فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة الهمة
পৃষ্ঠা - ৯৮০
[فَصْلُ مَنْزِلَةِ الْهِمَّةِ]
[حَقِيقَةُ الْهِمَّةِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ الْهِمَّةِ
وَقَدْ صَدَّرَهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] .
وَقَدْ تَقَدَّمَ: أَنَّهُ صَدَّرَ بِهَا بَابَ الْأَدَبِ، وَذَكَرْنَا وَجْهَهُ.
وَأَمَّا وَجْهُ تَصْدِيرِ " الْهِمَّةِ " بِهَا: فَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هِمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَلَّقَتْ بِسِوَى مَشْهُودِهِ، وَمَا أُقِيمَ فِيهِ. وَلَوْ تَجَاوَزَتْهُ هِمَّتُهُ لِتَبِعَهَا بَصَرُهُ.
وَالْهِمَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْهَمِّ. وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ. وَلَكِنْ خَصُّوهَا بِنِهَايَةِ الْإِرَادَةِ. فَالْهَمُّ مَبْدَؤُهَا. وَالْهِمَّةُ نِهَايَتُهَا.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: فِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ» .
قَالَ: وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ. وَالْخَاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَطْلُبُ. يُرِيدُ: أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْءِ هِمَّتُهُ وَمَطْلَبُهُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
পৃষ্ঠা - ৯৮১
الْهِمَّةُ: مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ صِرْفًا. لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا. وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا.
قَوْلُهُ " يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ " أَيْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَاسْتِيلَاءِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَصِرْفًا أَيْ خَالِصًا صِرْفًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ هِمَّةَ الْعَبْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْحَقِّ تَعَالَى طَلَبًا صَادِقًا خَالِصًا مَحْضًا. فَتِلْكَ هِيَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ، الَّتِي لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُهْلَةِ. وَلَا يَتَمَالَكُ صَبْرَهُ؛ لِغَلَبَةِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. وَشِدَّةِ إِلْزَامِهَا إِيَّاهُ بِطَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا إِلَى مَا سِوَى أَحْكَامِهَا. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: سَرِيعٌ وُصُولُهُ وَظَفَرُهُ بِمَطْلُوبِهِ. مَا لَمْ تَعُقْهُ الْعَوَائِقُ، وَتَقْطَعْهُ الْعَلَائِقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْهِمَّةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي، وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي.
الْفَانِي الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. أَيْ يَزْهَدُ الْقَلْبُ فِيهَا وَفِي أَهْلِهَا. وَسَمَّى الرَّغْبَةَ فِيهَا وَحْشَةً لِأَنَّهَا وَأَهْلَهَا تُوحِشُ قُلُوبَ الرَّاغِبِينَ فِيهَا، وَقُلُوبَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا.
أَمَّا الرَّاغِبُونَ فِيهَا: فَأَرْوَاحُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ أَجْسَامِهِمْ. إِذْ فَاتَهَا مَا خُلِقَتْ لَهُ. فَهِيَ فِي وَحْشَةٍ لِفَوَاتِهِ.
وَأَمَّا الزَّاهِدُونَ فِيهَا: فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهَا مُوحِشَةً لَهُمْ. لِأَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ. وَلَا شَيْءَ أَوْحَشُ عِنْدَ الْقَلْبِ مِمَّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ نَازَعَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ، وَطَلَبَهَا مِنْهُمْ أَوْحَشَ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَأَبْغَضَهُ.
وَأَيْضًا: فَالزَّاهِدُونَ فِيهَا: إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْبَصَائِرِ. وَالرَّاغِبُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْأَبْصَارِ فَيَسْتَوْحِشُ الزَّاهِدُ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ الرَّاغِبُ. كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا أَفَاقَ الْقَلْبُ وَانْدَمَلَ الْهَوَى ... رَأَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَرَ الْأَبْصَارُ
وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِمَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي لِذَاتِهِ. وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ. وَالْبَاقِي بِإِبْقَائِهِ: هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ.
পৃষ্ঠা - ৯৮২
وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي أَيْ تُخَلِّصُهُ وَتُمَحِّصُهُ مِنْ أَوْسَاخِ الْفُتُورِ وَالتَّوَانِي، الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْإِضَاعَةِ وَالتَّفْرِيطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ هِمَّةٌ تُورِثُ أَنَفَةً مِنَ الْمُبَالَاةِ بِالْعِلَلِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: هِمَّةٌ تُورِثُ أَنَفَةً مِنَ الْمُبَالَاةِ بِالْعِلَلِ، وَالنُّزُولِ عَلَى الْعَمَلِ وَالثِّقَةِ بِالْأَمَلِ.
الْعِلَلُ هَاهُنَا: هِيَ عِلَلُ الْأَعْمَالِ مِنْ رُؤْيَتِهَا، أَوْ رُؤْيَةِ ثَمَرَاتِهَا وَإِرَادَتِهَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ عِلَلٌ.
فَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: يَأْنَفُ عَلَى هِمَّتِهِ، وَقَلْبِهِ مِنْ أَنْ يُبَالِيَ بِالْعِلَلِ. فَإِنَّ هِمَّتَهُ فَوْقَ ذَلِكَ. فَمُبَالَاتُهُ بِهَا، وَفِكْرَتُهُ فِيهَا: نُزُولٌ مِنَ الْهِمَّةِ.
وَعَدَمُ هَذِهِ الْمُبَالَاةِ: إِمَّا لِأَنَّ الْعِلَلَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ هِمَّتِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. فَلَا يُبَالِي بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَإِمَّا لِأَنَّ هِمَّتَهُ وَسِعَتْ مَطْلُوبَهُ، وَعُلُوُّهُ يَأْتِي عَلَى تِلْكَ الْعِلَلِ، وَيَسْتَأْصِلُهَا. فَإِنَّهُ إِذَا عَلَّقَ هِمَّتَهُ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا تَضَمَّنَتْهَا الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ. فَانْدَرَجَ حُكْمُهَا فِي حُكْمِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ غَرِيبٌ عَزِيزٌ جِدًّا. وَمَا أَدْرِي قَصَدَهُ الشَّيْخُ أَوْ لَا؟
وَأَمَّا أَنَفَتُهُ مِنَ النُّزُولِ عَلَى الْعَمَلِ: فَكَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ وَتَبْيِينٍ. وَهُوَ أَنَّ الْعَالِيَ الْهِمَّةِ مَطْلَبُهُ فَوْقَ مَطْلَبِ الْعُمَّالِ وَالْعُبَّادِ. وَأَعْلَى مِنْهُ. فَهُوَ يَأْنَفُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ سَمَاءِ مَطْلَبِهِ الْعَالِي، إِلَى مُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، دُونَ السَّفَرِ بِالْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُ وَيَفُوزَ بِهِ. فَإِنَّهُ طَالِبٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى طَلَبًا تَامًّا بِكُلِّ مَعْنًى وَاعْتِبَارٍ فِي عَمَلِهِ، وَعِبَادَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَعُزْلَتِهِ وَخُلْطَتِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ. فَقَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيُّمَا صِبْغَةٍ.
وَهَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ. فَهُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِمُجَرَّدِ رُسُومِ الْأَعْمَالِ، وَلَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الطَّلَبِ حَالَ الْعَمَلِ فَقَطْ.
وَأَمَّا أَنَفَتُهُ مِنَ الثِّقَةِ بِالْأَمَلِ: فَإِنَّ الثِّقَةَ تُوجِبُ الْفُتُورَ وَالتَّوَانِيَ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، كَيْفَ؟ وَهُوَ طَائِرٌ لَا سَائِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.