মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة الفتوة

পৃষ্ঠা - ৮১৬
حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِالنَّارِ» . فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ مَا لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَعْيٌ. كَمَا قِيلَ: مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ... كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أَوْ نُعِّمُوا ... فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَنْزِلُ عَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ. أَيْ مِنْ جُمْلَةِ التَّوَاضُعِ لِلْحَقِّ: فَنَاؤُكَ عَنْ نَفْسِكَ. فَإِنَّ رَسْمَهُ هِيَ نَفْسُهُ. وَالنُّزُولُ عَنْهَا: فَنَاؤُهُ عَنْهَا حِينَ شُهُودِهِ الْحَضْرَةَ. وَهَذَا النُّزُولُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرَ كَسْبِيٍّ. لِأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّجَلِّي. وَالتَّجَلِّي نُورٌ. وَالنُّورُ يَقْهَرُ الظُّلْمَةَ وَيُبْطِلُهَا. وَالرَّسْمُ عِنْدَ الْقَوْمِ ظُلْمَةٌ. فَهِيَ تَنْفِرُ مِنَ النُّورِ بِالذَّاتِ. فَصَارَ النُّزُولُ عَنِ الرَّسْمِ حِينَ التَّجَلِّي ذَاتِيًّا. وَوَجْهُ كَوْنِهِ كَسْبِيًّا: أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْمَقَامَاتِ الْكَسْبِيَّةِ. وَنَتِيجَةُ الْكَسْبِيِّ كَسْبِيٌّ. وَثَمَرَتُهُ، وَإِنْ حَصَلَتْ ضَرُورَةً بِالذَّاتِ: لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا كَوْنُهَا كَسَبِيَّةً بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ] [حَقِيقَةُ الْفُتُوَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ حَقِيقَتُهَا هِيَ مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ. وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ. وَاحْتِمَالُ أَذَاهُمْ. فَهِيَ اسْتِعْمَالُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَهُمْ. فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَتِيجَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَاسْتِعْمَالِهِ.
পৃষ্ঠা - ৮১৭
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرُوءَةِ: أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَعَمُّ مِنْهَا. فَالْفُتُوَّةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُرُوءَةِ. فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُ وَيُزَيِّنُ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعَبْدِ، أَوْ مُتَعَدٍّ إِلَى غَيْرِهِ. وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُ وَيُشِينُ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ أَيْضًا بِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ. وَالْفُتُوَّةُ إِنَّمَا هِيَ اسْتِعْمَالُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَهِيَ ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ: مَنْزِلَةُ التَّخَلُّقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ. وَمَنْزِلَةُ الْمُرُوءَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ. وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ، لَمْ تُعَبِّرْ عَنْهَا الشَّرِيعَةُ بِاسْمِ الْفُتُوَّةِ بَلْ عَبَّرَتْ عَنْهَا بِاسْمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا فِي حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنَ الْأَفْعَالِ» . وَأَصْلُ الْفُتُوَّةِ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الْحَدِيثُ السِّنِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] وَقَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّهُمْ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ - وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 36 - 62] . فَاسْمُ الْفَتَى لَا يُشْعِرُ بِمَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ، كَاسْمِ الشَّابِّ وَالْحَدَثِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِئِ اسْمُ
পৃষ্ঠা - ৮১৮
الْفُتُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي لِسَانِ السَّلَفِ. وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهَا عِنْدَهُمْ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ. وَأَقْدَمُ مَنْ عَلِمْتُهُ تَكَلَّمَ فِي الْفُتُوَّةِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْجُنَيْدُ. ثُمَّ الطَّائِفَةُ. فَيُذْكَرُ أَنَّ عَفْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنْ أُعْطِيتُ شَكَرْتُ. وَإِنْ مُنِعْتُ صَبَرْتُ. فَقَالَ: الْكِلَابُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ. فَقَالَ السَّائِلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. فَمَا الْفُتُوَّةُ عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَ: إِنْ أُعْطِينَا آثَرْنَا. وَإِنْ مُنِعْنَا شَكَرْنَا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْفُتُوَّةُ: الصَّفْحُ عَنْ عَثَرَاتِ الْإِخْوَانِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - عَنْهُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. وَلَا أَعْلَمُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا سِوَاهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: لَا تُنَافِرُ فَقِيرًا، وَلَا تُعَارِضُ غَنِيًّا. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تَنْصِفَ وَلَا تَنْتَصِفَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ: الْفُتُوَّةُ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تَكُونَ خَصْمًا لِرَبِّكَ عَلَى نَفْسِكَ. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ فَضْلًا عَلَى غَيْرِكَ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: هَذَا الْخُلُقُ لَا يَكُونُ كَمَالُهُ إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نَفْسِي نَفْسِي، وَهُوَ يَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي.
পৃষ্ঠা - ৮১৯
وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ: كَسْرُ الصَّنَمِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَفْسُكَ. فَإِنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْنَامَ جُذَاذًا. فَكَسَرَ الْأَصْنَامَ لَهُ. فَالْفَتَى مَنْ كَسَرَ صَنَمًا وَاحِدًا فِي اللَّهِ. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا تَكُونَ خَصْمًا لِأَحَدٍ. يَعْنِي فِي حَظِّ نَفْسِكَ. وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ، فَالْفُتُوَّةُ: أَنْ تَكُونَ خَصْمًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكُمُ الْمُقِيمُ وَالطَّارِئُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَهُ وَلِيٌّ أَوْ كَافِرٌ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ أَيْضًا: الْفُتُوَّةُ كَفُّ الْأَذَى وَبَذْلُ النَّدَى. وَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْوَفَاءُ وَالْحِفَاظُ. وَقِيلَ: فَضِيلَةٌ تَأْتِيهَا، وَلَا تَرَى نَفْسَكَ فِيهَا. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَحْتَجِبَ مِمَّنْ قَصَدَكَ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَهْرُبَ إِذَا أَقْبَلَ الْعَافِي. يَعْنِي طَالِبَ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: إِظْهَارُ النِّعْمَةِ وَإِسْرَارُ الْمِحْنَةِ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَدَّخِرَ وَلَا تَعْتَذِرَ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ. فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَأَى بِهَا الْجُدَرِيَّ. فَقَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي. ثُمَّ قَالَ: عَمِيتُ. فَبَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَاتَتْ. وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بَصِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يُحْزِنَهَا رُؤْيَتِي لِمَا بِهَا. فَقِيلَ لَهُ: سَبَقْتَ الْفِتْيَانَ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ تَرْبَحَ عَلَى صَدِيقِكَ. وَاسْتَضَافَ رَجُلٌ جَمَاعَةً مِنَ الْفِتْيَانِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِيهِمْ. فَانْقَبَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ تَصُبَّ النِّسْوَانُ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ. فَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: أَنَا مُنْذُ سِنِينَ أَدْخُلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةً تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِينَا أَوْ رَجُلًا. وَقَدِمَ جَمَاعَةُ فِتْيَانٍ لِزِيَارَةِ فَتًى. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا غُلَامُ قَدِّمِ السُّفْرَةَ. فَلَمْ يُقَدِّمْ. فَقَالَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَلَمْ يُقَدِّمْ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ الرَّجُلُ مَنْ يَتَعَاصَى عَلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ السُّفْرَةِ كُلَّ هَذَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: لِمَ أَبْطَأْتَ بِالسُّفْرَةِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: كَانَ عَلَيْهَا نَمْلٌ. فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَدَبِ تَقْدِيمُ السُّفْرَةِ إِلَى الْفِتْيَانِ مَعَ النَّمْلِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْفُتُوَّةِ إِلْقَاءُ النَّمْلِ وَطَرْدُهُمْ عَنِ الزَّادِ. فَلَبِثْتُ حَتَّى دَبَّ النَّمْلُ. فَقَالُوا: يَا غُلَامُ. مِثْلُكُ يَخْدُمُ الْفِتْيَانَ. وَمِنَ الْفُتُوَّةِ الَّتِي لَا تُلْحَقُ: مَا يُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا نَامَ مِنَ الْحَاجِّ فِي الْمَدِينَةِ. فَفَقَدَ هِمْيَانًا فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَامَ فَزِعًا. فَوَجَدَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَعَلِقَ بِهِ. وَقَالَ: أَخَذْتَ هِمْيَانِي. فَقَالَ:
পৃষ্ঠা - ৮২০
أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَأَدْخَلَهُ دَارَهُ وَوَزَنَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ وَجَدَ هِمْيَانَهُ، فَجَاءَ إِلَى جَعْفَرٍ مُعْتَذِرًا بِالْمَالِ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ. وَقَالَ: شَيْءٌ أَخْرَجْتُهُ مِنْ يَدِي لَا أَسْتَرِدُّهُ أَبَدًا. فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفُتُوَّةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": نُكْتَةُ الْفُتُوَّةِ: أَنْ لَا تَشْهَدَ لَكَ فَضْلًا. وَلَا تَرَى لَكَ حَقًّا. يَقُولُ: قَلْبُ الْفُتُوَّةِ، وَإِنْسَانُ عَيْنِهَا: أَنْ تَفْنَى بِشَهَادَةِ نَقْصِكَ، وَعَيْبِكَ عَنْ فَضْلِكَ. وَتَغِيبَ بِشَهَادَةِ حُقُوقِ الْخَلْقِ عَلَيْكَ عَنْ شَهَادَةِ حُقُوقِكَ عَلَيْهِمْ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا مَرَاتِبُ. فَأَشْرَفُهَا: أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. وَأَخَسُّهَا: عَكْسُهُمْ. وَهُمْ أَهْلُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ فَضَائِلِهِمْ عَنْ عُيُوبِهِمْ. وَشُهُودِ حُقُوقِهِمْ عَلَى النَّاسِ عَنْ شُهُودِ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ. وَأَوْسَطُهُمْ: مَنْ شَهِدَ هَذَا وَهَذَا. فَيَشْهَدُ مَا فِي الْعَيْبِ وَالْكَمَالِ. وَيَشْهَدُ حُقُوقَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَحُقُوقَهُ عَلَيْهِمْ. [دَرَجَاتُ الْفُتُوَّةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَرْكُ الْخُصُومَةِ] قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَرْكُ الْخُصُومَةِ. وَالتَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ، وَنِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنْ بَابِ التَّرْكِ وَالتَّخَلِّي. وَهِيَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ أَحَدًا. فَلَا يُنَصِّبُ نَفْسَهُ خَصْمًا لِأَحَدٍ غَيْرَهَا. فَهِيَ خَصْمُهُ. وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَيْضًا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. لَا يُخَاصِمُ بِلِسَانِهِ. وَلَا يَنْوِي الْخُصُومَةَ بِقَلْبِهِ. وَلَا يُخْطِرُهَا عَلَى بَالِهِ. هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ رَبِّهِ: فَالْفُتُوَّةُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاللَّهِ وَفِي اللَّهِ. وَيُحَاكِمَ إِلَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: «وَبِكَ خَاصَمْتُ. وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ» وَهَذِهِ دَرَجَةُ فُتُوَّةِ الْعُلَمَاءِ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَحَدٍ زَلَّةً يُوجِبُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ أَخْذَهُ بِهَا:
পৃষ্ঠা - ৮২১
أَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهَا، لِئَلَّا يُعَرِّضَ صَاحِبَهَا لِلْوَحْشَةِ. وَيُرِيحَهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْعُذْرِ. وَفُتُوَّةُ التَّغَافُلِ: أَرْفَعُ مِنْ فُتُوَّةِ الْكِتْمَانِ مَعَ الرُّؤْيَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْ حَاتِمًا عَنْ مَسْأَلَةٍ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا صَوْتٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. فَخَجِلَتْ. فَقَالَ حَاتِمٌ: ارْفَعِي صَوْتَكِ. فَأَوْهَمَهَا أَنَّهُ أَصَمُّ. فَسُرَّتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ. فَلُقِّبَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ وَهَذَا التَّغَافُلُ هُوَ نِصْفُ الْفُتُوَّةِ. وَأَمَّا نِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ فَهُوَ بِأَنْ تَنْسَى أَذِيَّةَ مَنْ نَالَكَ بِأَذًى، لِيَصْفُوَ قَلْبُكَ لَهُ. وَلَا تَسْتَوْحِشَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَهُنَا نِسْيَانٌ آخَرُ أَيْضًا. وَهُوَ مِنَ الْفُتُوَّةِ. وَهُوَ نِسْيَانُ إِحْسَانِكَ إِلَى مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ. وَهَذَا النِّسْيَانُ أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَفِيهِ قِيلَ: يَنْسَى صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا ... إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ. وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيكَ. وَتَعْتَذِرَ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ، سَمَاحَةً لَا كَظْمًا، وَمَوَدَّةً لَا مُصَابَرَةً. هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْعَبُ. فَإِنَّ الْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّغَافُلَ. وَهَذِهِ تَتَضَمَّنُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَمُعَامَلَتَهُ بِضِدِّ مَا عَامَلَكَ بِهِ. فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ خُطَّتَيْنِ. فَخُطَّتُكَ: الْإِحْسَانُ. وَخَطَّتُهُ: الْإِسَاءَةُ. وَفِي مَثْلِهَا قَالَ الْقَائِلُ: إِذَا مَرِضْنَا أَتَيْنَاكُمْ نَعُودُكُمُ ... وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ وَنَعْتَذِرُ وَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَمَا يَنْبَغِي فَلْيَنْظُرْ إِلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ يَجِدْهَا هَذِهِ بِعَيْنِهَا. وَلَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لِأَحَدٍ سِوَاهُ. ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ مِنْهَا بِحَسَبِ سِهَامِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ. وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَجْمَعَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْأَكَابِرِ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي لِأَصْحَابِي مِثْلُهُ لِأَعْدَائِهِ وَخُصُومِهِ.
পৃষ্ঠা - ৮২২
وَمَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُمْ. وَجِئْتُ يَوْمًا مُبَشِّرًا لَهُ بِمَوْتِ أَكْبَرِ أَعْدَائِهِ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً وَأَذًى لَهُ. فَنَهَرَنِي وَتَنَكَّرَ لِي وَاسْتَرْجَعَ. ثُمَّ قَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهِ فَعَزَّاهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ مَكَانَهُ، وَلَا يَكُونُ لَكُمْ أَمْرٌ تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ إِلَّا وَسَاعَدْتُكُمْ فِيهِ. وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَسُّرُوا بِهِ وَدَعَوْا لَهُ. وَعَظَّمُوا هَذِهِ الْحَالَ مِنْهُ. فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَهَذَا مَفْهُومٌ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ فِي بَادِي الرَّأْيِ، إِذْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ جِنَايَةٌ تُوجِبُ اعْتِذَارًا، وَغَايَتُكَ: أَنَّكَ لَا تُؤَاخِذُهُ. فَهَلْ تَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ تُنْزِلُ نَفْسَكَ مَنْزِلَةَ الْجَانِي لَا الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْجَانِي خَلِيقٌ بِالْعُذْرِ. وَالَّذِي يُشْهِدُكَ هَذَا الْمَشْهَدَ: أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا سُلِّطَ عَلَيْكَ بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّكَ بَدَأْتَ بِالْجِنَايَةِ فَانْتَقِمْ بِالِلَّهِ مِنْكَ عَلَى يَدِهِ - كُنْتَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِذَارِ. وَالَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْكَ هَذَا كُلَّهُ: مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَعَلَيْكَ بِهَا. فَإِنَّ فِيهَا كُنُوزَ الْمَعْرِفَةِ وَالْبِرِّ. وَقَوْلُهُ: سَمَاحَةً لَا كَظْمًا. وَمَوَدَّةً، لَا مُصَابَرَةً. يَعْنِي: اجْعَلْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنْكَ صَادِرَةً عَنْ سَمَاحَةٍ، وَطَيِبَةِ نَفْسٍ، وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ، لَا عَنْ كَظْمٍ، وَضِيقٍ وَمُصَابَرَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي خُلُقِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ يُوشِكُ أَنْ يَزُولَ وَيَظْهَرَ حُكْمُ الْخَلْقِ صَرِيحًا فَتُفْتَضَحَ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِصْلَاحَ الْبَاطِنِ وَالسِّرِّ وَالْقَلْبِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْعُبُورِ عَلَى جِسْرِ الْمُصَابَرَةِ وَالْكَظْمِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَفْضَى بِهِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ. وَلَا تَشُوبَ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ. وَلَا تَقِفَ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ.
পৃষ্ঠা - ৮২৩
هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ. أَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِهِ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ: فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، إِذْ يَقُولُ: وَفِي عِلْمُ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا. وَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ وَتَقْدِيرٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ يَسِيرُ عَلَى قَدَمِ الْيَقِينِ، وَطَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ الدَّلِيلِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ لَا اسْتِدْلَالِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَلِهَذَا لَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ قَطُّ الْأُمَمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَخَاطَبُوهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِ قَطُّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] وَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَدْلُولٍ هُوَ أَظْهَرُ مِنْ دَلِيلِهِ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ أَطْلُبُ الدَّلِيلَ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ فَتَقَيُّدُ السَّائِرِ بِالدَّلِيلِ وَتَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ يَقِينِهِ. بَلْ إِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّلِيلِ الْمُوصِّلِ لَهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ. فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ - بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ - إِلَى دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ: هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِهِ. لَا يَخْطُو خَطْوَةً إِلَّا وَرَاءَهُ. وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ يُشِيرُونَ إِلَى الْكَشْفِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالدَّلِيلِ أَصْلًا. وَلَا يُقَالُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ هَذَا؟ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّلُوكِ فِي مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَقَطْعِهَا مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَطْلُوبِ. فَوُصُولُهُ إِلَيْهِ بِالسَّيْرِ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ، بِخِلَافِ وُصُولِ الْمُسْتَدِلِّ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَطْلُوبُ الْقَوْمِ وَرَاءَهُ. وَالْعِلْمُ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَصْحَابَ الِاسْتِدْلَالِ: أَصْحَابَ الْقَالِ. وَأَصْحَابَ الْكَشْفِ: أَصْحَابَ الْحَالِ. وَالْقَوْمُ عَامِلُونَ عَلَى الْكَشْفِ الَّذِي يُحَصِّلُ نُورَ الْعِيَانِ، لَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي يُنَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ. وَهَذَا مَوْضِعُ غَلَطٍ وَاشْتِبَاهٍ. فَإِنَّ الدَّلِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ. وَهُوَ بَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
পৃষ্ঠা - ৮২৪
{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] . ثُمَّ إِنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ لَا يَقِفُ مَعَ الدَّلِيلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأُمُورِ وَأَشَدُّهَا خَطَرًا. وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَيَالِ وَالْمُحَالِ. فَمَنْ خَرَجَ عَنِ الدَّلِيلِ: ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَلُّقُهُ فِي الْمَسِيرِ بِالدَّلِيلِ: يُفَرِّقُ عَلَيْهِ عَزْمَهُ وَقَلْبَهُ. فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُفَرِّقُ وَالْمَدْلُولَ يُجَمِّعُ. فَالسَّالِكُ يَقْصِدُ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى الْمَدْلُولِ. فَمَا لَهُ وَلِتَفْرِقَةِ الدَّلِيلِ؟ قِيلَ: هَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَعْرَضَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ السَّالِكِينَ عَنِ الْعِلْمِ وَنَهَى عَنْهُ. وَجُعِلَتْ عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ هَذَا مِنْ زَمَنِ الشُّيُوخِ الْقُدَمَاءِ الْعَارِفِينَ فَأَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ وَمِنْ قَائِلِهِ. وَأَوْصَوْا بِالْعِلْمِ. وَأَخْبَرُوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ. لَا يُفْلِحُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْعِلْمِ. وَالْجُنَيْدُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُبَالَغَةً فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَحَثًّا لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ. وَالتَّفَرُّقُ فِي الدَّلِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ. فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْجَمْعِيَّةِ حَقًّا إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالْعِلْمِ. فَالدَّلِيلُ وَالْعِلْمُ ضَرُورِيَّانِ لِلصَّادِقِ. لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا. نَعَمْ يَقِينُهُ وَنُورُ بَصِيرَتِهِ وَكَشْفُهُ: يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا الْمُتَكَلِّفُونَ، وَأَرْبَابُ الْقَالِ. فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا. وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ. مِثَالُهُ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُفْنِي زَمَانَهُ فِي تَقْرِيرِ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عِنْدَ السَّالِكِ الصَّادِقِ صَاحِبِ الْيَقِينِ. فَالَّذِي يَطْلُبُهُ هَذَا بِالِاسْتِدْلَالِ - الَّذِي هُوَ عُرْضَةُ الشَّبَهِ، وَالْأَسْئِلَةِ، وَالْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا - هُوَ كَشْفٌ وَيَقِينٌ لِلسَّالِكِ، فَتَقَيُّدُهُ فِي سُلُوكِهِ بِحَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ انْقِطَاعٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْفُتُوَّةِ. وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَارِفٌ، فَتَرَى الْمُتَكَلِّمَ يَبْحَثُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأَكْوَانِ، وَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا لَا يَعُدُوهَا لِيَصِلَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ. وَالسَّالِكُ قَدْ جَاوَزَهَا إِلَى جَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِسِوَاهُ. فَالْمُتَكَلِّمُ مُتَفَرِّقٌ مُشْتَغِلٌ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْعَارِفُ قَدْ شَحَّ بِالزَّمَانِ أَنْ يَذْهَبَ ضَائِعًا فِي غَيْرِ السَّيْرِ إِلَى رَبِّ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
পৃষ্ঠা - ৮২৫
وَبِالْجُمْلَةِ: فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَتَعَلَّقُ فِي سَيْرِهِ بِدَلِيلٍ. وَلَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِلَّا خَلْفَ الدَّلِيلِ، وَكِلَاهُمَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ. فَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ. وَلَا يَسْتَغْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. فَسَيْرُ الصَّادِقِ عَلَى الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ وَالْكَشْفِ، لَا عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَشُوبُ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ. أَيْ تَكُونُ إِجَابَتُكَ لِدَاعِي الْحَقِّ خَالِصَةً، إِجَابَةَ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ، وَطَلَبٍ لِلْمَحْبُوبِ ذَاتِهِ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُظُوظِ وَالْأَعْوَاضِ، فَإِنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَكَ حَصَلَ لَكَ كُلُّ عِوَضٍ وَكُلُّ حَظٍّ بِهِ وَكُلُّ قَسَمٍ. كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: «ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي، وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» . فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ مَا سِوَى اللَّهِ، وَلَمْ يَشُبْ طَلَبَهُ لَهُ بِعِوَضٍ، بَلْ كَانَ حُبًّا لَهُ، وَإِرَادَةً خَالِصَةً لِوَجْهِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يَفُوزُ بِالْأَعْوَاضِ وَالْأَقْسَامِ وَالْحُظُوظِ كُلِّهَا. فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهَا غَايَةَ طَلَبِهِ، تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ فِي حُصُولِهَا. وَهُوَ مَحْمُودٌ مَشْكُورٌ مُقَرَّبٌ. وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَطْلُوبَةً لَنَقَصَتْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِهَا وَإِرَادَتِهَا عَنْ طَلَبِ الرَّبِّ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَهَذَا قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهَا وَالْحَاصِلُ لَهُ مِنْهَا: نَزْرٌ يَسِيرٌ. وَالْعَارِفُ لَيْسَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كُلُّهَا. فَالزُّهْدُ فِيهَا لَا يُفِيتُكُهَا، بَلْ هُوَ عَيْنُ حُصُولِهَا. وَالزُّهْدُ فِي اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُفِيتُكَهُ وَيُفِيتُكَ الْحُظُوظَ. وَإِذَا كَانَ لَكَ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ. أَحَدُهُمْ: يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى مَرْضَاتِكَ. وَالثَّانِي: يُرِيدُ مِنْكَ وَلَا يُرِيدُكَ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُظُوظِهِ مِنْكَ. وَالثَّالِثُ: يُرِيدُكَ وَيُرِيدُ مِنْكَ. وَالرَّابِعُ: لَا يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ. بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْقَلْبِ بِبَعْضِ عَبِيدِكَ. فَلَهُ يُرِيدُ. وَمِنْهُ يُرِيدُ. فَإِنَّ آثَرَ الْعَبِيدِ عِنْدَكَ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْكَ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْكَ مَنْزِلَةً، وَالْمَخْصُوصَ مِنْ إِكْرَامِكَ وَعَطَائِكَ بِمَا لَا يَنَالُهُ الْعَبِيدُ الثَّلَاثَةُ - هُوَ الْأَوَّلُ. هَكَذَا نَحْنُ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَقِفْ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ. فَيَعْنِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْكَ نَظَرٌ إِلَى السِّوَى عِنْدَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرِارًا. وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ. فَإِنَّ الشُّهُودَ إِذَا صَحَّ مَحَا الرُّسُومَ ضَرُورَةً فِي نَظَرِ الشَّاهِدِ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا. وَالشُّهُودُ الصَّحِيحُ مَاحٍ لَهَا بِالذَّاتِ. لَكِنَّ أَوَّلَهُ قَدْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْكَسْبِ. وَنِهَايَتُهُ لَا تَقِفُ عَلَى كَسْبٍ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عَدُوَّهُ إِلَى شَفَاعَةٍ، وَلَمْ يَخْجَلْ مِنَ الْمَعْذِرَةِ إِلَيْهِ: لَمْ يَشَمَّ
পৃষ্ঠা - ৮২৬
رَائِحَةَ الْفُتُوَّةِ. يَعْنِي أَنَّ الْعَدُوَّ مَتَّى عَلِمَ أَنَّكَ مُتَأَلِّمٌ مِنْ جِهَةِ مَا نَالَكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْكَ، وَيُشَفِّعَ إِلَيْكَ شَافِعًا يُزِيلُ مَا فِي قَلْبِكَ مِنْهُ. فَالْفُتُوَّةُ كُلُّ الْفُتُوَّةِ: أَنْ لَا تُحْوِجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ، بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مِنْكَ عَتَبٌ وَلَا تَغَيُّرٌ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْكَ قَبْلَ مُعَادَاتِهِ. وَلَا تَطْوِيَ عَنْهُ بِشْرَكَ وَلَا بِرَّكَ. وَإِذَا لَمْ تَخْجَلْ أَنْتَ مِنْ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَقَامَ الْمُعْتَذِرِ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِي الْفُتُوَّةِ نَصِيبٌ. وَلَا تَسْتَعْظِمُ هَذَا الْخُلُقَ. فَإِنَّ لِلْفِتْيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَلَا تَسْتَصْعِبُهُ. فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّطَّارِ وَالْعُشَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي حَالِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا فِي لِسَانِهَا نَصِيبٌ، فَأَنْتَ أَيُّهَا الْعَارِفُ أَوْلَى بِهِ. قَالَ: وَفِي عِلْمِ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تُحْوِجْ عَدُوَّكَ إِلَى الْعُذْرِ وَالشَّفَاعَةِ. وَلَمْ تُكَلِّفْهُ طَلَبَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ عُذْرِهِ، فَكَيْفَ تُحْوِجُ وَلِيَّكَ وَحَبِيبَكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ لَكَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا تُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ لَكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا خِلَافَ الْفُتُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَاكَ إِلَى دَارِهِ. فَقَلْتَ لِلرَّسُولِ: لَا آتِي مَعَكَ حَتَّى تُقِيمَ لِيَ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ مَنْ أَرْسَلَكَ، وَأَنَّهُ مُطَاعٌ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ. لَكُنْتَ فِي دَعْوَى الْفُتُوَّةِ زَنِيمًا. فَكَيْفَ بِمَنْ وَجُودُهُ، وَوَحْدَانِيَّتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَرُبُوبِيَّتُهُ، وَإِلَهِيَّتُهُ - أَظْهَرُ مَنْ كُلِّ دَلِيلٍ تَطْلُبُهُ؟ فَمَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ، إِلَّا وَوَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ وَكَمَالُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ. فَإِقْرَارُ الْفِطَرِ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ خَالِقِ الْعَالَمِ: لَمْ يُوقِفْهَا عَلَيْهِ مُوقِفٌ. وَلَمْ تَحْتَجْ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] . فَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ: طَالِبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ.