মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة الفقر

পৃষ্ঠা - ৯০২
وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ الْبَقَاءَ فِي الذِّكْرِ أَكْمَلُ مِنَ الْفَنَاءِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ بِهِ; لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْمَعَارِفِ وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَشُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ. وَلَيْسَ فِي الْفَنَاءِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْفَنَاءُ - كَاسْمِهِ - الْفَنَاءُ، وَالْبَقَاءُ بَقَاءٌ كَاسْمِهِ، وَالْفَنَاءُ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ وَالْبَقَاءُ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ وَالْفِنَاءُ وَصْفُ الْعَبْدِ وَالْبَقَاءُ وَصْفُ الرَّبِّ. وَالْفَنَاءُ عَدَمٌ وَالْبَقَاءُ وُجُودٌ وَالْفَنَاءُ نَفْيٌ وَالْبَقَاءُ إِثْبَاتٌ وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مُخْطِرٌ، وَكَمْ بِهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَمَهْلَكَةٍ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْبَقَاءِ آمِنٌ; فَإِنَّهُ دَرِبَ عَلَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالْهُدَاةُ وَالْخُفَرَاءُ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْفَنَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَوِيلٌ وَلَا يَشُكُّونَ فِي سَلَامَتِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَرْبَ الْفَنَاءِ أَقْرَبُ وَرَاكِبَهُ طَائِرٌ وَرَاكِبَ دَرْبِ الْبَقَاءِ سَائِرٌ، وَالْكُمَّلُ مِنَ السَّائِرِينَ يَرَوْنَ الْفَنَاءَ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَ نُزُولُهَا عَامًّا لِكُلِّ سَائِرٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهَا وَلَا يَمُرُّ بِهَا، وَإِنَّمَا الدَّرْبُ الْأَعْظَمُ وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ هُوَ دَرْبُ الْبَقَاءِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَطَرٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ] [حَقِيقَةُ الْفَقْرِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَشْرَفُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا. بَلْ هِيَ رُوحُ كُلِّ مَنْزِلَةٍ وَسِرُّهَا وَلُبُّهَا وَغَايَتُهَا. وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْفَقْرِ. وَالَّذِي تُرِيدُ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. فَإِنَّ لَفْظَ الْفَقْرِ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]- الْآيَةَ أَيِ الصَّدَقَاتُ لِهَؤُلَاءِ. كَانَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا عَشَائِرُ. وَكَانُوا قَدْ حَبَسُوا
পৃষ্ঠা - ৯০৩
أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَكَانُوا وَقْفًا عَلَى كُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ. هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي إِحْصَارِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: حَبْسُهُمُ الْفَقْرُ وَالْعُدْمُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَمَّا عَادَوْا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَجَاهَدُوهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَحُصِرُوا عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ. فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ - لِفَقْرِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ - لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَلِكَمَالِ عِفَّتِهِمْ وَصِيَانَتِهِمْ يَحْسَبُهُمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]- الْآيَةَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] . فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ: خَوَاصُّ الْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ. وَالثَّالِثُ: الْفَقْرُ الْعَامُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ: غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ. فَالْفُقَرَاءُ الْمَوْصُوفُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: يُقَابِلُهُمْ أَصْحَابُ الْجِدَةِ، وَمَنْ لَيْسَ مُحْصَرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَكْتُمُ فَقْرَهُ تَعَفُّفًا. فَمُقَابِلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مُقَابِلِ الصِّنْفِ الثَّانِي. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: يُقَابِلُهُمُ الْأَغْنِيَاءُ أَهْلُ الْجِدَةِ. وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُتَعَفِّفُ وَغَيْرُهُ. وَالْمُحْصَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: لَا مُقَابِلَ لَهُمْ. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْفَقْرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالَةٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُسَمَّى فَقْرًا. بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبُّهَا. وَعَزْلُ النَّفْسِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَقِيقَتُهُ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَرَسْمُهُ: عَدَمُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا. يَقُولُ: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: شَيْءٌ لَا يَضَعُهُ اللَّهُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُحِبُّهُ. وَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْ يُرِيدُهُ.
পৃষ্ঠা - ৯০৪
وَسُئِلَ رُوَيْمٌ عَنِ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِرْسَالُ النَّفْسِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يُحْمَدُ فِي إِرْسَالِهَا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَرُ بِمُدَافَعَتِهَا وَالتَّحَرُّزِ مِنْهَا. وَسُئِلَ أَبُو حَفْصٍ: بِمَ يَقْدَمُ الْفَقِيرُ عَلَى رَبِّهِ؟ فَقَالَ: مَا لِلْفَقِيرِ شَيْءٌ يَقْدَمُ بِهِ عَلَى رَبِّهِ سِوَى فَقْرِهِ. وَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَكَمَالُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَسْتَحِقُّ الْفَقِيرُ اسْمَ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَبْقِ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَهُوَ لَهُ. وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْعِبَارَاتِ عَنْ مَعْنَى الْفَقْرِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَهُوَ أَنَّ كُلَّهُ يَصِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ وَحَظِّهِ وَهَوَاهُ. فَمَتَى بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ فَفَقْرُهُ مَدْخُولٌ. ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنَفَسِهِ فَهُوَ لِلَّهِ. فَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا تَكُونَ لِنَفْسِكَ. وَلَا يَكُونَ لَهَا مِنْكَ شَيْءٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّكَ لِلَّهِ. وَإِذَا كُنْتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مِلْكٌ وَاسْتِغْنَاءٌ مُنَافٍ لِلْفَقْرِ. وَهَذَا الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: لَا تُنَافِيهِ الْجِدَةُ وَلَا الْأَمْلَاكُ. فَقَدْ كَانَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ فِي ذُرْوَتِهِ مَعَ جِدَتِهِمْ، وَمُلْكِهِمْ، كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبَا الضِّيفَانِ. وَكَانَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ وَالْمَوَاشِي، وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَكَذَلِكَ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فَكَانُوا أَغْنِيَاءَ فِي فَقْرِهِمْ. فُقَرَاءَ فِي غِنَاهُمْ. فَالْفَقْرُ الْحَقِيقِيُّ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدَ - فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ - فَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَالْفَقْرُ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ. وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ لِشُهُودِهِ وَوُجُودِهِ حَالًا، وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ. كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيُّ
পৃষ্ঠা - ৯০৫
وَلَهُ آثَارٌ وَعَلَامَاتٌ وَمُوجِبَاتٌ وَأَسْبَابٌ أَكْثَرُ إِشَارَاتِ الْقَوْمِ إِلَيْهَا. كَقَوْلِ بَعْضِهِمُ: الْفَقِيرُ لَا تَسْبِقُ هِمَّتَهُ خَطْوَتُهُ. يُرِيدُ: أَنَّهُ ابْنُ حَالِهِ وَوَقْتِهِ. فَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَقْتِهِ لَا تَتَعَدَّاهُ. وَقِيلَ: أَرْكَانُ الْفَقْرِ أَرْبَعَةٌ: عِلْمٌ يَسُوسُهُ، وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ، وَيَقِينٌ يَحْمِلُهُ، وَذِكْرٌ يُؤْنِسُهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: حَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ. وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَتَى يَسْتَرِيحُ الْفَقِيرُ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: أَحْسُنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَمُلَازَمَةُ السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَطَلَبُ الْقُوتِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَقِيلَ: مِنْ حُكْمِ الْفَقْرِ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ. فَإِذَا كَانَ وَلَا بُدَّ فَلَا تُجَاوِزُ رَغْبَتُهُ كِفَايَتَهُ. وَقِيلَ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا يُمْلَكُ. وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا: مَنْ يَمْلِكُ وَلَا يَمْلِكُهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ أَرَادَ الْفَقْرَ لِشَرَفِ الْفَقْرِ مَاتَ فَقِيرًا. وَمَنْ أَرَادَهُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مَاتَ غَنِيًّا. وَالْفَقْرُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَبِدَايَتُهُ: الذُّلُّ. وَنِهَايَتُهُ: الْعِزُّ. وَظَاهِرُهُ: الْعَدَمُ. وَبَاطِنُهُ: الْغِنَى. كَمَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: فَقْرٌ وَذُلٌّ؟ فَقَالَ: لَا. بَلْ فَقَرٌّ وَعِزٌّ. فَقَالَ: فَقْرٌ وَثَرَاءٌ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ فَقَرٌّ وَعَرْشٌ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ - مَعَ التَّخْلِيطِ - خَيْرٌ مِنْ دَوَامِ الصَّفَاءِ مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالْعُجْبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا صَفَاءَ مَعَهُمَا. وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْفَقْرِ عَلِمْتَ أَنَّهُ عَيْنُ الْغِنَى بِاللَّهِ. فَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ: أَيُّ الْحَالَيْنِ أَكْمَلُ؟ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ، أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ؟ . فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَغَانِيُّ فَقَالَ: إِذَا صَحَّ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ
পৃষ্ঠা - ৯০৬
تَعَالَى فَقَدْ صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ، وَإِذَا صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ كَمَلَ الْغِنَى بِهِ. فَلَا يُقَالُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: الِافْتِقَارُ أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ؟ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ لَا تَتِمُّ إِحْدَاهُمَا إِلَّا بِالْأُخْرَى. وَأَمَّا كَلَامُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. فَعِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ. فَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا. فَإِنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَلَمْ يَقُلْ أَفْقَرُكُمْ وَلَا أَغْنَاكُمْ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] كَلَّا أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْطَيْتُهُ: أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ وَقَتَّرْتُ: أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، فَالْإِكْرَامُ: أَنْ يُكْرِمَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَالْإِهَانَةُ: أَنْ يَسْلُبَهُ ذَلِكَ. قَالَ - يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ - وَلَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ. بَلْ بِالتَّقْوَى، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. وَتَذَاكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَ: لَا يُوزَنُ غَدًا الْفَقْرُ وَلَا الْغِنَى، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحَالٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لَا بُّدَ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ. وَنِصْفٌ شُكْرٌ. بَلْ قَدْ يَكُونُ نَصِيبُ الْغَنِيِّ وَقِسْطُهُ مِنَ الصَّبْرِ أَوْفَرَ. لِأَنَّهُ يَصْبِرُ عَنْ قُدْرَةٍ، فَصَبْرُهُ أَتَمُّ مَنْ صَبْرِ مَنْ يَصْبِرُ عَنْ عَجْزٍ. وَيَكُونُ شُكْرُ الْفَقِيرِ أَتَمَّ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفَقِيرُ أَعْظَمُ فَرَاغًا لِلشُّكْرِ مِنَ الْغَنِيِّ. فَكِلَاهُمَا لَا تَقُومُ قَائِمَةُ إِيمَانِهِ إِلَّا عَلَى سَاقِي الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. نَعَمِ، الَّذِي يَحْكِي النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَرْعًا مِنَ الشُّكْرِ، وَفَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ.
পৃষ্ঠা - ৯০৭
وَأَخَذُوا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا. فَجَرَّدُوا غَنِيًّا مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا، بَاذِلًا مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ، شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ. وَفَقِيرًا مُتَفِرِّغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَلِأَوْرَادِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الطَّاعَاتِ، صَابِرًا عَلَى فَقْرِهِ. فَهَلْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْغَنِيِّ، أَمِ الْغَنِيِّ أَكْمَلُ مِنْهُ؟ . فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا. فَإِنْ تَسَاوَتْ طَاعَتُهُمَا تَسَاوَتْ دَرَجَاتُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفَقْرِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. الْفَقْرُ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَلَكَةِ. عَدَلَ الشَّيْخُ عَنْ لَفْظِ عَدَمِ الْمَلَكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَلَكَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَلَكَةِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ حَقِيقَةً. فَعَدَمُ الْمَلَكَةِ: أَمْرٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي الْفَقْرِ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ: هُوَ فَقْرُ الِاخْتِيَارِ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَقْرِ. وَهُوَ بَرَاءَةُ الْعَبْدِ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُ مَالِكَهُ الْحَقَّ. وَلَمَّا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ لَهُ. وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ. فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَيُسَلِّمْهَا لِمَالِكِهَا الْحَقُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي الْفَقْرِ قَدَمٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ قَدَمِ الْفَقْرِ: الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُهَا لِمَالِكِهَا وَمَوْلَاهَا. فَلَا يُخَاصِمُ لَهَا وَلَا يَتَوَكَّلُ لَهَا وَلَا يُحَاجِجُ عَنْهَا وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا، بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا وَسَيِّدِهَا. قَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: لَا تُخَاصِمْ لِنَفْسِكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ. دَعْهَا لِمَالِكِهَا يَفْعَلُ بِهَا مَا يُرِيدُ. وَقَدْ أَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْفَقْرِ. وَلَا دُخُولَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْفَقْرِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَقْرُ الزُّهَّادِ] فَصْلٌ قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ. وَهُوَ قَبْضُ الْيَدِ عَنْ
পৃষ্ঠা - ৯০৮
الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا. وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا. وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا. وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ. الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالصُّوَرِ، وَالْمَرَاتِبِ وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا اسْمٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَمَا فَوْقَ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا. وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْهَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ: تَكُونُ الدُّنْيَا زَمَانًا. وَعَلَى الثَّانِي: تَكُونُ مَكَانًا. وَلَمَّا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، كَانَ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ: تَعْطِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِهَا وَسَلْبِهَا مِنْهَا. فَلِذَلِكَ قَالَ قَبْضُ الْيَدِ عَنِ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا. يَعْنِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنْ إِمْسَاكِهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ. فَإِذَا قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْإِمْسَاكِ جَادَ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَاصِلَةٍ لَهُ كَفَّ يَدَهُ عَنْ طَلَبِهَا. فَلَا يَطْلُبُ مَعْدُومَهَا. وَلَا يَبْخَلُ بِمَوْجُودِهَا. وَأَمَّا تَعْطِيلُهَا عَنِ اللِّسَانِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَمْدَحَهَا وَلَا يَذُمَّهَا. فَإِنَّ اشْتِغَالَهُ بِمَدْحِهَا أَوْ ذَمِّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهَا وَرَغْبَتِهِ فِيهَا. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بِذَمِّهَا حَيْثُ فَاتَتْهُ. كَمَنْ طَلَبَ الْعُنْقُودَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ حَامِضٌ. وَلَا يَتَصَدَّى لِذَمِّ الدُّنْيَا إِلَّا رَاغِبٌ مُحِبٌّ مُفَارِقٌ. فَالْوَاصِلُ مَادِحٌ. وَالْمُفَارِقُ ذَامٌّ. وَأَمَّا تَعْطِيلُ الْقَلْبِ مِنْهَا فَبِالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِ طَلَبِهَا وَتَرْكِهَا. فَإِنَّ لِتَرْكِهَا آفَاتٌ. وَلِطَلَبِهَا آفَاتٌ. وَالْفَقْرُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ. بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. لَا فِي طَلَبِهَا وَأَخْذِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا. فَإِنْ قُلْتَ: عَرَفْتُ الْآفَةَ فِي أَخْذِهَا وَطَلَبِهَا. فَمَا وَجْهُ الْآفَةِ فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا؟ قُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى:
পৃষ্ঠা - ৯০৯
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا - وَهُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ - تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُقِيمُهُ وَيُقِيتُهُ وَيُعَيِّشُهُ. وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَيَبْقَى فِي مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ مَعَ نَفْسِهِ لِتَرْكِ مَعْلُوِمِهَا وَحَظِّهَا مِنَ الدُّنْيَا. وَهَذِهِ قِلَّةُ فِقْهٍ فِي الطَّرِيقِ، بَلِ الْفَقِيهُ الْعَارِفُ: يَرُدُّهَا عَنْهُ بِلُقْمَةٍ. كَمَا يَرُدُّ الْكَلْبَ إِذَا نَبَحَ عَلَيْهِ بِكِسْرَةٍ. وَلَا يَقْطَعُ زَمَانَهُ بِمُجَاهَدَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، بَلْ أَعْطِهَا حَظَّهَا، وَطَالِبْهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ. هَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» . وَالْعَارِفُ الْبَصِيرُ يَجْعَلُ عِوَضَ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ: مُجَاهَدَتَهُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ. كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ بَنِي الْعِلْمِ، وَبَنِي الْإِرَادَةِ، وَيَسْتَفْرِغُ قُوَاهُ فِي حَرْبِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ. وَيَتَقَوَّى عَلَى حَرْبِهِمْ بِإِعْطَاءِ النَّفْسِ حَقَّهَا مِنَ الْمُبَاحِ. وَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا. وَمِنْ آفَاتِ التَّرْكِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِذَا مَسَّتْهُ الْحَاجَةُ إِلَى مَا تَرَكَهُ، فَاسْتِدَامَتُهَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ. وَمِنْ آفَاتِ تَرْكِهَا، وَعَدَمِ أَخْذِهَا: مَا يُدَاخِلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالزَّهْوِ. وَهَذَا يُقَابِلُ الزُّهْدَ فِيهَا وَتَرْكَهَا. كَمَا أَنَّ كَسْرَةَ الْآخِذِ وَذِلَّتَهُ وَتَوَاضُعَهُ: يُقَابِلُ الْآخِذَ التَّارِكَ. فَفِي الْأَخْذِ آفَاتٌ. وَفِي التَّرْكِ آفَاتٌ. فَالْفَقْرُ الصَّحِيحُ: السَّلَامَةُ مِنْ آفَاتِ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِقْهٍ فِي الْفَقْرِ. قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ. يَعْنِي تَكَلَّمَ فِيهِ أَرْبَابُ السُّلُوكِ. وَفَضَّلُوهُ وَمَدَحُوهُ.
পৃষ্ঠা - ৯১০
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ. وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ. وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ. وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ. يُرِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّبْقِ: الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا سَبَقَتْ بِهِ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِمُطَالَعَةِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَجُودِهِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ - وَكُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ - فَهُوَ مَحْضُ جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَاتِهِ سِوَى الْعَدَمِ. وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَإِيمَانُهُ وَأَعْمَالُهُ كُلُّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَأَحْضَرَهُ قَلْبُهُ. وَتَحَقَّقَ بِهِ: خَلَّصَهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ. وَلَيْسَتْ مِنْهُ هُوَ وَلَا بِهِ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الطَّائِفَةِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَعْمَالِ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْهَا: شُهُودُ السَّبْقِ، وَمُطَالِعَةُ الْفَضْلِ. وَقَوْلُهُ: وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ. لِأَنَّهُ إِذَا طَالَعَ سَبْقَ فَضْلِ اللَّهِ: عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَحْضُ جُودِهِ. فَلَا يَشْهَدُ لَهُ حَالًا مَعَ اللَّهِ وَلَا مَقَامًا، كَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَمَلًا. فَقَدْ جَعَلَ عُدَّتَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: فَقْرَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ. فَهُوَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ الْمَحْضِ. فَالْفَقْرُ خَيْرُ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالنِّسْبَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ. هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّخَلُّصِ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنْ رُؤْيَةِ شُهُودِ الْأَحْوَالِ، وَمُطَالِعَةُ الْمَقَامَاتِ: دَنَسٌ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. فَمُطَالَعَةُ الْفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ هَذَا الدَّنَسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمَقَامِ: أَنَّ الْحَالَ مَعْنًى يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابٍ لَهُ، وَلَا اكْتِسَابٍ، وَلَا تَعَمُّدٍ. وَالْمَقَامُ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ. فَالْأَحْوَالُ عِنْدَهُمْ مَوَاهِبٌ، وَالْمَقَامَاتُ مَكَاسِبٌ. فَالْمَقَامُ يَحْصُلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَأَمَّا الْحَالُ: فَمِنْ عَيْنِ الْجُودِ. وَلَمَّا دَخَلَ الْوَاسِطِيُّ نَيْسَابُورَ سَأَلَ أَصْحَابَ أَبِي عُثْمَانَ: بِمَاذَا كَانَ يَأْمُرُكُمْ شَيْخُكُمْ؟
পৃষ্ঠা - ৯১১
فَقَالُوا: كَانَ يَأْمُرُ بِالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ، وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيهَا. فَقَالَ: أَمَرَكُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ الْمَحْضَةِ. هَلَّا أَمَرَكُمْ بِالْغَيْبَةِ عَنْهَا بِرُؤْيَةِ مُنْشِئِهَا وَمُجْرِيهَا؟ . قُلْتُ: لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَبُو عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمَحْضَةِ. وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَمُطَالَعَةُ التَّقْصِيرِ فِيهِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ رَائِحَةِ الْمَجُوسِيَّةِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ إِذَا بَذَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ صَانَهُ ذَلِكَ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالشِّرْكِ. وَإِذَا شَهِدَ تَقْصِيرَهُ فِيهَا صَانَهُ عَنِ الْإِعْجَابِ. فَيَكُونُ قَائِمًا بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ: فَمَشْهَدُ الْفَنَاءِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَشْهَدَ الْبَقَاءِ أَكْمَلُ. فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَنْ طَاعَاتِهِ: لَمْ يَشْهَدْ تَقْصِيرَهُ فِيهَا. وَمِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ: شُهُودُ التَّقْصِيرِ. فَمَشْهَدُ أَبِي عُثْمَانَ أَتَمُّ مِنْ مَشْهَدِ الْوَاسِطِيِّ. وَأَبُو عُثْمَانَ هَذَا: هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّيْسَابُورِيُّ مِنْ جُلَّةِ شُيُوخِ الْقَوْمِ وَعَارِفِيهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ: فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ، لَا رَابِعَ لَهُمْ: أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ بِنَيْسَابُورَ، وَالْجُنَيْدُ بِبَغْدَادَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجَلَا بِالشَّامِ. وَلَهُ كَلَامٌ رَفِيعٌ عَالٍ فِي التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْوَصِيَّةِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَحْكِيمِهَا وَلُزُومِهَا. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ مَزَّقَ ابْنُهُ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ، عَلَامَةُ رِيَاءٍ فِي الْبَاطِنِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الِاضْطِرَارُ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الِاضْطِرَارُ. وَالْوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ. أَوْ الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ. وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ. الِاضْطِرَارُ: شُهُودُ كَمَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَاقَةُ عِلْمًا وَحَالًا. وَيُرِيدُ بِالْوُقُوعِ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ: حَضْرَةَ الْجَمْعِ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا أَغْيَارٌ. فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَحْدَانِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا. وَالْوُقُوعُ فِي يَدِهَا: الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ لَهَا. وَالدُّخُولُ فِي رِقِّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ: هِيَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَرُؤْيَتُهَا بِنُورِ الْكَشْفِ، حَيْثُ يَشْهَدُهَا مَنْشَأُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ. وَالْكَائِنَاتُ عَدَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. وَأَمَّا الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ.