فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة الفراسة
পৃষ্ঠা - ৯৪৫
فَعَلَى الْأَوَّلِ: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الثَّانِي: إِلَى الْمَفْعُولِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُودِ الَّذِينَ إِذَا أَشَارُوا لَمْ يُشِيرُوا إِلَّا إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا مَرْمَى.
وَالْقَوْمُ يُسَمُّونَ أَخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَعَارِفِ وَعَنِ الْمَطْلُوبِ إِشَارَاتٍ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُفْصَحَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ مُطَابِقَةٍ، وَشَأْنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ. فَالْكَامِلُ مَنْ إِشَارَتُهُ إِلَى الْغَايَةِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ فَنِيَ عَنْ رَسْمِهِ وَهَوَاهُ وَحَظِّهِ. وَبَقِيَ بِرَبِّهِ وَمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ وَكُلُّ أَحَدٍ، فَإِشَارَتُهُ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ وَهِمَّتِهِ. وَمَعَارِفُ الْقَوْمِ وَهِمَّتُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْ إِشَارَتِهِمْ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ]
[حَقِيقَةُ الْفِرَاسَةِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُتَفَرِّسِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِلنَّاظِرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ.
وَلَا تَنَافِي بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ النَّاظِرَ مَتَى نَظَرَ فِي آثَارِ دِيَارِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَنَازِلِهِمْ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ: أَوْرَثَهُ فِرَاسَةً وَعِبْرَةً وَفِكْرَةً. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] . فَالْأَوَّلُ: فِرَاسَةُ النَّظَرِ وَالْعَيْنِ. وَالثَّانِي: فِرَاسَةُ الْأُذُنِ وَالسَّمْعِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَلَّقَ مَعْرِفَتَهُ إِيَّاهُمْ بِالنَّظَرِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُعَلِّقْ تَعْرِيفَهُمْ بِلَحْنِ خِطَابِهِمْ عَلَى شَرْطٍ. بَلْ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ. فَقَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَهُوَ تَعْرِيضُ الْخِطَابِ، وَفَحْوَى الْكَلَامِ وَمَغْزَاهُ.
وَاللَّحْنُ ضَرْبَانِ: صَوَابٌ وَخَطَأٌ. فَلَحْنُ الصَّوَابِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْفِطْنَةُ. وَمِنْهُ
পৃষ্ঠা - ৯৪৬
الْحَدِيثَ «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» .
وَالثَّانِي: التَّعْرِيضُ وَالْإِشَارَةُ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَحَدِيثٌ أَلَذُّهُ وَهْوَ مِمَّا ... يَشْتَهِي السَّامِعُونَ يُوزَنُ وَزْنًا
مَنْطِقٌ صَائِبٌ. وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا
وَالثَّالِثُ: فَسَادُ الْمَنْطِقِ فِي الْإِعْرَابِ. وَحَقِيقَتُهُ: تَغْيِيرُ الْكَلَامِ عَنْ وَجْهِهِ: إِمَّا إِلَى خَطَأٍ، وَإِمَّا إِلَى مَعْنًى خَفِيٍّ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اللَّفْظُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ مِنْ لَحْنِ خِطَابِهِمْ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ كَلَامِهِ: أَقْرَبُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِسِيمَاهُ وَمَا فِي وَجْهِهِ. فَإِنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَلَى قَصْدِ قَائِلِهِ وَضَمِيرِهِ أَظْهَرُ مِنَ السِّيمَاءِ الْمَرْئِيَّةِ. وَالْفِرَاسَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّوْعَيْنِ بِالنَّظَرِ وَالسَّمَاعِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] .»
[فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْفِرَاسَةِ]
[الْأُولَى الْفِرَاسَةُ الْإِيمَانِيَّةُ]
فَصْلٌ
وَالْفِرَاسَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِيمَانِيَّةٌ. وَهِيَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
وَسَبَبُهَا: نُورُ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ. يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَالِي وَالْعَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ.
وَحَقِيقَتُهَا: أَنَّهَا خَاطِرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ يَنْفِي مَا يُضَادُّهُ. يَثِبُ عَلَى الْقَلْبِ كَوُثُوبِ الْأَسَدِ عَلَى الْفَرِيسَةِ. لَكِنَّ الْفَرِيسَةَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعُولَةٌ. وَبِنَاءُ الْفِرَاسَةِ كَبِنَاءِ الْوِلَايَةِ وَالْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ.
পৃষ্ঠা - ৯৪৭
وَهَذِهِ الْفِرَاسَةُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ. فَمَنْ كَانَ أَقْوَى إِيمَانًا فَهُوَ أَحَدُّ فِرَاسَةً.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: مَنْ نَظَرَ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ نَظَرَ بِنُورِ الْحَقِّ، وَتَكُونُ مَوَادُّ عِلْمِهِ مَعَ الْحَقِّ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ. بَلْ حُكْمُ حَقٍّ جَرَى عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ.
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: الْفِرَاسَةُ شَعَاشِعُ أَنْوَارٍ لَمَعَتْ فِي الْقُلُوبِ، وَتَمَكُّنُ مُعْرِفَةِ جُمْلَةِ السَّرَائِرِ فِي الْغُيُوبِ مَنْ غَيْبٍ إِلَى غَيْبٍ، حَتَّى يَشْهَدَ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَيْثُ أَشْهَدَهُ الْحَقُّ إِيَّاهَا، فَيَتَكَلَّمَ عَنْ ضَمِيرِ الْخَلْقِ.
وَقَالَ الدَّارَانِيُّ: الْفِرَاسَةُ مُكَاشَفَةُ النَّفْسِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ، وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ.
وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْفِرَاسَةِ؟ فَقَالَ: أَرْوَاحٌ تَتَقَلَّبُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَتُشْرِفُ عَلَى مَعَانِي الْغُيُوبِ. فَتَنْطِقُ عَنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ، نُطْقَ مُشَاهَدَةٍ لَا نُطْقَ ظَنٍّ وَحُسْبَانٍ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ نُجِيدٍ: كَانَ شَاهُ الْكِرْمَانِيُّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا يُخْطِئُ. وَيَقُولُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ: لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَدَّادُ: الْفِرَاسَةُ أَوَّلُ خَاطِرٍ بِلَا مُعَارِضٍ، فَإِنْ عَارَضَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ. فَهُوَ خَاطِرٌ وَحَدِيثُ نَفْسٍ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ. وَلَكِنْ يَتَّقِي الْفِرَاسَةَ مِنَ الْغَيْرِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» . وَلَمْ يَقُلْ: تَفَرَّسُوا. وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: إِذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوهُمْ بِالصِّدْقِ. فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ، يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُونَ.
وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَوْمًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ مُتَنَكِّرًا. فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» فَأَطْرَقَ الْجُنَيْدُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: أَسْلِمْ. فَقَدْ حَانَ وَقْتُ إِسْلَامِكَ. فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ.
পৃষ্ঠা - ৯৪৮
وَيُقَالُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ: إِنَّ الصِّدِّيقَ لَا تُخْطِئُ فِرَاسَتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ فِي يُوسُفَ، حَيْثُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] . وَابْنَةُ شُعَيْبٍ حِينَ قَالَتْ لِأَبِيهَا فِي مُوسَى: اسْتَأْجِرْهُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَيْثُ اسْتَخْلَفَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَتْ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] .
وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْظَمَ الْأُمَّةِ فِرَاسَةً. وَبَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ مَشْهُورَةٌ. فَإِنَّهُ مَا قَالَ لِشَيْءٍ أَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا قَالَ. وَيَكْفِي فِي فِرَاسَتِهِ: مُوَافَقَتُهُ رَبَّهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَعْرُوفَةِ.
وَمَرَّ بِهِ سَوَّادُ بْنُ قَارِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ. فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ أَنَّ هَذَا كَاهِنٌ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ الْكِهَانَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَلَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عُمَرُ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا اسْتَقْبَلْتَ أَحَدًا مِنْ جُلَسَائِكَ بِمِثْلِ مَا اسْتَقْبَلْتَنِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَمَّا سَأَلْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَادِقُ الْفِرَاسَةِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكُنْتُ رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ تَأَمَّلْتُ مَحَاسِنَهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدُكُمْ وَأَثَرُ الزِّنَا ظَاهِرٌ فِي عَيْنَيْهِ. فَقُلْتُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَلَكِنْ تَبْصِرَةٌ وَبُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ.
وَفِرَاسَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَصْدَقُ الْفِرَاسَةِ.
وَأَصْلُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِرَاسَةِ: مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ اللَّذَيْنِ يَهَبُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَحْيَا الْقَلْبُ بِذَلِكَ وَيَسْتَنِيرُ، فَلَا تَكَادُ فِرَاسَتُهُ تُخْطِئُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ. وَجَعَلَ لَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ فِي النَّاسِ عَلَى قَصْدِ السَّبِيلِ. وَيَمْشِي بِهِ فِي الظُّلَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
পৃষ্ঠা - ৯৪৯
[فَصْلٌ الثَّانِيَةُ فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ]
فَصْلٌ
الْفِرَاسَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ، وَالسَّهَرِ وَالتَّخَلِّي. فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَوَائِقِ صَارَ لَهَا مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِهَا. وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَلَا تَدُلُّ عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى وِلَايَةٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يَغْتَرُّ بِهَا. وَلِلرُّهْبَانِ فِيهَا وَقَائِعُ مَعْلُومَةٌ. وَهِيَ فِرَاسَةٌ لَا تَكْشِفُ عَنْ حَقٍّ نَافِعٍ. وَلَا عَنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. بَلْ كَشْفُهَا جُزْئِيٌّ مِنْ جِنْسِ فِرَاسَةِ الْوُلَاةِ، وَأَصْحَابِ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا وَالْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ.
وَلِلْأَطِبَّاءِ فِرَاسَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ حِذْقِهِمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ. وَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُطَالِعْ تَارِيخَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ الطِّبِّ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ، يَقْتَرِنُ بِهَا تَجْرِبَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الثَّالِثَةُ الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ]
فَصْلٌ
الْفِرَاسَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ. وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ. كَالِاسْتِدْلَالِ بِصِغَرِ الرَّأْسِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ عَلَى صِغَرِ الْعَقْلِ. وَبِكِبَرِهِ، وَبِسِعَةِ الصَّدْرِ، وَبُعْدِ مَا بَيْنَ جَانِبَيْهِ: عَلَى سَعَةِ خُلُقِ صَاحِبِهِ. وَاحْتِمَالِهِ وَبِسْطَتِهِ. وَبِضِيقِهِ عَلَى ضِيقِهِ، وَبِخُمُودِ الْعَيْنِ وَكَلَالِ نَظَرِهَا عَلَى بَلَادَةِ صَاحِبِهَا، وَضَعْفِ حَرَارَةِ قَلْبِهِ. وَبِشِدَّةِ بَيَاضِهَا مَعَ إِشْرَابِهِ بِحُمْرَةٍ - وَهُوَ الشَّكْلُ - عَلَى شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ وَفِطْنَتِهِ. وَبِتَدْوِيرِهَا مَعَ حُمْرَتِهَا وَكَثْرَةِ تَقَلُّبِهَا عَلَى خِيَانَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ.
وَمُعْظَمُ تَعَلُّقِ الْفِرَاسَةِ بِالْعَيْنِ. فَإِنَّهَا مِرْآةُ الْقَلْبِ وَعُنْوَانُ مَا فِيهِ. ثُمَّ بِاللِّسَانِ. فَإِنَّهُ رَسُولُهُ وَتُرْجُمَانُهُ. وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِزُرْقَتِهَا مَعَ شُقْرَةِ صَاحِبِهَا عَلَى رَدَاءَتِهِ. وَبِالْوَحْشَةِ الَّتِي تُرَى عَلَيْهَا عَلَى سُوءِ دَاخِلِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ.
وَكَالِاسْتِدْلَالِ بِإِفْرَاطِ الشَّعَرِ فِي السُّبُوطَةِ عَلَى الْبَلَادَةِ. وَبِإِفْرَاطِهِ فِي الْجُعُودَةِ عَلَى الشَّرِّ. وَبِاعْتِدَالِهِ عَلَى اعْتِدَالِ صَاحِبِهِ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْفِرَاسَةِ: أَنَّ اعْتِدَالَ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ: هُوَ مِنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَالرُّوحِ. وَعَنِ اعْتِدَالِهَا يَكُونُ اعْتِدَالُ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ. وَبِحَسَبِ انْحِرَافِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ عَنْ
পৃষ্ঠা - ৯৫০
الِاعْتِدَالِ: يَقَعُ الِانْحِرَافُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ.
هَذَا إِذَا خُلِّيتِ النَّفْسُ وَطَبِيعَتَهَا.
وَلَكِنَّ صَاحِبَ الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ الْمُعْتَدِلَةِ يَكْتَسِبُ بِالْمُقَارَنَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ أَخْلَاقَ مَنْ يُقَارِنُهُ وَيُعَاشِرُهُ. وَلَوْ أَنَّهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. فَيَصِيرُ مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَأَفْعَالًا، وَتَعُودُ لَهُ تِلْكَ طِبَاعًا، وَيَتَعَذَّرُ - أَوْ يَتَعَسَّرُ - عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهَا.
وَكَذَلِكَ صَاحَبُ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ الْمُنْحَرِفَةِ عَنْ الِاعْتِدَالِ يَكْتَسِبُ بِصُحْبَةِ الْكَامِلِينَ بِخُلْطَتِهِمْ أَخْلَاقًا وَأَفْعَالًا شَرِيفَةً. تَصِيرُ لَهُ كَالطَّبِيعَةِ. فَإِنَّ الْعَوَائِدَ وَالْمُزَاوَلَاتِ تُعْطِي الْمَلَكَاتِ وَالْأَخْلَاقَ.
فَلْيَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يُعَجِّلْ بِالْقَضَاءِ بِالْفِرَاسَةِ دُونَهُ. فَإِنَّ الْقَاضِيَ حِينَئِذٍ يَكُونُ خَطَؤُهُ كَثِيرًا. فَإِنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَسْبَابٌ لَا مُوجِبَةٌ. وَقَدْ تَتَخَلَّفُ عَنْهَا أَحْكَامُهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ.
وَفِرَاسَةُ الْمُتَفَرِّسِ تَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِعَيْنِهِ. وَأُذُنِهِ. وَقَلْبِهِ. فَعَيْنُهُ لِلسِّيمَاءِ وَالْعَلَامَاتِ. وَأُذُنُهُ: لِلْكَلَامِ وَتَصْرِيحِهِ وَتَعْرِيضِهِ، وَمَنْطُوقِهِ، وَمَفْهُومِهِ، وَفَحْوَاهُ وَإِشَارَتِهِ. وَلَحْنِهِ وَإِيمَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَلْبُهُ لِلْعُبُورِ: وَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمَنْظُورِ وَالْمَسْمُوعِ إِلَى بَاطِنِهِ وَخَفِيِّهِ. فَيَعْبُرُ إِلَى مَا وَرَاءَ ظَاهِرِهِ، كَعُبُورِ النُّقَّادِ مِنْ ظَاهِرِ النَّقْشِ وَالسِّكَّةِ إِلَى بَاطِنِ النَّقْدِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ زَغَلٌ؟ وَكَذَلِكَ عُبُورُ الْمُتَفَرِّسِ مِنْ ظَاهِرِ الْهَيْئَةِ وَالدَّلِّ، إِلَى بَاطِنِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، فَنِسْبَةُ نَقْدِهِ لِلْأَرْوَاحِ مِنَ الْأَشْبَاحِ كَنِسْبَةِ نَقْدِ الصَّيْرَفِيِّ يَنْظُرُ لِلْجَوْهَرِ مِنْ ظَاهِرِ السِّكَّةِ وَالنَّقْدِ.
وَكَذَلِكَ نَقْدُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ يَمُرُّ إِسْنَادٌ ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ عَلَى مَتْنٍ مَكْذُوبٍ. فَيُخْرِجُهُ نَاقِدُهُمْ، كَمَا يُخْرِجُ الصَّيْرَفِيُّ الزَّغَلَ مِنْ تَحْتِ الظَّاهِرِ مِنَ الْفِضَّةِ.
وَكَذَلِكَ فِرَاسَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ.
وَلِلْفِرَاسَةِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: جَوْدَةُ ذِهْنِ الْمُتَفَرِّسِ، وَحِدَّةُ قَلْبِهِ، وَحُسْنُ فِطْنَتِهِ.
وَالثَّانِي: ظُهُورُ الْعَلَامَاتِ وَالْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُتَفَرِّسِ فِيهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبَانِ لَمْ تَكَدْ تُخْطِئُ لِلْعَبْدِ فِرَاسَةٌ. وَإِذَا انْتَفَيَا لَمْ تَكَدْ تَصِحُّ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَإِذَا قَوِيَ أَحَدُهُمَا وَضَعُفَ الْآخَرُ. كَانَتْ فِرَاسَتُهُ بَيْنَ بَيْنَ.
وَكَانَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرَاسَةً. وَلَهُ الْوَقَائِعُ الْمَشْهُورَةُ. وَكَذَلِكَ
পৃষ্ঠা - ৯৫১
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ فِيهَا تَآلِيفُ.
وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ فِرَاسَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُمُورًا عَجِيبَةً. وَمَا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ تَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا.
أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِدُخُولِ التَّتَارِ الشَّامَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ تُكْسَرُ، وَأَنَّ دِمَشْقَ لَا يَكُونُ بِهَا قَتْلٌ عَامٌّ وَلَا سَبْيٌ عَامٌّ، وَأَنَّ كَلَبَ الْجَيْشِ وَحِدَّتَهُ فِي الْأَمْوَالِ. وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يَهُمَّ التَّتَارُ بِالْحَرَكَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ وَالْأُمَرَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ لَمَّا تَحَرَّكَ التَّتَارُ وَقَصَدُوا الشَّامَ: أَنَّ الدَّائِرَةَ وَالْهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَمِينًا. فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيَّ. قُلْتُ: لَا تُكْثِرُوا. كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. أَنَّهُمْ مَهْزُومُونَ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ. وَأَنَّ النَّصْرَ لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَأَطْمَعَتْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ وَالْعَسْكَرِ حَلَاوَةُ النَّصْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ.
وَكَانَتْ فِرَاسَتُهُ الْجُزْئِيَّةُ فِي خِلَالِ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ مِثْلَ الْمَطَرِ.
وَلَمَّا طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُرِيدَ قَتْلُهُ - بَعْدَمَا أُنْضِجَتْ لَهُ الْقُدُورُ، وَقُلِّبَتْ لَهُ الْأُمُورُ - اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ لِوَدَاعِهِ. وَقَالُوا: قَدْ تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الْقَوْمَ عَامِلُونَ عَلَى قَتْلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. قَالُوا: أَفَتُحْبَسُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَطُولُ حَبْسِي. ثُمَّ أَخْرُجُ وَأَتَكَلَّمُ بِالسُّنَّةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَلَمَّا تَوَلَّى عَدُوُّهُ الْمُلَقَّبُ بِالْجَاشِنْكِيرِ الْمُلْكَ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ. وَقَالُوا: الْآنَ بَلَغَ مُرَادَهُ مِنْكَ. فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا وَأَطَالَ. فَقِيلَ لَهُ: مَا سَبَبُ هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: هَذَا بِدَايَةُ ذُلِّهِ وَمُفَارَقَةُ عِزِّهِ مِنَ الْآنِ، وَقُرْبُ زَوَالِ أَمْرِهِ. فَقِيلَ: مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا تُرْبَطُ خُيُولُ الْجُنْدِ عَلَى الْقُرْطِ حَتَّى تُغْلَبَ دَوْلَتُهُ. فَوَقَعَ الْأَمْرُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ مَرَّةً: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَصْحَابِي وَغَيْرُهُمْ. فَأَرَى فِي وُجُوهِهِمْ وَأَعْيُنِهِمْ أُمُورًا لَا أَذْكُرُهَا لَهُمْ.
فَقُلْتُ لَهُ - أَوَ غَيْرِي - لَوْ أَخْبَرْتَهُمْ؟ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أَكُونَ مُعَرِّفًا كَمُعَرَّفِ الْوُلَاةِ؟
পৃষ্ঠা - ৯৫২
وَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ عَامَلْتَنَا بِذَلِكَ لَكَانَ أَدْعَى إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ. فَقَالَ: لَا تَصْبِرُونَ مَعِي عَلَى ذَلِكَ جُمُعَةً، أَوْ قَالَ: شَهْرًا.
وَأَخْبَرَنِي غَيْرَ مَرَّةٍ بِأُمُورٍ بَاطِنَةٍ تَخْتَصُّ بِي مِمَّا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانِي.
وَأَخْبَرَنِي بِبَعْضِ حَوَادِثَ كِبَارٍ تَجْرِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمْ يُعَيِّنْ أَوْقَاتَهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَهَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ بَقِيَّتَهَا.
وَمَا شَاهَدَهُ كِبَارُ أَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا شَاهَدَتْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفِرَاسَةِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْفِرَاسَةُ: اسْتِئْنَاسُ حُكْمِ غَيْبٍ
وَالِاسْتِئْنَاسُ: اسْتِفْعَالٌ مَنْ آنَسْتَ كَذَا، إِذَا رَأَيْتَهُ. فَإِنْ أَدْرَكْتَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَاسِ حُكْمَ غَيْبٍ: كَانَ فِرَاسَةً. وَإِنْ كَانَ بِالْعَيْنِ: كَانَ رُؤْيَةً. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَدَارِكِ: فَبِحَسَبِهَا.
قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِشَاهِدِهِ
هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ: أَمْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْبُرُوقِ وَالرُّعُودِ عَلَى الْأَمْطَارِ، وَكَاسْتِدْلَالِ رُؤَسَاءِ الْبَحْرِ بِالْكَدَرِ الَّذِي يَبْدُو لَهُمْ فِي جَانِبِ الْأُفُقِ عَلَى رِيحٍ عَاصِفٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَاسْتِدْلَالِ الطَّبِيبِ بِالسِّحْنَةِ وَالتَّفْسِرَةِ عَلَى حَالِ الْمَرِيضِ.
وَيَدِقُّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى حَدٍّ يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْأَذْهَانِ. وَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِسِيرَةِ الرَّجُلِ وَسَيْرِهِ عَلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. فَيُطَابِقُ، أَوْ يَكَادُ.
فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْفِرَاسَةِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيهَا هَذِهِ الطَّائِفَةُ. وَهُوَ نَوْعُ فِرَاسَةٍ، لَكِنَّهَا غَيْرُ فِرَاسَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ مِنْ مَسَائِلِ الطِّبِّ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْفِلَاحَةِ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
পৃষ্ঠা - ৯৫৩
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْفِرَاسَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ. تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. لِحَاجَةِ سَمْعِ مُرِيدٍ صَادِقٍ إِلَيْهَا. لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى مُخْرِجِهَا. وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ وَمَا ضَاهَأَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ، وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ. وَلَمْ تُسْبَقْ بِوُجُودٍ.
يُرِيدُ بِهَذَا النَّوْعِ: فِرَاسَةً تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْغَافِلِينَ، الَّذِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ يَقَظَةُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ. الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَلَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُ صَاحِبِهِ. فَيَسْقُطُ عَلَى لِسَانِهِ مُكَاشَفَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. وَذَلِكَ نَادِرٌ. وَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ.
وَقَوْلُهُ: لِحَاجَةِ مُرِيدٍ صَادِقٍ.
يُشِيرُ إِلَى حِكْمَةِ إِجْرَائِهَا عَلَى لِسَانِهِ. وَهِيَ حَاجَةُ الْمُرِيدِ الصَّادِقِ إِلَيْهَا. فَإِذَا سَمِعَهَا عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ كَانَ أَشَدَّ تَنْبِيهًا لَهُ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَوْقِعًا.
وَقَوْلُهُ: لَا يُوقَفُ عَلَى مُخْرِجِهَا.
يَعْنِي لَا يُعْلَمُ الشَّخْصُ الَّذِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ. وَاتَّصَلَتْ بِهِ. مَا سَبَبُ مُخْرِجِ ذَلِكَ الْكَلَامِ؟ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مُقْتَطَعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا هَيَّجَهُ.
وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْفَأْلِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيُعْجِبُهُ. وَالطِّيَرَةُ مِنْ هَذَا. وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَطَيَّرُ. فَإِنَّ التَّطَيُّرَ شِرْكٌ. وَلَا يَصُدُّهُ مَا سَمِعَ عَنْ مَقْصِدِهِ وَحَاجَتِهِ. بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَيَثِقُ بِهِ. وَيَدْفَعُ شَرَّ التَّطَيُّرِ عَنْهُ بِالتَّوَكُّلِ.
পৃষ্ঠা - ৯৫৪
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ - وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا مَنَّا إِلَّا - يَعْنِي مَنْ يَعْتَرِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهَا بِالتَّوَكُّلِ - مُدْرَجَةٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا.
وَمِنْ لَهُ يَقَظَةٌ يَرَى وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ. وَهِيَ مِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ تَارَةً عَلَى لِسَانِ النَّاطِقِ. وَتَارَةً مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ.
فَالْإِلْقَاءُ الْمَلَكِيُّ: تَبْشِيرٌ وَتَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ. وَالْإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِيُّ: تَحْزِينٌ وَتَخْوِيفٌ وَشِرْكٌ. وَصَدٌّ عَنِ الْمَطَالِبِ.
وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ وَالْعَزِيمَةِ: لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ. وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُرُّهُ اسْتَبْشَرَ. وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ وَحَسُنَ ظَنُّهُ. وَحَمِدَ اللَّهَ. وَسَأَلَهُ إِتْمَامَهُ. وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُصُولِهِ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُوءُهُ: اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَوَثِقَ بِهِ. وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَالْتَجَأَ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ.
وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نُصْبَ قَلْبِهِ، وَعَلَّقَ بِهِ هِمَّتَهُ: كَانَ ضَرَرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ.
قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ
يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ. وَأَحْوَالُ الْكُهَّانِ مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَغِيبَاتِ بِوَاسِطَةِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّمْعَ، وَلَمْ يَزَلْ هَؤُلَاءِ فِي الْوُجُودِ. وَيَكْثُرُونَ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَخْفَى فِيهَا نُورُ النُّبُوَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُلُّ زَمَانِ جَاهِلِيَّةٍ وَبَلَدِ جَاهِلِيَّةٍ وَطَائِفَةِ جَاهِلِيَّةٍ، فَلَهُمْ
পৃষ্ঠা - ৯৫৫
نُصِيبٌ مِنْهَا بِحَسَبِ اقْتِرَانِ الشَّيَاطِينِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لَهُمْ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا ضَاهَأَهَا أَيْ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ جِنْسِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ، وَضَرْبِ الْحَصَا وَالْوَدَعِ، وَزَجْرِ الطَّيْرِ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ السَّانِحَ وَالْبَارِحَ، وَالْقُرْعَةِ الشِّرْكِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوسُ الْجَاهِلِيَّةُ الْمُشْرِكَةُ الَّتِي عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرٌ وَبَوَارٌ.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ.
أَيْ عَنْ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا يَصْدُرُ عَنْهَا إِلَّا حَقٌّ. يَعْنِي غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ.
يَعْنِي أَنَّهَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، لَا عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ. وَصَاحِبُهَا دَائِمًا فِي شَكٍّ. لَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تُسَقْ بِوُجُودٍ.
أَيْ لَمْ يَسُقْهَا وُجُودُ الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِهَا، بَلْ هُوَ فَارِغٌ بَوٌّ غَيْرُ وَاجِدٍ، بَلْ فَاقِدٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْوُجُودِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ فِرَاسَةٌ تُجْنَى عَنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةٌ تُجْنَى عَنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ. وَتَطْلُعُ مِنْ صِحَّةِ الْحَالِ. وَتَلْمَعُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ.
هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ: مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: تُجْنَى مِنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ وَشَبَّهَ الْإِيمَانَ بِالْغَرْسِ، لِأَنَّهُ يَزْدَادُ وَيَنْمُو، وَيَزْكُو عَلَى السَّقْيِ. وَيُؤْتِي أُكُلَهُ كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَأَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ. وَفُرُوعُهُ فِي السَّمَاءِ، فَمَنْ غَرَسَ الْإِيمَانَ فِي أَرْضِ قَلْبِهِ الطَّيِّبَةِ الزَّاكِيَةِ، وَسَقَى ذَلِكَ الْغِرَاسَ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ وَالْمُتَابَعَةِ: كَانَ مِنْ بَعْضِ ثَمَرِهِ هَذِهِ الْفِرَاسَةُ.
قَوْلُهُ: وَتَطْلُعُ مِنْ صِحَّةِ الْحَالِ
يَعْنِي: أَنَّ صِدْقَ الْفِرَاسَةِ مَنْ صِدْقِ الْحَالِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْحَالُ أَصْدَقَ وَأَصَحَّ فَالْفِرَاسَةُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَتَلْمَعُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ
يَعْنِي أَنَّ نُورَ الْكَشْفِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُولِّدُ الْفِرَاسَةَ، بَلْ أَصْلُهَا نُورُ الْكَشْفِ.