فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة التواضع
পৃষ্ঠা - ৮০৩
عِنْدَهُمْ. وَهِيَ مَوْهِبِيَّةٌ لَا كَسَبِيَّةٌ. لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَعَرَّضَ وَصَدَقَ فِي الطَّلَبِ: رُجِيَ لَهُ الظَّفَرُ بِمَطْلُوبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ]
فَصْلٌ
وَمَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ، وَمَعَ الْخَلْقِ: عَلَى حَرْفَيْنِ. ذَكَرَهُمَا عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ. وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ.
فَتَأَمَّلْ. مَا أَجَلَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، مَعَ اخْتِصَارِهِمَا، وَمَا أَجْمَعَهُمَا لِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَلِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؟ وَفَسَادُ الْخُلُقِ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ تَوَسُّطِ الْخَلْقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. فَمَتَى عَزَلْتَ الْخَلْقَ - حَالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى - وَعَزَلْتَ النَّفْسَ - حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ - فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. وَحَامُوا حَوْلَهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوَاضِعِ]
[التَّوَاضُعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوَاضِعِ
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّوَاضُعِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أَيْ سَكِينَةً وَوَقَارًا مُتَوَاضِعِينَ، غَيْرَ أَشِرِينَ، وَلَا مَرِحِينَ وَلَا مُتَكَبِّرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: عُلَمَاءُ حُلَمَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يَسْفَهُونَ. وَإِنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا.
وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَالْهُونُ بِالضَّمِّ: الْهَوَانُ. فَالْمَفْتُوحُ مِنْهُ: صِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَالْمَضْمُومُ: صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرَانِ. وَجَزَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ النِّيرَانُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
لَمَّا كَانَ الذُّلُّ مِنْهُمْ ذُلَّ رَحْمَةٍ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ عَدَّاهُ بِأَدَاةِ عَلَى تَضْمِينًا لِمَعَانِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ ذُلُّ اللِّينِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ، فَالْمُؤْمِنُ ذَلُولٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْمُؤْمِنِ كَالْجَمَلِ الذَّلُولِ. وَالْمُنَافِقُ
পৃষ্ঠা - ৮০৪
وَالْفَاسِقُ ذَلِيلٌ» وَأَرْبَعَةٌ يَعْشَقُهُمُ الذُّلُّ أَشَدَّ الْعِشْقِ: الْكَذَّابُ. وَالنَّمَّامُ. وَالْبَخِيلُ. وَالْجَبَّارُ.
وَقَوْلُهُ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] هُوَ مِنْ عِزَّةِ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ. قَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وَهَذَا عَكْسُ حَالِ مَنْ قِيلَ فِيهِمْ:
كِبْرًا عَلَيْنَا، وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكُمُ ... لَبِئْسَتِ الْخِلَّتَانِ: الْكِبْرُ، وَالْجُبْنُ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» .
وَفِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ «أَنَّ النَّارَ قَالَتْ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا الْجَبَّارُونَ،
পৃষ্ঠা - ৮০৫
وَالْمُتَكَبِّرُونَ؟ وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ» . وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزَّةُ إِزَارِي. وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي. فَمَنْ نَازَعَنِي عَذَّبْتُهُ» .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي دِيوَانِ الْجَبَّارِينَ. فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ» .
«وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ عَلَى الصِّبْيَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ» .
«وَكَانَتِ الْأَمَةُ تَأْخُذُ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ.»
«وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» .
«وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ قَطُّ» .
পৃষ্ঠা - ৮০৬
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ الشَّاةَ لِأَهْلِهِ، وَيَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ. وَيُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ، وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ فِي حَاجَتِهِمَا، وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ. وَلَوْ إِلَى أَيْسَرِ شَيْءٍ» .
«وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ، لَيِّنَ الْخُلُقِ. كَرِيمَ الطَّبْعِ. جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ. طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمْ» .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ - أَوْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ - تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ - أَوْ كُرَاعٍ - لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ - أَوْ كُرَاعٌ - لَقَبِلْتُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
পৃষ্ঠা - ৮০৭
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَعُودُ الْمَرِيضَ. وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ. وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ» .
«وَكَانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ» .
[فَصْلٌ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّوَاضُعِ]
فَصْلٌ
سُئِلَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ التَّوَاضُعِ؟ فَقَالَ: يَخْضَعُ لِلْحَقِّ، وَيَنْقَادُ لَهُ. وَيَقْبَلُهُ مِمَّنْ قَالَهُ.
وَقِيلَ: التَّوَاضُعُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ قِيمَةً. فَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ فِي التَّوَاضُعِ نَصِيبٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُضَيْلِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هُوَ خَفْضُ الْجَنَاحِ، وَلِينُ الْجَانِبِ.
وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: هُوَ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ مَقَامًا وَلَا حَالًا. وَلَا يَرَى فِي الْخَلْقِ شَرًّا مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: هُوَ قَبُولُ الْحَقِّ مِمَّنْ كَانَ. وَالْعِزُّ فِي التَّوَاضُعِ. فَمَنْ طَلَبَهُ فِي الْكِبْرِ فَهُوَ كَتَطَلُّبِ الْمَاءِ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ: الشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ. وَالْعِزُّ فِي التَّقْوَى. وَالْحُرِّيَّةُ فِي الْقَنَاعَةِ.
وَيُذْكَرُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ: أَعَزُّ الْخَلْقِ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ: عَالِمٌ زَاهِدٌ وَفَقِيهٌ صُوفِيٌّ. وَغَنِيٌّ مُتَوَاضِعٌ. وَفَقِيرٌ شَاكِرٌ. وَشَرِيفٌ سُنِّيٌّ.
পৃষ্ঠা - ৮০৮
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَنْبَغِي لَكَ هَذَا. فَقَالَ: لَمَّا أَتَانِيَ الْوُفُودُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ. دَخَلَتْ نَفْسِي نَخْوَةٌ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَهَا.
وَوَلِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِمَارَةً مَرَّةً. فَكَانَ يَحْمِلُ حِزْمَةَ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ. وَيَقُولُ: طَرِّقُوا لِلْأَمِيرِ.
وَرَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَرَّةً. فَدَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ لِيَأْخُذَ بِرِكَابِهِ. فَقَالَ: مَهْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ! فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِكُبَرَائِنَا. فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ. فَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِ فَقَبَّلَهَا. فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا نَفْعَلُ بِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَسَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُلَلًا، فَبَعَثَ إِلَى مُعَاذٍ حُلَّةً مُثَمَّنَةً. فَبَاعَهَا. وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا سِتَّةَ أَعْبُدٍ وَأَعْتَقَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُلَّةً دُونَهَا. فَعَاتَبَهُ مُعَاذٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لِأَنَّكَ بِعْتَ الْأُولَى. فَقَالَ مُعَاذٌ: وَمَا عَلَيْكَ؟ ادْفَعْ لِي نَصِيبِي. وَقَدْ حَلَفْتُ لَأَضْرِبَنَّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأْسِي بَيْنَ يَدَيْكَ. وَقَدْ يَرْفُقُ الشَّابُّ بِالشَّيْخِ.
وَمَرَّ الْحَسَنُ عَلَى صِبْيَانٍ مَعَهُمْ كِسَرُ خُبْزٍ. فَاسْتَضَافُوهُ. فَنَزَلَ فَأَكَلَ مَعَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ. فَأَطْعَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ، وَقَالَ: الْيَدُ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَطْعَمُونِي، وَنَحْنُ نَجِدُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَيُذْكَرُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَيَّرَ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِهِ، ثُمَّ نَدِمَ. فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ. فَحَلَفَ: لَا رَفَعْتُ رَأْسِي حَتَّى يَطَأَ بِلَالٌ خَدِّي بِقَدَمِهِ. فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَعَلَ بِلَالٌ.
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ. قَوَّمْتُ ثِيَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَخْطُبُ - بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَكَانَتْ قِبَاءً وَعِمَامَةً وَقُمُصًا وَسَرَاوِيلَ وَرِدَاءً وَخُفَّيْنِ وَقَلَنْسُوَةً.
وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ ابْنًا لَهُ يَمْشِي مِشْيَةً مُنْكَرَةً. فَقَالَ: تَدْرِي بِكَمْ شَرَيْتُ أُمَّكَ؟ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَبُوكَ - لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَهُ - أَنَا. وَأَنْتَ تَمْشِي هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟ .
وَقَالَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ: التَّوَاضُعُ أَنْ لَا تَرَى لِأَحَدٍ إِلَى نَفْسِكَ حَاجَةً، لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَا سُرِرْتُ فِي إِسْلَامِي إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: كُنْتُ فِي سَفِينَةٍ، وَفِيهَا رَجُلٌ مِضْحَاكٌ. كَانَ يَقُولُ: كُنَّا فِي بِلَادِ التُّرْكِ فَأَخَذَ الْعِلْجُ هَكَذَا - وَكَانَ يَأْخُذُ بِشَعَرِ
পৃষ্ঠা - ৮০৯
رَأْسِي وَيَهُزُّنِي - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ أَحَدٌ أَحْقَرُ مِنِّي. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ. فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ، وَقَالَ: اخْرُجْ. فَلَمْ أُطِقْ، فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إِلَى خَارِجٍ. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ بِالشَّامِ وَعَلَيَّ فَرْوٌ. فَنَظَرْتُ فِيهِ فَلَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ شَعَرِهِ وَبَيْنَ الْقَمْلِ لِكَثْرَتِهِ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا. فَجَاءَ إِنْسَانٌ فَبَالَ عَلَيَّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلًا بَيْنَ يَدَيْهِ شَاكِرِيَّةٌ يَمْنَعُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهِ عَنِ الطَّوَافِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ يَسْأَلُ شَيْئًا. فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ. فَقَالَ لِي: إِنِّي تَكَبَّرْتُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَاضَعُ النَّاسُ فِيهِ، فَابْتَلَانِي اللَّهُ بِالذُّلِّ فِي مَوْضِعٍ يَتَرَفَّعُ النَّاسُ فِيهِ.
وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ ابْنًا لَهُ اشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ فَصًّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَبِعِ الْخَاتَمَ. وَأَشْبِعْ بِهِ أَلْفَ بَطْنٍ. وَاتَّخِذْ خَاتَمًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَاجْعَلْ فَصَّهُ حَدِيدًا صِينِيًّا. وَاكْتُبْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ ذَمُّ الْكِبْرِ وَالْحِرْصِ]
فَصْلٌ
أَوَّلُ ذَنْبٍ عَصَى اللَّهَ بِهِ أَبَوَا الثَّقَلَيْنِ: الْكِبْرُ وَالْحِرْصُ. فَكَانَ الْكِبْرُ ذَنْبَ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ. فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ. وَذَنْبُ آدَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ مِنَ الْحِرْصِ وَالشَّهْوَةِ. فَكَانَ عَاقِبَتُهُ التَّوْبَةَ وَالْهِدَايَةَ، وَذَنَبُ إِبْلِيسَ حَمَلَهُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ وَالْإِصْرَارِ. وَذَنْبُ آدَمَ أَوْجَبَ لَهُ إِضَافَتَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ وَالِاسْتِغْفَارَ.
فَأَهْلُ الْكِبْرِ وَالْإِصْرَارِ، وَالِاحْتِجَاجِ بِالْأَقْدَارِ: مَعَ شَيْخِهِمْ وَقَائِدِهِمْ إِلَى النَّارِ إِبْلِيسَ. وَأَهْلُ الشَّهْوَةِ: الْمُسْتَغْفِرُونَ التَّائِبُونَ الْمُعْتَرِفُونَ بِالذُّنُوبِ، الَّذِينَ لَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِالْقَدَرِ: مَعَ أَبِيهِمْ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: التَّكَبُّرُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَتَكَبَّرُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُشْرِكَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ.
قُلْتُ: وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ النَّارَ دَارَ الْمُتَكَبِّرِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 76] وَفِي سُورَةِ
পৃষ্ঠা - ৮১০
النَّحْلِ {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] وَفِي سُورَةِ تَنْزِيلُ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] .
وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِبْرِ وَالتَّجَبُّرِ هُمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ. وَغَمْطُ النَّاسِ» .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الْكِبْرَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَكَبَّرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ أَذَلَّهُ اللَّهُ وَوَضَعَهُ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ. وَمَنْ تَكَبَّرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ - وَلَوْ جَاءَهُ عَلَى يَدِ صَغِيرٍ، أَوْ مَنْ يُبْغِضُهُ أَوْ يُعَادِيهِ - فَإِنَّمَا تَكَبُّرُهُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. وَكَلَامُهُ حَقٌّ. وَدِينُهُ حَقٌّ. وَالْحَقُّ صِفَتُهُ. وَمِنْهُ وَلَهُ. فَإِذَا رَدَّهُ الْعَبْدُ وَتَكَبَّرَ عَنْ قَبُولِهِ: فَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى اللَّهِ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ تَعْرِيفُ التَّوَاضُعِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
التَّوَاضُعُ: أَنْ يَتَوَاضَعَ الْعَبْدُ لِصَوْلَةِ الْحَقِّ.
يَعْنِي: أَنْ يَتَلَقَّى سُلْطَانَ الْحَقِّ بِالْخُضُوعِ لَهُ، وَالذُّلِّ، وَالِانْقِيَادِ، وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ مُتَصَرِّفًا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مَمْلُوكِهِ. فَبِهَذَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ خُلُقُ التَّوَاضُعِ. وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِضِدِّهِ. فَقَالَ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ» ، فَبَطَرُ
পৃষ্ঠা - ৮১১
الْحَقِّ: رَدُّهُ وَجَحْدُهُ، وَالدَّفْعُ فِي صَدْرِهِ. كَدَفْعِ الصَّائِلِ. وَغَمْصُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَمَتَى احْتَقَرَهُمْ وَازْدَرَاهُمْ: دَفَعَ حُقُوقَهُمْ. وَجَحَدَهَا، وَاسْتَهَانَ بِهَا.
وَلَمَّا كَانَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ وَصَوْلَةٌ: كَانَتِ النُّفُوسُ الْمُتَكَبِّرَةُ لَا تَقَرُّ لَهُ بِالصَّوْلَةِ عَلَى تِلْكَ الصَّوْلَةِ الَّتِي فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا النُّفُوسَ الْمُبْطِلَةَ. فَتَصُولُ عَلَى صَوْلَةِ الْحَقِّ بِكِبْرِهَا وَبَاطِلِهَا. فَكَانَ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ: خُضُوعَ الْعَبْدِ لِصَوْلَةِ الْحَقِّ، وَانْقِيَادَهُ لَهَا. فَلَا يُقَابِلُهَا بِصَوْلَتِهِ عَلَيْهَا.
[دَرَجَاتُ التَّوَاضُعِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ]
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ. وَهُوَ أَنْ لَا يُعَارِضَ بِمَعْقُولٍ مَنْقُولًا. وَلَا يَتَّهِمَ لِلدِّينِ دَلِيلًا. وَلَا يَرَى إِلَى الْخِلَافِ سَبِيلًا.
التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ، هُوَ الِانْقِيَادُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ، وَالْإِذْعَانُ. وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَارِضَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الْأَرْبَعَةِ السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ، الْمُسَمَّاةِ: بِالْمَعْقُولِ، وَالْقِيَاسِ، وَالذَّوْقِ، وَالسِّيَاسَةِ.
فَالْأُولَى: لِلْمُنْحَرِفِينَ أَهْلِ الْكِبْرِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، الَّذِينَ عَارَضُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ بِمَعْقُولَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ. وَقَالُوا: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ: قَدَّمْنَا الْعَقْلَ. وَعَزَلْنَا النَّقْلَ. إِمَّا عَزْلَ تَفْوِيضٍ، وَإِمَّا عَزْلَ تَأْوِيلٍ.
وَالثَّانِي: لِلْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، قَالُوا: إِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ وَالرَّأْيُ وَالنُّصُوصُ: قَدَّمْنَا الْقِيَاسَ عَلَى النَّصِّ. وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ. فَإِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُمُ الذَّوْقُ وَالْأَمْرُ. قَدَّمُوا الذَّوْقَ وَالْحَالَ. وَلَمْ يَعْبَأُوا بِالْأَمْرِ.
وَالرَّابِعُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ الْجَائِرِينَ. إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمُ الشَّرِيعَةُ وَالسِّيَاسَةُ. قَدَّمُوا السِّيَاسَةَ. وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى حُكْمِ الشَّرِيعَةِ.
فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ: هُمْ أَهْلُ الْكِبْرِ. وَالتَّوَاضُعُ: التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَّهِمَ دَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَظُنُّهُ فَاسِدَ الدَّلَالَةِ، أَوْ نَاقِصَ الدَّلَالَةِ، أَوْ قَاصِرَهَا، أَوْ أَنَّ غَيْرَهُ كَانَ أَوْلَى مِنْهُ. وَمَتَى عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّهِمْ فَهْمَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْآفَةَ مِنْهُ، وَالْبَلِيَّةَ فِيهِ، كَمَا قِيلَ:
পৃষ্ঠা - ৮১২
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
وَلَكِنْ تَأْخُذُ الْأَذْهَانُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ
وَهَكَذَا الْوَاقِعُ فِي الْوَاقِعِ حَقِيقَةً: أَنَّهُ مَا اتَّهَمَ أَحَدٌ دَلِيلًا لِلدِّينِ إِلَّا وَكَانَ الْمُتَّهَمُ هُوَ الْفَاسِدَ الذِّهْنِ. الْمَأْفُونَ فِي عَقْلِهِ، وَذِهْنِهِ. فَالْآفَةُ مِنَ الذِّهْنِ الْعَلِيلِ. لَا فِي نَفْسِ الدَّلِيلِ.
وَإِذَا رَأَيْتَ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ مَا يُشْكَلُ عَلَيْكَ، وَيَنْبُو فَهْمُكَ عَنْهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ وَشَرَفِهِ اسْتَعْصَى عَلَيْكَ، وَأَنَّ تَحْتَهُ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ. وَلَمْ تُؤْتَ مِفْتَاحَهُ بَعْدُ. هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِكَ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكَ: فَاتَّهِمْ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَلْيَكُنْ رَدُّهَا أَيْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْكَ لِلنُّصُوصِ، فَمَا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ. وَلَوْ. . وَلَوْ. . وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَجِدَ إِلَى خِلَافِ النَّصِّ سَبِيلًا أَلْبَتَّةَ. لَا بِبَاطِنِهِ، وَلَا بِلِسَانِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ. وَلَا بِحَالِهِ. بَلْ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْخِلَافِ: فَهُوَ كَخِلَافِ الْمُقْدِمِ عَلَى الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ. بَلْ هَذَا الْخِلَافُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ دَاعٍ إِلَى النِّفَاقِ. وَهُوَ الَّذِي خَافَهُ الْكِبَارُ. وَالْأَئِمَّةُ عَلَى نُفُوسِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ - لِقَوْلِ مَتْبُوعِهِ وَشَيْخِهِ وَمُقَلِّدِهِ، أَوْ لِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ، وَذَوْقِهِ، وَسِيَاسَتِهِ. إِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْذُورًا، وَلَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَعْذُورٍ - فَالْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ، لِنُصُوصِ الْوَحْيِ أَوْلَى بِالْعُذْرِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ. وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ.
فَوَاعَجَبًا إِذَا اتَّسَعَ بُطْلَانُ الْمُخَالِفِينَ لِلنُّصُوصِ لِعُذْرِ مَنْ خَالَفَهَا تَقْلِيدًا، أَوْ تَأْوِيلًا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ ضَاقَ عَنْ عُذْرِ مَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ، وَأَقْوَالَ شُيُوخِهِمْ. لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ النُّصُوصِ؟ وَكَيْفَ نَصَبُوا لَهُ الْحَبَائِلَ. وَبَغَوْهُ الْغَوَائِلَ. وَرَمَوْهُ بِالْعَظَائِمِ. وَجَعَلُوهُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ؟ فَرَمَوْهُ بِدَائِهِمْ وَانْسَلُّوا مِنْهُ لِوَاذًا. وَقَذَفُوهُ بِمُصَابِهِمْ. وَجَعَلُوا تَعْظِيمَ الْمَتْبُوعِينَ مَلَاذًا لَهُمْ وَمَعَاذًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
পৃষ্ঠা - ৮১৩
قَالَ: وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْبَصِيرَةِ، وَالِاسْتِقَامَةَ بَعْدَ الثِّقَةِ. وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَرَاءَ الْحُجَّةِ.
يَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ:
الْأُولَى: عِلْمُهُ أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ: إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَصِيرَةِ. فَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ: فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا. وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْبَصِيرَةُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ ضَوْءِ الْعَيْنِ إِلَى الْعَيْنِ.
وَهَذِهِ الْبَصِيرَةُ وَهْبِيَّةٌ وَكَسَبِيَّةُ. فَمَنْ أَدَارَ النَّظَرَ فِي أَعْلَامِ الْحَقِّ وَأَدِلَّتِهِ، وَتَجَرَّدَ لِلَّهِ مِنْ هَوَاهُ: اسْتَنَارَتْ بَصِيرَتُهُ. وَرُزِقَ فُرْقَانًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الثِّقَةِ، أَيْ لَا يَتَصَوَّرُ حُصُولَ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ، إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ مَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنَّهُ مُقْتَبِسٌ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا ثِقَةَ لَهُ وَلَا اسْتِقَامَةَ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ وَرَاءَ الْحُجَّةِ. وَالْبَيِّنَةُ مُرَادُهُ بِهَا: اسْتِبَانَةُ الْحَقِّ وَظُهُورُهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحُجَّةِ إِذَا قَامَتِ اسْتَبَانَ الْحَقُّ وَظَهَرَ وَاتَّضَحَ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وَهُوَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَبِلَ حُجَّةَ اللَّهِ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ: كَانَ هَذَا الْقَبُولُ هُوَ سَبَبَ تَبْيُّنِهَا وَظُهُورِهَا، وَانْكِشَافِهَا لِقَلْبِهِ. فَلَا يَصْبِرُ عَلَى بَيِّنَةِ رَبِّهِ إِلَّا بَعْدَ قَبُولِ حُجَّتِهِ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ عَيْبُ عَمَلِهِ مِنْ صِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ. فَإِذَا عَرَفَ الْحُجَّةَ اتَّضَحَ لَهُ بِهَا مَا كَانَ مُشْكَلًا عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِهِ، وَمَا كَانَ مَعِيبًا مِنْ أَعْمَالِهِ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَيْضًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ " وَرَاءَ " بِمَعْنَى أَمَامَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بَعْدَ تَبَيُّنِهَا. فَإِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ. يَعْنِي فَلَا يَقْنَعُ مِنَ الْحُجَّةِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهَا بِلَا تَبَيُّنٍ. فَإِنَّ التَّبَيُّنَ أَمَامَ الْحُجَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
পৃষ্ঠা - ৮১৪
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخًا. وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. وَأَنْ تَقْبَلَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ.
يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. أَفَلَا تَرْضَى أَنْتَ بِهِ أَخًا؟ فَعَدَمُ رِضَاكَ بِهِ أَخًا - وَقَدْ رَضِيَهُ سَيِّدُكَ الَّذِي أَنْتَ عَبْدُهُ عَبْدًا لِنَفْسِهِ - عَيْنُ الْكِبْرِ. وَأَيُّ قَبِيحٍ أَقْبَحُ مِنْ تَكَبُّرِ الْعَبْدِ عَلَى عَبْدٍ مِثْلِهِ، لَا يَرْضَى بِأُخُوَّتِهِ. وَسَيِّدُهُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّتِهِ؟ .
فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ غَيْرُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تُوجِبُ رِضَاهُ بِأُخُوَّةِ عَبْدِهِ. وَهَذَا شَأْنُ عَبِيدِ الْمُلُوكِ. فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَهُمْ خُشْدَاشِيَّةَ بَعْضٍ. وَمَنْ تَرَفَّعَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ عَبِيدِ أُسْتَاذِهِمْ.
قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا.
أَيْ لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. وَإِذَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَكَيْفَ تَمْنَعُهُ حَقًّا لَهُ قِبَلَكَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكَ قَبِلْتَهُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ. فَلَا تَمْنَعُكَ عَدَاوَتُهُ مِنْ قَبُولِ حَقِّهِ، وَلَا مِنْ إِيتَائِهِ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ.
فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا. وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ. فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَلَامَةُ الْكَرَمِ وَالتَّوَاضُعِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْخَلَلَ فِي عُذْرِهِ لَا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ وَلَا تُحَاجُّهُ. وَقُلْ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ. وَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ، وَالْمَقْدُورُ لَا مَدْفَعَ لَهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ. فَتَنْزِلَ عَنْ رَأْيِكَ وَعَوَائِدِكَ فِي الْخِدْمَةِ
পৃষ্ঠা - ৮১৫
وَرُؤْيَةِ حَقِّكَ فِي الصُّحْبَةِ. وَعَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ.
بِقَوْلِ التَّوَاضُعِ بِأَنْ تَخْدِمَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ. وَتَعْبُدَهُ بِمَا أَمَرَكَ بِهِ، عَلَى مُقْتَضَى أَمْرِهِ. لَا عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ رَأْيِكَ. وَلَا يَكُونَ الْبَاعِثُ لَكَ دَاعِيَ الْعَادَةِ. كَمَا هُوَ بَاعِثُ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَادَ أَمْرًا فَجَرَى عَلَيْهِ. وَلَوِ اعْتَادَ ضِدَّهُ لَكَانَ كَذَلِكَ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَاعِثُهُ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ مُجَرَّدَ رَأْيٍ، وَمُوَافَقَةَ هَوًى وَمَحَبَّةٍ وَعَادَةٍ. بَلِ الْبَاعِثُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَالرَّأْيُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْهَوَى وَالْعَوَائِدُ: مُنَفِّذَةٌ تَابِعَةٌ. لَا أَنَّهَا مُطَاعَةٌ بَاعِثَةٌ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَا يَتَنَبَّهُ لَهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ.
وَأَمَّا نُزُولُهُ عَنْ رُؤْيَةِ حَقِّهِ فِي الصُّحْبَةِ.
فَمَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ. فَإِنَّ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ الْمَحْضِ، وَالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ. فَمَتَى رَأَى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا فَسَدَتِ الصُّحْبَةُ. وَصَارَتْ مَعْلُولَةً وَخِيفَ مِنْهَا الْمَقْتُ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ إِثَابَةِ عَابِدِيهِ وَإِكْرَامِهِمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ. لَا بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبِيدِ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِمْ.
فَعَلَيْكَ بِالْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ. وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ حَقًّا. فَقَالَتْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَأَنْكَرَتْ وُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَفِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ. فَظَنَّتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ سَبَبًا لِهَذَا الْإِيجَابِ. وَالْفِرْقَتَانِ غَالِطَتَانِ.
وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ، قَالَتْ: لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً وَلَا فَلَاحًا. وَلَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ تَعَالَى - بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَحْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ - أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ. فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ، وَلَوْ بِعَسَى، وَلَعَلَّ.
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ.
وَوَعْدُ اللَّئِيمِ خُلْفٌ. وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْعَهْدُ وَالْحَلِفُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ حَقًّا لِعَبْدِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا