মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة الصدق

পৃষ্ঠা - ৭৫০
وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» . [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ] [حَقِيقَةُ الصِّدْقِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْأَعْظَمِ. الَّذِي مِنْهُ تَنْشَأُ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ الَّذِي مَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمُنْقَطِعِينَ الْهَالِكِينَ. وَبِهِ تَمَيَّزَ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَسُكَّانُ الْجِنَانِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ. وَهُوَ سَيْفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِي مَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا قَطَعَهُ. وَلَا وَاجَهَ بَاطِلًا إِلَّا أَرْدَاهُ وَصَرَعَهُ. مَنْ صَالَ بِهِ لَمْ تُرَدَّ صَوْلَتُهُ. وَمَنْ نَطَقَ بِهِ عَلَتْ عَلَى الْخُصُومِ كَلِمَتُهُ. فَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَمَحَكُّ الْأَحْوَالِ، وَالْحَامِلُ عَلَى اقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ، وَالْبَابُ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ الْوَاصِلُونَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ. وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدِّينِ، وَعَمُودُ فُسْطَاطِ الْيَقِينِ. وَدَرَجَتُهُ تَالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعَالِمِينَ. وَمِنْ مَسَاكِنِهِمْ فِي الْجَنَّاتِ تُجْرَى الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ إِلَى مَسَاكِنِ الصِّدِّيقِينَ. كَمَا كَانَ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَدَدٌ مُتَّصِلٌ وَمَعِينٌ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. وَخَصَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَقَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] فَهُمُ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وَلَا يَزَالُ اللَّهُ يَمُدُّهُمْ بِأَنْعُمِهِ وَأَلْطَافِهِ وَمَزِيدِهِ إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا. وَلَهُمْ مَرْتَبَةُ الْمَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَلَهُمْ مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ مِنْهُ. إِذْ دَرَجَتُهُمْ مِنْهُ ثَانِي دَرَجَةِ النَّبِيِّينَ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ صَدَقَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. فَقَالَ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] .
পৃষ্ঠা - ৭৫১
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْبِرِّ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ: مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّبْرِ. بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ فَقَالَ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصِّدْقَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مَقَامُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ إِلَى صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ. فَقَالَ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] . وَالْإِيمَانُ أَسَاسُهُ الصِّدْقُ. وَالنِّفَاقُ أَسَاسُهُ الْكَذِبُ. فَلَا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وَإِيمَانٌ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا مُحَارِبٌ لِلْآخَرِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا صِدْقُهُ. قَالَ تَعَالَى {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ: هُوَ مِنْ شَأْنِهِ الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَحَالِهِ. فَالصِّدْقُ: فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَالصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ: اسْتِوَاءُ اللِّسَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ، كَاسْتِوَاءِ السُّنْبُلَةِ عَلَى سَاقِهَا. وَالصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: اسْتِوَاءُ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْمُتَابَعَةِ. كَاسْتِوَاءِ الرَّأْسِ عَلَى الْجَسَدِ. وَالصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ: اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى الْإِخْلَاصِ. وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَبَذْلُ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ. وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ: تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: ذُرْوَةُ سَنَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ، سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالصِّدِّيقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ وَالصَّدُوقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ. فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ: مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ.
পৃষ্ঠা - ৭৫২
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ: أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ عَلَى الصِّدْقِ. فَقَالَ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] وَأَخْبَرَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. فَقَالَ {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وَبَشَّرَ عِبَادَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ قَدَمَ صِدْقٍ، وَمَقْعَدَ صِدْقٍ. فَقَالَ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] وَقَالَ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ - فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: مُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ، وَقَدَمُ الصِّدْقِ، وَمَقْعَدُ الصِّدْقِ. وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ، الْمُتَّصِلُ بِاللَّهِ، الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ. وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ وَلَهُ، مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ. وَجَزَاءُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَمُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ: أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ حَقًّا ثَابِتًا بِاللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ. بِالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، ضِدَّ مُخْرَجِ الْكَذِبِ وَمُدْخَلِهِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إِلَيْهَا. وَلَا لَهُ سَاقٌ ثَابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْهَا. كَمُخْرَجِ أَعْدَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ كَمُخْرَجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَكَذَلِكَ مُدْخَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ: كَانَ مُدْخَلُ صِدْقٍ بِاللَّهِ، وَلِلَّهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَاتَّصَلَ بِهِ التَّأْيِيدُ، وَالظَّفَرُ وَالنَّصْرُ، وَإِدْرَاكُ مَا طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِخِلَافِ مُدْخَلِ الْكَذِبِ الَّذِي رَامَ أَعْدَاؤُهُ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِاللَّهِ، وَلَا لِلَّهِ. بَلْ كَانَ مُحَادَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إِلَّا الْخِذْلَانُ وَالْبَوَارُ. وَكَذَلِكَ مُدْخَلُ مَنْ دَخَلَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُحَارِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُدْخَلَ كَذِبٍ: أَصَابَهُ مَعَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. فَكُلُّ مُدْخَلٍ مَعَهُمْ وَمُخْرَجٍ كَانَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ. فَصَاحِبُهُ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ. فَهُوَ مُدْخَلُ صِدْقٍ، وَمُخْرَجُ صِدْقٍ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ: رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
পৃষ্ঠা - ৭৫৩
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُخْرَجَ مُخْرَجًا لَا أَكُونُ فِيهِ ضَامِنًا عَلَيْكَ. يُرِيدُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْرَجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. وَلِذَلِكَ فُسِّرَ مُدْخَلُ الصِّدْقِ وَمُخْرَجُهُ: بِخُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ. إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ. وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ - أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ - إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ: لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا لِسَانُ الصِّدْقِ: فَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالصِّدْقِ. لَيْسَ ثَنَاءً بِالْكَذِبِ. كَمَا قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هَاهُنَا: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. فَلَمَّا كَانَ الصِّدْقُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ. أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْسِنَةَ الْعِبَادِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الصَّادِقِ، جَزَاءً وِفَاقًا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإِنَّ اللِّسَانَ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: هَذَا، وَاللُّغَةُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وَقَوْلِهِ: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وَقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] وَيُرَادُ بِهِ الْجَارِحَةُ نَفْسُهَا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] . وَأَمَّا قَدَمُ الصِّدْقِ: فَفُسِّرَ بِالْجَنَّةِ. وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفُسِّرَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَحَقِيقَةُ الْقَدَمِ مَا قَدَّمُوهُ. وَمَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُمْ قَدَّمُوا الْأَعْمَالَ وَالْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْدَمُونَ عَلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ ذَلِكَ. فَمَنْ فَسَّرَهُ بِهَا أَرَادَ: مَا يَقْدَمُونَ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْأَعْمَالِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِأَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا. وَقَدَّمُوا الْإِيمَانَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. فَالثَّلَاثَةُ قَدَمُ صِدْقٍ. وَأَمَّا مَقْعَدُ الصِّدْقِ: فَهُوَ الْجَنَّةُ عِنْدَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
পৃষ্ঠা - ৭৫৪
وَوَصْفُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَهُ وَاسْتِقْرَارَهُ، وَأَنَّهُ حَقُّ، وَدَوَامَهُ وَنَفْعَهُ، وَكَمَالَ عَائِدَتِهِ. فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ، كَائِنٌ بِهِ وَلَهُ. فَهُوَ صِدْقٌ غَيْرُ كَذِبٍ. وَحَقٌّ غَيْرُ بَاطِلٍ. وَدَائِمٌ غَيْرُ زَائِلٍ. وَنَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ. وَمَا لِلْبَاطِلِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَا مَدْخَلٌ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْكَذِبِ: حُصُولُ الرِّيبَةِ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ - مَرْفُوعًا - مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ. وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ. وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ. وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» فَجَعَلَ الصِّدْقَ مِفْتَاحَ الصِّدِّيقِيَّةِ وَمَبْدَأَهَا. وَهِيَ غَايَتُهُ. فَلَا يَنَالُ دَرَجَتَهَا كَاذِبٌ أَلْبَتَّةَ. لَا فِي قَوْلِهِ:، وَلَا فِي عَمَلِهِ، وَلَا فِي حَالِهِ. وَلَا سِيَّمَا كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ. أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ صِدِّيقٌ أَبَدًا. وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ. بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ. وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ. وَإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ، وَإِيجَابِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ، وَكَرَاهَةِ مَا أَحَبَّهُ، وَاسْتِحْبَابِ مَا لَمْ يُحِبَّهُ. كُلُّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلصِّدِّيقِيَّةِ. وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ: بِالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَالزَّاهِدِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ. فَلِذَلِكَ كَانَتِ الصِّدِّيقِيَّةُ: كَمَالَ الْإِخْلَاصِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْمُتَابَعَةَ لِلْخَبَرِ وَالْأَمْرِ، ظَاهِرًا
পৃষ্ঠা - ৭৫৫
وَبَاطِنًا، حَتَّى إِنَّ صِدْقَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي بَيْعِهِمَا. وَكَذِبَهُمَا يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا. وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا: مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» . [فَصْلٌ فِي كَلِمَاتٍ فِي حَقِيقَةِ الصِّدْقِ] قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الصِّدْقُ: الْوَفَاءُ لِلَّهِ بِالْعَمَلِ. وَقِيلَ: مُوَافَقَةُ السِّرِّ النُّطْقَ. وَقِيلَ: اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْكَاذِبَ عَلَانِيَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سَرِيرَتِهِ. كَالْمُنَافِقِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خَيْرٌ مِنْ بَاطِنِهِ. وَقِيلَ: الصِّدْقُ: الْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ الْهَلَكَةِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الصَّادِقُ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً. وَالْمُرَائِي يَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ مُتَلَوِّنٌ. لِأَنَّ الْكَذِبَ أَلْوَانٌ، فَهُوَ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ. وَالصَّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنَّ الصِّدْقَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَلَوَّنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ. لَكِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذَا. فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الصَّادِقِ لَا تَرِدُ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُرَائِي. بَلْ هُوَ فَارِغٌ مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ مَوَارِدُ الصَّادِقِينَ عَلَى الْكَاذِبِينَ الْمُرَائِينَ. وَلَا يُعَارِضُهُمُ الشَّيْطَانُ. كَمَا يُعَارِضُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّهُ لَا أَرَبَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَهَذِهِ الْوَارِدَاتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصَّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا هَارِبًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَمِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ. وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ. لِأَنَّهُ يَخَافُ فِي كُلِّ حَالٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. وَمَكَانٍ
পৃষ্ঠা - ৭৫৬
وَسَبَبٍ: أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ لَا يُسَاكِنُ حَالَةً وَلَا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالْجَوَّالِ فِي الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْغِنَى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ. وَالْأَحْوَالُ وَالْأَسْبَابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وَتُقِيمُهُ وَتُقْعِدُهُ، وَتُحَرِّكُهُ وَتُسَكِّنُهُ، حَتَّى يَجِدَ فِيهَا مَا يُعِينُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ. وَهَذَا عَزِيزٌ فِيهَا. فَقَلْبُهُ فِي تَقَلُّبٍ، وَحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ. وَعَظْمَتِهِ وَهِمَّتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلَى رَسْمٍ أَوْ حَالٍ، أَوْ يُسَاكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ. فَهُوَ كَالْمُحِبِّ الصَّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلَى مَحْبُوبِهِ. وَكَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. فَكُلُّ صَادِقٍ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ. وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبِّهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ، وَتَتَبُّعُ مَحَابِّهِ. فَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهَا يَسِيرُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا. وَيَسْتَقِلُّ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا فَبَيْنَا هُوَ فِي صَلَاةٍ إِذْ رَأَيْتُهُ فِي ذِكْرٍ ثُمَّ فِي غَزْوٍ، ثُمَّ فِي حَجٍّ. ثُمَّ فِي إِحْسَانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ. ثُمَّ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. أَوْ فِي قِيَامٍ بِسَبَبٍ فِي عِمَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ. أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ - إِنْ أَمْكَنَ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرْبِ وَالْمَنَافِعِ. فَهُوَ فِي تَفَرُّقٍ دَائِمٍ لِلَّهِ، وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ. لَا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا وَضْعٌ. وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا إِشَارَةٍ. وَلَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لَا يُصَلِّي فِي غَيْرِهِ. وَزِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَلْبَسُ سِوَاهُ. وَعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا، مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا فِي الدَّرَجَةِ. وَبُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا كَبُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْآفَاتِ وَالرِّيَاءَ وَالتَّصَنُّعَ، وَعِبَادَةَ النَّفْسِ، وَإِيثَارَ مُرَادِهَا، وَالْإِشَارَةَ إِلَيْهَا: كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ، وَالرُّسُومَ وَالْقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أَرْبَابَهَا عَنِ السَّيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسْمِهِ وَوَضْعِهِ وَزِيِّهِ وَقَيْدِهِ وَإِشَارَتِهِ - وَلَوْ إِلَى أَفْضَلَ مِنْهُ - اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ. وَرَآهُ نَقْصًا، وَسُقُوطًا مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ قَدِ انْحَطَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَقَدْ يُحِسُّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَالِهِ. وَلَا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وَأَوْضَاعُهُ وَزِيُّهُ وَقُيُودُهُ: أَنْ يَسْعَى فِي تَرْمِيمِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِ الْمُرَائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَاطِنِهِ، الْعَامِلِ عَلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ. وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَعَلَى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ: لَأَثْقَلَتْهُ تِلْكَ الْقُيُودُ. وَحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَلَرَأَى الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَمَعَهَا عَيْنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. وَلَمَا بَالَى أَيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، وَلَا أَيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إِذَا كَانَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ.
পৃষ্ঠা - ৭৫৭
فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلَامُ رَاسِخٍ فِي الصِّدْقِ، عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهِ وَآفَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ اشْتِبَاهِهِ بِالْكَذِبِ. وَأَيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي. لَا يُطِيقُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ. فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الْحَامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ. وَالرِّيَاءُ وَالْكَذِبُ خَفِيفٌ كَالرِّيشَةِ لَا يَجِدُ لَهُ صَاحِبُهُ ثِقَلًا أَلْبَتَّةَ. فَهُوَ حَامِلٌ لَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ. فَهُوَ لَا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ وَلَا يَجِدُ ثِقَلَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَشَمُّ رَائِحَةَ الصِّدْقِ عَبْدٌ دَاهَنَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّادِقُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَسْتَحْيِيَ مِنْ سِرِّهِ لَوْ كُشِفَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] . قُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا لِلنَّاسِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ. قَالُوا: إِنَّهَا مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَعْجَزَ بِهَا الْيَهُودَ. وَدَعَاهُمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا. وَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ إِلَّا بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ. وَلَمْ يُنْطِقِ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ بِتَمَنِّيهِ أَبَدًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ أَنَّ لَهُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ عِنْدَ اللَّهِ، خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ، كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ. وَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. لِتَصِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ دَارِ النَّعِيمِ، فَإِنَّ الْحَبِيبَ يَتَمَنَّى لِقَاءَ حَبِيبِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَوْزَارِ وَالذُّنُوبِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ. فَقَالَ {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ - هَذِهِ مِنْ جِنْسِ آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا، وَدَفَعُوا الْهُدَى عَيَانًا. وَكَتَمُوا الْحَقَّ: دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. وَهُوَ أَنْ
পৃষ্ঠা - ৭৫৮
يَدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي. وَالتَّمَنِّي سُؤَالٌ وَدُعَاءٌ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَادْعُوا بِهِ عَلَى الْمُبْطِلِ الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ: تَمَنُّوهُ لِأَنْفُسِكُمْ خَاصَّةً كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. بَلْ مَعْنَاهُ: ادْعُوا بِالْمَوْتِ وَتَمَنُّوهُ لِلْمُبْطِلِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَبُرْهَانِ الصِّدْقِ، وَأَسْلَمُ مِنْ أَنْ يُعَارِضُوا رَسُولَ اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: فَتَمَنُّوهُ أَنْتُمْ أَيْضًا. إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ أَنَّكُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. لِتَقْدَمُوا عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ. وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، فَلَوْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ أُولَئِكَ لَعَارَضُوهُ بِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُشَاهِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرِّهِ وَبَلَائِهِ، وَشِدَّةِ حَالِهِ. وَيَدْعُو بِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ تَمَنِّيهِ وَالدُّعَاءِ بِهِ عَلَى الْفِرْقَةِ الْكَاذِبَةِ. فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. وَلَا وَقَعَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا. فَلَا يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا. لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَاصُّ: الصَّادِقُ لَا تَرَاهُ إِلَّا فِي فَرْضٍ يُؤَدِّيهِ، أَوْ فَضْلٍ يَعْمَلُ فِيهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: حَقِيقَةُ الصِّدْقِ: أَنَّ تَصْدُقَ فِي مَوْطِنٍ لَا يُنْجِيكَ مِنْهُ إِلَّا الْكَذِبُ. وَقِيلَ: ثَلَاثٌ لَا تُخْطِئُ الصَّادِقَ: الْحَلَاوَةُ، وَالْمَلَاحَةُ، وَالْهَيْبَةُ. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ مَنْ صَدَقَنِي فِي سَرِيرَتِهِ صَدَقْتُهُ فِي عَلَانِيَتِهِ عِنْدَ خَلْقِي. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَوَّلُ خِيَانَةِ الصِّدِّيقِينَ: حَدِيثُهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: لَأَنْ أَبِيتَ لَيْلَةً أُعَامِلُ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَضْرِبَ بِسَيْفِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كُلُّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ
পৃষ্ঠা - ৭৫৯
الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ. وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ. وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ. لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ لِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ مِنْ جِنْسِ كَرَاهَتِهِ لِلضَّرْبِ وَالْمَرَضِ وَسَائِرِ الْآلَامِ. وَهَذَا أَمْرٌ جَبَلِيٌّ طَبِيعِيٌّ. وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنِ الصِّدْقِ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ قُدْوَةً مُتَّبَعًا. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ. لِأَنَّ فِيهَا مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاتِّبَاعِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَنْفِيذِهِ. وَمَفْسَدَةَ اقْتِدَاءِ الْجُهَّالِ بِهِ فِيهَا. فَكَرَاهِيَتُهُ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ: لَا تُنَافِي صِدْقَهُ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ. نَعَمِ الْمُنَافِي لِلصِّدْقِ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ سِوَى عِمَارَةِ حَالِهِ عِنْدَهُمْ، وَسُكْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُ. فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَشْرًا لِدِينِهِ، وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَعْوَةً إِلَى اللَّهِ: فَهَذَا الصَّادِقُ حَقًّا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْقُلُوبِ وَمَقَاصِدَهَا. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُحَاسِبِيِّ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ فُضُولًا، وَدُخُولًا فِيمَا لَا يَعْنِي. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَيْثُ قَالَ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا - أَوْ عِقَالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَعُدُّونَهُ وَيَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْفَرْضَ الدَّائِمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الْفَرْضُ الْمُؤَقَّتُ. قِيلَ: وَمَا الْفَرْضُ الدَّائِمُ؟ قَالَ: الصِّدْقُ. وَقِيلَ: مَنْ طَلَبَ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أَعْطَاهُ مِرْآةً يُبْصِرُ فِيهَا الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. وَقِيلَ: عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخَافُ أَنَّهُ يَضُرُّكَ. فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ. وَدَعِ الْكَذِبَ حَيْثُ
পৃষ্ঠা - ৭৬০
تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ. فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ. وَقِيلَ: مَا أَمْلَقَ تَاجِرٌ صَدُوقٌ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الصِّدْقِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الصِّدْقُ: اسْمٌ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ حُصُولًا وَوُجُودًا. الصِّدْقُ: هُوَ حُصُولُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ، وَكَمَالُ قُوَّتِهِ، وَاجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ، كَمَا يُقَالُ: عَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ. إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً، وَكَذَلِكَ: مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، وَإِرَادَةٌ صَادِقَةٌ. وَكَذَا قَوْلُهُمْ: حَلَاوَةٌ صَادِقَةٌ: إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً ثَابِتَةَ الْحَقِيقَةِ. لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا: صِدْقُ الْخَبَرِ. لِأَنَّهُ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِتَمَامِ حَقِيقَتِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. فَالتَّمَامُ وَالْوُجُودُ نَوْعَانِ: خَارِجِيٌّ، وَذِهْنِيٌّ. فَإِذَا أَخْبَرْتَ الْمُخَاطَبَ بِخَبَرٍ صَادِقٍ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِكَمَالِهِ وَتَمَامِهِ فِي ذِهْنِهِ. وَمِنْ هَذَا: وَصْفُهُمُ الرُّمْحَ بِأَنَّهُ صَادِقُ الْكُعُوبِ إِذَا كَانَتْ كُعُوبُهُ صُلْبَةً قَوِيَّةً مُمْتَلِئَةً. [دَرَجَاتُ الصِّدْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى صِدْقُ الْقَصْدِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: صِدْقُ الْقَصْدِ. وَبِهِ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ. وَيُتَدَارَكُ بِهِ كُلُّ فَائِتٍ. وَيَعْمُرُ كُلُّ خَرَابٍ. وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ: أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ. وَلَا يَصْبِرَ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ. وَلَا يَقْعُدَ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ. يَعْنِي بِصِدْقِ الْقَصْدِ: كَمَالَ الْعَزْمِ، وَقُوَّةَ الْإِرَادَةِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ صَادِقَةٌ إِلَى السُّلُوكِ، وَمَيْلٌ شَدِيدٌ يَقْهَرُ السِّرَّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَجُّهِ. فَهُوَ طَلَبٌ لَا يُمَازِجُهُ رِيَاءٌ وَلَا فُتُورٌ. وَلَا يَكُونُ فِيهِ قِسْمَةٌ بِحَالٍ. وَلَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي شَأْنِ السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ إِلَّا بِهِ. وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ. فَإِنَّهُ حَامِلٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَنَالُ بِهِ الْوُصُولَ، وَقَطْعِ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَلَا يَتْرُكُ فُرْصَةً تَفُوتُهُ. وَمَا فَاتَهُ مِنَ الْفُرَصِ السَّابِقَةِ تَدَارَكَهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَيُصْلِحُ مِنْ قَلْبِهِ مَا مَزَّقَتْهُ يَدُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ. وَيُعَمِّرُ مِنْهُ مَا خَرَّبَتْهُ
পৃষ্ঠা - ৭৬১
يَدُ الْبَطَالَةِ. وَيُوقِدُ فِيهِ مَا أَطْفَأَتْهُ أَهْوِيَةُ النَّفْسِ. وَيَلُمُّ مِنْهُ مَا شَعَّثَتْهُ يَدُ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ. وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ مَا نَهَبَتْهُ أَكُفُّ اللُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ. وَيَزْرَعُ مِنْهُ مَا وَجَدَهُ بُورًا مِنْ أَرَاضِيهِ. وَيَقْلَعُ مَا وَجَدَهُ شَوْكًا وَشِبْرِقًا فِي نَوَاحِيهِ. وَيَسْتَفْرِغُ مِنْهُ مَا مَلَأَتْهُ مَوَادُّ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُتَرَامِيَةِ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ. وَيُدَاوِي مِنْهُ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ مِنْ عَبَرَاتِ الرِّيَاءِ. وَيَغْسِلُ مِنْهُ الْأَوْسَاخَ وَالْحَوْبَاتِ الَّتِي تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ عَلَى تَقَادُمِ الْأَوْقَاتِ، حَتَّى لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَأَحْزَنَهُ سَوَادُهُ وَوَسَخُهُ الَّذِي صَارَ دِبَاغًا لَهُ، فَيُطَهِّرُهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ يَنَابِيعِ الصِّدْقِ الْخَالِصَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكَدُورَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ طَهُورُهُ بِالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ. فَإِنَّهُ لَا يُجَاوِرُ الرَّحْمَنَ قَلْبٌ دَنِسٌ بِأَوْسَاخِ الشَّهَوَاتِ وَالرِّيَاءِ أَبَدًا. وَلَا بُدَّ مِنْ طَهُورٍ. فَاللَّبِيبُ يُؤْثِرُ أَسْهَلَ الطَّهُورَيْنِ وَأَنْفَعَهُمَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ: أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ. يَعْنِي أَنَّ الصَّادِقَ حَقِيقَةً: هُوَ الَّذِي قَدِ انْجَذَبَتْ قُوَى رُوحِهِ كُلُّهَا إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَطَلَبِهِ، وَالسَّيْرِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ. وَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ حَالَهُ: لَا يَحْتَمِلُ سَبَبًا يَدْعُوهُ إِلَى نَقْضِ عَهْدِهِ مَعَ اللَّهِ بِوَجْهٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَصْبِرُ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ. الضِّدُّ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ، وَقُطَّاعُ طَرِيقِ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ. وَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الصَّادِقِ: صُحْبَتُهُمْ، بَلْ لَا تَصْبِرُ نَفْسُهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، إِلَّا مَعَ ضَرُورَةٍ. وَتَكُونُ صُحْبَتُهُمْ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِقَالَبِهِ وَشَبَحِهِ، دُونَ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ. فَإِنَّ هَذَا لَمَّا اسْتَحْكَمَتِ الْغَفْلَةُ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَحْكَمَ الصِّدْقُ فِي الصَّادِقِ: أَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْمُضَادَّةِ. فَاشْتَدَّتِ النُّفْرَةُ. وَقَوِيَ الْهَرَبُ. وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِحْسَاسِ الصَّادِقِ بِهَا: تَكُونُ نُفْرَتُهُ وَهَرَبُهُ عَنِ الْأَضْدَادِ. فَإِنَّ هَذَا الضِّدَّ إِنْ نَطَقَ أَحَسَّ قَلْبُ الصَّادِقِ: أَنَّهُ نَطَقَ بِلِسَانِ الْغَفْلَةِ، وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَطَلَبِ الْجَاهِ. وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ حَاجًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَنَفَرَ قَلْبُهُ مِنْهُ. وَإِنْ صَمَتَ أَحَسَّ قَلْبُهُ: أَنَّهُ صَمَتَ عَلَى غَيْرِ حُضُورٍ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِقْبَالٍ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَعُكُوفِ السِّرِّ عَلَيْهِ. فَيَنْفِرُ مِنْهُ أَيْضًا. فَإِنَّ قَلْبَ الصَّادِقِ قَوِيُّ الْإِحْسَاسِ. فَيَجِدُ الْغَيْرِيَّةَ وَالْأَجْنَبِيَّةَ مِنَ الضِّدِّ. وَيَشَمُّ الْقَلْبُ الْقَلْبَ كَمَا يَشَمُّ الرَّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ. فَيَزْوِي وَجْهَهُ لِذَلِكَ. وَيَعْتَرِيهِ عُبُوسٌ. فَلَا يَأْنَسُ بِهِ إِلَّا تَكَلُّفًا. وَلَا يُصَاحِبُهُ إِلَّا ضَرُورَةً. فَيَأْخُذُ مِنْ صُحْبَتِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ، كَصُحْبَةِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَصَالِحِهِ، كَالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَنَحْوِهِ. قَوْلُهُ: وَلَا يَقْعُدُ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ مُسْتَجْمِعَ الْقُوَّةِ: لَمْ يَقْعُدْ بِهِ عَزْمُهُ عَنِ الْجِدِّ فِي جَمِيعِ
পৃষ্ঠা - ৭৬২
أَحْوَالِهِ. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا جَادًّا. وَأَمْرُهُ كُلُّهُ جِدٌّ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ. وَلَا يَشْهَدَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَثَرَ النُّقْصَانِ. وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى تَرْفِيهِ الرُّخَصِ. أَيْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا لِيَشْبَعَ مِنْ رِضَا مَحْبُوبِهِ. وَيَقُومَ بِعُبُودِيَّتِهِ. وَيَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقِرُّبُهُ إِلَيْهِ، وَتُدْنِيهِ مِنْهُ. لَا لِعِلَّةٍ مِنْ عِلَلِ الدُّنْيَا. وَلَا لِشَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهَا، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ: لَوْلَا أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُكَابَدَةُ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلَامِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ. يُرِيدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْجِهَادَ، وَالصَّلَاةَ، وَالْعِلْمَ النَّافِعَ. وَهَذِهِ دَرَجَاتُ الْفَضَائِلِ. وَأَهْلُهَا هُمْ أَهْلُ الزُّلْفَى، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلْيَا. وَقَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الْبَقَاءَ لِجَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَلَا لَنُكْحِ الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ لِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَشْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَثَرَ النُّقْصَانِ. يَعْنِي لَا يَرَى نَفْسَهُ إِلَّا مُقَصِّرًا. وَالْمُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ: اسْتِعْظَامُ مَطْلُوبِهِ، وَاسْتِصْغَارُ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِعُيُوبِهَا، وَقِلَّةُ زَادِهِ فِي عَيْنِهِ. فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ نَفْسَهُ: لَمْ يَرَ نَفْسَهُ إِلَّا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى تَرْفِيهِ الرُّخَصِ. فَلِأَنَّهُ - لِكَمَالِ صِدْقِهِ، وَقُوَّةِ إِرَادَتِهِ، وَطَلَبِهِ لِلتَّقَدُّمِ - يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْعَزَائِمِ. وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الَّتِي فِي الرُّخَصِ. وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ. فَإِنَّ الصَّادِقَ يَعْمَلُ عَلَى رِضَا الْحَقِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ. فَإِذَا كَانَتِ الرُّخَصُ أَحَبَّ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنَ الْعَزَائِمِ: كَانَ الْتِفَاتُهُ إِلَى تَرْفِيهِهَا. وَهُوَ عَيْنُ صِدْقِهِ. فَإِذَا أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ، وَقَصَرَ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَخَفَّفَ الصَّلَاةَ
পৃষ্ঠা - ৭৬৩
عِنْدَ الشُّغْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ إِلَى تَرْفِيهِهَا لَا يُنَافِي الصِّدْقَ. بَلْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً. وَأَنْ يَكُونَ مُتَابَعَةً وَمُوَافَقَةً. وَمَعَ هَذَا فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً لَا يُنَافِي الصِّدْقَ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَفِيهِ شُهُودُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَتَعْبُّدُهُ بِاسْمِهِ الْبَرِّ، اللَّطِيفِ، الْمُحْسِنِ، الرَّفِيقِ فَإِنَّهُ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ. وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا. مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» لِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِ: الرَّفِيقِ، اللَّطِيفِ وَإِجْمَامِ الْقَلْبِ بِهِ لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَزَالُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا أَخَذَ بِتَرْفِيهِ رُخْصَةِ مَحْبُوبِهِ: اسْتَعَدَّ بِهَا لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. وَقَدْ تَقْطَعُهُ عَزِيمَتُهَا عَنْ عُبُودِيَّةٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، كَالصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ أَصْحَابِهِ، وَالْمُفْطِرِ الَّذِي يَضْرِبُ الْأَخْبِيَةَ، وَيَسْقِي الرُّكَّابِ، وَيَضُمُّ الْمَتَاعَ. وَلِهَذَا قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» . أَمَّا الرُّخَصُ التَّأْوِيلِيَّةُ، الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَالْآرَاءِ الَّتِي تُصِيبُ وَتُخْطِئُ: فَالْأَخْذُ بِهَا عِنْدَهُمْ عَيْنُ الْبَطَالَةِ مُنَافٍ لِلصِّدْقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ لَا يَسْتَقِيمُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِ الْعَبْدِ وَقَصْدِهِ: بِكَوْنِ الْعَبْدِ رَاضِيًا مَرْضِيًّا. فَأَعْمَالُهُ إِذَنْ مَرَضِيَّةٌ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا. فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ. يَعْنِي أَنَّ الصِّدْقَ الْمُتَحَقِّقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَدَقَ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحْصُلُ حَالُ الصِّدْقِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ الصِّدْقِ. ثُمَّ عَرَّفَ حَقِيقَةَ الصِّدْقِ. فَقَالَ لَا يَسْتَقِيمُ الصِّدْقُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا
পৃষ্ঠা - ৭৬৪
عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِهِ، وَقَصْدِهِ. وَهَذَا مُوجِبُ الصِّدْقِ وَفَائِدَتُهُ وَثَمَرَتُهُ. فَالشَّيْخُ ذَكَرَ الْغَايَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُعَرَفُ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِانْتِفَائِهَا. وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَدَقَ اللَّهَ: رَضِيَ اللَّهُ بِعَمَلِهِ، وَحَالِهِ وَيَقِينِهِ، وَقَصْدِهِ. لَا أَنَّ رِضَا اللَّهِ نَفْسُ الصِّدْقِ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ الصِّدْقُ بِمُوَافَقَةِ رِضَاهُ سُبْحَانَهُ. وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ الْعَبْدُ رِضَاهُ؟ . فَمِنْ هَاهُنَا كَانَ الصَّادِقُ مُضْطَرًّا - أَشَدَّ الضَّرُورَةِ - إِلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدِ بِطَاعَتِهِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، مَعَ إِخْلَاصِ الْقَصْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرْضِيهِ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا ذَلِكَ. وَمَا عَدَا هَذَا فَقُوتُ النَّفْسِ، وَمُجَرَّدُ حَظِّهَا، وَاتِّبَاعُ أَهْوَائِهَا. وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالْخَلَوَاتِ مَا كَانَ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْ عَبْدِهِ عَمَلًا، أَوْ يَرْضَى بِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَالِصًا لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ هَاهُنَا يُفَارِقُ الصَّادِقُ أَكْثَرَ السَّالِكِينَ. بَلْ يَسْتَوْحِشُ فِي طَرِيقِهِ. وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَالِكِهَا. فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ سَائِرُونَ عَلَى طُرُقِ أَذْوَاقِهِمْ، وَتَجْرِيدِ أَنْفَاسِهِمْ لِنُفُوسِهِمْ، وَمُتَابَعَةِ رُسُومِ شُيُوخِهِمْ. وَالصَّادِقُ فِي وَادٍ. وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ الْعَبْدُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا. لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا. فَرَضِيَ اللَّهُ بِهِ عَبْدًا. وَأَعْمَالُهُ إِذًا مَرَضِيَّةٌ لِلَّهِ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ مَعَ اللَّهِ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى مُتَابَعَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا، فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ. هَذَا يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكْسَى حِلْيَةَ الصَّادِقِينَ. وَيُلْبَسَ ثِيَابَهُمْ عَلَى غَيْرِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ. فَثَوْبُ الصِّدْقِ عَارِيَةٌ لَهُ، لَا مِلْكٌ لَهُ. فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ. فَإِنَّهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ. فَهَذَا أَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. كَمَا يُعَاقَبُ الْمَقْتُولُ فِي الْجِهَادِ، وَالْقَارِئُ الْقُرْآنَ الْمُتَنَسِّكُ، وَالْمُتَصَدِّقُ، وَيَكُونُونَ أَوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَمَّا لَبِسُوا ثِيَابَ الصَّادِقِينَ عَلَى قُلُوبِ الْمُرَائِينَ.
পৃষ্ঠা - ৭৬৫
هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. مَا أَظُنُّ الشَّيْخَ قَصَدَهُ. وَإِنَّمَا أَظُنُّهُ قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ. وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى تَيَقَّنَ الْعَبْدُ: أَنَّ وُجُودَهُ ثَوْبٌ مُعَارٌ، لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ. وَإِنَّمَا إِيجَادُهُ وَصِفَاتُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَأَعْمَالُهُ: عَارِيَةٌ مِنَ الْفِعَالِ وَحْدَهُ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ. فَوُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ: ثَوْبٌ أُعِيرَهُ. فَمَتَى نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى كِسْوَتِهِ: رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ ذُنُوبًا فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَصْدَقَ أَحْوَالِهِ زُورًا، وَأَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَمَلًا، وَلَا حَالًا وَلَا قَصْدًا. فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ. فَكُلُّ مَا مِنَ النَّفْسِ: فَهُوَ ذَنْبٌ وَزُورٌ وَقُعُودٌ. وَمَا كَانَ مَرْضِيًّا فَهُوَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَلِلَّهِ. لَا بِالنَّفْسِ، وَلَا مِنْهَا، وَلَا لَهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الطَّاعَةَ: كَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِذَلِكَ ذَنْبًا. فَإِنَّهُ قَدْ نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ قَطُّ. فَإِنَّهُ إِذَا خَلَّصَ فِعْلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُفْسِدُهُ: اقْتَرَنَ بِهِ آخَرُ. لَا يُمَكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ. وَهُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ وَلَا مَأْمُورٌ بِهِ. وَالْكَمَالُ فِي حَقِّهِ: أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، كَمَا أَضَافَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْفِعْلَ فِي كِتَابِهِ كُلِّهِ. وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا. فَإِذَا شَهِدَ نَفْسَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً. وَشَهِدَ فَاعِلِيَّتَهُ بِاللَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ. لَا مِنْ نَفْسِهِ: فَلَا ذَنْبَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَلَا زُورَ بِحَمْدِ اللَّهِ. وَهُوَ نَظَرَ بِمَجْمُوعِ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّبَبِ، وَالْمُسَبَّبِ، وَالشَّرْعِ، وَالْقَدَرِ، وَالْخَلْقِ، وَالْأَمْرِ، وَأَنَّهُ مَتَى شَهِدَ نَفْسَهُ عَاصِيًا، مُخَالِفًا، مُذْنِبًا: كَانَ عَاصِيًا بِهَذَا الشُّهُودِ. لِأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ أَشَدَّ مُنَافَاةٍ. وَهُوَ مِنْ سَيْرِ الْقَوْمِ إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ: أَنَّهُ غَايَةُ السَّالِكِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّيْخُ هَاهُنَا مَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْأَبْرَارِ. وَإِنَّمَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْمُقَرَّبِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنَّ شُهُودَ فِعْلِهِ ذَنْبٌ فِي الشَّرْعِ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَةً كَمَا ذَكَرْتُمْ. لَكِنْ هُوَ حَسَنَةٌ لِلْبَرِّ، ذَنْبٌ لِلْمُقَرَّبِ. فَإِنَّ نَصِيبَ الْبَرِّ مِنَ السَّيِّئَةِ: مَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ. وَنَصِيبُ الْمُقَرَّبِ: مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ. قِيلَ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ قَطْعًا. فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ: مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا. وَمُخَالِفُ ذَلِكَ فَمَعْرِفَةٌ فَاسِدَةٌ. وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْفَاعِلِينَ قِيَامًا وَمُبَاشَرَةً، وَصُدُورًا مِنْهُمْ.
পৃষ্ঠা - ৭৬৬
وَذَلِكَ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْقَدْحُ فِي ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْطَالِ الشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَمَرَ بِأَفْعَالِنَا وَنَهَى عَنْهَا. وَالْجَزَاءَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا. فَشُهُودُ أَفْعَالِنَا كَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، قَضَاءً وَقَدَرًا، وَخَلْقًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْهَا إِرَادَتُنَا وَقُدْرَتُنَا. فَلَمْ يُجْبِرْنَا عَلَيْهَا وَلَمْ يُكْرِهْنَا. بَلْ خَلَقَهَا بِمَا أَعْطَانَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِعْلِ. فَهَذَا الْمَشْهَدُ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَالْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَهُمَا يُحَقِّقَانِ مَشْهَدَيْ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30] وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] . وَمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ لَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ. بَلِ الْمَعْرِفَةُ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ وَكَمَالُهُ. وَحَقِيقَتُهَا: الْعِلْمُ الَّذِي أَثْمَرَ لِصَاحِبِهِ مَقْصُودَهُ. وَلِسَانُ الْأَبْرَارِ لَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْمُقَرَّبِينَ. إِنَّمَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْفُجَّارِ. نَعَمْ لِسَانُ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعُ، عَلَى مُقْتَضَى أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. فَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ: كَنِسْبَةِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ إِلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا إِلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُكُمْ هَذَا بِلِسَانِ الْعِلْمِ. وَلَوْ تَكَلَّمْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَعَلِمْتُمْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ صَاحِبُ شُهُودٍ. وَصَاحِبَ الْعِلْمِ صَاحِبُ غَيْبَةٍ. وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْكُمْ إِشَارَةً حَالِيَّةً عِلْمِيَّةً. تَنَزُّلًا مِنَ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ. فَنَقُولُ: الْحَالُ تَأَثُّرٌ عَنْ نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ وَالْفَرْدَانِيَّةِ. يَسْتُرُ الْعَبْدَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُبْدِي ظُهُورَ مَشْهُودِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ يُعْتَقَدُ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ. حَتَّى قَالَ أَبُو يَزِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: سُبْحَانِي سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ زُورٌ. وَأَنَّ سَبَبَهُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ، وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ. مَا دَامَ مَسْتُورًا عَنْ نَفْسِهِ بِوَارِدِهِ. فَإِذَا رُدَّ إِلَى رَسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَحِسِّهِ: حَالَ ذَلِكَ الْحَالُ وَزَالَ، وَعَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ كَانَ زُورًا. حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ. فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ فَلَا كَلَامَ مَعَكُمْ. وَإِنِ اعْتَرَفْتُمْ بِهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
পৃষ্ঠা - ৭৬৭
فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ أَصْدَقِ أَحْوَالِ الصَّادِقِ: زُورًا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فِي الْحَالِ: عُرِفَ مِثْلُهُ فِي كَوْنِ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا. فَإِنَّهُ - لِصِدْقِهِ فِي الطَّلَبِ، وَبَذْلِهِ الْجَهْدَ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ فِيهِ - يَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ وَمَجْرَى لِلْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا، أَوْ بِهَا، أَوْ مِنْهَا فِعْلٌ، أَوْ إِرَادَةٌ، أَوْ حَرَكَةٌ. فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَشَهِدَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُحَرِّكُ لَهُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ سَعْيَهُ، رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ أَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الْحَقِيقَةِ مَتَى شَهِدَ مَقْصُودَهُ: قَعَدَ عَنْ قَصْدِهِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُرَادَ: أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ، وَإِلَى الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِهِ. فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ: هُوَ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنِ الْقَصْدِ. لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعِيدٍ عَنِ الْقَاصِدِ. أَمَّا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَاصِدِ مِنْ ذَاتِهِ: فَمَتَى شَاهَدَ الْقَاصِدُ الْحَقِيقَةَ: عَلِمَ أَنَّ قَصْدَهُ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنْ قَصْدِهِ. وَالْعِبَارَةُ تَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى جَفْوَةً. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ وَالذَّوْقِ. فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ أَحَالَكَ عَلَى الْحَالِ فَمَا أَنْصَفَكَ. فَإِنَّهُ أَحَالَكَ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا وَطَلَبَهُ طَلَبًا صَادِقًا، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ: كَانَ لَهُ لَا مَحَالَةَ فِيهِ حَالٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. بِحَسَبِ صِدْقِهِ فِي طَلَبِهِ، وَجَمْعِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَكُونُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ. فَيَكُونُ الرَّجُلُ لَهُ شُهُودٌ بِمَشْهُودِهِ، وَحَالٌ فِي طَلَبِهِ، لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ عَقِيدَةً، وَارْتَاضَ وَصُقِلَ قَلْبُهُ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَةِ. وَجَزَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ: تَجَلَّتْ لَهُ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ فِي عَالَمِ نَفْسِهِ. فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَشْفًا صَحِيحًا. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ وَحُبِّهِ لِمَا اعْتَقَدَهُ: كَانَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَتَأْثِيرٌ بِحَسَبِهِ. فَالْحَوَالَةُ عَلَى الْحَالِ حَوَالَةُ مُفْلِسٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِهِ. وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى أَكْثَرِ السَّالِكِينَ. وَانْعَكَسَ سَيْرُهُمْ، حَيْثُ أَحَالُوا الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ. وَحَكَّمُوهُ عَلَيْهِ. وَسَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ بِخِلَافِ هَذَا. وَهُوَ إِحَالَةُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ، وَوَزْنُهُ بِهِ وَقَبُولُ حُكْمِهِ. فَإِنْ وَافَقَهُ الْعِلْمُ، وَإِلَّا كَانَ حَالًا فَاسِدًا، مُنْحَرِفًا عَنْ أَحْوَالِ الصَّادِقِينَ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ رَاعٍ وَالْحَالُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَصْلَ بِنَاءِ سُلُوكِهِ فَسُلُوكُهُ فَاسِدٌ. وَغَايَتُهُ: الِانْسِلَاخُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ جَرَى لَهُ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا ذَكَرْتُمْ - مِنْ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ
পৃষ্ঠা - ৭৬৮
ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ - لَكِنْ نُنْكِرُ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ حَالًا مِنْ صَاحِبِ الْبَقَاءِ وَالتَّمْيِيزِ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ حَالُهُ زُورًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ السُّكْرِ وَالِاصْطِلَامِ مِنَ الزُّورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا. وَأَمَّا الْغَائِبُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ بِشُهُودِ فِعْلِهِ: فَإِنَّهُ مَتَى صَحِبَهُ اسْتِصْحَابُ عَقْدِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَصْدَرَ كُلِّ شَيْءٍ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ مُتَحَرِّكٌ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ: فَلَا تَضُرُّهُ الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ وَالْفِعْلِ. إِذْ حُكْمُهُ جَارٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَيْسَ ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ وَقْتَ اسْتِجْمَاعِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ وَطَلَبِهِ - ذَنْبًا. لَا لِلْخَاصَّةِ وَلَا لِلْعَامَّةِ. وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ أَيْضًا. فَإِنَّ الذَّنْبَ تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَنَاءِ فِيهَا عَنْ شُهُودِ الْفِعْلِ وَقِيَامِهِ بِهِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْقُرْبِ تَجْعَلُ الْقَصْدَ قُعُودًا: فَكَلَامٌ لَهُ خَبِئٌ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ: مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا؟ ... وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا؟ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ ... إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا وَكَأَنَّ صَاحِبَهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ وُجُودُ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَوُجُودُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَلُطْفِهِ. هَذَا خَبِئُ هَذَا الْكَلَامِ. وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَإِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقُرْبِ: فَإِنْ أَرَدْتُمْ عُمُومَ قُرْبِهِ إِلَى كُلِّ لِسَانِ مَنْ نَطَقَهُ وَإِلَى كُلِّ قَلْبِ مَنْ قَصَدَهُ: فَهَذَا - لَوْ صَحَّ - لَكَانَ قُرْبَ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا قُرْبًا بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَازِجُ خَلْقَهُ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِمْ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ تَسْمِيَتُهُ قُرْبًا، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ إِلَّا خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقُرْبَ الْخَاصَّ إِلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ: فَهَذَا قُرْبُ الْمَحَبَّةِ، وَقُرْبُ الرِّضَا وَالْأُنْسِ، كَقُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْبِ. لَا مِثَالَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ يَقْرُبَانِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَالرُّوحُ وَالْقَلْبُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.
পৃষ্ঠা - ৭৬৯
وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ، بَلْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْقَصْدِ. فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ أَتَمَّ: كَانَ هَذَا الْقُرْبُ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ؟ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ. وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِعِلْمِهِ بِوَسْوَسَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَحَبْلُ الْوَرِيدِ حَبْلُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ الَّذِي مَتَى قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَأَجْزَاءُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحَبْلُ يَحْجُبُ بَعْضَهَا بَعْضًا. وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَسْرَارِ الْعَبْدِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَلْبِهِ. فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ. اخْتَارَهُ شَيْخُنَا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَنَسَبَ تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ. إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا فَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَهَا. قُلْتُ: أَوَّلُ الْآيَةِ يَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] قَالَ: وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَسْبَابِ وَتَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ «فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهُ: يَارَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» . فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَلَائِكَةِ