آلاف من العضلات والعروق والأعصاب مختلفة بالصغر والكبر والدقة والغلظ وكثرة الانقسام وقلته ولا شيء منها إلا وفيه حكمة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع إلى عشر وزيادة وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن لهلكت يا مسكين فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أو لا لتقوى بعدها على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل والحمار أيضاً يعلم أنه يجوع فيأكل ويتعب فينام ويشتهي فيجامع ويستنهض فينهض ويرمح فإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط فقس على الإجمال ما أهملناه من جملة ما عرفناه حذراً من التطويل وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى أقل من قطرة من بحر إلا أن من علم شيئاً من هذا أدرك شمة من معاني قوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء وقوام منافعها وإدراكاتها وقواها ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة ومستقره القلب ويسري في جميع البدن بواسطة العروق الضوارب فلا ينتهي إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله في تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة وغيرها كالسراج الذي يدار في أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه ولكنه جعل السراج سبباً له بحكمته وهذا البخار اللطيف هو الذي تسميه الأطباء الروح ومحله القلب ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة في سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت وكما أن السراج إذا انقطع زيته انطفأ فسراج الروح أيضا ينطفىء مهما انقطع غذاؤه وكما أن الفتيلة قد تحترق فتصير رماداً بحيث لا تقبل الزيت فينطفىء السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترق بفرط حرارة القلب فينطفىء مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذي يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به وكما أن السراج تارة ينطفىء بسبب من داخل كما ذكرناه وتارة بسبب من خارج كريح عاصف فكذلك الروح تارة تنطفىء بسبب من داخل وتارة بسبب من خارج وهو القتل وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء إنسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة في علم الله مرتبة ويكون كل ذلك بقدر فكذلك انطفاء الروح وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب فكذلك انطفاء الروح وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم
পৃষ্ঠা - ১২৭৪
البدن كله وفارقته أنواره التي كان يستفيدها من الروح وهي أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما يجمعها معنى لفظ الحياة فهذا أيضاً رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ليعلم أنه {لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} عز وجل فتعساً لمن كفر بالله تعساً وسحقاً لمن كفر نعمته سحقاً
فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال {قل الروح من أمر ربي} فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن إنما وصفنا من جملتها جسماً لطيفاً تسميه الأطباء روحاً وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه ولا رخصة في وصفة إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى {قل الروح من أمر ربي} والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق وأما الأوهام والخبالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات وتتزلزل في ذكر مبادىء وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقها فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك النور في عالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال وقد خلق الله تعالى الخلق أطواراً فكما يدرك الصبي المحسوسات ولا يدرك المعقولات لأن ذلك طور لم يبلغه بعد فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه بعد وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية فيها يلحظ جنات الحق بنور الإيمان واليقين وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولجناب الحق صدر وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية ولذلك قيل من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل المعنى المسمى روحاً عند الطبيب بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك بالإضافة إلى الملك فمن عرف الروح الطبي فظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك فظن أنه رأى الملك ولا يشك في أن خطأه فاحش وهذا الخطأ أفحش منه جداً ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف وبها تدرك مصالح الدنيا عقولاً قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئاً ولكن ذكر نسبته وفعله ولم يذكر ذاته أما نسبته ففي قوله تعالى {من أمر ربي} وأما فعله فقد ذكر في قوله تعالى ياأيها النفس
পৃষ্ঠা - ১২৭৫
{المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} ولنرجع الآن إلى الغرض فإن المقصود ذكر نعم الله تعالى في الأكل فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى في آلات الأكل
الطرف الرابع في نعم الله تعالى في الأصول التي يحصل منها الأطعمة وتصير صالحة لأن يصلحها الآدمي بعد ذلك بصنعته
اعلم أن الأطعمة كثيرة ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى وأسباب متوالية لا تتناهى وذكر ذلك في كل طعام مما يطول فإن الأطعمة إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل ولنأخذ من جملتها حبة من البر ولندع سائر الأغذية فنقول إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعاً فما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها وتزيد وتتضاعف حتى تفي بتمام حاجتك فخلق الله تعالى في حبة الحنطة من القوى ما يغتذى به كما خلق فيك فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة ولا يخالفك في الاغتذاء لأنه يغتذي بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق كما تغتذى أنت وتجتذب ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه ولكن نشير إلى غذائه فنقول كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص فكذلك الحبة لا تغتذي بكل شيء بل تحتاج إلى شيء مخصوص بدليل أنك لو تركتها في البيت لم تزد لأنه ليس يحيط بها إلا هواء ومجرد الهواء لا يصلح لغذائها ولو تركنها في الماء لم تزد ولو تركنها في أرض لا ماء فيها لم تزد بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً وإليه الإشارة بقوله تعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً} الآية ثم لا يكفي الماء والتراب إذ لو تركت في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض رجوة متخلخلة يتغلغل الهواء إليها ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى ينفذ فيها وإليه الإشارة بقوله تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح} وإنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان في برد مفرط وشتاء شات فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة فانظر إلى ماذا يحتاج كل واحد إذ يحتاج الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي فانظر كيف خلق الله البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار الأرض وهي سحب ثقال حوامل بالماء ثم انظر كيف يرسله مدراراً على الأراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة وانظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجاً فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد وهلك الزرع والمواشي ونعم الله في الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن إحصاؤها وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان فانظر كيف سخر الشمس وكيف خلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إلى البرد والحر عند الحاجة إلى الحر فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها أكثر من أن تحصى ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة فتفتقر إلى رطوبة تنضجها فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه ويصبغها بتقدير الفاطر الحكيم ولذلك لو كانت الأشجار في ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر
পৃষ্ঠা - ১২৭৬
الكواكب عليها لكانت فاسدة ناقصة حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا ظللتها شجرة كبيرة وتعرف ترطيب القمر بأن تكشف رأسك له بالليل فتغلب على رأسك الرطوبة التي يعبر عنها بالزكام فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضاً ولا نطول فيما لا مطمع في استقصائه بل نقول كل كوكب في السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين والقمر للترطيب فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثاً وباطلاً ولم يصح قوله تعالى {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وقوله عز وجل وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وكما أنه ليس في أعضاء بدنك عضو إلا لفائدة فليس في أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة والعالم كله كشخص واحد وآحاد أجسامه كالأعضاء له وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك وشرح ذلك يطول ولا ينبغي أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله سبحانه في أمور جعلت أسباباً لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ورد فيه من النهي عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم // حديث النهي عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند صحيح من حديث ابن عباس من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد وللطبرانى من حديث ابن مسعود وثوبان إذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإسنادهما ضعيف وقد تقدم فى العلم ولمسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى قال قلت يا رسول لله أمورا كنا نصنعها فى الجاهلية كنا نأتى الكهان قال فلا تأتوا الكهان الحديث
بل المنهي عنه في النجوم أمران أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها وهذا كفر والثاني تصديق المنجمين في تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التي لا يشترك كافة الخلق في دركها لأنهم يقولون ذلك عن جهل فإن علم أحكام النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء عليهم السلام ثم اندرس ذلك العلم فلم يبق إلا ما هو مختلط لا يتميز فيه الصواب عن الخطأ فاعتقاد كون الكواكب أسباباً لآثار تحصل بخلق الله تعالى في الأرض وفي النبات وفي الحيوان ليس قادحاً في الدين بل هو حق ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل قادح في الدين ولذلك إذا كان معك ثوب غسلته وتريد تجفيفه فقال لك غيرك أخرج الثوب وابسطه فإن الشمس قد طلعت وحمي النهار والهواء لا يلزمك تكذيبه ولا يلزمك الإنكار عليه بحوالته حمي الهواء على طلوع الشمس وإذا سألت عن تغيير وجه الإنسان فقال قرعتني الشمس في الطريق فاسود وجهي لم يلزمك تكذيبه بذلك وقس بهذا سائر الآثار إلا أن الآثار بعضها معلوم وبعضها مجهول فالمجهول لا يجوز دعوى العلم فيه والمعلوم بعضه معلوم للناس كافة كحصول الضياء والحرارة بطلوع الشمس وبعضه لبعض الناس كحصول الزكام بشروق القمر فإذن الكواكب ما خلقت عبثاً بل فيها حكم كثيرة لا تحصى ولهذا نظر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السماء وقرأ قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال صلى الله عليه وسلم ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته
حديث قرأ قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته أى ترك تأملها أخرجه الثعلبى من حديث ابن عباس بلفظ ولم يتفكر فيها وفيه أبو جناب يحيى بن أبى حبة ضعيف
ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب وذلك مما تعرفه البهائم أيضاً فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذي مسح بها سبلته فلله تعالى في ملكوت السموات والآفاق والأنفس والحيوانات عجائب يطلب معرفتها المحبون لله تعالى فإن من أحب عالماً فلا يزال مشغولاً بطلب تصانيفه ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه حباً له فكذلك الأمر في عجائب صنع الله تعالى فإن العالم
পৃষ্ঠা - ১২৭৭
كله من تصنيفه بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده فإن تعجبت من تصنيف فلا تتعجب من المصنف بل من الذي سخر المصنف لتصنيفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه كما إذا رأيت لعب المشعوذ ترقص وتتحرك حركات موزونة متناسبة فلا تعجب من اللعب فإنها خرق محركة لا متحركة ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة خفية عن الأبصار فإذن المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها ولا تتم الأفلاك إلا بحركانها ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها وكذلك يتمادى ذلك إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيهاً بما ذكرناه على ما أهملناه ولنقتصر على هذا من ذكر أسباب غذاء النبات
الطرف الخامس في نعم الله تعالى في الأسباب الموصلة للأطعمة إليك
اعلم أن هذه الأطعمة كلها لا توجد في كل مكان بل لها شروط مخصوصة لأجلها توجد في بعض الأماكن دون بعض والناس منتشرون على وجه الأرض وقد تبعد عنهم الأطعمة ويحول بينهم وبينها البحار والبراري فانظر كيف سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم حرص حب المال وشهوة الربح مع أنهم لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطريق أو يموتوا في بعض البلاد فيأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا فانظر كيف سلط الله الجهل والغفلة عليهم حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح ويركبوا الأخطار ويغرروا بالأرواح في ركوب البحر فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك وانظر كيف علمهم الله تعالى صناعة السفن وكيفية الركوب فيها وانظر كيف خلق الحيوانات وسخرها للركوب والحمل في البراري وانظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى الفرس كيف أمدت بسرعة الحركة وإلى الحمار كيف جعل صبوراً على التعب وإلى الجمال كيف تقطع البراري وتطوي المراحل تحت الأعباء الثقيلة على الجوع والعطش وانظر كيف سيرهم الله تعالى بواسطة السفن والحيوانات في البر والبحر ليحملوا إليك الأطعمة وسائر الحوائج وتأمل ما يحتاج إليه الحيوانات من أسبابها وأدواتها وعلفها وما تحتاج إليه السفن فقد خلق الله تعالى جميع ذلك إلى حد الحاجة وفوق الحاجة وإحصاء ذلك غير ممكن ويتمادى ذلك إلى أمور خارجة عن الحصر نرى تركها طلباً للإيجاز
الطرف السادس في إصلاح الأطعمة
اعلم أن الذي ينبت في الأرض من النبات وما يخلق من الحيوانات لا يمكن أن يقضم ويؤكل وهو كذلك بل لا بد في كل واحد من إصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء البعض وإبقاء البعض إلى أمور أخر لا تحصى واستقصاء ذلك في كل طعام يطول فلنعين رغيفاً واحداً ولننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد إلقاء البذر في الأرض فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض ثم الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه ثم بعد ذلك التعهد بسقي الماء مدة ثم تنقية الأرض من الحشيش ثم الحصاد ثم الفرك والتنقية ثم الطحن ثم العجين ثم الخير فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره وعدد الأشخاص القائمين بها وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار وحداد وغيرهما وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس وانظر كيف خلق الله تعالى
পৃষ্ঠা - ১২৭৮
الجبال والأحجار والمعادن وكيف جعل الأرض قطعاً متجاورات مختلفة فإن فتشت علمت أن رغيفاً واحداً لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين مالم يعمل عليه أكثر من ألف صانع فابتدىء من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال من جهة الملائكة حتى تنتهى النوبة إلى عمل الإنسان فإذا استدار طلبه قريب من سبعة آلاف صانع كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات حتى إن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمساً وعشرين مرة ويتعاطى في كل مرة منها عملاً فلو لم يجمع الله تعالى البلاد ولم يسخر العباد وافتقرت إلى عمل المنجل الذي تحصد به البر مثلاً بعد نباته لنفذ عمرك وعجزت عنه أفلا ترى كيف هدى الله عبده الذي خلقه من نطفة قذرة لأن يعمل هذه الأعمال العجيبة والصنائع الغريبة فانظر إلى المقراض مثلاً وهما جلمان متطابقان ينطبق أحدهما على الآخر فيتناولان الشيء معاً ويقطعانه بسرعة ولو لم يكشف الله تعالى طريق اتخاذه بفضله وكرمه لمن قبلنا وافتقرنا إلى استنباط الطريق فيه بفكرنا ثم إلى استخراج الحديد من الحجر وإلى تحصيل الآلات التي بها يعمل المقراض وعمر الواحد منا عمر نوح وأوتي أكمل العقول لقصر عمره عن استنباط الطريق في إصلاح هذه الآلة وحدها فضلاً عن غيرها فسبحان من الحق ذوي الأبصار بالعميان وسبحان من منع النبيين مع هذا البيان فانظر الآن لو خلا بلدك عن الطحان مثلاً أو عن الحداد أو عن الحجام الذي هو أخس العمال أو عن الحائك أو عن واحد من جملة الصناع ماذا يصيبك من الأذى وكيف تضطرب عليك أمورك كلها فسبحان من سخر بعض العباد لبعض حتى نفذت به مشيئته وتمت به حكمته ولنوجز القول في هذه الطبقة أيضاً فإن الغرض التنبيه على النعم دون الاستقصاء
الطرف السابع في إصلاح المصلحين
اعلم أن هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم ببعض بل كانوا كالوحوش لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد فانظر كيف ألف الله تعالى بين قلوبهم وسلط الأنس والمحبة عليهم {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع مما يطول إحصاؤه ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها ففي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة وذلك مما يؤدي إلى التقاتل والتنافر فانظر كيف سلط الله تعالى السلاطين وأمدهم بالقوة والعدة والأسباب وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعاً وكرهاً وكيف هدى السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء البلد كأنها أجزاء شخص واحد تتعاون على غرض واحد ينتفع البعض منها بالبعض فرتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق واضطروا الخلق إلى قانون العدل وألزموهم التساعد والتعاون حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب والخباز وسائر أهل البلد وكلهم ينتفعون بالحداد وصار الحجام ينتفع بالحراث والحراث بالحجام وينتفع كل واحد بكل واحد بسبب ترتيبهم واجتماعهم وانضباطهم تحت ترتيب السلطان وجمعه كما يتعاون جميع أعضاء البدن وينتفع بعضها ببعض وانظر كيف بعث الأنبياء عليهم السلام حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق وقوانين السياسة في ضبطهم وكشفوا من أحكام الإمامة والسلطنة وأحكام الفقه
পৃষ্ঠা - ১২৭৯
ما اهتدوا به إلى إصلاح الدنيا فضلاً عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين وانظر كيف أصلح الله تعالى الأنبياء بالملائكة وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذى لاواسطه بينه وبين الله تعالى فالخباز يخبز العجين والطحان يصلح الحب بالطحن والحراث يصلحه بالحصاد والحداد يصلح آلات الحراثة والنجار يصلح آلات الحداد وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة والسلطان يصلح الصناع والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم والعلماء يصلحون السلاطين والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام ومطلع كل حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف وكل ذلك نعم من رب الأرباب ومسبب الأسباب ولولا فضله وكرمه إذ قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} لما اهتدينا إلى هذه النبذة اليسيرة من نعم الله تعالى ولولا عزله إيانا عن أن نطمح بعين الطمع إلى الإحاطة بكنه نعمه لتشوفنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء ولكنه تعالى عزلنا بحكم القهر والقدرة فقال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فإن تكلمنا فبإذنه انبسطنا وإن سكنا فبقهره انقبضنا إذ لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى لأنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل الموت نسمع بسمع القلوب نداء الملك الجبار {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} فالحمد لله الذي ميزنا عن الكفار وأسمعنا هذا النداء قبل انقضاء الأعمار
الطرف الثامن في بيان نعمة الله تعالى في خلق الملائكة عليهم السلام
ليس يخفى عليك ما سبق من نعمة الله في خلق الملائكة بإصلاح الأنبياء عليهم السلام وهدايتهم وتبليغ الوحي إليهم ولا تظنن أنهم مقتصرون في أفعالهم على ذلك القدر بل طبقات الملائكة مع كثرتها وترتيب مراتبها تنحصر بالجملة في ثلاث طبقات الملائكة الأرضية والسماوية وحملة العرش فانظر كيف وكلهم الله تعالى بك فيما يرجع إلى الأكل والغذاء الذي ذكرناه دون ما يجاوز ذلك من الهداية والإرشاد وغيرهما واعلم أن كل جزء من أجزاء بدنك بل من أجزاء النبات لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة هو أقله إلى عشرة إلى مائة إلى ما وراء ذلك وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء وقد تلف وذلك الغذاء يصير دماً في آخر الأمر ثم يصير لحماً وعظما وإذا صار لحماً وعظماً تم اغتذاؤك والدم واللحم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار فهي لا تتحرك بأنفسها ولا تتغير بأنفسها ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها كما أن البر بنفسه لا يصير طحيناً ثم عجيناً ثم خبزاً مستديراً مخبوزاً إلا بصناع فكذلك الدم بنفسه لا يصير لحماً وعظماً وعروقاً وعصباً إلا بصناع والصناع في الباطن هم الملائكة كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد وقد أسبغ الله تعالى عليك نعمه ظاهرة وباطنة فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة فأقول لا بد من ملك يجذب الغذاء إلى جوار اللحم والعظم فإن الغذاء لا يتحرك بنفسه ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره ولا بد من ثالث يخلع عليه صورة الدم ولا بد من رابع يكسوه صورة اللحم والعروق أو العظم ولا بد من خامس يدفع الفضل الفاضل عن حاجة الغذاء ولا بد من سادس يلصق ما اكتسب صفة العظم بالعظم وما اكتسب صفة اللحم باللحم حتى لا يكون منفصلاً ولا بد من سابع يرعى المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته وبالعريض ما لا يزيل عرضه وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه ويحفظ على كل واحد قدر حاجته فإنه لو جمع مثلاً من الغذاء على أنف الصبي ما يجمع على فخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه وتشوهت صورته وخلقته بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها وإلى الحدقة مع صفائها وإلى الأفخاذ مع غلظها وإلى العظم مع صلابته ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل وإلا بطلت الصورة
পৃষ্ঠা - ১২৮০
وربا بعض المواضع وضعف بعض المواضع بل لو لم يراع هذا الملك العادل في القسمة والتقسيط فساق إلى رأس الصبي وسائر بدنه من الغذاء ما ينمو به إلا إحدى الرجلين مثلاً لبقيت تلك الرجل كما كانت في حد الصغر وكبر جميع البدن فكنت ترى شخصاً في ضخامة رجل وله رجل واحدة كأنها رجل صبي فلا ينتفع بنفسه البتة فمراعاة هذه الهندسة في هذه القسمة مفوضة إلى ملك من الملائكة ولا تظنن أن الدم بطبعه يهندس شكل نفسه فإن محيل هذه الأمور على الطبع جاهل لا يدري ما يقول فهذه هي الملائكة الأرضية وقد شغلوا بك وأنت في النوم تستريح وفي الغفلة تتردد وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم وذلك في كل جزء من أجزائك الذي لا يتجزأ حتى يفتقر بعض الأجزاء كالعين والقلب إلى أكثر من مائة ملك تركنا تفصيل ذلك للإيجاز والملائكة الأرضية مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم لا يحيط بكنهه إلا الله تعالى ومدد الملائكة السماوية من حملة العرش والمنعم على جملتهم بالتأييد والهداية والتسديد المهيمن القدوس المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت جبار السموات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام والأخبار الواردة في الملائكة الموكلين بالسموات والأرض وأجزاء النبات والحيوانات حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب (¬1) أكثر من أن تحصى فلذلك تركنا الاستشهاد به
فإن قلت فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد ولم أفتقر إلى سبعة أملاك والحنطة أيضاً تحتاج إلى من يطحن أولاً ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع الفضلة ثانياً ثم إلى من يصب الماء عليه ثالثاً ثم إلى من يعجن رابعاً ثم إلى من يقطعه كرات مدورة خامساً ثم إلى من يرقها رغفاناً عريضة سادساً ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعاً ولكن قد يتولى جميع ذلك رجل واحد يستقل به فهلا كانت أعمال الملائكة باطناً كأعمال الإنس ظاهراً فاعلم أن خلقة الملائكة تخالف خلقة الإنس وما من واحد منهم إلا وهو وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب البتة فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد وإليه الإشارة بقوله تعالى وما منا إلا وله مقام معلوم فلذلك ليس بينهم تنافس وتقاتل بل مثالهم في تعين مرتبة كل واحد منهم وفعله مثال الحواس الخمس فإن البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمها ولا هما يتنازعان الشم وليس كاليد والرجل فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشاً ضعيفاً فتزاحم به اليد وقد تضرب غيرك برأسك فتزاحم اليد التي هي آلة الضرب ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول عن العدل سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه فإنه ليس وحداني الصفة فلم يكن وحداني الفعل ولذلك نرى الإنسان يطيع الله مرة ويعصيه أخرى لاختلاف دواعيه وصفاته وذلك غير ممكن في طباع الملائكة بل هم مجبولون على الطاعة
¬_________
(¬1) حديث الأخبار الواردة في الملائكة الموكلين بالسموات والأرضين وأجزاء النبات والحيوانات حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب ففى الصحيحين من حديث أبى ذر فى قصة الإسراء قال جبريل لخازن السماء الدنيا افتح وفيه أتى السماء الثانية فقال لخازنها افتح الحديث ولهما من حديث أبى هريرة إن لله ملائكة سياحين يبدونى عن أمتى السلام وفى الصحيحين من حديث عائشة فى قصة عرضه نفسه على عبد ياليل فنادانى ملك الجبال إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين الحديث ولهما من حديث أنس إن الله وكل بالرحم ملكا الحديث وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث بريدة الأسلمى ما من نبت ينبت إلا وتحته ملك موكل حتى يحصد الحديث وفيه محمد بن صالح الطبرى وأبو بحر البكراوى واسمه عثمان بن عبد الرحمن وكلاهما ضعيف وللطبراني من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف إن لله ملائكة ينزلون فى كل ليلة يحسون الكلال عن دواب الغزاة إلا دابة فى عنقها جرس وللترمذى وحسنه من حديث ابن عباس قالت اليهود يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد قال ملك من الملائكة موكل بالسحاب ولمسلم من حديث أبى هريرة بينما رجل بفلاة من الأرض سمع صوتا من سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماء فى حرة الحديث
পৃষ্ঠা - ১২৮১
ضي الله عنه ضي الله عنه عليه السلام ضي الله عنه ضي الله عنه ضي الله عنه لا مجال للمعصية في حقهم فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون والراكع منهم راكع أبداً والساجد منهم ساجد أبداً والقائم قائم أبداً لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور ولكل واحد مقام معلوم لا يتعداه وطاعتهم لله تعالى من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن تشبه بطاعة أطرافك لك فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف في طاعتك مرة ومعصيتك أخرى بل كأنه منتظر لأمرك ونهيك ينفتح وينطبق متصلاً بإشارتك فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحاً وإطباقاً والملائكة أحياء عالمون بما يعملون فإذن هذه نعمة الله عليك في الملائكة الأرضية والسماوية وحاجتك إليها في غرض الأكل فقط دون ما عداها من الحركات والحاجات كلها فإنا لم نطول بذكرها فهذه طبقة أخرى من طبقات النعم ومجامع الطبقات لا يمكن إحصاؤها فكيف آحاد ما يدخل تحت مجامع الطبقات فإذن قد أسبغ الله تعالى نعمه عليك ظاهرة وباطنة ثم قال وذروا ظاهر الإثم وباطنه فترك باطن الإثم مما لا يعرفه الخلق من الحسد وسوء الظن والبدعة وإضمار الشر للناس إلى غير ذلك من آثام القلوب هو الشكر للنعم الباطنة وترك الإثم الظاهر بالجوارح شكر للنعمة الظاهرة بل أقول كل من عصى الله تعالى ولو فى طريفة واحدة بأن فتح جفنه مثلا حيث يجب غض البصر فقد كفر كل نعمة لله تعالى عليه في السموات والأرض وما بينهما فإن كل ما خلقه الله تعالى حتى الملائكة والسموات والأرض والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد نم به انتفاعه وإن انتفع غيره أيضاً به فإن لله تعالى في كل تطريفة بالجفن نعمتين في نفس الجفن إذ خلق تحت كل جفن عضلات ولها أوتار ورباطات متصلة بأعصاب الدماغ بها يتم انخفاض الجفن الأعلى وارتفاع الجفن الأسفل وعلى كل جفن شعور سود ونعمة الله تعالى في سوادها أنها تجمع ضوء العين إذ البياض يفرق الضوء والسواد يجمعه ونعمة الله تعالى في ترتيبها صفاً واحداً أن يكون مانعاً للهوام من الدبيب إلى باطن العين ومتشبثا للأفذاء التي تتناثر في الهواء وله في كل شعرة منها نعمتان من حيث لين أصلها ومع اللين قوام نصبها وله في اشتباك الأهداب نعمة أعظم من الكل وهو أن غبار الهواء قد يمنع من فتح العين ولو طبق لم يبصر فيجمع الأجفان مقدار ما تتشابك الأهداب فينظر من وراء شباك الشعر فيكون شباك الشعر مانعاً من وصول القذى من خارج وغير مانع من امتداد البصر من داخل ثم إن أصاب الحدقة غبار فقد خلق أطراف الأجفان خادمة منطبقة على الحدقة كالمصقلة للمرآة فيطبقها مرة أو مرتين وقد انصقلت الحدقة من الغبار وخرجت الأقذاء إلى زوايا العين والأجفان والذباب لما لم يكن لحدقته جفن خلق له يدين فتراه على الدوام يمسح بهما حدقتيه ليصقلهما من الغبار وإذ تركنا الاستقصاء لتفاصيل النعم لافتقاره إلى تطويل يزيد على أصل هذا الكتاب ولعلنا نستأنف له كتاباً مقصوداً فيه إن أمهل الزمان وساعد التوفيق نسميه عجائب صنعالله تعالى فلنرجع إلى غرضنا فنقول من نظر إلى غير محرم فقد كفر بفتح العين نعمة الله تعالى في الأجفان ولا تقوم الأجفان إلا بعين ولا العين إلا برأس ولا الرأس إلا بجميع البدن ولا البدن إلا بالغذاء ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسموات ولا السموات إلا بالملائكة فإن الكل كالشيء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض فإذن قد كفر كل نعمة في الوجود من منتهى الثريا إلى منتهى الثرى فلم يبق فلك ولا ملك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد إلا ويلعنه ولذا ورد في الأخبار إن البقعة التي يجتمع فيها الناس إما أن تلعنهم إذا تفرقوا أو تستغفر لهم (¬1) وكذلك ورد أن العالم يستغفر
¬_________
(¬1) حديث أن البقعة التى اجتمع فيها الناس تلعنهم أو تستغفر لهم لم أجد له أصلا
পৃষ্ঠা - ১২৮২
عليه السلام عليه السلام عليه السلام ضي الله عنه له كل شيء حتى الحوت فى البحر (¬1) وأن الملائكة يلعنون العصاة (¬2) في ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصاؤها وكل ذلك إشارة إلى أن العاصيبتطريفة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها فيتبدل اللعن بالاستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام يا أيوب ما من عبد لي من الآدميين إلا ومعه ملكان فإذا شكرني على نعمائى قال الملكان اللهم زده نعماً على نعم فإنك أهل الحمد والشكر فكن من الشاكرين قريباً فكفى بالشاكرين علو رتبة وعندي أني أشكر شكرهم وملائكتي يدعون لهم والبقاع تحبهم والآثار تبكي عليهم
وكما عرفت أن في كل طرفة عين نعماً كثيرة فاعلم أن في كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب ولو لم يخرج لهلك وبانقباضه يجمع روح الهواء إلى القلب ولو سد متنفسه لاحترق قلبه بانقطاع روح الهواء وبرودته عنه وهلك بل اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وفي كل ساعة قريب من ألف نفس وكل نفس قريب من عشر لحظات فعليك في كل لحظة آلاف آلاف نعمة في كل جزء من أجزاء بدنك بل في كل جزء من أجزاء العالم فانظر هل يتصور إحصاء ذلك أم لا ولما انكشف لموسى عليه السلام حقيقة قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قال إلهي كيف أشكرك ولك في كل شعرة من جسدي نعمتان أن لينت أصلها وأن طمست رأسها وكذا ورد في الأثر أن من لم يعرف نعم الله في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه
وجميع ما ذكرناه يرجع إلى المطعم والمشرب فاعتبر ما سواه من النعم به فإن البصير لا تقع عينه في العالم على شيء ولا يلم خاطره بموجود إلا ويتحقق أن لله فيه نعمة عليه فلنترك الاستقصاء والتفصيل فإنه طمع في غير مطمع
بيان السَّبَبُ الصَّارِفُ لِلْخَلْقِ عَنِ الشُّكْرِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ بِالْخَلْقِ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالْغَفْلَةُ فَإِنَّهُمْ مُنِعُوا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ النِّعَمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ شُكْرُ النِّعْمَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ عَرَفُوا نِعْمَةً ظَنُّوا أَنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَعْنَى الشُّكْرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ النِّعْمَةَ فِي إِتْمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ بِهَا وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الشُّكْرِ بَعْدَ حُصُولِ هَاتَيْنِ الْمَعْرِفَتَيْنِ إِلَّا غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ وَاسْتِيلَاءُ الشيطان
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب وأحد أسبابها أن الناس يجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق ويسلم لهم في جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه من النعم لأنها عامة للخلق مبذولة لهم في جميع أحوالهم فلا يرى كل واحد لنفسه منهم اختصاصاً به فلا يعده نعمة ولا تراهم يشكرون الله على روح الهواء ولو أخذ بمختنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا في بيت حمام فيه هواء حار أو في بئر فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غماً فإن ابتلى واحد منهم بشيء من ذلك ثم نجا ربما قدر ذلك نعمة وشكر الله عليها وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال والنعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها فلا ترى البصير يشكر صحة بصره إلا أن تعمى عينيه فعند ذلك لو أعيد عليه بصره
¬_________
(¬1) حديث إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحوت فى البحر تقدم فى العلم
(¬2) حديث إن الملائكة يلعنون العصاة أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة وإن كان أخاه لأبيه وأمه
পৃষ্ঠা - ১২৮৩
أحس به وشكره وعده نعمة ولما كانت رحمة الله واسعة عمم الخلق وبذل لهم في جميع الأحوال فلم يعده الجاهل نعمة وهذا الجاهل مثل العبد السوء حقه أن يضرب دائماً حتى إذا ترك ضربه ساعة تقلد به منة فإن ترك ضربه على الدوام غلبه البطر وترك الشكر فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم كما شكا بعضهم فقره إلى بعض أرباب البصائر وأظهر شدة اغتمامه به فقال له أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم فقال لا فقال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم فقال لا فقال أيسرك أن أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً فقال لا فقال أيسرك أنك مجنون ولك عشر آلاف درهم فقال لا فقال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً
وحكي أن بعض القراء اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له تود أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألف دينار قال لا قال فسورة هود قال لا قال فسورة يوسف قال لا فعدد عليه سوراً ثم قال فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو فأصبح وقد سري عنه
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء وبيده كوز ماء يشربه فقال له عظني فقال لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان فهل كنت تعطيه قال نعم فقال لو لم تعط إلا بملكك كله فهل كنت تتركه قال نعم قال فلا تفرح بملك لا يساوي شربة ماء
فهذا تبين أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها وإذا كانت الطباع مائلة إلى اعتداد النعمة الخاصة دون العامة وقد ذكرنا النعم العامة فلنذكر إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة فنقول ما من عبد إلا ولو أمعن النظر في أحواله رأى من الله نعمة أو نعماً كثيرة تخصه لا يشاركه فيها الناس كافة بل يشاركه عدد يسير من الناس وربما لا يشاركه فيها أحد وذلك يعترف به كل عبد في ثلاثة أمور في العقل والخلق والعلم
أما العقل فما من عبد لله تعالى إلا وهو راض عن الله في عقله يعتقد أنه أعقل الناس وقل من يسأل الله العقل وإن من شرف العقل أن يفرح به الخالي عنه كما يفرح به المتصف به فإذا كان اعتقاده أنه أعقل الناس فواجب عليه أن يشكره لأنه إن كان كذلك فالشكر واجب عليه وإن لم يكن ولكنه يعتقد أنه كذلك فهو نعمة في حقه فمن وضع كنزاً تحت الأرض فهو يفرح به ويشكره عليه فإن أخذ الكنز من حيث لا يدري فيبقى فرحه بحسب اعتقاده ويبقى شكره لأنه في حقه كالباقي
وأما الخلق فما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها وأخلاقاً يذمها وإنما يذمها من حيث يرى نفسه بريئاً عنها فإذا لم يشتغل بذم الغير فينبغي أن يشتغل بشكر الله تعالى إذ حسن خلقه وابتلى غيره بالخلق السىء
وأما العلم فما من أحد إلا ويعرف بواطن أمور نفسه وخفايا أفكاره وما هو منفرد به ولو كشف الغطاء حتى اطلع عليه أحد من الخلق لافتضح فكيف لو اطلع الناس كافة فإذن لكل عبد علم بأمر خاص لا يشاركه فيه أحد من عباد الله فلم لا يشكر ستر الله الجميل الذي أرسله على وجه مساويه فأظهر الجميل وستر القبيح وأخفى ذلك عن أعين الناس وخصص علمه به حتى لا يطلع عليه أحد فهذه ثلاثة من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما مطلقاً وأما في بعض الأمور فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلاً فنقول ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو أقاربه أو عزه أو جاهه أو في سائر محابه أموراً
পৃষ্ঠা - ১২৮৪
لو سلب ذلك منه وأعطي ما خصص به غيره لكان لا يرضى به وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً وحياً لا جماداً وإنساناً لا بهيمة وذكراً لا أنثى وصحيحاً لا مريضاً وسليماً لا معيباً فإن كل هذه خصائص وإن كان فيها عموم أيضاً فإن هذا الأحوال لو بدلت بأضدادها لم يرض بها بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضاً وذلك إما أن يكون بحيث لا يبدله بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر فإذا كان لا يبدل حال نفسه بحال غيره فإذن حاله أحسن من حال غيره وإذا كان لا يعرف شخص يرتضي لنفسه حالة بدلاً عن حال نفسه إما على الجملة وإما في أمر خاص فإذن لله عليه نعم ليست له على أحد من عباده سواه وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده فإنه لا محالة يراهم أقل بالإضافة إلى غيرهم فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير مما هو فوقه فما باله ينظر إلى من فوقه ليزدري نعم الله تعالى على نفسه ولا ينظر إلى من دونه ليستعظم نعم الله عليه وما باله لا يسوي دنياه بدينه أليس إذا لامته نفسه على سيئة يقارفها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة فينظر أبداً في الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه فلم لا يكون نظره في الدنيا كذلك فإذا كان حال أكثر الخلق فى الدين خيرا منه وحاله في الدنيا خير من حال أكثر الخلق فكيف لا يلزمه الشكر وإذا قال صلى الله عليه وسلم من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابراً وشاكراً ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه وفي الدين إلى من هو دونه لم يكتبه الله صابراً ولا شاكراً (¬1) حديث من أتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله أخرجه البخارى فى التاريخ من حديث رجاء الفنوي بلفظ من آتاه الله حفظ كتابه وظن أن أحداً أوتي أفضل مما أوتى فقد صغر أعظم النعم وقد تقدم فى فضل القرآن ورجاء مختلف فى صحبته وورد من حديث عبد الله بن عمرو وجابر والبراء نحوه وكلها ضعيفة (¬2) حديث ليس منا من لم يتغنى بالقرآن تقدم فى أداب التلاوة (¬3) حديث كفى باليقين غنى رواه الطبرانى من حديث عقبة بن عامر ورواه ابن أبى الدنيا فى القناعة موقوفا عليه وقد تقدم // وقال بعض السلف يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة إن عبداً أغنيته عن ثلاثة لقد أتممت عليه نعمتي عن سلطان يأتيه وطبيب يداويه وعما في يد أخيه وعبر الشاعر عن هذا فقال
إذا ما القوت يأتيك ... كذا الصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
¬_________
(¬1) حديث من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابرا وشاكرا الحديث أخرجه الترمذى من حديث عبد الله بن عمرو وقال غريب وفيه المثنى بن الصباح ضعيف لا غناء بعده ولا فقر معه أخرجه أبو يمنى والطبرانى من حديث أنس بسند ضعيف بلفظ أن القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه قال الدارقطنى رواه أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد الرقاشى عن الحسن مرسلا وهو أشبه بالصوابفإذن كل من اعتبر حال نفسه وفتش عما خص به وحد الله تعالى على نفسه نعماً كثيرة لا سيما من خص بالسنة والإيمان والعلم والقرآن ثم الفراغ والصحة والأمن وغير ذلك وقيل
من شاء عيشا رحيل يستطيل به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظر إلى من فوقه ورعاً ... ولينظرن إلى من دونه مالا
وقال صلى الله عليه وسلم من يستغن بآيات الله فلا أغناه الله وهذا إشارة إلى نعمة العلم وقال عليه السلام إن القرآن هو الغنى الذي لا غنى بعده ولا فقر معه وقال عليه السلام من أتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله
(¬2) وقال صلى الله عليه سلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن
(¬3) وقال عليه السلام كفى باليقين غنى
পৃষ্ঠা - ১২৮৫
بل أرشق العبارات وأفصح الكلمات كلام أفصح من نطق بالضاد حيث عبر صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى فقال من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها (¬1) ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع أنها وبال عليهم ولا يشكرون نعمة الله في هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم في الإيمان الذي به وصولهم إلى النعيم المقيم والملك العظيم بل البصير بنبغى أن لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى المغرب من أموال وأتباع وأنصار وقيل له خذها عوضاً عن علمك بل عن عشر عشير علمك لم يأخذه وذلك لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله تعالى في الآخرة بل لو قيل له لك في الآخرة ما ترجوه بكماله فخذ هذه اللذات في الدنيا بدلاً عن التذاذك بالعلم في الدنيا وفرحك به لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع وباقية لا تسرق ولا تعصب ولا ينافس فيها وأنها صافية لا كدورة فيها ولذات الدنيا كلها ناقصة مكدرة مشوشة لا يفي مرجوها بمخوفها ولا لذتها بألمها ولا فرحها بغمها هكذا كانت إلى الآن وهكذا تكون ما بقي من الزمان إذ ما خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع حتى إذا انخدعت وتقيدت بها أبت عليها واستعصت كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق الغني حتى إذا تقيد بها قلبه استعصت عليه واحتجبت عنه فلا يزال معها في تعب قائم وعناء دائم وكل ذلك باغتراره بلذة النظر إليها في لحظة ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع عمره فهكذا وقعت أرباب الدنيا في شباك الدنيا وحبائلها ولا ينبغي أن نقول إن المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها فإن المقبل عليها أيضاً متألم بالصبر عليها وحفظها وتحصيلها ودفع اللصوص عنها وتألم المعرض يفضي إلى لذة في الآخرة وتألم المقبل يفضي إلى الألم في الآخرة فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون فإذن إنما انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة والباطنة والخاصة والعامة
فإن قلت فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر فأقول أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى العامة وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصتها أو شعرت بالبلاء معها فسبيله أن ينظر أبداً إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض الصوفية إذ كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر والمواضع التي تقام فيها الحدود فكان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض ويشكر الله تعالى ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من الجنايات ومن تلك العقوبات ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن ويحضر المقابر فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوماً واحداً أما من عصى الله تعالى فليتدارك وأما من أطاع فليزد في طاعته فإن يوم القيامة يوم التغابن فالمطيع مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبني إذ ضيعت بعض الأوقات فى المباحات وأما العاصي فغبنه ظاهر فإذا شاهد المقابر وعلم أن أحب الأشياء إليهم أن يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي أهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر بل في الإمهال في كل نفس من الأنفاس وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله وهو التزود من الدنيا للآخرة فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى
¬_________
(¬1) حديث من أصبح آمناً في سربه الحديث تقدم غير مرة
পৃষ্ঠা - ১২৮৬
فعساها تشكر وقد كان الربيع بن خيثم مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيد اللمعرفة فكان قد حفر في داره قبراً فكان يضع غلا في عنقه وينام في لحده ثم يقول رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً ثم يقوم ويقول يا ربيع قد أعطيت ما سألت فاعمل قبل أن تسأل الرجوع فلا ترد
ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن تعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت ولم تعد ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول عليكم بملازمة الشكر على النعم فقل نعمة زالت عن القوم فعاذت إليهم وقال بعض السلف النعم وحشية فقيدوها بالشكر وفي الخبر ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال (¬1) وقال الله سبحانه وتعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا تمام هذا الركن
الركن الثالث من كتاب الصبر والشكر
فيما يشترك فيه الصبر والشكر ويرتبط أحدهما بالآخر
بيان وجه اجتماع الصبر والشكر على شيء واحد
لعلك تقول ما ذكرته في النعم إشارة إلى إن لله تعالى في كل موجود نعمة وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلاً فما معنى الصبر إذن وإن كان البلاء موجوداً فما معنى الشكر على البلاء وقد ادعى مدعون أنا نشكر على البلاء فضلاً عن الشكر على النعمة فكيف يتصور الشكر على البلاء وكيف يشكر على ما يصبر عليه والصبر على البلاء يستدعي ألماً والشكر يستدعي فرحاً وهما يتضادان وما معنى ما ذكرتموه من أن لله تعالى في كل ما أوجده نعمة على عباده فاعلم أن البلاء موجود كما أن النعمة موجودة والقول بإثبات النعمة يوجب القول بإثبات البلاء لأنهما متضادان ففقد البلاء نعمة وفقد النعمة بلاء ولكن قد سبق أن النعمة تنقسم إلى نعمة مطلقة من كل وجه أما في الآخرة فكسعادة العبد بالنزول في جوار الله تعالى وأما في الدنيا فكالإيمان وحسن الخلق وما يعين عليهما وإلى نعمة مقيدة من وجه دون وجه كالمال الذي يصلح الدين من وجه ويفسده من وجه فكذلك البلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد أما المطلق في الآخرة فالبعد من الله تعالى إما مدة وإما أبداً
وأما في الدنيا فالكفر والمعصية وسوء الخلق وهي التي تفضي إلى البلاء المطلق
وأما المقيد فكالفقر والمرض والخوف وسائر أنواع البلاء التي لا تكون بلاء في الدين بل في الدنيا فالشكر المطلق للنعمة المطلقة وأما البلاء المطلق في الدنيا فقد لا يؤمر بالصبر عليه لأن الكفر بلاء ولا معنى للصبر عليه وكذا المعصية بل حق الكافر أن يترك كفره وكذا حق العاصي نعم الكافر قد لا يعرف أنه كافر فيكون كمن به علة وهو لا يتألم بسبب غشية أو غيرها فلا صبر عليها والعاصي يعرف أنه عاصٍ فعليه ترك المعصية بل كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يؤمر بالصبر عليه فلو ترك الإنسان الماء مع طول العطش حتى عظم تألمه فلا يؤمر بالصبر عليه بل يؤمر بإزالة الألم وإنما الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته فإذن يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق بل يجوز أن يكون نعمة من وجه فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الصبر والشكر فإن الغنى مثلاً يجوز أن يكون
¬_________
(¬1) حديث ما عظمت نعمة الله على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه الحديث أخرجه ابن عدى وابن حبان فى الضعفاء من حديث معاذ بن جبل بلفظ إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المونة الحديث ورواه ابن حبان فى الضعفاء من حديث ابن عباس وقال أنه موضوع على حجاج الأعور
পৃষ্ঠা - ১২৮৭
سبباً لهلاك الإنسان حتى يقصد بسبب ما له فيقتل وتقتل أولاده والصحة أيضاً كذلك فما من نعمة من هذه النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تصير بلاء ولكن بالإضافة إليه فكذلك ما من بلاء إلا ويجوز أن يصير نعمة ولكن بالإضافة إلى حالة فرب عبد تكون الخيرة له فِي الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ صَحَّ بَدَنُهُ وَكَثُرَ مَالُهُ لَبَطِرَ وَبَغَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ تَعَالَى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رآه استغنى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه (¬1) وكذلك الزوجة والولد والقريب وكل ما ذكرناه في الأقسام الستة عشر من النعم سوى الإيمان وحسن الخلق فإنها يتصور أن تكون بلاء في حق بعض الناس فتكون أضدادها إذن نعماً في حقهم إذ سبق أن المعرفة كمال ونعمة فإنها صفة من صفات الله تعالى ولكن قد تكون على العبد في بعض الأمور بلاء ويكون فقدها نعمة مثاله جهل الإنسان بأجله فإنه نعمة عليه إذ لو عرفه ربما تنغص عليه العيش وطال بذلك غمه وكذلك جهله بما يضمره الناس عليه من معارفه وأقاربه نعمة عليه إذ لو رفع الستر واطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام وكذلك جهله بالصفات المذمومة من غيره نعمة عليه إذ لو عرفها أبغضه وآذاه وكان ذلك وبالاً عليه في الدنيا والآخرة بل جهله بالصفات المحمودة في غيره قد يكون نعمة عليه فإنه ربما يكون ولياً لله تعالى وهو يضطر إلى إيذائه وإهانته ولو عرف ذلك وآذى كان إثمه لا محالة أعظم فليس من آذى نبياً أو ولياً وهو يعرف كمن آذى وهو لا يعرف ومنها إبهام الله تعالى أمر القيامة وإبهامه ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وإبهامه بعض الكبائر فكل ذلك نعمة لأن هذا الجهل يوفر دواعيك على الطلب والاجتهاد فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل فكيف في العلم وحيث قلنا إن لله تعالى في كل موجود نعمة فهو حق وذلك مطرد في حق كل أحد ولا يستثنى عنه بالظن إلا الآلام التي يخلقها في بعض الناس وهي أيضاً قد تكون نعمة في حق المتألم بها فإن لم تكن نعمة في حقه كالألم الحاصل من المعصية كقطعه يد نفسه ووشمه بشرته فإنه يتألم به وهو عاص به وألم الكفار في النار فهو أيضاً نعمة ولكن في حق غيرهم من العباد لا في حقهم لأن مصائب قوم عند قوم فوائد ولولا أن الله تعالى خلق العذاب وعذب به طائفة لما عرف المتنعمون قدر نعمه ولو كثر فرحهم بها ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار أما ترى أهل الدنيا ليس يشتد فرحهم بنور الشمس مع شدة حاجتهم إليه من حيث إنها عامة مبذولة ولا يشتد فرحهم بالنظر إلى زينة السماء وهي أحسن من كل بستان لهم في الأرض يجتهدون في عمارته ولكن زينة السماء لما عمت لم يشعروا بها ولم يفرحوا بسببها فإذن قد صح ما ذكرناه من أن اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا وَفِيهِ حكمة ولا خلق شيئاً إلا وفيه نعمة إما على جميع عباده أو على بعضهم فَإِذَنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَلَاءُ نِعْمَةٌ أَيْضًا إِمَّا عَلَى الْمُبْتَلَى أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمُبْتَلَى فَإِذَنْ كُلُّ حَالَةٍ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَلَاءٌ مُطْلَقٌ وَلَا نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا عَلَى الْعَبْدِ وَظِيفَتَانِ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا
فَإِنْ قُلْتَ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ إِذْ لَا صَبْرَ إِلَّا عَلَى غَمٍّ وَلَا شُكْرَ إِلَّا على فرح فاعلم أن الشيء الوحيد قَدْ يُغْتَمُّ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيُفْرَحُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيَكُونُ الصَّبْرُ مِنْ حَيْثُ الِاغْتِمَامُ وَالشُّكْرُ مِنْ حَيْثُ الْفَرَحُ وَفِي كُلِّ فَقْرٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ وَبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَةُ أمور ينبغي أن يفرح الغافل بِهَا وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا أَحَدُهَا أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ وَمَرَضٍ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهَا إِذْ مَقْدُورَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَنَاهَى فَلَوْ ضَعَّفَهَا الله
¬_________
(¬1) حديث إن الله ليحمي عبده من الدنيا الحديث أخرجه الترمذى وحسنه والحاكم وصححه وقد تقدم
পৃষ্ঠা - ১২৮৮
تعالى وَزَادَهَا مَاذَا كَانَ يَرُدُّهُ وَيَحْجِزُهُ فَلْيَشْكُرْ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا الثَّانِي أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ فِي دينه قال رجل لسهل رضي الله تعالى عنه دخل اللص بيتي وأخذ متاعي فقال اشكر الله تعالى لو دخل الشيطان قلبك فأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع ولذلك استعاذ عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه إذ قال اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم إذ لم يكن في ديني وإذ لم يكن أعظم منه وإذ لم أحرم الرضا به وإذ أرجو الثواب عليه وكان لبعض أرباب القلوب صديق فحبسه السلطان فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه فقال له اشكر الله فضربه فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه فقال اشكر الله فجيء بمجوسي فحبس عنده وكان مبطوناً فقيد وجعل حلقة من قيده في رجله وحلقة في رجل المجوسي فأرسل إليه فقال اشكر الله فكان المجوسي يحتاج إلى أن يقوم مرات وهو يحتاج إلى أن يقوم معه ويقف على رأسه حتى يقضي حاجته فكتب إليه بذلك فقال اشكر الله فقال إلى متى هذا وأي بلاء أعظم من هذا فقال لو جعل الزنار الذي في وسطه على وسطك ماذا كنت تصنع فإذن ما من إنسان أصيب ببلاء إلا ولو تأمل حق التأمل في سوء أدبه ظاهراً وباطناً في حق مولاه لكان يرى أنه يستحق أكثر مما أصيب به عاجلا وآجلا ومن استحق عليك أن يضربك مائة سوط فاقتصر على عشرة فهو مستحق للشكر ومن استحق عليك أن يقطع يديك فترك إحداهما فهو مستحق للشكر ولذلك مر بعض الشيوخ في شارع فصب على رأسه طشت من رماد فسجد لله تعالى سجدة الشكر فقيل له ما هذه السجدة فقال كنت أنتظر أن تصب علي النار فالاقتصار على الرماد نعمة وقيل لبعضهم لا تخرج إلى الاستسقاء فقد احتبست الأمطار فقال أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجر
فإن قلت كيف أفرح وأرى جماعة ممن زادت معصيتهم على معصيتي ولم يصابوا بما أصبت به حتى الكفار فاعلم أن الكافر قد خبىء له ما هو أكثر وإنما أمهل حتى يستكثر من الإثم ويطول عليه العقاب كما قال تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً وأما المعاصي فمن أين تعلم أن في العالم من هو أعصى منه ورب خاطر بسوء أدب في حق الله تعالى وفى صفاته أعظم وأطم من شرب الخمر والزنا وسائر المعاصي بالجوارح ولذلك قال تعالى في مثله وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم فمن أين تعلم أن غيرك أعصى منك ثم لعله قد أخرت عقوبته إلى الآخرة وعجلت عقوبتك في الدنيا فلم لا تشكر الله تعالى على ذلك وهذا هو الوجه الثالث في الشكر وهو أنه ما من عقوبة إلا وكان يتصور أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْآخِرَةِ وَمَصَائِبُ الدُّنْيَا يُتَسَلَّى عَنْهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ تَهُونُ الْمُصِيبَةُ فَيَخِفُّ وَقْعُهَا ومصيبة الآخرة تدوم وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلي إذ أسباب التسلي مقطوعة بالكلية في الآخرة عن المعذبين ومن عجلت عقوبته في الدنيا فلا يعاقب ثانياً إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن العبد إذا أذنب ذنباً فأصابته شدة أو بلاء في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً (¬1) الرَّابِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ وَالْبَلِيَّةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهَا إِلَيْهِ وَقَدْ وَصَلَتْ وَوَقَعَ الْفَرَاغُ وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْضِهَا أَوْ مِنْ جَمِيعِهَا فَهَذِهِ نعمة الخامس أن ثوابها
¬_________
(¬1) حديث إن العبد إذا أذنب ذنبا فأصابه شدة وبلاء في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث على من أصاب فى الدنيا ذنبا عوقب به فالله أعدل من أن يلي عقوبته على عبده الحديث لفظ ابن ماجه وقال الترمذي من أصاب حدا فعجل عقوبته فى الدنيا وقال حسن وللشيخين من حديث عبادة بن الصامت ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له الحديث
পৃষ্ঠা - ১২৮৯
أَكْثَرُ مِنْهَا فَإِنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا طُرُقٌ إِلَى الآخرة من وجهين أحدهما الوجه الذي يكون به الدواء الكريه نعمة في حق المريض ويكون المنع من أسباب اللعب نعمة حق الصبي فإنه لو خلي واللعب كان يمنعه ذلك عن العلم والأدب فكان يخسر جميع عمره فكذلك المالى والأهل والأقارب والأعضاء حتى العين التي هي أعز الأشياء قد تكون سبباً لهلاك الإنسان في بعض الأحوال بل العقل الذي هو أعز الأمور قد يكون سبباً لهلاكه فالملحدة غداً يتمنون لو كانوا مجانين أو صبياناً ولم يتصرفوا بعقولهم في دين الله تعالى فما من شيء من هذه الأسباب يوجد من العبد إلا ويتصور أن يكون له فيه خيرة دينية فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويقدر فيه الخيرة ويشكره عليه فإن حكمة الله واسعة وهو بمصالح العباد أعلم من العباد وغداً يشكره العباد على البلايا إذا رأوا ثواب الله على البلايا كما يشكر الصبي بعد العقل والبلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه إذيدرك ثمرة ما استفاده من التأديب والبلاء من الله تعالى تأديب وعنايته بعباده أتم وأوفر من عناية الآباء بالأولاد فقد روي أن رجلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصني قال لا تتهم الله في شيء قضاه عليك (¬1) ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فضحك فسئل فقال عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً له وإن قضى له بالضراء رضي وكان خيراً له (¬2) الوجه الثاني أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عن دار الغرور ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها وأنسه بها حتى تصير كالجنة في حقه فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يسكن إليها ولم يأنس بها وصارت سجناً عليه وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (¬3) والكافر كل من أعرض عن الله تعالى ولم يرد إلا الحياة الدنيا ورضي بها واطمأن إليها والمؤمن كل منقطع بقلبه عن الدنيا شديد الحنين إلى الخروج منها والكفر بعضه ظاهر وبعضه خفي وبقدر حب الدنيا في القلب يسري فيه الشرك الخفي بل الموحد المطلق هو الذي لا يحب إلا الواحد الحق فإذن في البلاء نعم من هذا الوجه فيجب الفرح به وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجاناً أو يسقيك دواءً نافعاً بشعاً مجاناً فإنك تتألم وتفرح فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح فكل بَلَاءٍ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِثَالُهُ الدَّوَاءُ الَّذِي يؤلم في الحال وينفع في المآل بل من دخل دار ملك للنضارة وعلم أنه يخرج منها لا محالة فرأى وجهاً حسناً لا يخرج معه من الدار كان ذلك وبالاً وبلاءً عليه لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه والدنيا منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم وهم خارجون عنها من باب اللحد فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة فَمَنْ عَرَفَ هَذَا تُصُوِّرَ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى الْبَلَايَا وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ النِّعَمَ فِي الْبَلَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ لِأَنَّ الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة
¬_________
(¬1) حديث قال له رجل أوصني قال لا تتهم الله فى شىء قضاه عليك رواه أحمد والطبرانى من حديث عبادة بزيادة فى أوله وفى إسناده ابن لهيعة
(¬2) حديث نظر إلى السماء فضحك فسئل فقال عجبت لقضاء الله للمؤمن الحديث أخرجه مسلم من حديث صهيب دون نظره إلى السماء وضحكه عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وللنسائى فى اليوم والليلة من حديث سعد بن أبي وقاص عجبت من رضا الله للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر الحديث
(¬3) حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وقد تقدم
পৃষ্ঠা - ১২৯০
وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ أَكْبَرُ مِنَ الْمُصِيبَةِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ عَلَى المصيبة وحكي أن أعرابياً عزى ابن عباس على أبيه فقال
اصبر نكن بك صابرين فإنما ... صبر الرعية بعد صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
فقال ابن عباس ما عزاني أحد أحسن من تعزيته
والأخبار الواردة في الصبر على المصائب كثيرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يرد الله به خيراً يصب منه (¬1) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تعالى إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو لده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً وقال عليه السلام ما من عبد أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله تعالى إنا لله وإنه إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها إلا فعل الله ذلك به وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تعالى من سلبته كريمتيه فجزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي وَرُوِيَ أَنْ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذهب مالي وسقم جسمي فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وإذا ابتلاه صبره (¬2) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك (¬3) وعن خباب بن الأرت قال أتيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متوسد بردائه في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا يا رسول الله ألا تدعو الله تستنصره لنا فجلس محمراً لونه ثم قال إن من كان قبلكم ليؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض حفيرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه (¬4) وعن علي كرم الله وجهه قال أيما رجل حبسه السلطان ظلماً فمات فهو شهيد وإن ضربه فمات فهو شهيد وقال عليه السلام من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه تولدون للموت وتعمرون للخراب وتحرصون على ما يفنى وتذرون ما يبقى ألا حبذا المكروهات الثلاث الفقر والمرض والموت وعن أنس قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً وثجه عليه ثجاً فإذا دعاه قالت الملائكة صوت معروف وإن دعاه ثانياً فقال يا رب قال الله تعالى لبيك عبدي وسعديك لا تسألني شيئاً إلا أعطيتك أو دفعت عنك ما هو خير وادخرت لك عندي ما هو أفضل منه فإذا كان يوم القيامة جيء بأهل الأعمال فوفوا أعمالهم بالميزان أهل
¬_________
(¬1) حديث من يرد الله به خير يصب منه رواه البخارى من حديث أبى هريرة
(¬2) حديث أن رجلاً قال يا رسول الله ذهب مالي وسقم جسدى فقال لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسده إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وإذا ابتلاه صبره أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب المرض والكفارات من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد فيه لين
(¬3) حديث إن الرجل ليكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك رواه أبو داود فى رواية ابن داسه وابن العبد من حديث محمد بن خالد السلمى عن أبيه عن جده وليس فى رواية اللؤلؤى ورواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى من هذا الوجه ومحمد بن خالد لم يرو عنه إلا أبو المليح الحسن بن عمر الرقى وكذلك لم يرو عن خالد إلا ابنه محمد وذكر أبو نعيم أن ابن منده سمى جده اللجلاج بن سليم فالله أعلم وعلى هذا فابنه خالد بن اللجلاج العامرى ذاك مشهور روى عنه جماعة ورواه ابن منده وأبو نعيم وابن عبد البر فى الصحابة من رواية عبد الله بن أبي إياس بن أبى فاطمة عن أبيه عن جده ورواه البيهقى من رواية إبراهيم السلمى عن أبيه عن جده فالله أعلم
(¬4) حديث خباب بن الأرت أتينا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متوسد برداء في ظل الكعبة فشكونا إليه الحديث تقدم
পৃষ্ঠা - ১২৯১
الصلاة والصيام والصدقة والحج ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الآجر صباً كما كان يصب عليهم البلاء صباً فيود أهل العافية في الدنيا لو أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لما يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب (¬1) فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال شكا نبي من الأنبياء عليهم السلام إلى ربه فقال يا رب العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوي عنه الدنيا وتعرض له البلاء ويكون الكافر لا يطيعك ويجترىء عليك وعلى معاصيك تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا فأوحى الله تعالى إليه إن العباد والبلاء لي وكل يسبح بحمدي فيكون المؤمن عليه من الذنوب فأزوي عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقانى فأجز به بحسناته ويكون الكافر له الحسنات فأبسط له في الرزق وأزوي عنه البلاء فأجزيه بحسناته في الدنيا حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته
وروي أنه لما نزل قوله تعالى من يعمل سوءاً يجز به قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كيف الفرح بعد هذه الآية فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست يصيبك الأذى ألست تحزن فهذا مما تجزون به (¬2) يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك وعن عقبة بن عامر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج ثم قرأ قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء (¬3) يعني لما تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخير حتى إذا فرحوا بما أوتوا أي بما أعطوا من الخير أخذناهم بغتة
وعن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنهم رأى امرأة كان يعرفها في الجاهلية فكلمها ثم تركها فجعل الرجل يلتفت إليها وهو يمشي فصدمه حائط فأثر في وجهه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا (¬4) وقال علي كرم الله وجهه ألا أخبركم بأرجى آية في القرآن قالوا بلى فقرأ عليهم {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} فالمصائب في الدنيا بكسب الأوزار فإذا عاقبه الله في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً وإن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه يوم القيامة وعن أنس رضي الله تعالى منه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها ولا قطرت قطرة أحب إلى الله من قطرة دم أهريقت في سبيل الله أو قطرة دمع في سواد الليل وهو ساجد ولا يراه إلا الله وما خطا عبد
¬_________
(¬1) حديث أنس إذا أراد الله بعبد خيراً وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً الحديث أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب المرض من رواية بكر بن خنيس عن يزيد الرقاشيعن أنس أخصر منه دون قوله فإذا كان يوم القيامة إلى آخره وبكر بن خنيس والرقاشى ضعيفان ورواه الأصفهانى فى الترغيب والترهيب بتمامه وأدخل بين بكر وبين الرقاشى ضرار بن عمرو وهو أيضا ضعيف
(¬2) حديث لما نزل قوله تعالى من يعمل سوءاً يجز به قال أبو بكر الصديق كيف الفرح بعد هذه الآية فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض الحديث من رواية من لم يسم عن أبى بكر ورواه الترمذى من وجه آخر بلفظ آخر وضعفه قال وليس له إسناد صحيح وقال الدارقطنى وروى أيضا من حديث عمر ومن حديث الزبير قال وليس فيها شىء يثبت
(¬3) حديث عقبة بن عامر إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج الحديث رواه أحمد والطبرانى والبيهقى فى الشعب بسند حسن
(¬4) حديث الحسن البصرى فى الرجل الذى رأى امرأة فجعل يلتفت إليها وهو يمشي فصدمه حائط الحديث وفيه إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه فى الدنيا أخرجه أحمد والطبرانى بإسناد صحيح من رواية الحسن عن عبد الله بن معقل مرفوعا ومتصلا ووصله الطبرانى أيضا من رواية الحسن عن عمار بن ياسر ورواه أيضا من حديث ابن عباس وقد روى الترمذى وابن ماجه المرفوع منه من حديث أنس وحسنه الترمذى
পৃষ্ঠা - ১২৯২
خطوتين أحب إلى الله تعالى من خطوة إلى صلاة الفريضة وخطوة إلى صلة الرحم (¬1)
وعن أبي الدرداء قال توفي ابن لسليمان بن داود عليهما السلام فوجد عليه وجداً شديدا فأتاه ملكان فجثيا بين يديه في زي الخصوم فقال أحدهما بذرت بذراً فلما استحصد مر به هذا فأفسده فقال للآخر ما تقول فقال أخذت الجادة فأتيت على زرع فنظرت يميناً وشمالاً فإذا الطريق عليه فقال سليمان عليه السلام ولم بذرت على الطريق أما علمت أن لا بد للناس من الطريق قال فلم تحزن على ولدك أما علمت أن الموت سبيل الآخرة فتاب سليمان إلى ربه ولم يجزع على ولد بعد ذلك
ودخل عمر بن عبد العزيز على ابن له مريض فقال يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك فقال يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعي إليه ابنة له فاسترجع وقال عورة سترها الله تعالى ومؤنة كفاها الله وأجر قد ساقه الله تعالى ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال قد صنعنا ما أمر الله تعالى قال تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة}
وعن ابن المبارك أنه مات له ابن فعزاه مجوسي يعرفه فقال له ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام فقال ابن المبارك اكتبوا عنه هذه
وقال بعض العلماء إن الله ليبتلي العبد بالبلاء بعد البلاء حتى يمشي على الأرض وماله ذنب
وقال الفضيل إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير
وقال حاتم الأصم إن الله عز وجل يحتج يوم القيامة على الخلق بأربعة أنفس على أربعة أجناس على الأغنياء بسليمان وعلى الفقراء بالمسيح وعلى العبيد بيوسف وعلى المرضى بأيوب صلوات الله عليهم
وروي أن زكريا عليه السلام لما هرب من الكفار من بني إسرائيل واختفى في الشجرة فعرفوا ذلك فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا فأن منه أنة فأوحى الله تعالى إليه يا زكريا لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة فعض زكريا عليه السلام على إصبعه حتى قطع شطرين
وقال أبو مسعود البلخي من أصيب بمصيبة فمزق ثوباً أو ضرب صدراً فكأنما أخذ رمحاً يريد أن يقاتل به ربه عز وجل
وقال لقمان رحمه الله لابنه يا بني إن الذهب يجرب بالنار والعبد الصالح يجرب بالبلاء فإذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط
وقال الأحنف بن قيس أصبحت يوماً أشتكي ضرسي فقلت لعمي ما نمت البارحة من وجع الضرس حتى قلعتها ثلاثاً فقال لقد أكثرت من ضرسك في ليلة واحدة وقد ذهبت عيني هذه منذ ثلاثين سنة ما علم بها أحد وأوحى الله تعالى إلى عزيز عليه السلام إذا نزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي واشك إلى
¬_________
(¬1) حديث أنس ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها الحديث أخرجه أبو بكر بن لال فى مكارم الأخلاق من حديث علي بن أبي طالب دون ذكر الجرعتين وفيه محمد بن صدقة وهو الفلكى منكر الحديث وروى ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد جيد ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث أبى أمامة ما قطر فى الأرض قطرة أحب إلى الله عز وجل من دم رجل مسلم في سبيل الله أو قطرة دمع في سواد الليل الحديث وفيه محمد بن صدقة وهو الفلكى المنكر الحديث
পৃষ্ঠা - ১২৯৩
كما لا أشكوك إلى ملائكتي إذا صعدت مساويك وفضائحك نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه ستره الجميل في الدنيا والآخرة
بيان فضل النعمة على البلاء
لعلك تقول هذه الأخبار تدل على أن البلاء خير في الدنيا من النعم فهل لنا أن نسأل الله البلاء فأقول لا وجه لذلك لما روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة (¬1) وكان يقول هو والأنبياء عليهم السلام رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة (¬2) وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها (¬3)
وقال علي كرم الله وجهه اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم لقد سألت البلاء فاسأله العافية (¬4)
وروى الصديق رضي الله تعالى عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ إِلَّا الْيَقِينَ (¬5) وَأَشَارَ بِالْيَقِينِ إِلَى عَافِيَةِ الْقَلْبِ عَنْ مَرَضِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ فَعَافِيَةُ القلب أعلى من عافية البدن
وقال الحسن رحمه الله الخير الذي لا شر فيه العافية مع الشكر فكم من منعم عليه غير شاكر
وقال مطرف بن عبد الله لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر
وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه وعافيتك أحب إلي (¬6) وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل واستشهاد وهذا لأن البلاء صار نعمة باعتبارين أحدهما بالإضافة إلى ما هو أكثر منه إما في الدنيا أو في الدين والآخر بالإضافة إلى ما يرجى من الثواب فينبغي أن نسأل الله تمام النعمة في الدنيا ودفع ما فوقه من البلاء ونسأله الثواب في الآخرة على الشكر على نعمته فإنه قادر على أن يعطي على الشكر ما لا يعطيه على الصبر
فإن قلت فقد قال لعضهم أود أن أكون جسراً على النار يعبر علي الخلق كلهم فينجون وأكون أنا في النار وقال سمنون رحمه الله تعالى
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
¬_________
(¬1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة رواه أحمد من حديث بشر بن أبى أرطاة بلفظ أجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة وإسناده جيد ولأبى داود من حديث عائشة اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة وفيه بقية وهو مدلس ورواه بالعنعنة
(¬2) حديث كان يقول هو والأنبياء عليهم السلام رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة وقنا عذاب النار أخرجه البخارى ومسلم من حديث أنس كان أكثر دعوة يدعو بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا الحديث ولأبى داود والنسائى من حديث عبد الله بن السائب قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما بين الركنين ربنا آتنا الحديث
(¬3) حديث كان يستعيذ من شماتة الأعداء تقدم فى الدعوات
(¬4) حديث قال علي رضي الله عنه اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم لقد سألت الله البلاء فسله العافية رواه الترمذى من حديث معاذ فى أثناء حديث وحسنه ولم يسم عليا وإنما قال سمع رجلا وله وللنسائى فى اليوم والليلة من حديث على كنت ساكنا فمر بى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول الحديث وفيه فإن كان بلاء فصبرنى فضربه برجله وقال اللهم عافه واشفه وقال حسن صحيح
(¬5) حديث أبي بكر الصديق سلوا الله العافية الحديث أخرجه ابن ماجه والنسائى فى اليوم والليلة بإسناد جيد وقد تقدم
(¬6) حديث وعافيتك أحب إلى ذكره ابن اسحق فى السيرة فى دعائه يوم خرج إلى الطائف بلفظ وعافيتك أوسع لى وكذا رواه ابن أبى الدنيا فى الدعاء من رواية حسان بن عطية مرسلا ورواه أبو عبد الله بن منده من حديث عبد اللهبن جعفر مسندا وفيه من يجهل
পৃষ্ঠা - ১২৯৪
فهذا من هؤلاء سؤال للبلاء فاعلم أنه حكي عن سمنون المحب رحمه الله أنه بلي بعد هذا البيت بعلة الحصر فكان بعد ذلك يدور على أبواب المكاتب ويقول للصبيان ادعوا لعمكم الكذاب وأما محبة الإنسان ليكون هو في النار دون سائر الخلق فغير ممكنة ولكن قد تغلب المحبة على القلب حتى يظن المحب بنفسه حباً لمثل ذلك فمن شرب كأس المحبة سكر ومن سكر توسع في الكلام ولو زايله سكره علم أن ما غلب عليه كان حالة لا حقيقة لها فما سمعته من هذا الفن فهو من كلام العشاق الذين أفرط حبهم وكلام العشاق يستلذ سماعه ولا يعول عليه كما حكي أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه فقال ما الذي يمنعك عني ولو أردت أن أقلب لك الكونين مع ملك سليمان ظهراً لبطن لفعلته لأجلك فسمعه سليمان عليه السلام فاستدعاه وعاتبه فقال يا نبي الله كلام العشاق لا يحكى وهو كما قال وقال الشاعر
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
وهو أيضاً محال ومعناه أني أريد ما لا يريد لأن من أراد الوصال ما أراد الهجر فكيف أراد الهجر الذي لم يرده بل لا يصدق هذا الكلام إلا بتأويلين أحدهما أن يكون ذلك في بعض الأحوال حتى يكتسب به رضاه الذي يتوصل به إلى الوصال في الاستقبال فيكون الهجران وسيلة إلى الرضا والرضا وسيلة إلى وصال المحبوب والوسيلة إلى المحبوب محبوبة فيكون مثاله مثال محب المال إذا أسلم درهماً في درهمين فهو بحب الدرهمين يترك الدرهم في الحال الثاني أن يصير رضاه عنده مطلوباً من حيث إنه رضاه فقط ويكون له لذة في استشعاره رضا محبوبه منه تزيد تلك اللذة على لذته في مشاهدته مع كراهته فعند ذلك يتصور أن يريد ما فيه الرضا فلذلك قد انتهى حال بعض المحبين إلى أن صارت لذتهم في البلاء مع استشعارهم رضا الله عنهم أكثر من لذتهم في العافية من غير شعور الرضا فهؤلاء إذا قدروا رضاه في البلاء صار البلاء أحب إليهم من العافية وهذه حالة لا يبعد وقوعها في غلبات الحب ولكنها لا تثبت وإن ثبتت مثلاً فهل هي حالة صحيحة أم حالة اقتضتها حالة أخرى وردت على القلب فمالت به عن الاعتدال هذا فيه نظر وذكر تحقيقه لا يليق بما نحن فيه وقد ظهر بما سبق أن العافية خير من البلاء فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى المَانّ بِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لنا ولجميع المسلمين
بيان الأفضل من الصبر والشكر
اعلم أن الناس اختلفوا في ذلك فقال قائلون الصبر أفضل من الشكر وقال آخرون الشكر أفضل وقال آخرون هما سيان وقال آخرون يختلف ذلك باختلاف الأحوال واستدل كل فريق بكلام شديد الاضطراب بعيد عن التحصيل فلا معنى للتطويل بالنقل بل المبادرة إلى إظهار الحق أولى فنقول في بيان ذلك مقامان
المقام الأول البيان على سبيل التساهل وهو أن ينظر إلى ظاهر الأمر ولا يطلب التفتيش بحقيقته وهو البيان الذي ينبغي أن يخاطب به عوام الخلق لقصور أفهامهم عن درك الحقائق الغامضة وهذا الفن من الكلام هو الذي ينبغي أن يعتمده الوعاظ إذ مقصود كلامهم من مخاطبة العوام إصلاحهم والظئر المشفقة لا ينبغي أن تصلح الصبي الطفل بالطيور السمان وضروب الحلاوات بل باللبن اللطيف وعليها أن تؤخر عنه أطايب الأطعمة إلى أن يصير محتملاً لها بقوته ويفارق الضعف الذي هو عليه في بنيته فنقول هذا المقام في البيان يأبى البحث والتفصيل ومقتضاه النظر إلى الظاهر المفهوم من موارد الشرع وذلك يقتضي تفضيل الصبر فإن الشكر وإن وردت أخبار كثيرة في فضله فإذا أضيف إليه ما ورد فى فضيلة الصبر كانت فضائل الصبر أكثر بل فيه ألفاظ
পৃষ্ঠা - ১২৯৫
صريحة في التفضيل كقوله صلى الله عليه وسلم من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر (¬1) وفي الخبر يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أما ترضى أن يجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى كلا أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر عليه فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين (¬2) وقد قال الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأما قوله الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر (¬3) حديث الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بالشطر الأول من حديث ابن عباس بسند ضعيف أو الطبراني بالشطر الثاني من حديثه بسند ضعيف أيضا أن امرأة قالت كتب الله الجهاد على الرجال فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة قال طاعة أزواجهن وفي رواية ما جزاء غزوة المرأة قال طاعة الزوج الحديث وفيه القاسم بن فياض وثقه أبو داود وضعفه ابن معين وباقي رجاله ثقات (¬4) حديث شارب الخمر كعابد الوثن أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ مدمن الخمر ورواه بلفظ شارب الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن عمر وكلاهما ضعيف وقال ابن عدي إن حديث أبي هريرة أخطأ فيه محمد بن سليمان بن الأصبهاني (¬5) حديث آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث معاذ بن جبل يدخل الأنبياء كلهم قبل داود وسليمان الجنة بأربعين عاما وقال لم يروه إلا شعيب بن خالد وهو كوفي ثقة وروى البزار من حديث أنس أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف وفيه أغلب بن تميم ضعيف (¬6) حديث يدخل سليمان عبد الأنبياء بأربعين خريفا تقدم حديث معاذ قبله ورواه أبو منصوزر الديلمى في مسند الفردوس من رواية دينار عن أنس بن مالك ودينار الحبشي أحد الكذاببين على أنس والحديث منكر (¬7) حديث أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه باب واحد الحديث لم أجد له أصلا ولا في الأحاديث الواردة في مصاريع أبواب الجنة تفرقة فروى مسلم من حديث أنس في الشفاعة والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وبصرى وفي الصحيحين في خطبة عتبة بن غزوان ولقد ذكرنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام
وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر لأن الصبر حال الفقير والشكر حال الغني فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه صلاح دينهم
المقام الثاني هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف
¬_________
(¬1) حديث من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر تقدم
(¬2) حديث يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض الحديث لم أجد له أصلا
(¬3) حديث الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي هريرة وقد تقدم فهو دليل على أن الفضيلة في الصبر إذ ذكر ذلك في معرض المبالغة لرفع درجة الشكر فألحقه بالصبر فكان هذا منتهى درجته ولولا أنه فهم من الشرع علو درجة الصبر لما كان إلحاق الشكر به مبالغة في الشكر وهو كقوله صلى الله عليه وسلم الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل
(¬4) وكقوله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن
(¬5) وأبداً المشبه به ينبغي أن يكون أعلى رتبة فكذلك قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمان لا يدل على أن الشكر مثله وهو كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ فإن كل ما ينقسم قسمين يسمى أحدهما نصفاً وإن كان بينهما تفاوت كما يقال الإيمان هو العلم والعمل فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه
(¬6) وفي خبر آخر يدخل سليمان بعد الأنبياء بأربعين خريفاً
(¬7) وفي الخبر أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء أمامهم أيوب عليه السلام
পৃষ্ঠা - ১২৯৬
والإيضاح فنقول فيه كل أمرين مبهمين لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان
والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين لحكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال فنقول قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة علوم وأحوال وأعمال والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهى الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال والأحوال تراد للأعمال والأعمال هي الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد المعارف وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة بل علوم المعاملة دون المعاملة لأنها تراد المعاملة ففائدتها إصلاح العمل وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهي الغاية التي تطلب لذاتها فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها
وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها
ولما كانت مرادة لأجلها كان تعاونها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة فكما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل الخلق حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذن فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده لأن تحصل له علوم المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض فكذلك أحوال القلب فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة المكاشفة موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه
واسم الأول المعصية واسم الثاني الطاعة والمعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته متفاوتة وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها وذلك يختلف باختلاف الأحوال وذلك أنا بالقول المطلق ربما نقول الصلاة النافلة أفضل من كل عبادة نافلة وأن الحج أفضل من الصدقة وأن قيام الليل أفضل من غيره ولكن التحقيق فيه أن الغني الذي معه مال وقد غلبه البخل وحب المال على إمساكه فإخراج الدراهم له أفضل من قيام ليال وصيام أيام لأن الصيام يليق بمن غلبته شهوة البطن فأراد كسرها أو منعه الشبع عن صفاء الفكر من علوم المكاشفة فأراد تصفية القلب بالجوع فأما هذا المدبر إذا لم تكن حاله هذه الحال فليس يستضر بشهوة بطنه ولا هو مشتغل بنوع فكر يمنعه الشبع منه فاشتغاله بالصوم خروج منه عن حاله إلى حال غيره وهو كالمريض الذي يشكو وجع البطن إذا استعمل دواء الصداع لم ينتفع به بل حقه أن ينظر في المهلك الذي استولى عليه والشح المطاع من جملة
পৃষ্ঠা - ১২৯৭
المهلكات ولا يزيل صيام مائة سنة وقيام ألف ليلة منه ذرة بل لا يزيله إلا إخراج المال فعليه أن يتصدق بما معه وتفصيل هذه مما ذكرناه في ربع المهلكات فليرجع إليه فإذن باعتبار هذه الأحوال يختلف وعند ذلك يعرف البصير أن الجواب المطلق فيه خطأ إذ لو قال لنا قائل الخبز أفضل أم الماء لم يكن فيه جواب حق إلا أن الخبز للجائع أفضل والماء للعطشان أفضل فإن اجتمعا فلينظر إلى الأغلب فإن كان العطش هو الأغلب فالماء أفضل وإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل فإن تساويا فهما متساويان وكذا إذا قيل السكنجبين أفضل أم شراب اللينوفر لم يصح الجواب عنه مطلقاً أصلاً نعم لو قيل لنا السكنجبين أفضل أم عدم الصفراء فنقول عدم الصفراء لأن السكنجبين مراد له وما يراد لغيره فلذلك أفضل منه لا محالة فإذن في بذل المال عمل وهو الإنفاق ويحصل به حال وهو زوال البخل وخروج حب الدنيا من القلب ويتهيأ القلب بسبب خروج حب الدنيا منه لمعرفة الله تعالى وحبه فالأفضل المعرفة ودونها الحال ودونها العمل
فإن قلت فقد حث الشرع على الأعمال وبالغ في ذكر فضلها حتى طلب الصدقات بقوله {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} وقال تعالى {ويأخذ الصدقات} فكيف لا يكون الفعل والإنفاق هو الأفضل فاعلم أن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء مراد لعينه أو على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصل به ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ومرض القلوب مما لا يشعر به غالباً فهو كبرص على وجه من لا مرآة معه فإنه لا يشعر به ولو ذكر له لا يصدق به
والسبيل معه المبالغة في الثناء على غسل الوجه بماء الورد مثلاً إن كان ماء الورد يزيل البرص حتى يستحثه فرط الثناء على المواظبة عليه فيزول مرضه فإنه لو ذكر له أن المقصود زوال البرص عن وجهك ربما ترك العلاج وزعم أن وجهه لا عيب فيه
ولنضرب مثلاً أقرب من هذا من له ولد علمه العلم والقرآن وأراد أن يثبت ذلك في حفظه بحيث لا يزول عنه وعلم أنه لو أمره بالتكرار والدراسة ليبقى له محفوظاً لقال إنه محفوظ ولا حاجة بي إلى تكرار ودراسة لأنه يظن أن ما يحفظه في الحال يبقى كذلك أبداً وكان له عبيد فأمر الولد بتعليم العبيد ووعده على ذلك بالجميل لتتوفر داعيته على كثرة التكرار بالتعليم فربما يظن الصبي المسكين أن المقصود تعليم العبيد القرآن وأنه قد استخدم لتعليمهم فيشكل عليه الأمر فيقول ما بالي قد استخدمت لأجل العبيد وأنا أجل منهم وأعز عند الوالد وأعلم أن أبي لو أراد تعليم العبيد لقدر عليه دون تكليفي به وأعلم أن لا نقصان لأبي بفقد هؤلاء العبيد فضلاً عن عدم علمهم بالقرآن فربما يتكاسل هذا المسكين فيترك تعليمهم اعتماداً على استغناء أبيه وعلى كرمه في العفو عنه فينسى العلم والقرآن ويبقى مدبراً محروماً من حيث لا يدري وقد انخدع بمثل هذا الخيال طائفة وسلكوا طريق الإباحة وقالوا أن الله تعالى غني عن عبادتنا وعن أن يستقرض منا فأي معنى لقوله {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} ولو شاء الله إطعام المساكين لأطعمهم فلا حاجة بنا إلى صرف أموالنا إليهم كما قال تعالى حكاية عن الكفار {وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} وقالوا أيضاً {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} فانظر كيف كانوا صادقين في كلامهم وكيف هلكوا بصدقهم فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق وإذا شاء أسعد بالجهل {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} فهؤلاء لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين والفقراء أو جل الله تعالى ثم قالوا لا حظ لنا في المساكين ولا حظ لله فينا وفي أموالنا سواء أنفقنا أو أمسكنا هلكوا كما هلك الصبي لما ظن أن مقصود الوالد استخدامه لأجل
পৃষ্ঠা - ১২৯৮
العبيد ولم يشعر بأنه كان المقصود ثبات صفة العلم في نفسه وتأكده في قلبه حتى يكون ذلك سبب سعادته في الدنيا وإنما كان ذلك من الوالد تلطفاً به في استجراره إلى ما فيه سعادته فهذا المثال يبين لك ضلال من ضل من هذا الطريق فإذن هذا المسكين الآخذ لمالك يستوفي بواسطة المال خبث البخل وحب الدنيا من باطنك فإنه مُهلك لك فهو كالحجام يستخرج الدم منك ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك فالحجام خادم لك لا أنت خادم للحجام
ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً بأن يكون له غرض في أن يصنع شيئاً بالدم ولما كانت الصدقات مطهرة للبواطن ومزكية لها عن خبائث الصفات امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذها وانتهى عنها (¬1) كما نهى عن كسب الحجام وسماها أوساخ أموال الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها (¬2) والمقصود أن الأعمال مؤثرات في القلب كما سبق في ربع المهلكات والقلب بحسب تأثيرها مستعد لقبول الهداية ونور المعرفة فهذا هو القول الكلي والقانون الأصلي الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة فضائل الأعمال والأحوال والمعارف ولنرجع الآن إلى خصوص ما نحن فيه من الصبر والشكر فنقول في كل واحد منهما معرفة وحال وعمل فلا يجوز أن تقابل المعرفة في أحدهما بالحال أو العمل في الآخر بل يقابل كل واحد منهما بنظيره حتى يظهر التناسب وبعد التناسب يظهر الفضل ومهما قوبلت معرفة الشاكر بمعرفة الصابر ربما رجعا إلى معرفة واحدة إذ معرفة الشاكر أن يرى نعمة العينين مثلاً من الله تعالى
ومعرفة الصابر أن يرى العمى من الله وهما معرفتان متلازمتان متساويتان هذا إن اعتبرنا في البلاء والمصائب
وقد بينا أن الصبر قد يكون على الطاعة وعن المعصية وفيهما يتحد الصبر والشكر لأن الصبر على الطاعة هو عين شكر الطاعة لأن الشكر يرجع إلى صرف نعمة الله تعالى إلى ما هو المقصود منها بالحكمة والصبر يرجع إلى ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ بَاعِثِ الْهَوَى فالصبر والشكر فيه اسمان لمسمى واحد باعتبارين مختلفين فثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى يسمى صبراً بالإضافة إلى باعث الهوى ويسمى شكراً بالإضافة إلى باعث الدين إذ باعث الدين إنما خلق لهذه الحكمة وهو أن يصرع به باعث الشهوة وقد صرفه إلى مقصود الحكمة فهما عبارتان عن معنى واحد فكيف يفضل الشيء على نفسه فإذن مجاري الصبر ثلاثة الطاعة والمعصية والبلاء وقد ظهر حكمهما في الطاعة والمعصية وأما البلاء فهو عبارة عن فقد نعمة والنعمة إما أن تقع ضرورية كالعينين مثلاً وإما أن تقع في محل الحاجة كالزيادة على قدر الكفاية من المال أما العينان فصبر الأعمى عنهما بأن لا يظهر الشكوى ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ولا يترخص بسبب العمى في بعض المعاصي وشكر البصير عليهما من حيث العمل بأمرين أحدهما أن لا يستعين بهما على معصية والآخر أن يستعملهما في الطاعة وكل أحد من الأمرين لا يخلو عن الصبر فإن الأعمى كفي الصبر عن الصور الجميلة لأنه لا يراها والبصير إذا وقع بصره على جميل فصبر كان شاكراً لنعمة العينين وإن أتبع النظر كفر نعمة العينين فقد دخل الصبر في شكره وكذا إذا استعان بالعينين على الطاعة فلا بد أيضاً فيه من صبر على الطاعة ثم قد يشكرها بالنظر إلى عجائب صنع الله تعالى ليتوصل به إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فيكون هذا الشكر أفضل من الصبر ولولا هذا لكانت رتبة شعيب عليه السلام مثلاً وقد كان ضريراً من الأنبياء فوق رتبة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء لأنه صبر على فقد البصر وموسى عليه السلام لم يصبر مثلاً ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم وذلك محال جدا
¬_________
(¬1) حديث النهي عن كسب الحجام تقدم
(¬2) حديث امتنع من الصدقة وسماها أوساخ الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها أخرجه مسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة أن هذه الصدقة لا تحل لنا إنما هي أوساخ القوم وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد وفي رواية له أوساخ الناس
পৃষ্ঠা - ১২৯৯
لأن كل واحد من هذه الأعضاء آلة في الدين يفوت بفوتها ذلك الركن من الدين وشكرها بإستعمالها فما هي آلة فيه من الدين وذلك لا يكون إلا بصبر وأما ما يقع في محل الحاجة كالزيادة على الكفاية من المال فإنه إذا لم يؤت إلا قدر الضرورة وهو محتاج إلى ما وراءه ففي الصبر عنه مجاهدة وهو جهاد الفقر ووجود الزيادة نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية فإن أضيف الصبر إلى الشكر الذي هو صرف إلى الطاعة فالشكر أفضل لأنه تضمن الصبر أيضاً وفيه فرح بنعمة الله تعالى وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء وترك صرفه إلى التنعم المباح وكان الحاصل يرجع إلى أن شيئين أفضل من شيء واحد وأن الجملة أعلى رتبة من البعض وهذا فيه خلل إذ لاتصح الموازنة بين الجملة وبين أبعاضها وأما إذا كان شكره بأن لا يستعيين به على معصية بل يصرفه إلى التنعم المباح فالصبر ههنا أفضل من الشكر والفقير الصابر أفضل من الغني الممسك ماله الصارف إياه إلى المباحات لا من الغني الصارف ماله إلى الخيرات لأن الفقير قد جاهد نفسه وكسر نهمتها وأحسن الرضا على بلاء الله تعالى وهذه الحالة تستدعي لا محالة قوة والغني أتبع نهمته وأطاع شهوته ولكنه اقتصر على المباح والمباح فيه مندوحة عن الحرام ولكن لا بد من قوة في الصبر عن الحرام أيضاً إلا أن القوة التي عنها يصدر صبر الفقير أعلى وأتم من هذه القوة التي يصدر عنها الاقتصار في التنعم على المباح والشرف لتلك القوة التي يدل العمل عليها فإن الأعمال لا تراد إلا الأحوال القلوب وتلك القوة حالة للقلب تختلف بحسب قوة اليقين والإيمان فما دل على زيادة قوة في الإيمان فهو أفضل لا محالة وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة والأموال الغنى بها والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان الحمد لله ولا يستعين بالنعمة على المعصية لا أن يصرفها إلى الطاعة فإذن الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد رحمه الله حيث سئل عن الصبر والشكر أيهما أفضل فقال ليس مدح الغني بالوجود ولا مدح الفقير بالعدم وإنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذذها والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي ألم صفته وأزعجها أتم حالاً ممن متع صفته ونعمها
والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه وهو لم يرد سواه
ويقال كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك وقال الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده وإتلاف أمواله وزوال عقله أربع عشرة سنة فكان يقول دعوة الجنيد أصابتني ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر
ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر كما سبق ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه وصيت ولا لتقليد منه بل أداء الحق الله تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير الصابر
পৃষ্ঠা - ১৩০০
فإن قلت فهذا لا يثقل على النفس والفقير يثقل عليه الفقر لأن هذا يستشعر لذة القدرة وذاك يستشعر ألم الصبر فإن كان متألماً بفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على الإنفاق فاعلم أن الذي تراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالاً ممن ينفقه وهو بخيل به وإنما يقتطعه عن نفسه قهراً
وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة فإيلام النفس ليس مطلوباً لعينه بل لتأديبها وذلك يضاهي ضرب كلب الصيد والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى الضرب وإن كان صابراً على الضرب ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية ولا يحتاج إليهما في النهاية بل النهاية أن يصير ما كان مؤلماً في حقه لذيذاً عنده كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذاً وقد كان مؤلماً له أولا ولكن لما كان الناس كلهم إلا الأقلين في البداية بل قبل البداية بكثير كالصبيان أطلق الجنيد القول بأن الذي يؤلم صفته أفضل وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق فإذن إذا كنت لا تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر فإنه صحيح بالمعنى السابق إلى الأفهام فإذا أردت التحقيق ففصل فإن للصبر درجات أقلها ترك الشكوى مع الكراهية ووراءها الرضا وهو الرضا وهو مقام وراء الصبر ووراءه الشكر على البلاء وهو وراء الرضا إذ الصبر مع التألم والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به وكذلك الشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها ويدخل في جملتها أمور دونها فإن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر والاعتذار من قلة الشكر شكر والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر والعلم بأن الشكر أيضاً نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر وشكر الوسائط شكر إذ قال عليه السلام مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ (¬1) وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار الزكاة وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر
وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها وهي درجات مختلفة فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص باللفظ العام كما ورد في الأخبار والآثار
وقد روي عن بعضهم أنه قال رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن فسألته عن حاله فقال إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي كذلك كانت تهواني فاتفق أنها زوجت مني فليلة زفافها قلت تعالى حتى نحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فصلينا طول الليل فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة كل ليلة أليس كذلك يا فلانة قالت العجوز هو كما يقول الشيخ فانظر إليهما لو صبرا على بلاء الفرقة أو لو لم يجمع الله بينهما وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه فلا يخفى عليك أن هذا الشكر أفضل فإذن لا وقوف على حقائق المفضلات إلا بتفضيل كما سبق والله أعلم
¬_________
(¬1) حديث مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ تقدم في الزكاة