ربع المنجيات
كتاب التوبة
পৃষ্ঠা - ১১৬১
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوبة وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم
الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب وبذكره يصدر كل خطاب وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الثواب وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخي دونهم الحجاب وضرب بينهم وبين السعداء بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ونتوب إليه توبة من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم الغفور التواب ونمزج الخوف برجائنا مزج من لا يرتاب أنه مع كونه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب
ونصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه صلاة تنقذنا من هول المطلع يوم العرض والحساب وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب
أما بعد فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين ولأبينا آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء أجمعين وما أجدر بالأولاد الإقتداء بالآباء والأجداد فلا غرو إن أذنب الآدمي واجترم فهي شنشنة نعرفها من أخزم ومن أشبه أباه فما ظلم ولكن الأب إذا جبر بعد ما كسر وعمر بعد أن هدم فليكن النزوع إليه في كلا طرفي النفي والإثبات والوجود والعدم ولقد قرع آدم سن الندم وتندم على ما سبق منه وتقدم فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلت به القدم بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان والمتجرد للشر شيطان والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان فقد ازدوج في طينة الإنسان شائبتان واصطحب فيه سجيتان وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك آو إلى آدم أو إلى الشيطان فالتائب قد أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان والمصر على الطغيان مسجل على نفسه بنسب الشيطان فإما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد
পৃষ্ঠা - ১১৬২
لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجناً محكماً لا يخلصه إلا إحدى النارين نار الندم أو نار جهنم فالإحراق بالنار ضروري في تخليص جوهر الإنسان من خبائث الشيطان وإليك الآن اختيار أهون النارين والمبادرة إلى أخف الشرين قبل أن يطوى بساط الاختيار ويساق إلى دار الاضطرار إما إلى الجنة وإما إلى النار وإذا كانت التوبة موقعها من الدين هذا الموقع وجب تقديمها في صدر ربع المنجيات بشرح حقيقتها وشروطها وسببها وعلامتها وثمرتها والآفات المانعة منها والأدوية الميسرة لها ويتضح ذلك بذكر أربعة أركان
الركن الأول في نفس التوبة وبيان حدها وحقيقتها وأنها واجبة على الفور وعلى جميع الأشخاص وفي جميع الأحوال وأنها إذا صحت كانت مقبولة
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهو الذنوب وبيان انقسامها إلى صغائر وكبائر وما يتعلق بالعباد وما يتعلق بحق الله تعالى وبيان كيفية توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات وبيان الأسباب التي بها تعظم الصغائر
الركن الثالث في بيان شروط التوبة ودوامها وكيفية تدارك ما مضى من المظالم وكيفية
تكفير الذنوب وبيان أقسام التائبين في دوام التوبة الركن الرابع في المسبب الباعث على التوبة وكيفية العلاج في حل عقدة الإصرار من المذنبين
ويتم المقصود بهذه الأركان الأربعة إن شاء الله عز وجل الركن الأول في نفس التوبة بيان حقيقة التوبة وحدها
اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتثم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل فالعلم الأول والحال الثاني والفعل الثالث وَالْأَوَّلُ مُوجِبٌ لِلثَّانِي وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِلثَّالِثِ إِيجَابًا اقتضاه اطراد سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ أَمَّا الْعِلْمُ فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ كُلِّ مَحْبُوبٍ فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً بِيَقِينٍ غَالِبٍ عَلَى قَلْبِهِ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ مَهْمَا شَعَرَ بِفَوَاتِ مَحْبُوبِهِ تَأَلَّمَ فَإِنْ كَانَ فَوَاتُهُ بِفِعْلِهِ تَأَسَّفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ فَيُسَمَّى تَأَلُّمُهُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ الْمُفَوِّتِ لِمَحْبُوبِهِ نَدَمًا فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على القلب واستولى وانبعث مِنْ هَذَا الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بالحال والماضي وَبِالِاسْتِقْبَالِ أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ فَبِالتَّرْكِ لِلذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا وَأَمَّا بِالِاسْتِقْبَالِ فَبِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ وَأَمَّا بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول فيطلق اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَجْمُوعِهَا وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى النَّدَمِ وَحْدَهُ وَيُجْعَلُ العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وسلم الندم توبة
حديث الندم توبة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين // إذ لا يخلو الندم عن علم
পৃষ্ঠা - ১১৬৩
أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه فيه أعني ثمرته ومثمره وبهذا الاعتبار قيل في حد التوبة إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء وقال سهل ابن عبد الله التستري التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر وإذا فهمت هذه المعاني الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة
بَيَانُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَفَضْلُهَا
اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ ظَاهِرٌ بِالْأَخْبَارِ (¬1) وَالْآيَاتِ وَهُوَ وَاضِحٌ بِنُورِ البصيرة عند من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنياً عن قائد يقوده في كل خطوة فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوه وإما بصير يهدى إلى أول الطريق ثم يهتدي بنفسه وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله وربما يعوزه ذلك فيتحير فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر وخطاه قاصرة ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان وهو لشدة نور باطنه يجتزىء بأدنى بيان فكأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار فإذا مسته نار فهو نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولاً بنور البصيرة إلى التوبة ما هي ثم إلى الوجوب ما معناه ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة فلا يشك في ثبوته لها وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجباً معنى وقول القائل صار واجباً بالإيجاب حديث محض فإن مالا غرض لنا آجلاً وعاجلاً في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد وعلم أَنْ لَا سَعَادَةَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ إِلَّا فِي لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ مَحْجُوبٍ عنه يشقى لَا مَحَالَةَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِي محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أنه لَا مُبْعِدَ عَنْ لِقَاءِ اللَّهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعاً وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال بالكلية على الله طلباً للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله وإتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سَبَبُ كَوْنِهِ مَحْجُوبًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّ الِانْصِرَافَ عَنْ طَرِيقِ الْبُعْدِ وَاجِبٌ لِلْوُصُولِ إِلَى الْقُرْبِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ الانصراف بالعلم والندم والعزم فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم فلا يشك في أن المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول
¬_________
(¬1) الأخبار الدالة على وجوب التوبة أخرج مسلم من حديث الأغر المزنى يا أيها الناس توبوا إلى الله الحديث ولابن ماجه من حديث جابر يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا الحديث وسنده ضعيف
পৃষ্ঠা - ১১৬৪
إلى المحبوب وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون وهذا أمر على العموم وقال الله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله توبةً نصوحاً الآية وَمَعْنَى النَّصُوحِ الْخَالِصُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِيًا عَنِ الشوائب مأخوذ من النصح وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّوْبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال صلى الله عليه وسلم التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له (¬1) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته (¬2) وفي بعض الألفاظ قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله أنا ربك وأنت عبدي ويروى عن الحسن قال لما تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك فقال آدم عليه السلام يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين مقامي فأوحى الله إليه يا آدم ورثت ذويك التعب والنصب وورثتهم التوبة فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك ومن سألني المغفرة لم أبخل عليه لأني قريب مجيب يا آدم وأحشر التائبين من القبور مستبشرينضاحكين ودعاؤهم مستجاب والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات ومبعدات من الله تعالى وهذا داخل في وجوب الإيمان ولكن قد تدهش الغفلة عنه فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة ولا خلاف في وجوبها ومن معانيها ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال وذلك لا يشك في وجوبه وأما التندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب وهو روح التوبة وبه تمام التلافي فكيف لا يكون واجباً بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فات من العمر وضاع في سخط الله
فإن قلت تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار فكيف يوصف بالوجوب فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال بل العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة والقادر الكل من خلق الله وفعله والله خلقكم وما تعملون هذا هو الحق عند ذوي الأبصار وما سوى هذا ضلال
فإن قلت أفليس للعبد اختيار في الفعل والترك قلنا نعم وذلك لا يناقض قولنا إن الكل من خلق الله تعالى بل الاختيار أيضاً من خلق الله والعبد مضطر في الاختيار الذي له فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة
¬_________
(¬1) حديث التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني دون الأول وأما الشطر الأول فروى ابن أبي الدنيا في التوبة وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بسند ضعيف إن الله يحب الشاب التائب ولعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبى يعلى بسند ضعيف من حديث على إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب
(¬2) حديث لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية مهلكة الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود وأنس زاد مسلم في حديث أنس ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ورواه مسلم بهذه الزيادة من حديث النعمان بن بشير ومن حديث أبى هريرة مختصرا
পৃষ্ঠা - ১১৬৫
وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة وخلق العلم في القلب بأن هذا الطعام يسكن الشهوة وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختياراً ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضرورياً فتحصل الحركة فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة وانجزام الإرادة وهما أيضاً من خلق الله وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع وهما أيضاً من خلق الله تعالى ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيباً جرت به سنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة وما لم يخلق فيها حياة وما لم يخلق إرادة مجزومة ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلاً في النفس ولا ينبعث هذا الميل انبعاثاً تاماً ما لم يخلق علماً بأنه موافق للنفس إما في الحال أو في المآل ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم فالعلم والميل الطبيعي أبداً يستتبع الإرادة الجازمة والقدرة والإرادة أبداً تستردف الحركة وهكذا الترتيب في كل فعل والكل من اختراع الله تعالى ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم فيكون خلق الجسم شرطاً لحدوث الحياة لا أن الحياة تتولد من الجسم ويكون خلق الحياة شرطاً لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حياً ويكون خلق العلم شرطاً لجزم الإرادة لا أن العلم يولد الإرادة ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم ولا يدخل في الوجود إلا ممكن والإمكان ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب والعبد مجري هذه الحوادث المرتبة وهي مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيباً كلياً لا يتغير وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر وعن القضاء الكلي الأزلي العبارة بقوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجاري القضاء والقدر ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة وبعد خلق ميل قوى جازم في نفسه يسمى القصد وبعد علم بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت وقالوا يا أيها الرجل قد تحركت ورميت وكتبت ونودي من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وما قتلت إذ قتلت ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة فمن قائل إنه جبر محض ومن قائل إنه اختراع صرف ومن متوسط مائل إلى أنه كسب ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول وقد يطلع على الشهادة
পৃষ্ঠা - ১১৬৬
من لم يدخل في حيز الارتضاء ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات وعلم كيفية تسلسلها ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علماً يقيناً أن لا خالق إلا الله ولا مبدع سواه
فإن قلت قد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض فكيف يمكن فهم ذلك وهل يمكن إيصال ذلك إلى الإفهام بمثال فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على أذنه فقالوا قد عرفنا انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم فقال الذي لمس الرجل إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها وقال الذي لمس الناب ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس في غلظ الأسطوانة أصلاً بل هو مثل عمود وقال الذي لمس الأذن لعمري هو لين وفيه خشونة فصدق أحدهما فيه ولكن قال ما هو مثل عمود ولا هو مثل أسطوانة وإنما هو مثل جلد عريض غليظ فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل ولكنهم بحملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل فاستبصر بهذا المثال واعتبر به فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه وإن كان هذا كلاماً يناطح علوم المكاشفة ويحرك أمواجها وليس ذلك من غرضنا فلنرجع إلى ما كنا بصدده وهو بيان أن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاثة العلم والندم والترك وأن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعاً في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها وما هذا وصفه فاسم الوجوب يشمله
بيان أن وجوب التوبة على الفور
أما وجوبها على الفور فلا يُسْتَرَابُ فِيهِ إِذْ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ المتقصي عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل المكروه فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التى لا تتعلق بعمل بل هي من علوم المعاملة وكل علم يراد ليكون باعثاً على عمل فلا يقع التقصي عن عهدته ما لم يصر باعثاً عليه فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثاً لتركها فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا فَهُوَ فَاقِدٌ لِهَذَا الْجُزْءِ من الإيمان وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ (¬1) وما أراد به نفي الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصي وإنما أراد به نفي الإيمان لِكَوْنِ الزِّنَا مُبْعِدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبًا للمقت كما إذا قال الطبيب هذا سم فلا تتناوله فإذا تناوله يقال تناول وهو غير مؤمن لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود الطبيب وكونه طبيباً وغير مصدق به بل المراد أنه غير مصدق بقوله إنه سم مهلك فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلاً فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان وليس الإيمان باباً واحداً بل هو نيف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ومثاله قول القائل ليس الإنسان موجوداً واحداً بل هو نيف وسبعون موجوداً أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأضافر نقى البشرة عن
¬_________
(¬1) حديث لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ متفق عليه من حديث أبي هريرة
পৃষ্ঠা - ১১৬৭
الخبث حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها وهذا مثال مطابق فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان بالكلية كفقد الروح والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة لا أصل الروح وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التي تخلف عنها الأعضاء التي تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ولم تنتشر في الأعمال فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة لا ما يسقى بالطاعات على توالي الأيام والساعات حتى رسخ وثبت وقول العاصي للمطيع إني مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر أنا شجرة وأنت شجرة وما أحسن جواب شجرة الصنوبر إذ قالت ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف فعند ذلك تنقطع أصولك وتتناثر أوراقك وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبوت الأشجار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
وهذا أمر يظهر عند الخاتمة وإنما انقطع نياط العارفين خوفاً من دواعي الموت ومقدماته الهائلة التي لا يثبت عليها إلا الأقلون فالعاصي إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته وأن الموت غالباً لا يقع فجأة فيقال له الصحيح يخاف المرض ثم إذا مرض خاف الموت وكذلك العاصي يخاف سوء الخاتمة ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب الخلود في النار فالعاصى للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة فكذلك المعاصي فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة تلافياً لبدنه المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة وهو العمر فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التي فيها النعيم المقيم والملك العظيم وفي فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذى تتصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عشر عشير مدته إذ ليس لمدته آخر البتة فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا ينفع بعده الاحتماء فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين ويدخل تحت عموم قوله تعالى {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ولا يغرنك لفظ الإيمان فنقول المراد بالآية الكافر إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون باباً وأن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي حروف وفروع سيساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل فلا بقاء للأصل دون الفرع
পৃষ্ঠা - ১১৬৮
ولا وجود للفرع دون الأصل ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعاً يستدعي وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغني أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم
بيان أن وجوب التوبة عام في الأشخاص والأحوال فلا ينفك عنه أحد البتة
اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون فعمم الخطاب ونور البصيرة أيضاً يرشد إليه إذ معنى التوبة الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان ولا يتصور ذلك إلا من عاقل ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة التي هي وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة الأربعين وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ ومباديه تظهر بعد سبع سنين والشهوات جنود الشيطان والعقول جنود الملائكة فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة إذ لا يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور والظلمة ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه ثم يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئاً فشيئاً على التدريج فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} وإن كمل العقل وقوي كان أول شغله قمع حنود الشيطان بكسر الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات ولا معنى للتوبة إلا هذا وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان إلى طريق الله تعالى وليس في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التي هي عدة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضرورياً في حق كل إنسان نبياً كان أو غبياً فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام وقد قيل
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند
بل هو حكم أزلي مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية التي لا مطمع في تبديلها فإذن كل من بلغ كافراً جاهلاً فعليه التوبة من جهله وكفره فإذا بلغ مسلماً تبعاً لأبويه غافلاً عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم معنى الإسلام فإنه لا يغني عنه إسلام أبويه شيئاً ما لم يسلم بنفسه فإن فهم ذلك فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب حدود الله في المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال وهو من أشق أبواب التوبة وفيه هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه وكل هذا رجوع وتوبة فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل شخص يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم فخلقة الولد لا تتسع لما لم يتسع له خلقة الوالد أصلاً وأما بيان وجوبها عَلَى الدَّوَامِ وَفِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ
পৃষ্ঠা - ১১৬৯
أَنَّ كُلَّ بَشَرٍ فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْصِيَةٍ بجوارحه إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنِ الْهَمِّ بِالذُّنُوبِ بِالْقَلْبِ فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنِ الْهَمِّ فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ المتفرقة الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنْ خَلَا عَنْهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَلَهُ أسباب وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رُجُوعٌ عَنْ طَرِيقٍ إِلَى ضِدِّهِ وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ الرُّجُوعُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْخُلُوُّ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ عن هذا النقص وإنما يتفاوتون في المقادير فَأَمَّا الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً (¬1) الْحَدِيثَ وَلِذَلِكَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ
فإن قلت لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وإنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا فرائض وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع فما المراد بقولك التوبة واجبة في كل حال فاعلم أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ أَصْلًا وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوْبَةِ تَرْكَهَا فَقَطْ بَلْ تَمَامُ التَّوْبَةِ بِتَدَارُكِ مَا مَضَى وَكُلُّ شَهْوَةٍ اتَّبَعَهَا الْإِنْسَانُ ارْتَفَعَ مِنْهَا ظُلْمَةٌ إِلَى قَلْبِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ عَنْ نَفَسِ الْإِنْسَانِ ظُلْمَةٌ إِلَى وَجْهِ المرآة الصقيلة فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجهه الْمِرْآةِ عِنْدَ تَرَاكُمِهِ خَبَثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يكسبون فَإِذَا تَرَاكَمَ الرَّيْنُ صَارَ طَبَعًا فَيَطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ كَالْخَبَثِ عَلَى وَجْهِ الْمِرْآةِ إِذَا تَرَاكَمَ وَطَالَ زَمَانُهُ غَاصَ فِي جِرْمِ الْحَدِيدِ وَأَفْسَدَهُ وَصَارَ لَا يَقْبَلُ الصَّقْلَ بَعْدَهُ وَصَارَ كَالْمَطْبُوعِ مِنَ الْخَبَثِ وَلَا يَكْفِي فِي تَدَارُكِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ تَرْكُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَحْوِ تِلْكَ الْأَرْيَانِ الَّتِي انْطَبَعَتْ فِي الْقَلْبِ كَمَا لَا يَكْفِي فِي ظُهُورِ الصُّوَرِ في المرآة قطع الانفاس والبخارت الْمُسَوِّدَةِ لِوَجْهِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَحْوِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مِنَ الْأَرْيَانِ وَكَمَا يَرْتَفِعُ إِلَى الْقَلْبِ ظُلْمَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ فَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ نُورٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَتَنْمَحِي ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ بِنُورِ الطَّاعَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا (¬2) فَإِذَنْ لَا يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ عَنْ مَحْوِ آثَارِ السَّيِّئَاتِ عَنْ قَلْبِهِ بِمُبَاشَرَةِ حَسَنَاتٍ تُضَادُّ آثَارُهَا آثَارَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ هذا في قلب حصل أولاً صفاؤه وجلاؤه ثم أظلم بأسباب عارضة فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل إذ ليس شغل الصقل في إزالة الصدأ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة فهذه أشغال طويلة لا تنقطع أصلاً وكل ذلك يرجع إلى التوبة فأما قولك إن هذا لا يسمى واجباً بل هو فضل وطلب كمال فاعلم أن الواجب له معنيان أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك فيه كافة الخلق وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم فلو كلف الناس كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية ثم يؤدي ذلك إلى بطلان التقوى بالكلية فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى بل شغل الحياكة
¬_________
(¬1) حديث إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة أخرجه مسلم من حديث الأغر المزنى إلا أنه قال في اليوم مائة مرة وكذا عند أبي داود وللبخاري من حديث أبي هريرة إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة وفي رواية البيهقي في الشعب سبعين لم يقل أكثر وتقدم فى الأذكار والدعوات
(¬2) حديث أتبع السيئة الحسنة تمحها أخرجه الترمذي من حديث ابي ذر بزيادة في أوله وآخره وقال حسن صحيح وقد تقدم في رياضة النفس
পৃষ্ঠা - ১১৭০
والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار والواجب الثاني هو الذي لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْوُصُولِ بِهِ إِلَى الْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالتَّوْبَةُ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاجِبَةٌ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ في الصلاة للتطوع أي لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليه إلا بها فأما من رضي بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبة عليه لأجلها كما يقال العين والأذن واليد والرجل شرط في وجود الإنسان يعني أنه شرط لمن يريد أن يكون إنساناً كاملاً ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا فأما من قنع بأصل الحياة ورضي أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة وأصل النجاة كأصل الحياة وما وراء أصل النجاة من السعادات التي بها تنتهي الحياة يجري مجرى الأعضاء والآلات التي بها تتهيأ الحياة وفيه سعي الأنبياء والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل وعليه كان حرصهم وحواليه كان تطوافهم ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجراً في منامه فجاء إليه الشيطان وقال أما كنت تركت الدنيا للآخرة فقال نعم وما الذي حدث فقال توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ووضع رأسه على الأرض وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجباً في فتاوي العامة أفترى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم فى صلاته حتى نزعه (¬1) وشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلق (¬2) لم يعلم أن ذلك ليس واجباً في شرعه الذي شرعه لكافة عباده فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثراً في قلبه أثراً يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به أفترى أن الصديق رضي الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل إصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخلية المعدة عنه وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر وأن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله وبمكر الله وبمكامن الغرور بالله وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور فهذه أسرار من استنشق مبادىء روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر نوح وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ حَيْثُ قَالَ لَوْ لَمْ يَبْكِ الْعَاقِلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا عَلَى تَفْوِيتِ مَا مَضَى مِنْهُ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ لَكَانَ خَلِيقًا أَنْ يُحْزِنَهُ ذلك إِلَى الْمَمَاتِ فَكَيْفَ مَنْ يَسْتَقْبِلُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ بِمِثْلِ مَا مَضَى مِنْ جَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا مَلَكَ جَوْهَرَةً نَفِيسَةً وَضَاعَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ بَكَى عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ وَإِنْ ضَاعَتْ مِنْهُ وَصَارَ ضَيَاعُهَا سَبَبَ هَلَاكِهِ كَانَ بُكَاؤُهُ مِنْهَا أَشَدَّ وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنَ الْعُمْرِ بَلْ كُلُّ نَفَسٍ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا خَلَفَ لَهَا وَلَا بَدَلَ منها فإنها صالحة لأن تَوَصِّلُكَ إِلَى سَعَادَةِ الْأَبَدِ وَتُنْقِذُكَ مِنْ شَقَاوَةِ الأبد وأي جواهر أَنْفَسُ مِنْ هَذَا فَإِذَا ضَيَّعْتَهَا فِي الْغَفْلَةِ فقد خسرت خسراناً مبيناً وإن صرفتها إلى معصية
¬_________
(¬1) حديث نزعه صلى الله عليه وسلم الثوب الذي كان عليه في الصلاة تقدم في الصلاة أيضا
(¬2) حديث نزعه الشراك الجديد وإعادة الشراك الخلق تقدم في الصلاة أيضا
পৃষ্ঠা - ১১৭১
فقد هلكت هلاكاً فاحشاً فإن كنت لا تبكي على هذه المعصية فَذَلِكَ لِجَهْلِكَ وَمُصِيبَتُكَ بِجَهْلِكَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مصيبة لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة فإن نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته والناس نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لِكُلِّ مُفْلِسٍ إِفْلَاسُهُ وَلِكُلِّ مُصَابٍ مُصِيبَتُهُ وَقَدْ رفع الناس عن التدارك
قال بعض العارفين إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلاً وهو أول ما يظهر من معاني قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} وإليه الإشارة بقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها فقيل الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك الموت أخرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي وأتوب وَأَتَزَوَّدُ صَالِحًا لِنَفْسِي فَيَقُولُ فَنِيَتِ الْأَيَّامُ فَلَا يَوْمَ فَيَقُولُ فَأَخِّرْنِي سَاعَةً فَيَقُولُ فَنِيَتِ السَّاعَاتُ فَلَا سَاعَةَ فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ التَّوْبَةِ فَيَتَغَرْغَرُ بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة وَلِمِثْلِ هَذَا يُقَالُ {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إني تبت الآن} وقوله {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بجهالة ثم يتوبون من قريب} ومعناه عَنْ قُرْبِ عَهْدٍ بِالْخَطِيئَةِ بِأَنْ يَتَنَدَّمَ عَلَيْهَا وَيَمْحُوَ أَثَرَهَا بِحَسَنَةٍ يُرْدِفُهَا بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَاكَمَ الرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتْبِعِ السيئة الحسنة تمحها ولذلك قال لقمان لابنه يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة وَمَنْ تَرَكَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ بِالتَّسْوِيفِ كَانَ بَيْنَ خَطَرَيْنِ عَظِيمَيْنِ {أَحَدُهُمَا} أَنْ تَتَرَاكَمَ الظُّلْمَةُ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الْمَعَاصِي حَتَّى يَصِيرَ رَيْنًا وَطَبْعًا فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ الثَّانِي أَنْ يُعَاجِلَهُ الْمَرَضُ أَوِ الْمَوْتُ فَلَا يَجِدُ مُهْلَةً لِلِاشْتِغَالِ بالمحو ولذلك ورد في الخبر إن أكثر صياح أهل النار من التسويف (¬1) فما هلك من هلك إلا بالتسويف فيكون تسويده القلب نقداً وجلاؤه بالطاعة نسيئة إلى أن يختطفه الموت فَيَأْتِي اللَّهَ بِقَلْبٍ غَيْرِ سَلِيمٍ وَلَا يَنْجُو إلا من أتى الله بقلب سليم فالقلب أمانة الله تعالى عند عبده والعمر أمانة الله عنده وكذا سائر أسباب الطاعة فمن خان في الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر
قال بعض العارفين إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام {أحدهما} إذا خرج من بطن أمه يقول له عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إلى كيف تلقاني والثاني عند خروج روحه يقول عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب وإليه الإشارة بقوله تعالى أوفوا بعهدي أوف بعهدكم وبقوله تعالى {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}
¬_________
(¬1) حديث إن أكثر صياح أهل النار من التسويف لم أجد له أصلا
পৃষ্ঠা - ১১৭২
بيان أَنَّ التَّوْبَةَ إِذَا اسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا فَهِيَ مَقْبُولَةٌ لا محالة
اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة فالناظرون بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله تعالى وعلموا ان القلب خلق سليماً في الأصل وكل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة وأن نُورَ الْحَسَنَةِ يَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْقَلْبِ ظُلْمَةَ السيئة وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه فالقلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره وكما أن استعمال الثوب فِي الْأَعْمَالِ الْخَسِيسَةِ يُوَسِّخُ الثَّوْبَ وَغَسْلَهُ بِالصَّابُونِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ يُنَظِّفُهُ لَا مَحَالَةَ فَاسْتِعْمَالُ الْقَلْبِ فِي الشَّهَوَاتِ يُوَسِّخُ الْقَلْبَ وَغَسْلُهُ بِمَاءِ الدُّمُوعِ وَحُرْقَةِ النَّدَمِ يُنَظِّفُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُزَكِّيهِ وَكُلُّ قَلْبٍ زَكِيٍّ طَاهِرٍ فَهُوَ مَقْبُولٌ كَمَا أَنَّ كُلَّ ثوب نظيف فهو مَقْبُولٌ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ التَّزْكِيَةُ وَالتَّطْهِيرُ وَأَمَّا الْقَبُولُ فَمَبْذُولٌ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى فَلَاحًا فِي قوله {قد أفلح من زكاها} ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثراً متضادا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة كما يستعار للجهل ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم وأن بين النور والظلمة تضاداً ضرورياً لا يتصور الجمع بينهما فكأنه لم يتلق من الدين إلا قشوره ولم يعلق به إلا أسماؤه وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين بل عن حقيقة نفسه وصفات نفسه ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل وأعني به قلبه إذ بقلبه يعرف غير قلبه فكيف يعرف غيره وهو لا يعرف قلبه فَمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامَ لَا يَزُولُ وَالثَّوْبَ يُغْسَلُ بِالصَّابُونِ وَالْوَسَخَ لَا يَزُولُ إِلَّا أَنْ يَغُوصَ الْوَسَخُ لِطُولِ تَرَاكُمِهِ فِي تجاويف الثوب وخلله فَلَا يَقْوَى الصَّابُونُ عَلَى قَلْعِهِ فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ تَتَرَاكَمَ الذُّنُوبُ حَتَّى تَصِيرَ طَبْعًا وَرَيْنًا عَلَى الْقَلْبِ فَمِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ لَا يَرْجِعُ وَلَا يَتُوبُ نَعَمْ قَدْ يَقُولُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ قَدْ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ أَصْلًا مَا لَمْ يُغَيِّرْ صِفَةَ الثَّوْبِ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُضَادُّ الْوَصْفَ الْمُتَمَكِّنَ بِهِ فَهَذَا حَالُ امْتِنَاعِ أَصْلِ التَّوْبَةِ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الدُّنْيَا الْمُعْرِضِينَ عن الله بالكلية فهذا الْبَيَانُ كَافٍ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي قَبُولِ التوبة ولكنا نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار والآثار فَكُلُّ اسْتِبْصَارٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لا يوثق به وقد قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عن السيئات} وقال تعالى {غافر الذنب وقابل التوب} إلى غير ذلك من الآيات وقال صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة أحدكم الحديث والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالتَّوْبَةِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ وَلِمُسِيءِ النَّهَارِ إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا (¬1) وَبَسْطُ الْيَدِ كِنَايَةٌ عن طلب التوبة والطالب وراء القابل فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل وقال صلى الله عليه وسلم لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم (¬2) وقال أيضاً إن العبد ليذنب
¬_________
(¬1) حديث إن الله يَبْسُطُ يَدَهُ بِالتَّوْبَةِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ الحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار الحديث وفي رواية للطبراني لمسىء الليل أن يتوب بالنهار الحديث
(¬2) حديث لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب عليكم أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة وإسناده حسن بلفظ لو أخطأتم وقال ثم تبتم
পৃষ্ঠা - ১১৭৩
الذنب فيدخل به الجنة فقيل كيف ذلك يا رسول الله قال يكون نصب عينه تائباً منه فاراً حتى يدخل الجنة (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم كفارة الذنب الندامة (¬2) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّائِبُ مِنَ الذنب كمن لا ذنب له
ويروى أن حبشياً قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة قال نعم فولى ثم رجع فقال يا رسول الله أكان يراني وأنا أعملها قال نعم فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه (¬3)
ويروى إن الله عز وجل لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح فقال الله تعالى وعزتى وجلالى لا حجبت عنه التوبة ما دام الروح فيه (¬4)
وقال صلى الله عليه وسلم إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ (¬5) والأخبار في هذا لا تحصى
وأما الآثار فقد قال سعيد بن المسيب أنزل قوله تعالى إنه كان للأوابين غفوراً في الرجل يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب
وقال الفضيل قال الله تعالى بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم وحذر الصديقين أني إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم
وقال طلق بن حبيب إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العبد ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من ذكر خطيئة ألم بها فوجل منها قلبه محيت عنه في أم الكتاب
ويروى أن نبينا من أنبياء بنى إسرائيل أذنب فأوحى الله تعالى إليه وعزتي لئن عدت لأعذبنك فقال يا رب أنت أنت وأنا أنا وعزتك إن لم تعصمني لأعودن فعصمه الله تعالى
وقال بعضهم إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة فيقول إبليس ليتني لم أوقعه في الذنب
وقال حبيب بن ثابت تعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول أما إني قد كنت مشفقاً منه فيغفر له
ويروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال له إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكاً موكلاً به لا يغلق فاعمل ولا تيأس
وقال عبد الرحمن بن أبي القاسم تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر وقول الله تعالى إن ينتهوا
¬_________
(¬1) حديث إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا ولأبى نعيم في الحلية من حديث أبى هريرة إن العبد ليذنب الذنب فإذا ذكره أحزنه فإذا نظر الله إليه أنه أحزنه غفر له الحديث وفيه صالح المرى وهو رجل صالح لكنه مضعف في الحديث ولابن أبى الدنيا في التوبة عن ابن عمر إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه والحديث غير محفوظ قاله العقيلى
(¬2) حديث كفارة الذنب الندامة أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وفيه يحيى بن عمرو بن مالك اليشكرى ضعيف
(¬3) حديث أن حبشياً قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة قال نعم الحديث لم أجد له أصلا
(¬4) حديث إن الله لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال وعزتك لاخرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح الحديث أخرجه أحمد وابو يعلى والحاكم وصححه من حديث أبى سعيد ان الشيطان قال وعزتك يا رب لا أزال أغوى عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى أورده المصنف بصيغة ويروى كذا ولم يعزه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرته احتياطا
(¬5) حديث أن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ لم أجده بهذا اللفظ وهو صحيح المعنى وهو بمعنى أتبع السيئة الحسنة تمحها رواه الترمذي وتقدم قريبا
পৃষ্ঠা - ১১৭৪
يغفر لهم ما قد سلف فقال إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالاً ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام
وقال عبد الله بن سلام لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل إن العبد إذا عمل ذنباً ثم ندم عليه طرفة عين سقط عنه أسرع من طرفة عين
قال عمر رضي الله عنه اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة
وقال بعضهم أنا أعلم متى يغفر الله لي قيل ومتى قال إذا تاب علي
وقال آخر أنا من أن أحرم التوبة أخوف من أن أحرم المغفرة أي المغفرة من لوازم التوبة وتوابعها لا محالة
ويروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال إلهى أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة فإن رجعت إليك أتقبلني فسمع قائلاً يقول ولا يرى شخصاً أحببتنا فأحببناك وتركتنا فتركناك وعصيتنا فأمهلناك وإن رجعت إلينا قبلناك
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى إن لله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً فجنوا من غير جنون وتبلدوا من غير عي ولا بكم وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت واستظلوا تحت رواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة
فإن قلت أفتقول ما قالته المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله فأقول لا أعني بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله إلا ما يريده القائل بقوله إن الثوب إذا غسل بالصابون وجب زوال الوسخ وإن العطشان إذا شرب الماء وجب زوال العطش وانه إذا منع الماء مدة وجب العطش وأنه إذا دام العطش وجب الموت وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة بالإيجاب على الله تعالى بل أقول خلق الله تعالى الطاعة مكفرة للمعصية والحسنة ماحية للسيئة كما خلق الماء مزيلاً للعطش والقدرة متسعة بخلافه لو سبقت به المشيئة فلا واجب على الله تعالى ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب كونه لا محالة
فإن قلت فما من تائب إلا وهو شاك في قبول توبته والشارب للماء لا يشك في زوال عطشه فلم يشك فيه فأقول شكه في القبول كشكه في وجود شرائط الصحة فإن للتوبة أركاناً وشروطاً دقيقة كما سيأتي وليس يتحقق وجود جميع شروطها كالذي يشك في دواء شربه للإسهال فإنه هل يسهل وذلك لشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال والوقت وكيفية خلط الدواء وطبخه وجودة عقاقيره وأدويته فهذا وأمثاله موجب للخوف بعد التوبة وموجب للشك في قبولها لا محالة على ما سيأتي في شروطها إن شاء الله تعالى
পৃষ্ঠা - ১১৭৫
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهي الذنوب صغائرها وكبائرها
اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَرْكُ الذَّنْبِ وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً كَانَ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إلا به واجباً فمعرفة الذنوب إذن وَاجِبَةٌ وَالذَّنْبُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَرْكٍ أَوْ فعل وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها وليس ذلك من غرضنا ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها والله الموفق للصواب برحمته
بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد
اعلم أن للإنسان أوصافاً وأخلاقاً كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله ولكن تنحصر مثارات الذنوب فِي أَرْبَعِ صِفَاتٍ صِفَاتٍ رُبُوبِيَّةٍ وَصِفَاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ وصفات بهيمية وصفات سبعية وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثراً من الآثار كما يقتضي السكر والخل والزعفران في السكنجبين آثاراً مختلفة فَأَمَّا مَا يَقْتَضِي النُّزُوعَ إِلَى الصِّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ فمثل الكبر والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وَحُبِّ دَوَامِ الْبَقَاءِ وَطَلَبِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى وَهَذَا يَتَشَعَّبُ مِنْهُ جُمْلَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ غَفَلَ عَنْهَا الْخَلْقُ وَلَمْ يَعُدُّوهَا ذُنُوبًا وَهِيَ الْمُهْلِكَاتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ كَالْأُمَّهَاتِ لِأَكْثَرِ المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات الثَّانِيَةُ هِيَ الصِّفَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ الَّتِي مِنْهَا يَتَشَعَّبُ الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وَفِيهِ يَدْخُلُ الْغِشُّ وَالنِّفَاقُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْبِدَعِ والضلال الثالثة الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره والكلب وَالْحِرْصُ عَلَى قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَمِنْهُ يتشعب الزنا واللوط وَالسَّرِقَةُ وَأَكْلُ مَالِ الْأَيْتَامِ وَجَمْعُ الْحُطَامِ لِأَجْلِ الشَّهَوَاتِ الرَّابِعَةُ الصِّفَةُ السَّبُعِيَّةُ وَمِنْهَا يَتَشَعَّبُ الْغَضَبُ وَالْحِقْدُ وَالتَّهَجُّمُ عَلَى النَّاسِ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ وَاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا جُمَلٌ مِنَ الذُّنُوبِ وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة وهي الصفة الشيطانية ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهي الفخر والعز والعلو وطلب الكبرياء وقصد الاستيلاء على جميع الخلق فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر الذُّنُوبُ مِنْ هَذِهِ الْمَنَابِعِ عَلَى الْجَوَارِحِ فَبَعْضُهَا فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً كَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَإِضْمَارِ السُّوءِ لِلنَّاسِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ وَبَعْضُهَا عَلَى اللِّسَانِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَبَعْضُهَا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ واضح
قسمة ثانية اعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصي وتهييج أسباب الجراءة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف وما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركاً فالعفو فيه أرجى وأقرب وقد جاء في الخبر الدواوين ثلاثة ديوان يغفر وديوان لا يغفر وديوان لا يترك فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى وأما الديوان الذي لا يغفر فالشرك
পৃষ্ঠা - ১১৭৬
بالله تعالى وأما الديوان الذي لا يترك فمظالم العباد (¬1) أي لا بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها
قسمة ثالثة اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وقد كثر اختلاف الناس فِيهَا فَقَالَ قَائِلُونَ لَا صَغِيرَةَ وَلَا كَبِيرَةَ بَلْ كُلُّ مُخَالَفَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَهَذَا (¬2) إِذْ قَالَ تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كريماً وَقَالَ تَعَالَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللمم وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر (¬3) وفي لفظ آخر كفارات لما بينهن إلا الكبائر وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس (¬4) واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك فقال ابن مسعود هن أربع وقال ابن عمر هن سبع وقال عبد الله بن عمرو هن تسع وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع وقال مرة كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وقال غيره كُلُّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ من الكبائر وقال بعض السلف كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة وقيل إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة وقال ابن مسعود لما سئل عنها اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه فكل ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة وقال أبو طالب المكي الكبائر سبع عشر جمعتها من جملة الأخبار (¬5) وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر
¬_________
(¬1) حديث الدواوين ثلاثة ديوان يغفر الحديث أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقه بن موسى الدقيقى ضعفه ابن معين وغيره وله شاهد من حديث سلمان رواه الطبراني
(¬2) ضعيف
(¬3) حديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن إن اجتنبت الكبائر رواه مسلم من حديث أبى هريرة
(¬4) حديث عبد الله بن عمرو الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمن الغموس رواه البخاري
(¬5) الأخبار الواردة في الكبائر حكى المصنف عن أبي طالب المكى أنه قال الكبائر سبع عشرة جميعها من جملة الأخبار وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رحمته والأمن من مكره وشهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس والسحر وشرب الخمر والمسكر وأكل مال اليتيم ظلماً وأكل الربا والزنا واللواط والقتل والسرقة والفرار من الزحف وعقوق الوالدين انتهى وسأذكر ما ورد منها مرفوعا وقد تقدم أربعة منها في حديث عبد الله بن عمرو وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هى قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات ولهما من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قال قول الزور ولهما من حديث أنس سئل عن الكبائر قال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور ولهما من حديث ابن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أى قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أى قال أن تزانى حليلة جارك وللطبرانى من حديث سلمة بن قيس إنما هى أربع لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا وفى الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر وفيه موقوفا على عبد الله بن عمرو أعظم الكبائر شرب الخمر وكلاهما ضعيف وللبزار من حديث ابن عباس بإسناد حسن أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله وله من حديث بريدة أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل وفيه صالح ابن حبان ضعفه ابن معين والنسائى وغيرهما وله من حديث أبى هريرة الكبائر أولهن الاشراك بالله وفيه والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته وفيه خالد بن يوسف السمين ضعيف وللطبراني في الكبير من حديث سهل بن أبى حثمة في الكبائر والتعرب بعد الهجرة وفيه ابن لهيعة وله في الأوسط من حديث أبى سعيد الخدري الكبائر سبع وفيه والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة وفيه أبو بلال الأشجرى ضعفه الدارقطنى وللحاكم من حديث عبيد بن عمير عن أبيه الكبائر تسع فذكر منها
পৃষ্ঠা - ১১৭৭
واستحلال البيت الحرام وللطبرانى من حديث واثلة إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل على ما لم أقل وله أيضا من حديثه إن من أكبر الكبائر أن ينتفى الرجل من ولده ولمسلم من حديث جابر بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو من الكبائر شتم الرجل والديه ولأبى داود من حديث سعيد بن زيد من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وإنه الكبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بول الحديث ولأحمد في هذه القصة من حديث أبي بكرة أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس الحديث ولأبى داود والترمذي من حديث أنس عرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها سكت عليه أبو داود واستغر به البخاري والترمذي وروى ابن أبى شيبة في التوبة من حديث ابن عباس لا صغيرة مع إصرار وفيه أبو شيبة الخراسانى والحديث منكر يعرف به وأما الموقوفات فروى الطبرانى والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله وروى البيهقي فيه عن ابن عباس قال الكبائر الإشراك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وعقوق الوالدين وقتل النفس التى حرم الله وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وأكل الربا والسحر والزنا واليمين الغموس الفاجرة والغلول ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمان الشهادة وشرب الخمر وترك الصلاة متعمدا وأشياء مما فرضها الله ونقض العهد وقطيعة الرحم وروى ابن أبى الدنيا في التوبة عن ابن عباس كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة وفيه الربيع بن صبيح مختلف فيه وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أنس قوله لا صغيرة مع الإصرار وإسناده جيد فقد اجتمع من المرفوعات والموقوفات ثلاثة وثلاثون أو اثنان وثلاثون إلا أن بعضها لا يصح إسناده كما تقدم وإنما ذكرت الموقوفات حتى يعلم ما ورد في المرفوع وما ورد في الموقوف وللبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هى إلى السبعين أقرب وروى البيهقي أيضا فيه عن ابن عباس قال كل ما نهى الله عنه كبيرة والله اعلم (¬1) حديث من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم عزاه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبى داود من حديث سعيد بن زيد والذي عندهما من حديثه من أربى الربا استطالة الرجل في عرض المسلم بغير حق كما تقدم (¬2) حديث أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الكبائر أخرجه أحمد والبزار بسند صحيح وقال من الموبقات بدل الكبائر ورواه البخاري من حديث أنس وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن قرص وقال صحيح الاسناد // وقالت طائفة كل عمد كبيرة وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة
¬_________
(¬1) وغيرهم أربعة فِي الْقَلْبِ وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِهِ وَأَرْبَعٌ فِي اللِّسَانِ وَهِيَ شَهَادَةُ الزُّورِ وَقَذْفُ المحصن وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَهِيَ الَّتِي يُحِقُّ بِهَا بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلُ بِهَا حَقًّا وَقِيلَ هِيَ الَّتِي يقتطع بها مال أمرىء مسلم باطلاً ولو سواكاً من أراك وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة وثلاث في البطن وهي شرب الخمر والسكر مِنْ كُلِّ شَرَابٍ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا وَأَكْلُ الرِّبَا وَهُوَ يَعْلَمُ وَاثْنَتَانِ فِي الْفَرَجِ وَهُمَا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ وَهُمَا القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف الواحد من اثنتين وَالْعَشَرَةُ مِنَ الْعِشْرِينَ وَوَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ وهي عقوق الوالدين قال وَجُمْلَةُ عُقُوقِهِمَا أَنْ يُقْسِمَا عَلَيْهِ فِي حَقٍّ فَلَا يَبَرُّ قَسَمَهُمَا وَإِنْ سَأَلَاهُ حَاجَةً فَلَا يُعْطِيهِمَا وَإِنْ يَسُبَّاهُ فَيَضْرِبُهُمَا وَيَجُوعَانِ فَلَا يُطْعِمُهُمَا هذا ما قاله وهو قريب ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر وهي جناية على الأموال ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله كيف وفي الخبر من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم
(¬2) وهذا زائد على قذف المحصن وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الكبائر
পৃষ্ঠা - ১১৭৮
أم لا لا يصح ما لم يفهم معنى الكبيرة والمراد بها كقول القائل السرقة حرام أم لا ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ثم البحث عن وجوده في السرقة فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه وصغير بالإضافة إلى ما فوقه فالمضاجعة مع الأجنبية بالإضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربه صغيرة بالإضافة إلى قتله نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ونعني بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيراً إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبة واجبة عظيم وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه فيقول تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ثم يكون عظيماً وكبيرة لا محالة بالإضافة إذ منصوصات القرآن أيضاً تتفاوت درجاتها فهذه الإطلاقات لا حرج فيها وما نقل من ألفاظ الصحابة يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شيء من هذه الاحتمالات نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تَعَالَى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر فإن هذا إثبات حكم الكبائر وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ مُنْقَسِمَةٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ إِلَى مَا يُعْلَمُ اسْتِعْظَامُهُ إِيَّاهَا وَإِلَى مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا مَعْدُودَةٌ فِي الصَّغَائِرِ وَإِلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ فَلَا يُدْرَى حُكْمُهُ فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ يقول إني أردت بالكبائر عشراً أو خمساً ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ ثلاث من الكبائر (¬1) وفي بعضها سبع من الكبائر (¬2) ثم ورد أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر وهو خارج عن السبع والثلاث علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع وربما قصد الشرع إبهامه ليكون العباد منه على وجل كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها نعم لنا سبيل كلي يمكننا أن نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ونعرف أيضاً أكبر الكبائر فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعاً أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله وإليه الإشارة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيد لي ولا يكون العبد عبداً ما لم يعرف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية ولا بد أن يعرف نفسه وربه فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام الدنيا مزرعة الآخرة (¬3) فصار حفظ الدنيا أيضاً مقصوداً تابعاً للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويليه باب ما يسد المعايش التي بها حياة الناس فهذه ثلاث مراتب فحفظ
¬_________
(¬1) حديث ثلاث من الكبائر أخرجه الشيخان من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث الحديث وقد تقدم
(¬2) حديث سبع من الكبائر رواه الطبرانى في الأوسط من حديث أبى سعيد الكبائر سبع وقد تقدم وله في الكبير من حديث عبد الله بن عمر من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر الحديث ثم عدهن سبعا وتقدم عن الصحيحين حديث أبى هريرة اجتنبوا السبع الموبقات
(¬3) حديث الدنيا مزرعة الآخرة لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته الحديث وإسناده ضعيف
পৃষ্ঠা - ১১৭৯
المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبياً يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربه بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفراً الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضاً عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمناً ولا أن يكون آيساً ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ومراتب ذلك لاتنحصر وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحاً في أصل شرع قصد به الإصلاح وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل وينبغي أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربع طرق أحدها الخفية وهي السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالباً كيف يتدارك الثانى أكل مال اليتيم وهذا أيضاً من الخفية وأعني به في حق الولي والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه الثالث تفويتها بشهادة الزور الرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلاً وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع
পৃষ্ঠা - ১১৮০
في مثله وإذا لم يجعل الغضب الذي هو أكل مال الغير بغيره رضاه وبغير رضا الشرع من الكبائر فأكل الربا أكل برضا المالك ولكن دون رضا الشرع وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضاً الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى أنه غير داخل تحت الكبائر بل ينبغي أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضرورياً في الدين فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار من الزحف وحقوق الوالدين أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضاً لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ولكن هذا لا يجري في قطرة من الخمر فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو شرب ماء نجس والقطرة وحدها في محل الشك وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره فيعد ذلك من الكبائر بالشرع وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا فللتوقف فيه مجال وأما القذف فليس فيه إلا تناول الأعراض والأعراض دون الأموال في الريبة ولتناولها مراتب وأعظمها التناول بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا وقد عظم الشرع أمره وأظن ظنا غالباً أن الصحابة كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس وهو الذي نريده بالكبيرة الآن ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا يدل على كبره وعظمته بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنساناً يزني فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته فحده ليس ضرورياً في مصالح الدنيا وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة الحاجات فإذن هذا أيضاً يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع فأما من ظن أن له أن يشهد وحده أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغي أن يجعل في حقه من الكبائر وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك نفس أو مرض أو غيره وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين فهذا أيضاً ينبغي أن يكون من حيث القياس في محل التوقف وإذا قطع بأن سب الناس بكل شيء سوى الزنا وضربهم والظلم لهم بغصب أموالهم وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم وإجلائهم من أوطانهم ليس من الكبائر إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه فالتوقف في هذا أيضاً غير بعيد ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر فإذا رجع حاصل الأمر إلى أنا نعني بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم إلى ما علم أنه لا تكفره قطعاً وإلى ما ينبغي أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه والمتوقف فيه بعضه مظنون للنفي والإثبات وبعضه مشكوك فيه وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال
فإن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حده فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام لأن دار التكليف هي دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها كبيرة بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتماداً على الصلوات الخمس وكذلك اجتناب الكبائر
পৃষ্ঠা - ১১৮১
يكفر الصغائر بموجب قوله تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم ولكن اجْتِنَابَ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنِ امْرَأَةٍ ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيراً في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادراً ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلاً وكل من يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي مقدماته كسماع الملاهي والأوتار نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بَعْدُ وَلَا حَدٌّ جَامِعٌ بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مختلفات فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة (¬1) قيل ما ترك السنة قيل الخروج عن الجماعة ونكث الصفقة أن يبايع رجلاً ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهماً
فإن قلت الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر والورع عن الصغائر ليس شرطاً في قبول الشهادة وهذا من أحكام الدنيا فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر فلا خلاف في أن من يسمع الملاهي ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أواني الذهب والفضة لا تقبل شهادته ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر وقال الشافعي رضي الله عنه إذا شرب الحنفي النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفياً وإثباتاً لا تدور على الصغائر والكبائر بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالباً بضرورة مجاري العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب في بعض الأقوال وسماع الغيبة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائداً على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقي على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات وليس لبس الحرير وسماع الملاهي واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغي أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ثم آحاد هذه الصغائر التي لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر
¬_________
(¬1) حديث الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة الحديث أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة نحوه وقال صحيح الإسناد
পৃষ্ঠা - ১১৮২
بيان كيفية توزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في
الدنيا
اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة والآخرة من عالم الغيب والملكوت وأعني بالدنيا حالتك قبل الموت وبالآخرة حالتك بعد الموت في فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك يسمى القريب الداني منها دنيا والمتأخر آخرة ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك وغرضنا شرح الآخرة وهي عالم الملكوت ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ولذلك قال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (¬1) وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى التعبير فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال وأعني بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ويكفيك منه إن كنت فطناً ثلاثة أمثلة
فقد جاء رجل إلى ابن سرين فقال رأيتك كأن في يدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر قال صدقت وجاء رجل آخر فقال رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون فقال إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن أمك سبيت في صغرك لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد إلى الأصل فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره وقال له آخر رأيت كأني أقلد الدر في أعناق الخنازير فقال إنك تعلم الحكمة غير أهلها فكان كما قال والتعبير من أوله إلى آخره أمثال تعرفك طريق ضرب الأمثال وإنما نعني بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجده صادقاً وإن نظر إلى صورته وجده كاذباً فالمؤذن إن نظر إلى صورة الخاتم والختم به على الفروج رآه كاذباً فإنه لم يختم به قط وإن نظر إلى معناه وحده صادقاً إذ صدر منه روح الختم ومعناه وهو المنع الذي يراد الختم له وليس للأنبياء أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم وقدر عقولهم أنهم في النوم والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن (¬2) وهو من المثال الذي لا يعقله إلا العالمون فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي يسمى تأويلاً كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيراً فيثبت لله تعالى يداً وإصبعاً تعالى الله عن قوله علواً كبيراً وكذلك في قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته (¬3) فإنه لا يفهم من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك تعالى الله عن قوله علواً كبيراً من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتاً وحرفاً إلى غير ذلك من الصفات والقول فيه يطول وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثلة يكذب بها الملحد بجمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده كقوله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح (¬4) فيثور الملحد الأحمق ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول يا سبحان الله الموت عرض والكبش جسم فكيف ينقلب العرض جسماً وهل هذا إلا
¬_________
(¬1) حديث الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لم أجده مرفوعا وإنما يعزى إلى علي بن أبي طالب
(¬2) حديث قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن تقدم
(¬3) حديث إن الله خلق آدم على صورته تقدم
(¬4) حديث يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح الحديث متفق عليه من حديث أبى سعيد
পৃষ্ঠা - ১১৮৩
محال ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال وما يعقلها إلا العالمون ولا يدري المسكين أن من قال رأيت في منامي أنه جيء بكبش وقيل هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال المعبر صدقت والأمر رأيت وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط لأن المذبوح وقع اليأس منه فإذن المعبر صادق في تصديقه وهو صادق في رؤيته وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما في اللوح المحفوظ بمثال ضربه له لأن النائم إنما يحتمل المثال فكان مثاله صادقاً وكان معناه صحيحاً فالرسل أيضاً إنما يكلمون الناس في الدنيا وهي بالإضافة إلى الآخرة نوم فيوصلون المعاني إلى أفهامهم بالأمثلة حكمة من الله ولطفاً بعباده وتيسيراً لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل فقوله يؤتى بالموت في صورة كبش أملح مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعاني فيها بواسطتها ولذلك عبر القرآن بقوله كن فيكون عن نهاية القدرة وعبر صلى الله عليه وسلم بقوله قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن عن سرعة التقليب وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته فنقول الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس فنقول الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام هالكين ومعذبين وناجين وفائزين ومثاله في الدنيا أن يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ويخلى بعضهم فهم الناجون ويخلع على بعضهم فهم الفائزون فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ولا يخلي إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة وإهلاك الهالكين إما تحقيقا بجز الرقبة أو تنكيلاً بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد أنواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم فتقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ولا تنحصر فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون فمن هالك ومن معذب مدة ومن ناج يحل في دار السلامة ومن فائز والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلاً وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلف سنة وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر (¬1) وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي فلنذكر كيفية توزعها عليها
¬_________
(¬1) حديث أن آخر من يخرج من النار يعذب سبعة آلأف سنة أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبى هريرة في بسند ضعيف في حديث قال فيه وأطولهم مكثا فيه مثل الدنيا من يوم خلقت إلى يوم القيامة وذلك سبعة آلاف سنة
পৃষ্ঠা - ১১৮৪
الرتبة الأولى وهي رتبة الهالكين ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا ينال أصلاً إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق والجاحدون هم المنكرون والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق ولذلك قال العارفون ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاءونا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيمكأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ولذلك قيل
وفي فؤاد المحب نار جوى ... أحر نار الجحيم أبردها
ولا ينبغي أن تنكر هذا في عالم الآخرة إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤي من غلب عليه الوجد فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغضب قطعة من النار (¬1) واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث أنه يفرق بين جزءين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطه تأليف أشد إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاماً إن كنت من أرباب البصائر وأرباب القلوب ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم فالصبي لو خير بين ألم الحرمان على الكرة والصولجان وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان أصلاً ولم يعد ذلك ألماً وقال العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوباً ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذاً وذلك لمن استرقته صفات البهائم والسباع ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب له ليس له هذا الحس كمن لا سمع له ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور والألوان وليس لكل إنسان قلب ولو كان لما صح قوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلساً من القلب ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه وسائر الأعضاء
¬_________
(¬1) حديث الغضب قطعة من النار أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد نحوه وقد تقدم
পৃষ্ঠা - ১১৮৫
عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعاً ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه قل الروح من أمر ربي هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيباً وعالم الأمر أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادىء روائح المعنى المطوي تحت قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل لأن الرحمة على قدر المصيبة ومصيبة أولئك أكثر وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحكمته يختص بها من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلاى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر فلذلك لم نوردها
الرتبة الثانية رتبة المعذبين وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلا الله ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى قوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهو أن تذر في بالكلية غير الله ومعنى قوله تعالى الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأخذ من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب ومع كل نقصان ناران نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان ونار جهنم كما وصفها القرآن فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون بسبب أمرين أحدهما قوة الإيمان وضعفه والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته وإذ لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظالمين فيها جثياً ولذلك قال الخائفون من السلف إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة ولما روى الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادي يا حنان يا منان (¬1) قال الحسن يا ليتني كنت ذلك الرجل واعلم أن في الأخبار ما يدل على أن آخر من يخرج من النار بعد سبعة آلاف سنة وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة حتى قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث وبين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو وقد يضرب بالسياط وقد يعذب بنوع آخر من العذاب ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة وهو اختلاف الأنواع إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذاب بأخذ المال وقتل الولد واستباحة الحريم وتعذيب الأقارب والضرب وقطع اللسان واليد
¬_________
(¬1) حديث من يخرج من النار بعد ألف عام أنه ينادي يا حنان يا منان أخرجه أحمد وأبو يعلي من رواية أبى ظلال القسملى عن أنس وأبو ظلال ضعيف واسمه هلال بن ميمون
পৃষ্ঠা - ১১৮৬
والأنف والأذن وغيره فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع وهي بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها أما شدة العذاب فبشدة قبح السيئات وكثرتها وأما كثرته فبكثرتها وأما اختلاف أنواعه فباختلاف أنواع السيئات وقد انكشف هذا لأرباب القلوب مع شواهد القرآن بنور الإيمان وهو المعني بقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد وبقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وبقوله تعالى وان ليس للإنسان إلا ما سعى وبقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من كون العقاب والثواب جزاء على الأعمال وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه وجانب العفو والرحمة أرجح إذ قال تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم سبقت رحمتى غضبي (¬1) وقال تعالى وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً فإذن هذه الأمور الكلية من ارتباط الدرجات والدركات بالحسنات والسيئات معلومة بقواطع الشرع ونور المعرفة فأما التفصيل فلا يعرف إلا ظناً ومستنده ظواهر الأخبار ونوع حدس يستمد من أنوار الاستبصار بعين الاعتبار فنقول كل من أحكم أصل الإيمان واجتنب جميع الكبائر وأحسن جميع الفرائض أعني الأركان الخمسة ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها فيشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته إذ ورد في الأخبار إن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن وكذلك اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفراً للصغائر وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدفع الحساب وكل من هذا حاله فقد ثقلت موازينه فينبغي أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية نعم التحاقه باصحاب اليمين أو بالمقربين ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى فكذلك يتبع أصناف الإيمان لأن الإيمان إيمانان تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه وإيمان كشفي يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى وهم أيضاً على أصناف فمنهم السابقون ومنهم من دونهم وتفاوتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى ودرجات العارفين في المعرفة بالله تعالى لا تنحصر إذ الإحاطة بكلمة جلال الله غير ممكنة وبحر المعرفة ليس له ساحل وعمق وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم وبقدر ما سبق لهم من الله تعالى في الأزل فالطريق إلى الله تعالى لا نهاية لمنازله فالسالكون سبيل الله لا نهاية لدرجاتهم وأما المؤمن إيماناً تقليدياً فمن أصحاب اليمين ودرجته دون درجة المقربين وهم أيضاً على درجات فالأعلى من درجات أصحاب اليمين تقارب رتبته رتبة الأدنى من درجات المقربين هذا حال من اجتنب كل الكبائر وأدى الفرائض كلها أعني الأركان الخمسة التي هى النطق بكلمة الشهادة باللسان والصلاة والزكاة والصوم والحج فأما من ارتكب كبيرة أو كبائر أو أهمل بعض أركان الإسلام فإن تاب توبةً نصوحاً قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلاً وإن مات قبل التوبة فهذا أمر مخطر عند الموت إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه فيختم له بسوء الخاتمة لا سيما إذا كان إيمانه تقليدياً فإن التقليد وإن كان جزما فهو قابل للانحلال
¬_________
(¬1) حديث سبقت رحمتى غضب رضي الله عنهم أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة
পৃষ্ঠা - ১১৮৭
بادنى شك وخيال والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان إلا أن يعفو الله عذاباً يزيد على عذاب المناقشة في الحساب وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر ومن حيث اختلاف النوع بحسب اختلاف أصناف السيئات وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البله المقلدون في درجات أصحاب اليمين والعارفون المستبصرون في أعلى عليين ففي الخبر آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف (¬1) فلا تظن أن المراد به تقديره بالمساحة لأطراف الأجسام كان يقابل فرسخ بفرسخين أو عشرة بعشرين فإن هذا جهل بطريق ضرب الأمثال بل هذا كقول القائل أخذ منه جملاً واعطاه عشرة أمثاله وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار فإن لم يفهم من المثل إلا المثل في الوزن والثقل فلا تكون مائة دينار لو وضعت في كفة الميزان والجمل في الكفة الأخرى عشر عشيره بل هو موازنة معاني الأجسام وارواحها دون أشخاصها وهياكلها فإن الجمل لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته فروحه المالية وجسمه اللحم والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية وهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والفضة بل لو أعطاه جوهرة وزنها مثقال وقيمتها مائة دينار وقال أعطيته عشرة امثاله كان صادقاً ولكن لا يدرك صدقه إلا الجوهريون فإن روح الجوهرية لا تدرك بمجرد البصر بل بفطنة أخرى وراء البصر فلذلك يكذب به الصبي بل القروي والبدوي ويقول ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال ووزن الجمل ألف ألف مثقال فقد كذب في قوله إني أعطيته عشرة امثاله والكاذب بالتحقيق هو الصبي ولكن لا سبيل إلى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي يدرك به أرواح الجواهر وسائر الأموال فعند ذلك ينكشف له الصدق والعارف عاجز عن تفهيم المقلد القاصر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموازنة إذ يقول صلى الله عليه وسلم الجنة في السموات (¬2) كما ورد في الأخبار والسموات من الدنيا فكيف يكون عشرة أمثال الدنيا في الدنيا وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم الصبي تلك الموازنة وكذلك تفهيم البدوي وكما أن الجوهري مرحوم إذا بلي بالبدوي والقروي في تفهيم تلك الموازنة فالعارف مرحوم إذ يلى بالبليد الأبلة في تفهيم هذه الموازنة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ارحموا ثلاثة عالماً بين الجهال وغني قوم افتقر وعزيز قوم ذل (¬3) والأنبياء مرحومون بين الأمة بهذا السبب ومقاساتهم لقصور عقول الأمة فتنة لهم وامتحان وابتلاء من الله وبلاء موكل بهم سبق بتوكيله القضاء الأزلي وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل (¬4) فلا تظنن أن البلاء بلاء أيوب عليه السلام وهو الذى ينزل بالبدن فإن بلاء نوح عليه السلام أيضاً من البلاء العظيم إذ بلي بجماعة كان لا يزيدهم دعاؤه إلى الله إلا فرارا ولذلك لما تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام بعض الناس قال رحم الله اخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر (¬5) فإذن لا تخلو الأنبياء
¬_________
(¬1) حديث أن آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف متفق عليه من حديث ابن مسعود
(¬2) حديث كون الجنة في السموات أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة في أثناء حديث فيه فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن
(¬3) حديث ارحموا ثلاثة عالماً بين الجهال الحديث أخرجه ابن حبان في الضعفاء من رواية عيسى بن طهمان عن أنس وعيسى ضعيف ورواه فيه من حديث ابن عباس إلا أنه قال عالم تلاعب به الصبيان وفيه أبو البحترى واسمه وهب بن وهب أحد الكذابين
(¬4) حديث البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل أخرجه الترمذي وصححه والنسائى في الكبرى وابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص وقال قلت يا رسول الله أى الناس أشد بلاء فذكره دون ذكر الأولياء وللطبرانى من حديث فاطمة أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون الحديث
(¬5) حديث رحم الله أخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود
পৃষ্ঠা - ১১৮৮
عن الابتلاء بالجاحدين ولا تخلو الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين ولذلك قلما ينفك الأولياء عن ضروب من الإيذاء وأنواع البلاء بالإخراج من البلاد والسعاية بهم إلى السلاطين والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين وواجب أن يكون أهل المعرفة عند أهل الجهل من الكافرين كما يجب أن يكون المعتاض عن الجمل الكبير جوهرة صغيرة عند الجاهلين من المبذرين المضيعين فإذا عرفت هذه الدقائق فآمن بقوله عليه الصلاة والسلام أنه يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات وإياك أن تقتصر بتصديقك على ما يدركه البصر والحواس فقط فتكون حماراً برجلين لأن الحمار يشاركك في الحواس الخمس وإنما أنت مفارق للحمار بسر إلهي عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه فإدراك ما يخرج عن عالم الحواس الخمس لا يصادف إلا في عالم ذلك السر الذي فارقت به الحمار وسائر البهائم فمن ذهل عن ذلك وعطله وأهمله وقنع بدرجة البهائم ولم يجاوز المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه بتعطيلها ونسيها بالإعراض عنها فلا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فكل من لم يعرف إلا المدرك بالحواس فقد نسى الله إذ ليس ذات الله مدركاً في هذا العالم بالحواس الخمس وكل من نسي الله أنساه الله لا محالة نفسه ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقي إلى الأفق الأعلى وخان في الأمانة التي أودعه الله تعالى وانعم عليه كافراً لأنعمه ومتعرضاً لنقمته إلا أنه أسوأ حالاً من البهيمة فإن البهيمة تتخلص بالموت وأما هذا فعنده أمانة سترجع لا محالة إلى مودعها فإليه مرجع الأمانة ومصيرها وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة وإنما هبطت إلى هذه القالب الفاني وغربت فيه وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها وتعود إلى بارئها وخالقها إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة إذ المرجع والمصير للكل إليه إلا أنها ناكسة رأسها عن جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين ولذلك قال تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم فبين أنهم عند ربهم إلا أنهم منكوسون قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم وانتكست رءوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل وذلك حكم الله فيمن حرمه توفيقه ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول إلى منازل الجهال فهذا حكم انقسام من يخرج من النار ويعطى مثل عشرة أمثال الدنيا أو أكثر ولا يخرج من النار إلا موحد ولست أعني بالتوحيد ان يقول بلسانه لا إله إلا الله فإن اللسان من عالم الملك والشهادة فلا ينفع إلا في عالم الملك فيدفع السيف عن رقبته وأيدي الغانمين عن ماله ومدة الرقبة والمال مدة الحياة فحيث لا تبقى رقبة ولا مال لا ينفع القول باللسان وإنما ينفع الصدق في التوحيد وكمال التوحيد أن لا يرى الأمور كلها إلا من الله وعلامته أن لا يغضب على أحد من الخلق بما يجري عليه إذ لا يرى الوسائط وإنما يرى مسبب الأسباب كما سيأتي تحقيقه في التوكل وهذا التوحيد متفاوت فمن الناس من له من التوحيد مثل الجبال ومنهم من له مثقال ومنهم من له مقدار خردلة وذرة فمن في قلبه مثقال دينار من إيمان فهو أول من يخرج من النار وفي الخبر يقال أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان (¬1) وآخر من يخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وما بين المثقال والذرة على قدر تفاوت درجاتهم يخرجون بين طبقة المثقال وبين طبقة الذرة والموازنة بالمثقال والذرة على سبيل ضرب المثل كما ذكرنا في الموازنة بين أعيان الأموال وبين النقود وأكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد فديوان العباد هو الديوان الذي لا يترك فأما بقية السيئات فيتسارع العفو والتكفير إليها ففي الأثر إن العبد
¬_________
(¬1) حديث أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان الحديث تقدم
পৃষ্ঠা - ১১৮৯
ليوقف بين يدي الله تعالى وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب عرض هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيقضى من حسناته حتى لا تبقى له حسنة فتقول الملائكة يا ربنا هذا قد فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول الله تعالى ألقوا من سيئاتهم على سيئاته وصكوا له صكاً إلى النار وكما يهلك هو بسيئة غيره بطريق القصاص فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم إذ ينقل إليه عوضاً عما ظلم به وقد حكي عن ابن الجلاء أن بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه يستحله فقال لا أفعل ليس في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها وقال هو وغيره ذنوب إخواني من حسناتي أريد أن أزين بها صحيفتي فهذا ما أردنا أن نذكره من اختلاف العباد في المعاد في درجات السعادة والشقاوة وكل ذلك حكم بظاهر أسباب يضاهي حكم الطبيب على مريض بانه يموت لا محالة ولا يقبل العلاج وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف وعلاجه هين فإن ذلك ظن يصيب في أكثر الأحوال ولكن قد تثوب إلى المشرف على الهلاك نفسه من حيث لا يشعر الطبيب وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه وذلك من أسرار الله تعالى الخفية في أرواح الأحياء وغموض الأسباب التي رتبها مسبب الأسباب بقدر معلوم إذ ليس في قوة البشر الوقوف على كنهها فكذلك النجاة والفوز في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها يعبر عن ذلك السبب الخفي المفضي إلى النجاة بالعفو والرضا عما يفضي إلى الهلاك بالغضب والانتقام ووراء ذلك سر المشيئة الإلهية الأزلية التي لا يطلع الخلق عليها فلذلك يجب علينا أن نجوز العفو عن المعاصى وإن كثرت سيئاته الظاهرة والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة فإن الاعتماد على التقوى والتقوى في القلب وهو أغمض من أن يطلع عليه صاحبه فكيف غيره ولكن قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسبب خفي فيه يقتضي العفو ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد عن الله تعالى ولولا ذلك لم يكن العفو والغضب جزاء على الأعمال والأوصاف ولو لم يكن جزاء لم يكن عدلاً ولو لم يكن عدلاً لم يصح قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد ولا قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وكل ذلك صحيح فليس للإنسان إلا ما سعى وسعيه هو الذي يرى وكل نفس بما كسبت رهينه فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولما غيروا ما بانفسهم غير الله ما بهم تحقيقاً لقوله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب انكشافاً اوضح من المشاهدة بالبصر إذ للبصر يمكن الغلط فيه إذ قد يرى البعيد قريباً والكبير صغيراً ومشاهدة القلب لا يمكن الغلط فيها وإنما الشأن في انفتاح بصيرة القلب وإلا فما يرى بها بعد الانفتاح فلا يتصور فيه الكذب وإليه الإشارة بقوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى
الرتبة الثالثة رتبة الناجين وأعني بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم ولم يقصروا فيعذبوا ويشبه أن يكون هذا حال المجانين والصبيان من الكفار والمعتوهين والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد وعاشوا على البله وعدم المعرفة فلم يكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية فلا وسيلة تقربهم ولا جناية تبعدهم فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار بل ينزلون في منزلة بين المنزلتين ومقام بين المقامين عبر الشرع عنه بالأعراف وحلول طائفة من الخلق (¬1) فيه معلوم يقيناً من الآيات والأخبار ومن
¬_________
(¬1) حديث حلول طائفة من الخلق الأعراف أخرجه البزار من حديث أبي سعيد الخدري سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال هم رجال قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار ومنعتهم المعصيبة أن يدخلوا الجنة وهم على سور بين الجنة والنار الحديث وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف ورواه الطبرانى من رواية
পৃষ্ঠা - ১১৯০
أبى معشر عن يحيى بن شبل عن عمر بن عبد الرحمن المدنى عن أبيه مختصرا وابو معشر تجيح السندى ضعيف ويحيى بن شبل لا يعرف وللحاكم عن حذيفة قال أصحاب الأعراف قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقصرت سيئاتهم من الجنة الحديث وقال صحيح على شرط الشيخين وروى الثعلبى عن ابن عباس قال الأعراف موضع عال في الصراط عليه العباس وحمزة وعلى وجعفر الحديث هذا كذب موضوع وفيه جماعة من الكذابين (¬1) حديث عائشة أنها قالت لما مات بعض الصبيان عصفور من عصافير الجنة فأنكر ذلك رسول الله وقال ما يدريك رواه مسلم قال المصنف والأخبار في حق الصبيان متعارضة قلت روى البخارى من حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه وأما الرجل الطويل الذى في الروضة فإبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وللطبرانى من حديثه سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدمة أهل الجنة وفيه عباد بن منصور الناجى قاضى البصرة وهو ضعيف يروية عن عيسى ابن شعيب وقد ضعفه ابن حبان وللنسائى من حديث الأسود بن سريع كنا في غزاة لنا الحديث في قتلى الذرية وفيه ألا إن خياركم أبناء المشركين ثم قال لا تقتلوا ذرية وكل نسمة تولد على الفطرة الحديث وإسناده صحيح وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة كل مولود يولد على الفطرة الحديث وفى رواية لأحمد ليس مولود يولد إلا على هذه الملة ولأبي داود في آخر الحديث يا رسول الله فرأيت من يموت وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وفى الصحيحين من حديث ابن عباس سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وللطبرانى من حديث ثابت بن الحارث الأنصاري كانت يهودى إذا هلك لهم صبى صغير قالوا هو صديق فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقى أو سعيد الحديث وفيه عبد الله بن لهيعة ولأبى داود من حديث ابن مسعود الوائدة والموءودة في النار وله من حديث عائشة قلت يا رسول الله ذرارى المؤمنين فقال مع آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين قلت فذراري المشركين قال مع آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين وللطبرانى من حديث خديجة قلت يا رسول الله أين أطفالى منك قال في الجنة قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين قلت أطفالى قبلك قال في النار قلت بلا عمل قال لقد علم الله ما كانوا عاملين وإسناده منقطع بين عبد الله بن الحارث وخديجة وفى الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة في أولاد المشركين هم من آبائهم وفى رواية هم منهم // فإذن الإشكال والاشتباه أغلب في هذا المقام
الرتبة الرابعة رتبة الفائزين وهم العارفون دون المقلدين وهم المقربون السابقون فإن المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين وهؤلاء هم المقربون وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان والقدر الممكن ذكره ما فصله القرآن فليس بعد بيان الله بيان والذي لا يمكن التعبير عنه في هذا العالم فهو الذى أجمله قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لهم من قرة أعين وقوله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر عل قلب بشر والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ولو أعطوها لم يقنعوا بها ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فهي غاية السعادات ونهاية اللذات ولذلك قيل لرابعة العدوية رحمة الله عليها كيف رغبتك في الجنة فقالت الجار ثم الدار فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها بل عن كل شيء سواه حتى عن أنفسهم ومثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه فإنه في الحال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه ويعبر على هذه الحالة بأنه فنى عن نفسه ومعناه أنه صار مستغرقاً بغيره وصارت همومه هماً واحداً وهو محبوبه ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لانفسه ولا غير نفسه وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن
¬_________
(¬1) أنوار الاعتبار فأما الحكم على العين كالحكم مثلاً بان الصبيان منهم فهذا مظنون وليس بمستيقن والاطلاع عليه تحقيقاً في عالم النبوة ويبعد أن ترتقى إليه رتبة الأولياء والعلماء والأخبار في حق الصبيان أيضاً متعارضة حتى قالت عائشة رضي الله عنها لما مات بعض الصبيان عصفور من عصافير الجنة فأنكر ذلك الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال وما يدريك
পৃষ্ঠা - ১১৯১
تخطر في هذا العالم على قلب بشر كما لا يتصور أن تخطر صورة الألوان والألحان على قلب الأصم والأكمه إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره فعند ذلك يدرك حاله ويعلم قطعاً أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته فالدنيا حجاب على التحقيق وبرفعه ينكشف الغطاء فعند ذلك يدرك ذوق الطيبة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات والله الموفق بلطفه
بَيَانُ مَا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ
اعْلَمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ وَلِذَلِكَ قِيلَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ من الماء لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خير الأعمال أدومها وإن قل (¬1) والأشياء تستبان بأضداها وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل فالكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب إلا أن الكبيرة قلما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولو احق من جملة الصغائر فقلما يزني الزاني بغتة من غير مراودة ومقدمات وقلما يقتل بغتة من غير مشاحنة سابقة ومعاداة فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واطب الإنسان عليها عمره ومنها أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلها اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اسْتِعْظَامَهُ يَصْدُرُ عَنْ نُفُورِ الْقَلْبِ عنه وكراهيته له وَذَلِكَ النُّفُورُ يَمْنَعُ مِنْ شِدَّةِ تَأَثُّرِهِ بِهِ وَاسْتِصْغَارُهُ يَصْدُرُ عَنِ الْإِلْفِ بِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الْأَثَرِ فِي الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَطْلُوبُ تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة وقد جاء في الخبر المؤمن يرى ذنبه كالجبل فَوْقَهُ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَالْمُنَافِقَ يَرَى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره (¬2) وقال بعضهم الذنب الذي لا يغفر قول العبد ليت كل ذنب عملته مثل هذا وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله فإذا نظر إلى عظم من عصى به رأى الصغيرة كبيرة وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين لا صغيرة بل كل مخالفة فهي كبيرة وكذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم للتابعين وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الموبقات إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم فكانت الصغائر عندهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى من الكبائر وبهذا السبب يَعْظُمُ مِنَ الْعَالِمِ مَا لَا يَعْظُمُ مِنَ الْجَاهِلِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ الْعَامِّيِّ فِي أُمُورٍ لَا يُتَجَاوَزُ فِي أَمْثَالِهَا عَنِ الْعَارِفِ لِأَنَّ الذَّنْبَ وَالْمُخَالَفَةَ يَكْبُرُ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الْمُخَالِفِ وَمِنْهَا السُّرُورُ بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب الشقاوة فَكُلَّمَا غَلَبَتْ حَلَاوَةُ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْعَبْدِ كَبُرَتْ الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه حتى إن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه
¬_________
(¬1) حديث خير الأعمال أدومها وإن قل متفق عليه من حديث عائشة بلفظ أحب وقد تقدم
(¬2) حديث المؤمن يرى دنبه كالجبل فوقه الحديث أخرجه البخارى من رواية الحارث بن سويد قال حدثنا عبد الله ابن مسعود حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه فذكر هذا وحديث لله أفرح بتوبة العبد ولم يبين المرفوع من الموقوف وقد رواه البيهقى في الشعب من هذا
পৃষ্ঠা - ১১৯২
كما يقول أما رأيتني كيف مزقت عرضه ويقول المناظر في مناظرته أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساويه حتى أخجلته وكيف استخففت به وكيف لبست عليه ويقول المعامل في التجارة أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته وكيف غبنته في ماله وكيف استحمقته فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان به في الحمل عليها فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه وبسبب بعده من الله تعالى فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه وَمِنْهَا أَنْ يَتَهَاوَنَ بِسِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحِلْمِهِ عَنْهُ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُمْهِلُ مَقْتًا لِيَزْدَادَ بِالْإِمْهَالِ إِثْمًا فَيَظُنَّ أَنَّ تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به فيكون ذلك لِأَمْنِهِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَجَهْلِهِ بِمَكَامِنِ الْغُرُورِ بالله كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الذَّنْبَ وَيُظْهِرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِ أَوْ يَأْتِيَهُ فِي مَشْهَدِ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى سِتْرِ اللَّهِ الَّذِي سَدَلَهُ عَلَيْهِ وَتَحْرِيكٌ لِرَغْبَةِ الشَّرِّ فِيمَنْ أَسْمَعَهُ ذَنْبَهُ أَوْ أَشْهَدَهُ فِعْلَهُ فَهُمَا جِنَايَتَانِ انضمتا إلى جنايته فغلظت به فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعه وتفاحش الأمر وفي الخبر كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه (¬1) وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر فالإظهار كفران لهذه النعمة وقال بعضهم لا تذنب فإن كان ولا بد فلا ترغب غيرك فيه فتذنب ذنبين ولذلك قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف وقال بعض السلف ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُذْنِبُ عَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِذَا فَعَلَهُ بِحَيْثُ يُرَى ذَلِكَ مِنْهُ كَبُرَ ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين ودخوله على السلاطين وتردده عليهم ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم وإطلاق اللسان في الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة وقصده الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه وَفِي الْخَبَرِ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقِصُ من أوزارهم شيئاً (¬2) قال تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل وقال ابن عباس ويل للعالم من الاتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق وقال بعضهم مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها وفي الإسرائيليات أن عالماً كان يضل الناس بالبدعة ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهراً فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر فعليهم وظيفتان إحداهما ترك الذنب والأخرى إخفاءه وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا فإذا ترك التجمل والميل إلى الدنيا وقنع منها باليسير ومن الطعام بالقوت ومن الكسوة بالخلق فيتبع عليه ويقتدي به العلماء والعوام فيكون له مثل ثوابهم وإن مال إلى التجمل مالت طباع من دونه إلى التشبه به ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين
¬_________
(¬1) حديث كل الناس معافى إلا المجاهرين الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة بلفظ كل أمتى وقد تقدم
(¬2) حديث مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عمل بها الحديث اخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله وقد تقدم فى آداب الكسب
পৃষ্ঠা - ১১৯৩
وجمع الحطام من الحرام ويكون هو السبب في جميع ذلك فحركات العلماء فِي طَوْرَيِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَتَضَاعَفُ آثَارُهَا إِمَّا بالربح وإما بالخسران وهذا القدر كاف في تفاصيل الذنوب التى التوبة توبة عنها
الركن الثالث في تمام التوبة وشروطها ودوامها إلى آخر العمر
قد ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نَدَمٍ يُورِثُ عزماً وقصداً وذلك الندم أورثه العلم بكون المعاصي حائلاً بينه وبين محبوبه ولكل واحد من العلم والندم والعزم دوام وتمام ولتمامها علامة ولدوامها شرط فلا بد من بيانها أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب التوبة وسيأتي وأما الندم فهو تَوَجُّعُ الْقَلْبِ عِنْدَ شُعُورِهِ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ وَعَلَامَتُهُ طول الحسرة والحزن وانسكاب الدمع وطول البكاء والفكر فمن استشعر عقوبة نازلة بولده أو ببعض أعزته طَالَ عَلَيْهِ مُصِيبَتُهُ وَبُكَاؤُهُ وَأَيُّ عَزِيزٍ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَشَدُّ مِنَ النار وأي شيء أَدَلُّ عَلَى نُزُولِ الْعُقُوبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَأَيُّ مُخْبِرٍ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ حَدَّثَهُ إنسان واحد يسمى طبيباً أن مرض ولده المريض لَا يَبْرَأُ وَأَنَّهُ سَيَمُوتُ مِنْهُ لَطَالَ فِي الْحَالِ حُزْنُهُ فَلَيْسَ وَلَدُهُ بِأَعَزَّ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا الطَّبِيبُ بِأَعْلَمَ وَلَا أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا الْمَوْتُ بِأَشَدَّ مِنَ النَّارِ وَلَا الْمَرَضُ بِأَدَلَّ عَلَى الْمَوْتِ مِنَ الْمَعَاصِي عَلَى سخط الله تعالى والتعرض بها للنار فَأَلَمُ النَّدَمِ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ كَانَ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِهِ أَرْجَى فَعَلَامَةُ صِحَّةِ النَّدَمِ رِقَّةُ القلب وغزارة الدمع وفي الخبر جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة (¬1) وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ تَتَمَكَّنَ مَرَارَةُ تِلْكَ الذُّنُوبِ في قلبه بدلاً عن حلاوتها فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة وفي الإسرائيليات أن الله سبحانه وتعالى قال لبعض أنبيائه وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين قي العبادة ولم ير قبول توبته فقال وعزتى وجلالى لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه
فإن قلت فالذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد مرارتها فأقول من تناول عسلاً كان فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه ثم مرض وطال مرضه وألمه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة فهل تنفر نفسه عن ذلك العسل أم لا فإن قلت لا فهو جحد للمشاهدة والضرورة بل ربما تنفر عن العسل الذي ليس فيه سم أيضاً لشبهه به فَوِجْدَانُ التَّائِبِ مَرَارَةَ الذَّنْبِ كَذَلِكَ يَكُونُ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فَذَوْقُهُ ذَوْقُ الْعَسَلِ وَعَمَلُهُ عَمَلُ السُّمِّ وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ وَلَا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان ولم عَزَّ مِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ عَزَّتِ التَّوْبَةُ وَالتَّائِبُونَ فَلَا تَرَى إِلَّا مُعْرِضًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَهَاوِنًا بِالذُّنُوبِ مُصِرًّا عَلَيْهَا فَهَذَا شَرْطُ تَمَامِ النَّدَمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَدُومَ إِلَى الْمَوْتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِدَ هَذِهِ الْمَرَارَةَ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ وإن لم يكن قد ارتكبها من قبل كما يجد متناول السم في العسل النفرة من الماء البارد مهما علم ان فيه مثل ذلك السم إذ لم يكن ضرره من العسل بل مما فيه ولم يكن ضرر التائب من سرقته وزناه من حيث إنه سرقة وزنا بل من حيث إنه من مخالفة أمر الله تعالى وذلك جار في كل ذنب وأما القصد الذى ينبعث منه هو إِرَادَةُ التَّدَارُكِ فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَهُوَ يُوجِبُ ترك كل مَحْظُورٍ هُوَ مُلَابِسٌ لَهُ وَأَدَاءَ كُلِّ فَرْضٍ وهو مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَاضِي وَهُوَ تَدَارُكُ مَا فَرَطَ وَبِالْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ دَوَامُ الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت
وشرط صحتها فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه بالسن او الاحتلام ويفتش عما مضى من
¬_________
(¬1) حديث جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة لم أجده مرفوعا وهو من قول عون بن عبد الله رواه ابن أبى الدنيا في التوبة قال جالسوا التوابين فإن رحمه الله الى النادم أقرب وقال أيضا فالموعظة إلى قلوبهم أسرع وهم إلى الرقة أقرب وقال أيضا التائب أسرع دمعا وأرق قلبا
পৃষ্ঠা - ১১৯৪
عمره سنة سنة وشهراً شهرا ويوما يوماً ونفساً نفساً وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها
فإن كان قد ترك صلاة او صلاها في ثوب نجس أو صلاها في بنية غير صحيحة لجهلة بشرط النية فيقضيها عن آخرها فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن انه أداه ويقضي الباقي وله أن ياخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد
وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمداً أو نسى النبة بالليل ولم يقض فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه
وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه لا من زمان البلوغ فإن الزكاة واجبة في مال الصبي فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته فإن أداه لا على وجه يوافق مذهبه بان لم يصرف إلى الأصناف الثمانية أو أخرج البدل وهو على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى فيقضي جميع ذلك فإن ذلك لا يجزيه اصلاً وحساب الزكاة ومعرفة ذلك يطول ويحتاج فيه إلى تأمل شاف ويلزمه أن يسأل عن كيفية الخروج عنه من العلماء
وأما الحج فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يتفق له الخروج والآن قد أفلس فعليه الخروج فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد فإن لم يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه الزكاة او الصدقات ما يحج به فإن إن مات قبل الحج مات عاصياً قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانيا (¬1) والعجز الطارىء بعد القدرة لا يسقط عنه الحج فهذا طريق تفتيشه عن الطاعات وتداركها
وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ومس مصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة تمحها (¬2) بل من قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر ويكفر القعود في المسجد جنباً بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة ويكفر مس المصحف محدثاً بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفاً ويجعله وقفاً ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه وعد جميع المعاصى غير ممكن وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة فإن المرض يعالج بضده فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة
¬_________
(¬1) حديث من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً الحديث تقدم فى الحج
(¬2) حديث اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تمحها أخرجه الترمذى من حديث أبى ذر وصححه وتقدم أوله في آداب الكسب وبعضه فى أوائل التوبة وتقدم فى رياضة النفس
পৃষ্ঠা - ১১৯৫
به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضاً مؤثراً في المحو فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأثر اتباع الدنيا في القلب السرو بها والحنين إليها فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم قال صلى الله عليه وسلم من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم (¬1) وفي لفظ آخر إلا الهم بطلب المعيشة وفي حديث عائشة رضي الله عنها إذا كثرت ذنوب العبد ولم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه (¬2) ويقال إن الهم الذي يدخل على القلب والعبد لا يعرف هو ظلمة الذنوب والهم بها وشعور القلب بوقفه الحساب وهول المطلع
فإن قلت هم الإنسان غالبا بما له وولده وجاهه وهو خطيئة فكيف يكون كفارة فاعلم أن الحب له خطيئة والحرمان عنه كفارة ولو تمتع به لتمت الخطيئة فقد روي أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فقال له كيف تركت الشيخ الكئيب فقال قد حزن عليك حزن مائة ثكلى قال فما له عند الله قال أجر مائة شهيد فإذن الهموم ايضاً مكفرات حقوق الله فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى
وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضاً فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان إليهم ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب لأن تلك إحياء إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده والإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه فيقابل الإعدام بالإيجاد وبهذا تعرف أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع حيث كفر القتل بإعتاق رقبة ثم إذا فعل ذلك كله لم يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد ومظالم العباد إما في النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب أعني به الإيذاء المحض
أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فنوبته بتسليم الدية ووصولها إلى المستحق إما منه او من عاقلته وهو في عهدة ذلك قبل الوصول وإن كان عمداً موجباً للقصاص فبالقصاص فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولي الدم ويحكمه في روحه فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب او سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالي استيفاء حق الله تعالى بل عليه أن بستر الله تعالى ويقيم حد الله على نفسه بانواع المجاهدة والتعذيب فالعفو في محض حقوق الله تعالى قريب من التائبين النادمين فإن أمر هذه إلى الوالي حتى أقام عليه الحد وقع موقعه وتكون توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى بدليل ما روي أن ما عز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظلمت نفسى وزنيت وإنى أريد أن تطهرني فرده فلما كان من الغد اتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فلما كان في الثالثة أمر به فحفر له حفرة ثم أمر به
¬_________
(¬1) حديث من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم وفي لفظ أخر إلا الهم في طلب المعيشة أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والخطيب في التلخيص من حديث أبى هريرة بسند ضعيف تقدم فى النكاح
(¬2) حديث إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له أعمال تكفرها أدخل الله عليه الغموم وتقدم أيضا فى النكاح وهو عند أحمد من حديث عائشة بلفظ ابتلاه الله بالحزن
পৃষ্ঠা - ১১৯৬
فرجم فكان الناس فيه فريقين فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أصدق من توبته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو سعتهم (¬1) وجاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني فردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك تريد أن ترددنى كما رددت ما عزا فو الله إني لحبلى فقال صلى الله عليه وسلم أما الآن فاذهبي حتى تضعي فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة فقالت هذا قد ولدته قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت يانبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال مهلا يا خالد فو الذى نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلي عليها ودفت (¬2)
وأما القصاص وحد القذف فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه وإن كان المتناول مالا تناوله بِغَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ غَبْنٍ فِي مُعَامَلَةٍ بِنَوْعِ تَلْبِيسٍ كَتَرْوِيجِ زَائِفٍ أَوْ سَتْرِ عَيْبٍ مِنَ الْمَبِيعِ أَوْ نَقْصِ أُجْرَةِ أَجِيرٍ أَوْ منع أجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل من أول مدة وجوده فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولي قد قصر فيه فإن لم يفعل كان ظالماً مطالباً به إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ فِي الْقِيَامَةِ وَلْيُنَاقِشْ قَبْلَ أَنْ يُنَاقَشَ فَمَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي الدنيا طال في الآخرة حسابه فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه وليكتب أسامي أصحاب المظالم واحداً واحداً وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ولكن على كل واحد منهم أن يفعل منه ما يقدر عليه فَإِنْ عَجَزَ فَلَا يَبْقَى لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئاته أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره فَهَذَا طَرِيقُ كُلِّ تَائِبٍ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف وربما يكون الأجل قريباً فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات هذا حكم المظالم الثابتة في ذمته
أما أَمْوَالُهُ الْحَاضِرَةُ فَلْيَرُدَّ إِلَى الْمَالِكِ مَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا مُعَيَّنًا وَمَا لَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَإِنِ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْحَرَامِ بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله في كتاب الحلال والحرام
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمُشَافَهَةِ النَّاسِ بِمَا يسوؤهم أو يعيهم في الغيبة فيطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحداً واحداً منهم ومن مات أو غاب فَقَدْ فَاتَ أَمْرُهُ وَلَا يُتَدَارَكُ إِلَّا بِتَكْثِيرِ الحسنات لتؤخذ منه عوضاً في القيامة وأما من وَجَدَهُ وَأَحَلَّهُ بِطِيبِ قَلْبٍ مِنْهُ فَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وعليه أن يعرفه قدر جنايته
¬_________
(¬1) حديث اعتراف ما عز بالزنا ورده صلى الله عليه وسلم حتى اعترف اربعا وقوله لقد تاب توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة بن الخصيب
(¬2) حديث الغامدية واعترافها بالزنا ورجمها وقوله صلى الله عليه وسلم لقد تابت توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة وهو بعض الذى قبله
পৃষ্ঠা - ১১৯৭
وتعرضه له فالاستحلال المبهم لا يكفي وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم آذاه مهما شوفه به فقد انسد عليه طريق الاستحلال فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب
وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه فإن الإنسان عبد الإحسان وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ ذلك منه عوضاً في القيامة بحكم الله به عليه كمن أتلف في الدنيا ما لا فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين وفي المتفق عليه من الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة قال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة (¬1) وفي رواية فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها وفي رواية فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له فبهذا تعرف أنه لاخلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة فلا بد للتائب من تكثير الحسنات هذا حكم القصد المتعلق بالماضي
وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة تضره مثلاً فيعزم عزماً جزماً أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه
¬_________
(¬1) حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين فسأل عن أعلم أهل الأرض الحديث هو متفق عليه كما قال المصنف من حديث أبى سعيد
পৃষ্ঠা - ১১৯৮
فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائباً مع الإصرار عليه ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات وقد قال بعضهم من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع مرار لم يبتل بها وقال آخر من تاب من ذنب واستقام سبع سنين لم يعد إليه أبداً وَمِنْ مُهِمَّاتِ التَّائِبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب كالذي يتوب عن الشرب والزنا والغصب مثلاً وليست هذه توبة مطلقة
وقد قال بعض الناس إن هذه التوبة لا تصح وقال قائلون تصح ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل بل نقول لمن قال لا تصح إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلاً بلا وجوده كعدمه فما أعظم خطأك فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب لقلته ونقول لمن قال تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولاً يوصل إلى النجاة أو الفوز فهذا أيضاً خطأ بل النجاة والفوز بترك الجميع هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله فإن قال من ذهب إلى أنها لا تصح إني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم وإنما يندم على السرقة مثلاً لكونها معصية لا لكونها سرقة ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية فإن العلة شاملة لهما إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو الزنا فكيف يتوجع على البعض دون البعض فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون البعض ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر فإن استحال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحد وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصي آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة فإذن معنى عدم الصحة أن الله تعالى وعد التائبين رتبة وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول نقول إن العقد لا يصح أي لم تترتب عليه الثمرة وهو الملك وتحقيق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه وثمرة الندم تكفير ما سبق فترك السرقة لا يكفر السرقة بل الندم عليها ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع المعاصي وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء
فنقول التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الكبائر أو عن كبيرة دون كبيرة أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فأمر ممكن لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني على دابته فيكون خائفاً من الجناية على الأهل مستحقراً للجناية على الدابة والندم بحسب استعظام الذنب واعتقاد كونه مبعداً عن الله تعالى وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر التائبون في الأعصار الخالية ولم يكن أحد منهم معصوماً فلا تستدعي التوبة العصمة والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيراً شديداً ويحذره السكر تحذيراً أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلاً فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده وإن أكلهما جميعاً بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر
الثاني أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض وهذا أيضاً ممكن لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند
পৃষ্ঠা - ১১৯৯
الله كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه أن ديوان العباد لا يترك وما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه فهذا أيضاً ممكن كما في تفاوت الكبائر والصغائر لأن الكبائر أيضاً متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد مرتكبها ولذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً إذ يتضح له أن الخمر مفتاح الشرور وأنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي وهو لا يدرى فبحسب ترجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركا في المستقبل وندماً على الماضي
الثالث أن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة كالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجري مجراه وهو مصر على شرب الخمر فهو أيضاً ممكن ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ونادم على فعله ندماً إما ضعيفاً وإما قوياً ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم موجوداً ولكن لا يكون ملياً بتحريك العزم ولا قوياً عليه فإن سلم عن شهوة أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه وتكون له ضراوة ما بالغيبة وثلب الناس والنظر إلى غير المحرم وخوفه من الله قد بلغ مبلغاً يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك بل يقول هذا الفاسق في نفسه إن قهرنى الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية بل أجاهده في بعض المعاصي فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم ولقيل له إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح وإن كانت لله فاترك الفسق لله فإن أمر الله فيه واحد فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب بترك الفسق وهذا محال بأن يقول لله تعالى على أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان وأناملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عنى بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي فكيف لا يتصور هذا وهو حال كل مسلم إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته ولاسبب له إلا هذا وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم والندم يورث العزم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الندم توبة ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال التائب من الذنب كمن لا ذنب له ولم يقل التائب من الذنوب كلها وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل أن التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة لأنها متمائلة في حق الشهوة وفي حق التعرض إلى سخط الله تعالى نعم يجوز أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ لتفاوتهما في اقتضاء السخط ويتوب عن الكثير دون القليل لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول قليلها ولكن لا يستكثر منها فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ولا يتوب عن مثله بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفاً لما بقي عليه إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم فيتصور اختلاف حاله في الترك فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي
فإن قلت هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة فأقول لا لأن التوبة عبارة عن ندم
পৃষ্ঠা - ১২০০
يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه لا بتركه إياه ولكني أقول لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها فإني أرجو أن يكون ذلك مكفراً لذنبه وما حيا عنه سيئته إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغاً أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده فإذن لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه فإن كل من لا يشتهي شيئاً يقدر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف والله تعالى مطلع على ضميره وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه بل الظاهر أنه يقبله
والحقيقة في هذا كله ترجع إلى ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين أحدهما حرقة الندم والآخر شدة المجاهدة بالترك في المستقبل وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة ولكن ليس محالاً أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة ولولا هذا لقلنا إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلاً
فإن قلت إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب والآخر بقي في نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها فأيهما أفضل فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه فقال أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني إن المجاهد أفضل لأن له مع التوبة فضل الجهاد وقال علماء البصرة ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة
والحق فيه أن الذي انقطع نزوع نفسه له حالتان إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها بفتور في نفس الشهوة فقط فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة قد دل على قوة نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين وعلى قوة الدين وأعني بقوة الدين قوة الإرادة التي تنبعث بإشارة اليقين وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة الشياطين فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعاً وقول القائل إن هذا أسلم إذ لو فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ وهو كقول القائل العنين أفضل من الفحل لأنه في أمن من خطر الشهوة والصبي أفضل من البالغ لأنه أسلم والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه لأن المفلس لا عدو له والملك ربما يغلب مرة وإن غلب مرات وهذا كلام رجل سليم القلب قاصر النظر على الظواهر غير عالم بأن العز في الأخطار وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار بل كقول القائل الصياد الذي ليس له فرس ولا كلب أفضل في صناعة الاصطياد وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس لأنه آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض وآمن من أن يعضه الكلب ويعتدي عليه وهذا خطأ بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قوياً عالماً بطريق تأديبهما أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد
الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين وصدق المجاهدة السابقة إذ بلغ مبلغاً قمع هيجان الشهوة حتى تأدبت بأدب الشرع فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين وقد سكنت بسبب استيلاء الدين عليها فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسي لهيجان الشهوة وقمعها وقول القائل ليس لذلك فضل الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود
পৃষ্ঠা - ১২০১
الجهاد فإن الجهاد كان مقصوداً لعينه بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك إلى شهواته وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد ظفرت وما دمت في المجاهدة فأنت بعد في طلب الظفر ومثاله كمثال من قهر العدو واسترقه بالإضافة إلى من هو مشغول بالجهاد في صف القتال ولا يدري كيف يسلم ومثاله أيضاً مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد ولقد زل في هذا فريق فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه فعجز عنه فقال هذا محال فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة واسترسل في إتباع الشهوات وكل ذلك جهل وضلال وقد قررنا ذلك في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات
فإن قلت فما قولك في تائبين أحدهما نسي الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه والآخر جعله نصب عينه ولا يزال بتفكر فيه ويحترق ندماً عليه فأيهما أفضل فاعلم أن هذا أيضاً قد اختلفوا فيه فقال بعضهم حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك وكل واحد من المذنبين عندنا على حق ولكن بالإضافة إلى حالين
وكلام المتصوفة أبداً يكون قاصراً فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال وهذا نقصان بالإضافة إلى الهمة والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره إذ طريقه إلى الله نفسه ومنازله أحواله وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم فالطرق إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والعبد والله أعلم بمن هو أهدى سبيلاً مع الاشتراك في أصل الهداية
فأقول تصور الذنب وذكره والتفجع عليه كمال في حق المبتدىء لأنه إذا نسيه لم يكثر احتراقه فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق لأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف الوازع عن الرجوع إلى مثله فهو بالإضافة إلى الغافل كمال ولكنه بالإضافة إلى سالك الطريق نقصان فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق بل سالك الطريق ينبغي أن لا يعرج على غير السلوك فإن ظهر له مبادى الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولو امع الغيب استغرقه ذلك ولم يبق متسع للالتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال بل لو عاق المسافر عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر حاجز طال تعب المسافر في عبوره مدة من حيث إنه كان قد خرب جسره من قبل ولو جلس على شاطىء البحر بعد عبوره يبكي متأسفاً على تخريبه الجسر كان هذا مانعاً آخر اشتغل به بعد الفراغ من ذلك المانع نعم إن لم يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلاً فتعذر السلوك أو كان على طريقة أنهار وهو يخاف على نفسه أن يمر بها فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر ليتأكد بطول الحزن عزمه على أن لا يعود إلى مثله فإن حصل له من التنبيه ما وثق بنفسه أنه لا يعود إلى مثله فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه وهذا لا يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك وقد أشرنا إلى تلويحات منه في كتاب العلم وفي ربع المهلكات بل نقول شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر في النعيم فى الآخرة لتزيد غبته ولكن إن كان شاباً فلا ينبغي أن يطيل فكره فى كل ما له نظير في الدنيا كالحور والقصور فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط فذلك لا نظير له في الدنيا
পৃষ্ঠা - ১২০২
فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوة فالمبتدى أيضاً قد يستضر به فيكون النسيان أفضل له عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته وإن كان ذلك نازلاً عن ذروة مقامهم فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها وقد كان مستغنياً عنها لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلاً للأمر على المريد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أما إني لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع (¬1) وفي لفظ إنما أسهو لأسن ولا تعجب من هذا فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء وكالمواشي في كنف الرعاة
أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي كما قال صلى الله عليه وسلم للحسن كخ كخ (¬2) لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول ارم هذه التمرة فإنها حرام ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقة ترك الفصاحة ونزل إلى لكنته بل الذي يعلم شاة أو طائراً يصوت به رغاءً أو صفيراً تشبهاً بالبهيمة والطائر تلطفاً في تعليمه فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق إنها مزلة أقدام العارفين فضلاً عن الغافلين نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان أَقْسَامُ الْعِبَادِ فِي دَوَامِ التَّوْبَةِ
اعْلَمْ أَنَّ التَّائِبِينَ فِي التَّوْبَةِ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ الطَّبَقَةُ الْأُولَى أَنْ يَتُوبَ الْعَاصِي وَيَسْتَقِيمَ عَلَى التَّوْبَةِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَيَتَدَارَكُ مَا فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى ذُنُوبِهِ إِلَّا الزَّلَّاتِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ الْبَشَرُ عَنْهَا في العادات مهما لم يكن في رتبة النبوة فَهَذَا هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ وَصَاحِبُهُ هُوَ السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ الْمُسْتَبْدِلُ بِالسَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ وَاسْمُ هَذِهِ التَّوْبَةِ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَاسْمُ هَذِهِ النَّفْسُ السَّاكِنَةُ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى رَبِّهَا رَاضِيَةً مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً (¬3) فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملي بمجاهدتها وردها ثم تتفاوت درجات النزاع أيضاً بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع وكذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموت قريباً من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفاً من الله تعالى واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن
¬_________
(¬1) حديث أما إني لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع ذكره مالك بلاغا بغير إسناد وقال ابن عبد البر لا يوجد فى الموطأ إلا مرسلا لا إسناد له وكذا قال حمزة الكتانى إنه لم يرد من غير طريق مالك وقال أبو طاهر الأنماطى وقد طال بحثى عنه وسؤالى عنه للأئمة والحفاظ فلم أظفر به ولا سمعت عن أحد أنه ظفر به قال وادعى بعض طلبه الحديث أنه وقع له مسندا
(¬2) حديث أنه قال للحسن كخ كخ لما أخذ تمرة من الصدقة ووضعها في فيه أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة وتقدم في كتاب الحلال والحرام
(¬3) حديث سبق المفردون المستهترون بذكر الله الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى هريرة وحسنة وقد تقدم
পৃষ্ঠা - ১২০৩
اختياره فيقدم على المعصية وينقض توبته بل طريقها الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى يسد طرقها على نفسه ويسعى مع ذلك في كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته في الابتداء
الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ تَائِبٌ سَلَكَ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ فِي أُمَّهَاتِ الطَّاعَاتِ وَتَرَكَ كَبَائِرَ الْفَوَاحِشِ كُلَّهَا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ يَنْفَكُّ عَنْ ذُنُوبٍ تَعْتَرِيهِ لَا عن عمد وتجريد قصد وَلَكِنْ يُبْتَلَى بِهَا فِي مَجَارِي أَحْوَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّمَ عَزْمًا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ كُلَّمَا أَقْدَمَ عَلَيْهَا لَامَ نَفْسَهُ وَنَدِمَ وَتَأَسَّفَ وَجَدَّدَ عَزْمَهُ عَلَى أَنْ يَتَشَمَّرَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي تُعَرِّضُهُ لَهَا وَهَذِهِ النَّفْسُ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ إِذْ تلوم صاحبها على ما تستهدف لَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ لَا عَنْ تَصْمِيمِ عزم وتخمين رأي وَقَصْدٍ وَهَذِهِ أَيْضًا رُتْبَةٌ عَالِيَةٌ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً عَنِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَغْلَبُ أَحْوَالِ التَّائِبِينَ لِأَنَّ الشَّرَّ مَعْجُونٌ بِطِينَةِ الْآدَمِيِّ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَإِنَّمَا غَايَةُ سَعْيِهِ أَنْ يَغْلِبَ خَيْرُهُ شَرَّهُ حَتَّى يَثْقُلَ مِيزَانُهُ فَتَرْجَحُ كِفَّةُ الْحَسَنَاتِ فَأَمَّا أَنْ تَخْلُوَ بِالْكُلِّيَّةِ كِفَّةُ السَّيِّئَاتِ فَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُسْنُ الوعد من الله تعالى إِذْ قَالَ تَعَالَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ فَكُلُّ إِلْمَامٍ يَقَعُ بِصَغِيرَةٍ لَا عَنْ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّمَمِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاستغفروا لذنوبهم فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لِتَنَدُّمِهِمْ وَلَوْمِهِمْ أنفسهم عليه وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علي كرم الله وجهه خياركم كل مفتن تواب (¬1) وفي خبر آخر المؤمن كالسنبلة يفيء أحياناً ويميل أحياناً (¬2) وَفِي الْخَبَرِ لَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ ذَنْبٍ يأتيه الفينة بعد الفينة (¬3) أي الحين بعد الحين فَكُلُّ ذَلِكَ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا القدر لا ينفض التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه والأطعمة الحارة مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات قال النبي صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون المستغفرون (¬4) وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة فما وصفهم بعدم السيئة أصلاً
الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَمِرَّ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مدة ثم تغلبه الشهوات فى بعضالذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لِعَجْزِهِ عَنْ قَهْرِ الشَّهْوَةِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُوَاظِبٌ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَارِكٌ جُمْلَةً مِنَ الذنوب مع القدرة والشهوة وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها هذا أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الْفَرَاغِ يَتَنَدَّمُ وَيَقُولُ لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْهُ وَسَأَتُوبُ عنه وأجاهد نفسى
¬_________
(¬1) حديث على خياركم كل مفتن تواب اخرجه البيهقى فى الشعب بسند ضعيف
(¬2) حديث المؤمن كالسنبلة تفىء أحيانا وتميل أحيانا أخرجه ابو يعلى وابن حبان فى الضعفاء من حديث انس والطبرانى من حديث عمار بن ياسر والبيهقى فى الشعب من حديث الحسن مرسلا وكلها ضعفية وقالوا تقوم بدل تفىء وفى الأمثال للرامهرمزى إسناد جيد لحديث انس
(¬3) حديث لَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ ذَنْبٍ يَأْتِيهِ الْفَيْنَةَ بعد الفينة أخرجه الطبرانى والبيهقى فى الشعب من حديث ابن عباس بأسانيد حسنة
(¬4) حديث كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين المستغفرون اخرجه الترمذى واستغفر به والحاكم وصحيح إسناده من حديث أنس وقال التوابون بدل المستغفرون قلت فيه على بن مسعدة ضعفه البخارى
পৃষ্ঠা - ১২০৪
في قهرها لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوماً بَعْدَ يَوْمٍ فَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى النَّفْسُ الْمُسَوِّلَةُ وَصَاحِبُهَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالحاً وآخر سيئاً فَأَمْرُهُ مِنْ حَيْثُ مُوَاظَبَتِهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكَرَاهَتُهُ لِمَا تَعَاطَاهُ مَرْجُوٌّ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَعَاقِبَتُهُ مَخَطَّرَةٌ مِنْ حَيْثُ تَسْوِيفُهُ وَتَأْخِيرُهُ فربما بختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل لأنه مهما تعذر على المتفقه مثلاً الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين فكذلك ارتباط سعادات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العلية في الدنيا بترك الكسل والمواظبة على تفقيه النفس فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفس صارت فقيهة بطول التفقيه فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهراً بطول التزكية والتطهير هكذا سبق في الأزل بتدبير رب الأرباب ولذلك قال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقداً والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان قال صلى الله عليه وسلم إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس إنه من أهلها ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (¬1) فإذن الخوف من الخاتمة قبل التوبة وكل نفس فهو خاتمة ما قبله إذ يمكن أن يكون الموت متصلاً به فليراقب الأنفاس وإلا وقع في المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر
الطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يَتُوبَ وَيَجْرِيَ مُدَّةً عَلَى الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَسَّفَ عَلَى فِعْلِهِ بَلْ يَنْهَمِكُ انْهِمَاكَ الْغَافِلِ فِي اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُصِرِّينَ وَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ الْفَرَّارَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَيُخَافُ عَلَى هَذَا سوء الخاتمة وأمره في مشيئة الله فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا تطلع عليه كما لا يستحل أن يدخل الإنسان خراباً ليجد كنزاً فيتفق أن يجده وأن يجلس في البيت ليجعله الله عالماً بالعلوم من غير تعلم كما كان الأنبياء صلوات الله عليهم فَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالطَّاعَاتِ كَطَلَبِ الْعِلْمِ بِالْجُهْدِ وَالتَّكْرَارِ وطلب المال بالتجارة وركوب البحار وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنور في المواضع الخربة وطلب العلوم من تعليم الملائكة وليت من اجتهد تعلم وليت من اتجر استغنى وليت من صام وصلى غفر له فالناس كلهم محرومون إلا العالمون والعالمون كلهم محرومون إلا العاملون والعاملون كلهم محرومون إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم وكما أَنَّ مَنْ خَرَّبَ بَيْتَهُ وَضَيَّعَ مَالَهُ وَتَرَكَ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ جِيَاعًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ فَضْلَ اللَّهِ بِأَنْ يَرْزُقَهُ كَنْزًا يَجِدُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ في بيته الخرب يعد عنه ذوي البصائر من الحمقى والمغرورين وإن كان ما ينتظره غير مستحيل في قدرة الله تعالى وفضله فكذلك من ينتظر
¬_________
(¬1) حديث إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة الحديث متفق عليه من حديث سهل بن سعد دون قوله سبعين سنة ولمسلم من حديث أبى هريرة إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة الحديث ولأحمد من رواية شهر بن حوشب عن أبى هريرة إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة وشهر مختلف فيه
পৃষ্ঠা - ১২০৫
المغفرة من فضل الله تعالى وهو مقصر عن الطاعة مصر على الذنوب غير سالك سبيل المغفرة يعد عند أرباب القلوب من المعتوهين وَالْعَجَبُ مِنْ عَقْلِ هَذَا الْمَعْتُوهِ وَتَرْوِيجِهِ حَمَاقَتَهُ في صيغة حسنة إِذْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ كِرِيمٌ وَجَنَّتُهُ لَيْسَتْ تَضِيقُ عَلَى مِثْلِي وَمَعْصِيَتِي لَيْسَتْ تَضُرُّهُ ثُمَّ تَرَاهُ يَرْكَبُ الْبِحَارَ وَيَقْتَحِمُ الْأَوْعَارَ فِي طَلَبِ الدِّينَارِ وَإِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ كِرِيمٌ ودنانير خزائنه لَيْسَتْ تَقْصُرُ عَلَى فَقْرِكَ وَكَسَلُكَ بِتَرْكِ التِّجَارَةِ لَيْسَ يَضُرُّكَ فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَعَسَاهُ يَرْزُقُكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ فَيَسْتَحْمِقُ قَائِلَ هَذَا الكلام ويستهزىء بِهِ وَيَقُولُ مَا هَذَا الْهَوَسُ السَّمَاءُ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَإِنَّمَا يُنَالُ ذَلِكَ بِالْكَسْبِ وَهَكَذَا قَدَّرَهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَأَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ وَلَا تَبْدِيلَ لِسُنَّةِ اللَّهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمَغْرُورُ أَنَّ رَبَّ الْآخِرَةِ وَرَبَّ الدُّنْيَا وَاحِدٌ وأن سنته لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ إِذْ قَالَ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا ما سعى فكيف يعتقد أنه كريم في الآخرة وليس بكريم في الدنيا وكيف يقول ليس مقتضى الكرم الفتور عن كسب المال ومقتضاه الفتور عن العمل للملك لذلك المقيم والنعيم الدائم وأن ذلك بحكم الكرم يعطيه من غير جهد في الآخرة وهذا يمنعه مع شدة الاجتهاد في غالب الأمر في الدنيا وينسى قوله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون فنعوذ بالله من العمى والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس في ظلمات الجهل وصاحب هذا جدير بأن يكون داخلاً تحت قوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً أي أبصرنا أنك صدقت إذ قلت وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فأرجعنا نسعى وعند ذلك لا يمكن من الانقلاب ويحق عليه العذاب فنعوذ بالله من دواعي الجهل والشك والارتياب السائق بالضرور إلى سوء المنقلب والمآب
بيان ما ينبغي أن يبادر إليه التائب إن جَرَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ إِمَّا عَنْ قَصْدٍ وَشَهْوَةٍ
غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق
اعلم أن الواجب عليه التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضاده كما ذكرنا طريقه فَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ النَّفْسُ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ الثَّانِيَ وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة ليمحوها فَيَكُونَ مِمَّنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَالْحَسَنَاتُ الْمُكَفِّرَةُ لِلسَّيِّئَاتِ إِمَّا بِالْقَلْبِ وَإِمَّا بِاللِّسَانِ وَإِمَّا بِالْجَوَارِحِ وَلْتَكُنِ الْحَسَنَةُ فِي مَحَلِّ السَّيِّئَةِ وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا
فَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَلْيُكَفِّرْهُ بِالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ ويتذلل تذلل العبد الآبق ويكون ذله بحيث يظهر لسائر العباد وذلك بنقصان كبره فيما بينهم فما للعبد الآبق المذنب وجه للتكبر على سائر الْعِبَادِ وَكَذَلِكَ يُضْمِرُ بِقَلْبِهِ الْخَيْرَاتِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْعَزْمَ عَلَى الطَّاعَاتِ
وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَبِالِاعْتِرَافِ بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَيَقُولُ رَبِّ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَعَمِلْتُ سُوءًا فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَكَذَلِكَ يُكْثِرُ مِنْ ضُرُوبِ الِاسْتِغْفَارِ كما أوردناه في كتاب الدعوات والأذكار
وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا اتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجواً أربعة من أعمال القلوب وهي التوبة أو العزم على التوبة وحب الإقلاع عن الذنب وتخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له وأربعة من أعمال الجوارح وهي أن تصلي عقيب الذنب ركعتين ثم تستغفر الله تعالى بعدهم سبعين مرة وتقول سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم تتصدق بصدقة ثم تصوم
পৃষ্ঠা - ১২০৬
يوماً وفي بعض الآثار تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ركعتين (¬1) وفى بعض الأخبار تصلي أربع ركعات (¬2) وفى الخبر إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية (¬3) ولذلك قيل صدقة السر تكفر ذنوب الليل وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار وفي الخبر الصحيح أن رجلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شىء إلا المسيس فاقض علي بحكم اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ما صليت معنا صلاة الغداة قال بلى فقال صلى الله عليه وسلم أن الحسنات يذهبن السيئات (¬4) وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ جعل الصلاة كفارة له بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إلا الكبائر فعلى الأحوال كلها ينبغي أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَجْمَعَ سَيِّئَاتِهِ ويجتهد في دفعها بالحسنات
فإن قلت فكيف يكون الاستغفار نافعاً من غير حل عقدة الإصرار وفي الخبر المستغفر من الذنب وهومصر عليه كالمستهزىء بآيات الله (¬5) وكان بعضهم يقول استغفر الله من قولي أستغفر الله وقيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين وقالت رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر ذكرناها في كتاب الأذكار والدعوات حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فكان بعض الصحابة يقول كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا وبقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا (¬6) فنقول الِاسْتِغْفَارَ الَّذِي هُوَ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ هُوَ الِاسْتِغْفَارُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَلْبِ فِيهِ شَرِكَةٌ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَعَنْ رَأْسِ الْغَفْلَةِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَكَمَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ صِفَةَ النَّارِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِهِ قَلْبُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ حَرَكَةِ اللِّسَانِ وَلَا جَدْوَى لَهُ فَأَمَّا إِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ تَضَرُّعُ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِهَالُهُ فِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ عَنْ صِدْقِ إِرَادَةٍ وَخُلُوصِ نِيَّةٍ وَرَغْبَةٍ فَهَذِهِ حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا فَتَصْلُحُ لِأَنْ تُدْفَعَ بِهَا السَّيِّئَةُ وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ في اليوم سبعين مرة (¬7)
¬_________
(¬1) أثر إن من مكفرات الذنب أن تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ركعتين اخرجه أصحاب السنن من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له لفظ أبى داود وهو فى الكبرى للنسائى مرفوعا وموقوفا فلعل المصنف عبر بالأثر لارادة الموقوف فذكرته احتياطا والا فالآثار ليست من شرط كتابى
(¬2) حديث التكفير بصلاة أربع ركعات أخرجه ابن مردوية فى التفسير والبيهقى فى الشعب من حديث ابن عباس قال كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهوى امرأة الحديث وفيه فلما رآها جلس منها مجلس الرجل من امرأته وحرك ذكره فإذا هو مثل الهدية فقام نادما فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صل أربع ركعات فأنزل الله عز وجل وأقم الصلاة طرفى النهار الآية وإسناده جيد
(¬3) حديث إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية أخرجه البيهقى فى الشعب من حديث معاذ وفيه رجل لم يسم ورواه الطبرانى من رواية عطاء بن يسار عن معاذ ولم يلقه بلفظ وما عملت من سوء فأحدث لله فيه توبة السر بالسر الحديث
(¬4) حديث أن رجلاً قال يا رسول الله إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شىء إلا المسيس الحديث فى نزول أن الحسنات يذهبن السيئات متفق عليه من حديث ابن مسعود دون قوله أو ما صليت معنا صلاة الغداة ورواه مسلم من حديث أنس وفيه هل حضرت معنا الصلاة قال نعم ومن حديث أبى أمامة وفيه ثم شهدت الصلاة معنا قال نعم الحديث
(¬5) حديث المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزىء بآيات الله أخرجه ابن أبى الدنيا فى التوبة ومن طريقة البيهقي فى الشعب من حديث ابن عباس بلفظ كالمستهزىء بربه وسنده ضعيف
(¬6) حديث بعض الصحابة في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية كان لنا أمانان ذهب أحدهما أخرجه احمد من قول أبى موسى الأشعرى ورفعه الترمذى من حديثه أنزل الله على أمانين الحديث وضعفه وابن مردوية فى تفسيره من ولابن عباس
(¬7) حديث ما أصر من استغفر الحديث تقدم فى الدعوات
পৃষ্ঠা - ১২০৭
وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك قال سهل لا بد للعبد في كل حال من مولاه فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء فإن عصى قال يا رب استر علي فإذا فرغ من المعصية قال يا رب تب علي فإذا تاب قال يا رب ارزقني العصمة وإذا عمل قال يا رب تقبل مني وسئل أيضاً عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم التنقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم الفكر ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلة ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتوكل صاحبه ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وسئل أيضاً عن قوله صلى الله عليه وسلم التائب حبيب الله فقال إنما يكون حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله تعالى {التائبون العابدون} الآية وقال الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه
والمقصود إِنَّ لِلتَّوْبَةِ ثَمَرَتَيْنِ {إِحْدَاهُمَا} تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَصِيرَ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَالثَّانِيَةُ نَيْلُ الدرجات حتى يصير حبيباً وَلِلتَّكْفِيرِ أَيْضًا دَرَجَاتٌ فَبَعْضُهُ مَحْوٌ لِأَصْلِ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُهُ تَخْفِيفٌ لَهُ وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ التَّوْبَةِ فَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَالتَّدَارُكُ بِالْحَسَنَاتِ وَإِنْ خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات فَلَيْسَ يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أن تظن أن وجودها كعدمها بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} صدق وأنه لا تخلو ذرة من الخير عَنْ أَثَرٍ كَمَا لَا تَخْلُو شُعَيْرَةٌ تُطْرَحُ في الميزان عن أثر ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات وذلك بالضرورة محال بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع كفة السيئات فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ ذَرَّاتِ الطَّاعَاتِ فَلَا تَأْتِيَهَا وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللاً بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد وتقول أي غني يحصل بخيط وما وقع ذلك في الثياب ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطاً وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة فإذن التَّضَرُّعَ وَالِاسْتِغْفَارَ بِالْقَلْبِ حَسَنَةٌ لَا تَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ أَصْلًا بَلْ أَقُولُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ أَيْضًا حَسَنَةٌ إِذْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِهَا عَنْ غَفْلَةٍ خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل فقال اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير وعوده الذكر ولم يستعمله في الشر ولم يعوده الفضول وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذباً سبق لسانه إلى ما تعود فقال أستغفر الله ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول ما أحمقك وما أقبح كذبك ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادىء الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال لعنه الله فيعصي في إحدى الكلمتين ويسلم في الأخرى وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير وهو من جملة معاني قوله تعالى {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} ومعاني قوله تعالى {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه}
পৃষ্ঠা - ১২০৮
{أجراً عظيماً} فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات وتضعيف الآخرة {أكبر لو كانوا يعلمون} فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات فتفتر رغبتك عن العبادات فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم أنهم أرباب البصائر وأهل التفطن للخفايا والسرائر فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات أما السابق فقال صدقت يا ملعون ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلاً فلا جرم أعذبك مرتين وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه وأما الظالم المغرور فاستشعر في نفسه خيلاء الفطنة لهذه الدقيقة ثم عجز عن الإخلاص بالقلب فترك مع ذلك تعويد اللسان بالذكر فأسعف الشيطان وتدلى بحبل غروره فتمت بينهما المشاركة والموافقة كما قيل وافق شن طبقه وافقه فاعتنقه وأما المقتصد فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب في العمل وتفطن لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب ولكن اهتدى إلى كماله بالإضافة إلى السكوت والفضول فاستمر عليه وسأل الله تعالى أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير فكان السابق كالحائك الذي ذمت حياكته فتركها وأصبح كاتباً والظالم المتخلف كالذي ترك الحياكة أصلاً وأصبح كناساً والمقتصد كالذي عجز عن الكتابة فقال لا أنكر مقدمة الحياكة ولكن الحائك مذموم بالإضافة إلى الكاتب لا بالإضافة إلى الكناس فإذا عجزت عن الكتابة فلا أترك الحياكة ولذلك قالت رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير فلا تَظُنَّ أَنَّهَا تَذُمُّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ بَلْ تَذُمُّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ مِنْ غَفْلَةِ قَلْبِهِ لا من حركة لسانه فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضاً احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد فهكذا ينبغي أن تفهم ذم ما يذم وحمد ما يحمد وإلا جهلت معنى ما قال القائل الصادق حسنات الأبرار سيئات المقربين فإن هذه أمور تثبت بالإضافة فلا ينبغي أن تؤخذ من غير إضافة بل ينبغي أن لا تستحقر ذرات الطاعات والمعاصي ولذلك قال جعفر الصادق إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه وغضبه في معاصيه فلا تحقروا منها شيئاً فلعل غضبه فيه وخبأ ولايته في عباده فلا تحقروا منهم أحداً فلعله ولي الله تعالى وزاد وخبأ إجابته في دعائه فلا تتركوا الدعاء فربما كانت الإجابة فيه
الركن الرابع في دَوَاءُ التَّوْبَةِ وَطَرِيقُ الْعِلَاجِ لِحَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ
اعلم أن الناس قسمان شاب لا صبوة له نشأ على الخير واجتناب الشر وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجب ربك من شاب ليست له صبوة (¬1) وهذا عزيز نادر والقسم الثاني هو الذي لا يخلو عن مقارفة الذنوب ثم هم ينقسمون إلى مصرين وإلى تائبين وغرضنا أن نبين العلاج في حل عقدة الإصرار ونذكر الدواة فيه فاعلم أَنَّ شِفَاءَ التَّوْبَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالدَّوَاءِ ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء فكل داء حصل من سبب فدواؤه حل ذلك السبب ورفعه وإبطاله ولا يبطل الشيء لا بِضِدِّهِ وَلَا سَبَبَ لِلْإِصْرَارِ إِلَّا الْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ وَلَا يُضَادُّ الْغَفْلَةَ إِلَّا الْعِلْمُ وَلَا يُضَادُّ الشهوة إلا الصبر على قطع
¬_________
(¬1) حديث يعجب ربك من شاب ليست له صبوة أخرجه احمد والطبرانى من حديث عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعه
পৃষ্ঠা - ১২০৯
الأسباب المحركة للشهوة والغفلة رأس الخطايا قال الله تعالى {وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر وكما يجمع السكنجبين بين حلاوة السكر وحموضة الخل ويقصد بكل منهما غرض آخر في العلاج بمجموعهما فيقمع الأسباب المهيجة للصفراء فهكذا ينبغي أن تفهم علاج القلب مما به من مرض الإصرار فإن لهذا الدواء أصلان أحدهما العلم والآخر الصبر ولا بد من بيانهما
فإن قلت أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب ولكن لكل مرض علم يخصه كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان ليكون أقرب إلى الفهم فنقول يحتاج المريض إلى التصديق بأمور {الأول} أن يصدق على الجملة بأن للمرض والصحة أسباباً يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب وهذا هو الإيمان بأصل الطب فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع وهو أن للسعادة في الآخرة سبباً هو الطاعة وللشقاوة سبباً هو المعصية وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع وهذا لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد وكلاهما من جملة الإيمان
الثاني أنه لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبر عنه لا يلبس ولا يكذب فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف
الثالث أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له على الاحتماء ووزانه من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج
الرابع أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه وفيما يلزمه في نفسه الاحتماء عنه ليعرفه أولاً تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ومأكوله ومشروبه فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء ولا ينفعه كل دواء بل لكل علة خاصة علم خاص وعلاج خاص ووزانه من الدين أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة وارتكاب ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص أو ذنوب مخصوصة وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها ثم العلم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها
فهذه علوم يختص بها أطباء الدين وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فالعاصي إن علم عصيانه فعليه طلب العلاج من الطبيب وهو العالم وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب فعلى العالم أن يعرفه ذلك وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسئل عنه بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم ورثة الأنبياء والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ويطلبون واحداً واحداً فيرشدونهم فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما أن الذي ظهر على وجهه برص
পৃষ্ঠা - ১২১০
ولا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره وهذا فرض عين على العلماء كافة وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية وفي كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم فإن الخلق لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل إحداها أن المريض به لا يدري أنه مريض
والثانية أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه وما بعد الموت غير مشاهد وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم فقلت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال
والثالثة وهو الداء العضال فقد الطبيب فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً عجزوا عن علاجه وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضاً لأن الداء المهلك هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافاً من أن يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم فبهذا السبب عم على الخلق الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا وليتهم سكتوا وما نطقوا فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلاً أو خائباً أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين متضادي العلة أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال وكذلك المصر على الذنوب المشتهى للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه التي سبقت يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلباً للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلاً
فإن قلت فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه نعم نشير إلى الْأَنْوَاعُ النَّافِعَةُ فِي حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَحَمْلِ الناس على ترك الذنوب وهي أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ
{الْأَوَّلُ} أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار
পৃষ্ঠা - ১২১১
مثل قوله صلى الله عليه وسلم ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ويقول الآخر يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فيقول الآخر يا ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا (¬1) وفي بعض الروايات ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا ويقول الآخر يا ليتهم إذ لم يعلموا بما يعملوا تابوا مما عملوا وقال بعض السلف إذا أذنب العبد أمر صاحب اليمين صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها عليه وإن لم يستغفر كتبها وقال بعض السلف ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن تخسف له واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفاً فيقول الله تعالى للأرض والسماء كفا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاء ولو خلقتماه لرحمتماه ولعله يتوب إلي فأغفر له ولعله يستبدل صالحاً فأبدله له حسنات فذلك معنى قوله تعالى إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله الطابع فيطبع على القلوب بما فيها (¬2) وفي حديث مجاهد القلب مثل الكف المفتوحة كلما أذنب العبد ذنباً انقبضت إصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فيسد على القلب فذلك هو الطبع (¬3) وقال الحسن إن بين العبد وبين الله حداً من المعاصي معلوماً إذا بلغه العبد طبع الله على قلبه فلم يوفقه بعدها لخير
والأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين لا تحصى فينبغي أن يستكثر الواعظ منها إن كان وارث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ ما خلف ديناراً ولا درهماً إنما خلف العلم والحكمة وورثه كل عالم بقدر ما أصابه (¬4)
النوع الثَّانِي حِكَايَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ فَذَلِكَ شَدِيدُ الْوَقْعِ ظَاهِرُ النَّفْعِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِثْلُ أَحْوَالِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِصْيَانِهِ وَمَا لَقِيَهُ مِنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ حتى روى أنه لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل الإكليل عن جبينه ونودي من فوق العرش اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني قال فالتفت آدم إلى حواء باكياً وقال هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب وروى أن سليمان بن داود عليهما السلام لما عوقب على خطيئته لأجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يوماً وقيل لأن المرأة سألته أن بحكم لأبيها فقال نعم ولم يفعل وقيل بل أحب بقلبه أن
¬_________
(¬1) حديث ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات فيقول أحدهما ياليت هذا الخلق لم يخلقوا الحديث غريب لم أجده هكذا وروى أبو منصور الديلمي فى مسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند ضعيف إن لله ملكا ينادى فى كل ليلة أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده الحديث وفيه ليت الخلائق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فتجالسوا بينهم فتذكروا الحديث
(¬2) حديث عمر الطابع معلق بقائمة من قوائم العرش فإذا انتهكت الحرمات الحديث أخرجه ابن عدي وابن حبان فى الضعفاء من حديث ابن عمر وهو منكر
(¬3) حديث مجاهد القلب مثل الكف المفتوحة قلت هكذا قال المصنف وفى حديث مجاهد وكأنه أراد به قول مجاهد وكذا ذكره المفسرون من قوله وليس بمرفوع وقد رويناه فى الشعب الإيمان للبيهقى من قول حذيفة
(¬4) حديث أنه صلى الله عليه وسلم ما خلف ديناراً ولا درهماً إنما خلف العلم والحكمة أخرجه البخارى من حديث عمرو بن الحارث قال ما تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبدا ولا أمة ولمسلم من حديث عائشة ما ترك ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيرا وفى حديث أبى الدرداء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم الحديث وقد تقدم فى العلم
পৃষ্ঠা - ১২১২
يكون الحكم لأبيها على خصمه لمكانها منه فسلب ملكه أربعين يوماً فهرب تائهاً على وجهه فكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال أطعموني فإني سليمان بن داود رشج وطرد وضرب وحكى أنه استطعم من بيت لامرأته فطردته وبصقت في وجهه وفي رواية أخرجت عجوز جرة فيها بول فصبته على رأسه إلى أن أخرج الله الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء الأربعين أيام العقوبة قال فجاءت الطيور فعكفت على رأسه وجاءت الجن والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله فاعتذر إليه بعض من كان جنى عليه فقال لا ألومكم فيما فعلتم من قبل ولا أحمدكم في عذركم الآن إن هذا أمر كان من السماء ولا بد منه وروي في الإسرائيليات أن رجلاً تزوج امرأة من بلدة أخرى فأرسل عبده ليحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم قال فنبأه الله ببركة تقواه فكان نبياً في بني إسرائيل وفي قصص موسى عليه السلام أنه قال للخضر عليه السلام بم أطلعك الله على علم الغيب قال بتركي المعاصي لأجل الله تعالى وروي أن الريح كانت تسير بسليمان عليه السلام فنظر إلى قميصه نظرة وكان جديدا فكأنه أعجبه قال فوضعته الريح فقال لم فعلت هذا ولم آمرك قالت إنما نطيعك إذا أطعت الله وروي أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه السلام أتدري لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف قال لا قال لقولك لأخوته أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت عليه الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له وتدري لم رددته عليك قال لا قال لأنك رجوتني وقلت {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} وبما قلت اذهبو فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا وكذلك لما قال يوسف لصاحب الملك {اذكرني عند ربك} قال الله تعالى {فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}
وأمثال هذه الحكايات لا تنحصر ولم يُرِدْ بِهَا الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وُرُودَ الْأَسْمَارِ بَلِ الْغَرَضُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ لِتَعْلَمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يُتَجَاوَزْ عَنْهُمْ فِي الذُّنُوبِ الصِّغَارِ فَكَيْفَ يُتَجَاوَزُ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الذُّنُوبِ الكبار نعم كانت سعادتهما في أن عوجلوا بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثماً ولأن عذاب الآخرة أشد وأكبر فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكْثُرَ جِنْسُهُ عَلَى أَسْمَاعِ الْمُصِرِّينَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي تَحْرِيكِ دواعي التوبة
النوع الثَّالِثُ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جناياته فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله فينبغي أن يخوف به فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر كما حكي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه وقد تسقط منزلته من القلوب ويستولي عليه أعداؤه قال صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ (¬1) وَقَالَ ابن مسعود إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه وهو معنى قوله عليه السلام من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبداً (¬2) وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَيْسَتِ اللَّعْنَةُ سَوَادًا فِي الوجه ونقصاً فِي الْمَالِ إِنَّمَا اللَّعْنَةُ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعْتَ فِي مِثْلِهِ أَوْ شَرٍّ مِنْهُ وَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَإِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْخَيْرِ وَيُسِّرَ لَهُ الشَّرُّ فَقَدْ أُبْعِدَ وَالْحِرْمَانُ عَنْ رِزْقِ التَّوْفِيقِ أَعْظَمُ حِرْمَانٍ وَكُلُّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى ذَنْبٍ آخَرَ وَيَتَضَاعَفُ فَيُحْرَمُ الْعَبْدُ به عن رزقه النافع من مجالسة
¬_________
(¬1) حديث إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحيح إسناده واللفظ له إلا أنه قال الرجل بدل العبد من حديث ثوبان
(¬2) حديث من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا تقدم
পৃষ্ঠা - ১২১৩
الْعُلَمَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلذُّنُوبِ وَمِنْ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ بَلْ يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون وحكي عن بعض العارفين أنه كان يمشي في الوحل جامعا ثيابه محترزا عن زلقة رجله حتى زلقت رجله وسقط فقام وهو يمشي في وسط الوحل ويبكي ويقول هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع فى ذنب وذنبين فعندها يخوض في الذنوب خوضاً وهو إشارة إلى أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار إلى ذنب آخر ولذلك قال الفضيل ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك وقال بعضهم إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري وقال آخر أعرف العقوبة حتى في فأر بيتي وقال بعض صوفية الشام نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فاستحييت منه فقلت يا أبا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار فغمز يدي وقال لتجدن عقوبتها بعد حين قال فعوقبت بها بعد ثلاثين سنة وقال أبو سليمان الداراني الاحتلام عقوبة وقال لا يفوت أحداً صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه وفي الخبر ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم (¬1) وفي الخبر يقول الله تعالى إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي (¬2) وحكي عن أبي عمرو بن علوان في قصة يطول ذكرها قال فيها كنت قائماً ذات يوم أصلى فخار قلبي هوى طاولته بفكرتي حتى تولد منه شهوة الرجال فوقعت إلى الأرض واسود جسدي كله فاستترت في البيت فلم أخرج ثلاثة أيام وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون فلا يزداد إلا سواداً حتى انكشف بعد ثلاث فلقيت الجنيد وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة فلما أتيته قال لي أما استحييت من الله تعالى كنت قائماً بين يديه فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة وأخرجتك من بين يدي الله تعالى فلولا أني دعوت الله لك وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون قال فعجبت كيف علم بذلك وهو ببغداد وأنا بالرقة
واعلم انه لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان سعيداً أظهر السواد على ظاهره لينزجر وإن كان شقياً أخفى عنه حتى ينهمك ويستوجب النار والأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا من الفقر والمرض وغيره بل من شؤم الذنب في الدنيا على الجملة أن يكسب ما بعده صفته فإن ابتلي بشيء كان عقوبة له ويحرم جميل الرزق حتى يتضاعف شقاؤه وَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ كَانَتِ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَيُحْرَمُ جَمِيلَ الشُّكْرِ حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَى كُفْرَانِهِ وَأَمَّا الْمُطِيعُ فَمِنْ بَرَكَةِ طَاعَتِهِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ نِعْمَةٍ فِي حَقِّهِ جَزَاءً عَلَى طَاعَتِهِ وَيُوَفَّقَ لِشُكْرِهَا وَكُلُّ بَلِيَّةٍ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ وَزِيَادَةٌ فِي درجاته
النوع الرَّابِعُ ذِكْرُ مَا وَرَدَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة والقتل والغيبة والكبر والحسد وكل ذلك مما لا يمكن حصره وذكره مع غير أهله وضع الدواء في غير موضعه بل ينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق فيستدل أولاً بالنبض والسحنة ووجود الحركات على العلل الباطنة ويشتغل بعلاجها فيستدل بقرائن الأحوال على خفايا الصفات وليتعرض لما وقف عليه اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال له واحد أوصني يا رسول الله ولا تكثر علي قال لا تغضب (¬3) وقال له آخر أوصني يا رسول الله فقال
¬_________
(¬1) حديث ما أنكرتم من زمانكم فبما أنكرتم من أعمالكم أخرجه البيهقى فى الزهد من حديث أبى الدرداء وقال غريب تفرد به هكذا العقيلي وهو عبد الله بن هانىء قلت هو متهم بالكذب قال ابن أبى حاتم روى عن أبيه أحاديث بواطيل
(¬2) حديث يقول الله إنى أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتى أن أحرمه لذة مناجاتى غريب لم أجده
(¬3) حديث قال رجل أوصنى ولا تكثر علي قال لا تغضب تقدم
পৃষ্ঠা - ১২১৪
عليك السلام عليك باليأس مما في أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر وصل صلاة مودع وإياك وما يعتذر منه (¬1) وقال رجل لمحمد بن واسع أوصني فقال أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة قال وكيف لي بذلك قال الزم الزهد في الدنيا فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم في السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه وفي السائل الآخر مخايل الطمع في الناس وطول الأمل وتخيل محمد بن واسع في السائل مخايل الحرص على الدنيا وقال رجل لمعاذ أوصني فقال كن رحيماً أكن لك بالجنة زعيماً فكأنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة وقال رجل لإبراهيم بن أدهم أوصني فقال إياك والناس وعليك بالناس ولا بد من الناس فإن الناس هم الناس وليس كل الناس بالناس ذهب الناس وبقي النسناس وما أراهم بالناس بل غمسوا في ماء الياس فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة وأخبر عما كان هو الغالب على حاله في وقته وكان الغالب أذاه بالناس والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل وكتب معاوية رحمه الله إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري فكتبت إليه من عائشة إلى معاوية سلام الله عليك أما بعد فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس سخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس (¬2) والسلام عليك فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التي تكون الولاة بصددها وهي مراعاة الناس وطلب مرضاتهم وكتبت إليه مرة أخرى أما بعد فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً والسلام
فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن التوعظ فيه تضييع زمان
فإن قلت فإن كان الواعظ يتكلم في جمع أو سأله من لا يدرى باطن حاله أن يعظه فكيف يفعل فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق في الحاجة إليه إما على العموم وإلا على الأكثر فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية فالأغذية للكافة والأدوية لأرباب العلل
ومثاله ما روي أن رجلاً قال لأبي سعيد الخدري أوصني قال عليك بتقوى الله عز وجل فإنها رأس كل خير وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء وعليك بالصمت إِلَّا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ وقال رجل للحسن أوصني فقال أعز أمر الله يعزك الله وقال لقمان لابنه يا بني زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك وخذ من الدنيا بلاغك وأنفق فضول كسبك لآخرتك ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالاً وعلى أعناق الرجال كلاً وصم صوماً يكسر شهوتك ولا تصم صوماً يضر بصلاتك فإن الصلاة أفضل من الصوم ولا تجالس السفيه ولا تخالط ذا الوجهين وقال أيضاً لابنه يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تمش في غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت يا بني إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ومن يقل الشر يأثم ومن لا يملك لسانه يندم وقال رجل لأبي حازم أوصني فقال كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة
¬_________
(¬1) حديث قال له آخر أوصنى قال عليك باليأس الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وقد تقدم
(¬2) حديث عائشة من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس الحديث أخرجه الترمذى والحاكم وفى مسند الترمذى من لم يسم
পৃষ্ঠা - ১২১৫
فالزمه وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه وقال موسى للخضر عليهما السلام أوصني فقال كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران وقال رجل لمحمد بن كرام أوصني فقال اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك وقال رجل لحامد اللفاف أوصني فقال اجعل لدينك غلافاً كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال وما غلاف الدين قال ترك طلب الدنيا إلا مالا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى أما بعد فخف مما خوفك الله واحذر مما حذرك الله وخذ مما في يديك لما بين يديك فعند الموت يأتيك الخبر اليقين والسلام وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه فكتب إليه أما بعد فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك ولا بد لك من مشاهدة ذلك إما بالنجاة وإما بالعطب واعلم أن من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن نظر في العواقب نجا ومن أطاع هواه ضل ومن حلم غنم ومن خاف أمن ومن أمن اعتبر ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم فإذا زللت فارجع وإذا ندمت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله أما بعد فإن الدنيا دار عقوبة ولها يجمع من من لا عقل له وبها يغتر من لا علم عنده فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطأة أما بعد فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله فأما أولياؤه فغمتهم وأما أعداؤه فغرتهم وكتب أيضاً إلى بعض عماله أما بعد فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئاً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك واعلم إن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين والسلام
فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته فهذه المواعظ مثل الأغذية التي يشترك الكافة في الانتفاع بها
ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصي واستسرى الفساد وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعاً وينشدون أبياتاً ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة علمهم ويتشبهون بحال غيرهم فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادراً من القلب ليصل إلى القلب بل القائل متصلف والمستمع متكلف وكل واحد منهما مدبر ومتخلف
فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى وطلب العلماء أول علاج العاصين فهذا أحد أركان العلاج وأصوله
الأصل الثاني الصبر ووجه الحاجة إليه أن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره وإنما يتناول ذلك إما لغفلته عن مضرته وإما لشدة غلبة شهوته فله سببان فما ذكرناه هو علاج الغفلة فيبقى علاج الشهوة وطريق علاجها قد ذكرناه في كتاب رياضة النفس وحاصله أن المريض إذا اشتدت ضراوته لمأكول مضر فطريقه أن يستشعر عظم ضرره ثم يغيب ذلك عن عينه فلا يحضره ثم يتسلى عنه بما يقرب منه في صورته ولا يكثر ضرره ثم يصبر بقوة الخوف على الألم الذي يناله في تركه فلا بد على كل حال من مرارة الصبر فكذلك يعالج الشهوة في المعاصي كالشاب مثلاً إذا غلبته الشهوة فصار لا يقدر على حفظ عينه ولا حفظ قلبه أو حفظ جوارحه في السعي وراء شهوته فينبغي أن يستشعر ضرر ذنبه بأن يستقري المخلوقات التي جاءت فيه من كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فإذا اشتد خوفه تباعد من الأسباب المهيجة لشهوته ومهيج الشهوة من خارج هو
পৃষ্ঠা - ১২১৬
حضور المشتهى والنظر إليه وعلاجه الهرب والعزلة ومن داخل تناول لذائذ الأطعمة وعلاجه الجوع والصوم الدائم وكل ذلك لا يتم إلا بصبر ولا يصبر إلا عن خوف ولا يخاف إلا عن علم ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد فأول الأمر حضور مجالس الذكر ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع ثم التفكر فيه لتمام الفهم وينبعث من تمامه لا محالة خَوْفُهُ وَإِذَا قَوِيَ الْخَوْفُ تَيَسَّرَ بِمَعُونَتِهِ الصَّبْرُ وانبعثت الدواعي لطلب العلاج وَتَوْفِيقُ اللَّهِ وَتَيْسِيرُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فَمَنْ أَعْطَى مِنْ قَلْبِهِ حُسْنَ الْإِصْغَاءِ وَاسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره والله تَعَالَى لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَيُيَسِّرُهُ اللَّهُ لِلْعُسْرَى فَلَا يُغْنِي عَنْهُ مَا اشْتَغَلَ بِهِ مِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا مَهْمَا هَلَكَ وَتَرَدَّى وَمَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا شَرْحُ طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى
فإن قلت فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب لا يمكن إلا بالصبر عنه والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف والخوف لا يكون إلا بالعلم والعلم لا يحصل إلا بالتصديق بعظم بعزم ضرر الذنوب والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو الإيمان فكأن من أصر على الذنب لم يصر عليه إلا لأنه غير مؤمن فاعلم أن هذا لا يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة
ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور
أحدها أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر والنفس جبلت متأثرة بالحاضر فتأثرها بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر
الثاني أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة وهي في الحال آخذة بالمخنق وقد قوي ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد والإلف والعادة طبيعة خامسة والنزوع عن العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ولذلك قال تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال عز وجل بل تؤثرون الحياة الدنيا وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (¬1) وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد (¬2) فإذاً كون الشهوة مرهقة في الحال وكون العقاب متأخراً إلى المآل سببان ظاهران في الاسترسال مع حصول أصل الإيمان فليس كل من يشرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذباً بأصل الطب ولا مكذباً بأن ذلك مضر في حقه ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر
الثالث أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو فى الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات بالحسنات وقد وعد بأن ذلك يخبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف التوبة والتكفير فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان
الرابع أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجاباً لا يمكن العفو عنها
¬_________
(¬1) حديث حفت الجنة بالمكاره الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة
(¬2) حديث إن الله خلق النار فقال لجبريل اذهب فانظر إليها الحديث أخرجه أبو داود والترمذى والحاكم وصححه من حديث أبى هريرة وقدم فيه ذكر الجنة
পৃষ্ঠা - ১২১৭
فهو يذنب وينتظر العفو عنها اتكالاً على فضل الله تعالى فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار على الذنب مع بقاء أصل الإيمان
نعم قد يقدم المذنب بسبب خامس يقدح في أصل إيمانه وهو كونه شاكاً في صدق الرسل وهذا هو الكفر كالذي يحذره الطبيب عن تناول ما يضره في المرض فإن كان المحذر ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب فيكذبه أو يشك فيه فلا يبالي به فهذا هو الكفر
فإن قلت فما علاج الأسباب الخمسة فأقول هو الفكر وذلك بأن يقرر على نفسه في السبب الأول وهو تأخر العقاب أن كل ما هو آت آت وأن غداً للناظرين قريب وأن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله فما يدريه لعل الساعة قريب والمتأخر إذا وقع صار ناجزاً ويذكر نفسه أنه أبداً في دنياه يتعب في الحال لخوف أمر فى الاستقبال إذ يركب البحار ويقاسي الأسفار لأجل الربح الذي يظن أنه قد يحتاج إليه في ثاني الحال بل لَوْ مَرِضَ فَأَخْبَرَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ بِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يَضُرُّهُ وَيَسُوقُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَكَانَ الْمَاءُ الْبَارِدُ أَلَذَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ تَرَكَهُ مَعَ أن الموت آلمه لحظة إذا لم يخف ما بعده ومفارقته للدنيا لا بد منها فكم نسبة وجوده في الدنيا إلى عدمه أزلا وأبداً فلينظر كيف يبادر إلى ترك ملاذه بقول ذمي لم تقم معجزة على طبه فَيَقُولُ كَيْفَ يَلِيقُ بِعَقْلِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ عِنْدِي دُونَ قَوْلِ نَصْرَانِيٍّ يدعي الطب لنفسه بلا معجزة على طبه ولا يشهد له إلا عوام الخلق وَكَيْفَ يَكُونُ عَذَابُ النَّارِ عِنْدِي أَخَفَّ مِنْ عَذَابِ الْمَرَضِ وَكُلُّ يَوْمٍ فِي الْآخِرَةِ بِمِقْدَارِ خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وبهذا التفكر بعينه يعالج اللذة الغالبة عليه ويكلف نفسه تركها ويقول إذا كنت لا أقدر على ترك لذاتي أيام العمر وهي أيام قلائل فكيف أقدر على ذلك أبد الآباد وإذا كنت لا أطيق ألم الصبر فكيف أطيق ألم النار وإذا كنت لا أصبر عن زخارف الدنيا مع كدوراتها وتنغصها وامتزاج صفوها بكدرها فكيف أصبر عن نعيم الآخرة وأما تسويف التوبة فيعالجه بالفكر في إن أكثر صياح أهل النار من التسويف لأن المسوف يبني الأمر على ما ليس إليه وهو البقاء فلعله لا يبقى وإن بقي فلا يقدر على الترك غدا كما لا يقدر عليه اليوم فليت شعري هل عجز في الحال إلا لغلبة الشهوة والشهوة ليست تفارقه غداً بل تتضاعف إذ تتأكد بالاعتياد فليست الشهوة التي أكدها الإنسان بالعادة كالتي لم يؤكدها وعن هذا هلك المسوفون لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين ولا يظنون أن الأيام متشابهة في أن ترك الشهوات فيها أبداً شاق وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف
وأما المعنى الرابع وهو انتظار عفو الله تعالى فعلاجه ما سبق وهو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظراً من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان وهو مثل من يتوقع النهب من الظلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل وقال أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا يتفرغ إلى داري أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله فمنتظر هذا منتظر أمر ممكن ولكنه في غاية الحماقة والجهل إذ قد لا يمكن ولا يكون
পৃষ্ঠা - ১২১৮
وأما الخامس وهو شك فهذا كفر وعلاجه الأسباب التي تعرفه صدق الرسل وذلك يطول ولكن يمكن أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله فيقال له ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات هل صدقه ممكن أو تقول أعلم أنه محال كما أعلم استحالة شخص واحد في مكانين في حالة واحدة فإن قال أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه وكأنه لا وجود لمثل هذا في العقلاء وإن قال أنا شاك فيه فيقال لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامك في البيت لحظة أنه ولغت فيه حية وألقت سمها فيه وجوزت صدقه فهل تأكله أو تتركه وإن كان ألذ الأطعمة فيقول أتركه لا محالة لأني أقول إن كذب فلا يفوتني إلا هذا الطعام والصبر عنه وإن كان شديداً فهو قريب وإن صدق فتفوتني الحياة والموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام وإضاعته شديد فيقال له يا سبحان الله كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء بل جميع أصناف العقلاء ولست أعني بهم جهال العوام بل ذوي الألباب عن صدق رجل واحد مجهول لعل له غرضاً فيما يقول فليس في العقلاء إلا من صدق باليوم الآخروأثبت ثواباً وعقاباً وإن اختلفوا في كيفيته فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد وإن كذبوا فلا يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة فلا يبقى له توقف إن كان عاقلاً مع هذا الفكر إذ لا نسبة لمدة العمر إلى أبد الآباد بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة وقدرنا طائرا يلتقط فى كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ولم ينقص أبد الآباد شيئاً فكيف يفتر رأي العاقل في الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلاً لأجل سعادة تبقى أبد الآباد ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعري
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
لذلك قال علي رضي الله عنه لبعض من قصر عقله عن فهم تحقيق الأمور وكان شاكاً إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعاً وإلا فقد تخلصت وهلكت أي العاقل يسلك طريق الأمن في جميع الأحوال
فإن قلت هذه الأمور جلية ولكنها ليست تنال إلا بالفكر فما بال القلوب هجرت الفكر فيها واستثقلته وما علاج القلوب لردها إلى الفكر لا سيما من آمن بأصل الشرع وتفصيله فاعلم أن المانع من الفكر أمران أحدهما أن الفكر النافع هو الْفِكْرُ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ وَأَهْوَالِهَا وَشَدَائِدِهَا وَحَسَرَاتِ العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم وهذا فكر لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ويتلذذ بالفكر في أمور الدنيا على سبيل التفرج والاستراحة والثاني أن الفكر شغل في الحال مانع من لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات وما من إنسان إلا وله في كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه واسترقته فصار عقله مسخراً لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته وصارت لذته في طلب الحيلة فيه أو في مباشرة قضاء الشهوة والفكر يمنعه من ذلك
أما علاج هذين المانعين فهو أن يقول لقلبه ما أشد غباوتك في الاحتراز من الفكر في الموت وما بعده تألماً بذكره مع استحقار ألم مواقعته فكيف تصبر على مقاساته إذا وقع وأنت عاجز عن الصبر على تقدير الموت وما بعده ومتألم به وأما الثاني وهو كون الفكر مفوتاً للذات الدنيا فهو أن يتحقق أن فوات لذات الآخرة أشد وأعظم فإنها لا آخر لها ولا كدورة فيها ولذات الدنيا سريعة الدثور وهي مشوبة بالمكدرات فما فيها لذة صافية عن كدر وكيف وفي التوبة عن المعاصي والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى واستراحة بمعرفته وطاعته