فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة الرعاية
পৃষ্ঠা - ৫৫৩
وَالتَّقِيَّةُ الَّتِي تَصْحَبُ هَذَا التَّشَرُّفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّقِيَّةَ مِنْ إِظْهَارِ النَّاسِ عَلَى حَالِهِ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَيْهَا، صِيَانَةً لَهَا وَغَيْرَةً عَلَيْهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْحَذَرَ مِنَ الْتِفَاتِهِ فِي شُهُودِهِ إِلَى مَا سِوَى حَضْرَةِ مَشْهُودِهِ. فَهِيَ تَتَّقِي ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ وَتَحْذَرُهُ كُلَّ الْحَذَرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الرَّغْبَةِ. وَهِيَ اللَّطِيفَةُ الْمُدْرِكَةُ الْمُرِيدَةُ الَّتِي قَدْ تَطَهَّرَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَهِيَ الْهِمَّةُ النَّقِيَّةُ. وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا كَمَالُ الطَّهَارَةِ لَبَقِيَتْ عَلَيْهَا بَقِيَّةٌ مِنْهَا تَمْنَعُهَا مِنْ وُصُولِهَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ]
[حَقِيقَةُ الرِّعَايَةِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ
وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ.
وَهِيَ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَحِفْظُهُ بِالْعَمَلِ. وَمُرَاعَاةُ الْعَمَلِ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ. وَحِفْظُهُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ. وَمُرَاعَاةُ الْحَالِ بِالْمُوَافَقَةِ. وَحِفْظُهُ بِقَطْعِ التَّفْرِيقِ. فَالرِّعَايَةُ صِيَانَةٌ وَحِفْظٌ.
وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ثَلَاثَةٌ: رِوَايَةٌ: وَهِيَ مُجَرَّدُ النَّقْلِ وَحَمْلِ الْمُرْوِيِّ. وَدِرَايَةٌ: وَهِيَ فَهْمُهُ وَتَعَقُّلُ مَعْنَاهُ. وَرِعَايَةٌ: وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ مَا عَلِمَهُ وَمُقْتَضَاهُ.
فَالنَّقَلَةُ هَمَّتْهُمُ الرِّوَايَةُ. وَالْعُلَمَاءُ هَمَّتْهُمُ الدِّرَايَةُ. وَالْعَارِفُونَ هَمَّتْهُمُ الرِّعَايَةُ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَرْعَ مَا اخْتَارَهُ وَابْتَدَعَهُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ حَقَّ رِعَايَتِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] .
" رَهْبَانِيَّةً " مَنْصُوبٌ بِ " ابْتَدَعُوهَا " عَلَى الِاشْتِغَالِ. إِمَّا بِنَفْسِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ - عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ - وَإِمَّا بِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ مُفَسَّرٌ بِهَذَا الْمَذْكُورِ - عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ - أَيْ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً. وَلَيْسَ مَنْصُوبًا بِوُقُوعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ.
فَالْوُقُوفُ التَّامُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] ثُمَّ يَبْتَدِئُ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27] أَيْ: لَمْ نَشْرَعْهَا لَهُمْ. بَلْ هُمُ ابْتَدَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ نَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ.
وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.
পৃষ্ঠা - ৫৫৪
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لَمْ نَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ. كَيْفَ وَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّهُمْ هُمُ ابْتَدَعُوهَا. فَهِيَ مُبْتَدَعَةٌ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَفْعُولَ لِأَجْلِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ. فَيَتَّحِدُ السَّبَبُ وَالْغَايَةُ. نَحْوُ: قُمْتُ إِكْرَامًا. فَالْقَائِمُ هُوَ الْمُكْرِمُ. وَفِعْلُ الْفَاعِلِ الْمُعَلَّلِ هَاهُنَا هُوَ الْكِتَابَةُ وَ " {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] " فِعْلُهُمْ، لَا فِعْلُ اللَّهِ. فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ. لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ.
وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِ " كَتَبْنَاهَا "؛ أَيْ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ.
وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ إِذْ لَيْسَ ابْتِغَاءُ رِضْوَانِ اللَّهِ عَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَتَكُونُ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ. وَلَا بَعْضَهَا، فَتَكُونُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَلَا أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ. فَتَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَلَيْسَ بَدَلَ غَلَطٍ.
فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. أَيْ لَمْ يَفْعَلُوهَا وَلَمْ يَبْتَدِعُوهَا إِلَّا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ " ابْتَدَعُوهَا " ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ لَهُمْ وَالْبَاعِثَ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُوَ طَلَبُ الرِّضْوَانِ. ثُمَّ ذَمَّهُمْ بِتَرْكِ رِعَايَتِهَا؛ إِذْ مَنِ الْتَزَمَ لِلَّهِ شَيْئًا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ لَزِمَهُ رِعَايَتَهُ وَإِتْمَامَهُ. حَتَّى أَلْزَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ شَرَعَ فِي طَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ حُكْمُهُ بِإِتْمَامِهَا. وَجَعَلُوا الْتِزَامَهَا بِالشُّرُوعِ كَالْتِزَامِهَا بِالنَّذْرِ. كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ إِجْمَاعٌ - أَوْ كَالْإِجْمَاعِ - فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ.
قَالُوا: وَالِالْتِزَامُ بِالشُّرُوعِ أَقْوَى مِنَ الِالْتِزَامِ بِالْقَوْلِ. فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَفَاءً، يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفِعْلِ إِتْمَامًا.
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالْقَصْدُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمَّ مَنْ لَمْ يَرْعَ قُرْبَةً ابْتَدَعَهَا لِلَّهِ تَعَالَى حَقَّ رِعَايَتِهَا؛ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَرْعَ قُرْبَةً شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَذِنَ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا؟ !
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرِّعَايَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الرِّعَايَةُ صَوْنٌ بِالْعِنَايَةِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الرِّعَايَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ. وَالثَّانِيَةُ: رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ. وَالثَّالِثَةُ: رِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ.
পৃষ্ঠা - ৫৫৫
فَأَمَّا رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ فَتَوْفِيرُهَا بِتَحْقِيرِهَا. وَالْقِيَامُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَيْهَا. وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مَجْرَى الْعِلْمِ، لَا عَلَى التَّزَيُّنِ بِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: صَوْنٌ بِالْعِنَايَةِ أَيْ حِفْظٌ بِالِاعْتِنَاءِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ الشَّيْءِ الَّذِي يَرْعَاهُ. وَمِنْهُ رَاعِي الْغَنَمِ.
وَقَوْلُهُ: أَمَّا رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ: فَتَوْفِيرُهَا بِتَحْقِيرِهَا. فَالتَّوْفِيرُ: سَلَامَةٌ مِنْ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ بِالنَّقْصِ، وَالْإِفْرَاطِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِي حُدُودِهَا وَصِفَاتِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَوْقَاتِهَا.
وَأَمَّا تَحْقِيرُهَا فَاسْتِصْغَارُهَا فِي عَيْنِهِ. وَاسْتِقْلَالُهَا، وَأَنَّ مَا يَلِيقُ بِعَظْمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَحُقُوقِ عُبُودِيَّتِهِ أَمْرٌ آخَرُ. وَأَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ. وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ بِعَمَلِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ.
وَقَدْ قِيلَ: عَلَامَةُ رِضَا اللَّهِ عَنِ الْإِنْسَانِ عَنْكَ إِعْرَاضُكَ عَنْ نَفْسِكَ. وَعَلَامَةُ قَبُولِ عَمَلِكَ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلَالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ. حَتَّى إِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثَلَاثًا.
وَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ الْحَجِّ. وَمَدَحَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَشَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقَيْبَ الطُّهُورِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ.
فَمَنْ شَهِدَ وَاجِبَ رَبِّهِ وَمِقْدَارَ عَمَلِهِ، وَعَيْبَ نَفْسِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اسْتِغْفَارِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَاحْتِقَارِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِصْغَارِهِ.
وَأَمَّا الْقِيَامُ بِهَا فَهُوَ تَوْفِيَتُهَا حَقَّهَا، وَجَعْلُهَا قَائِمَةً كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، وَالشَّجَرَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَاقِهَا الَّتِي لَيْسَتْ بِسَاقِطَةٍ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَيْهَا؛ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا وَيُعَدِّدَهَا وَيَذْكُرَهَا مَخَافَةَ الْعَجَبِ وَالْمِنَّةِ بِهَا. فَيَسْقُطُ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَيَحْبَطُ عَمَلُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مَجْرَى الْعِلْمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ الْمَأْخُوذِ
পৃষ্ঠা - ৫৫৬
مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، إِخْلَاصًا لِلَّهِ. وَإِرَادَةً لِوَجْهِهِ. وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّزَيُّنِ بِهَا عِنْدَ النَّاسِ.
[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ]
قَالَ: وَأَمَّا رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الرِّعَايَةِ فَهُوَ أَنْ يَعُدَّ الِاجْتِهَادَ مُرَاءَاةً، وَالْيَقِينَ تَشَبُّعًا، وَالْحَالَ دَعْوَى.
أَيْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ رَاءَى النَّاسَ. فَلَا يَطْغَى بِهِ. وَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ. وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ.
وَأَمَّا عَدُّهُ الْيَقِينَ تَشَبُّعًا. فَالتَّشَبُّعُ: افْتِخَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» .
وَعَدُّ الْيَقِينِ تَشَبُّعًا: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنْ بِهِ، وَلَا مِنْهُ، وَلَا اسْتَحَقَّهُ بَعِوَضٍ. وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ وَعَطَاؤُهُ، وَوَدِيعَتُهُ عِنْدَهُ، وَمُجَرَّدُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ. فَهُوَ خُلْعَةٌ خَلَعَهَا سَيِّدُهُ عَلَيْهِ. وَالْعَبْدُ وَخُلْعَتُهُ مِلْكُهُ وَلَهُ. فَمَا لِلْعَبْدِ فِي الْيَقِينِ مَدْخَلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَشَبِّعٌ بِمَا هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَفَضْلُهُ وَمِنَّتُهُ عَلَى عَبْدِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّهِمَ يَقِينَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْيَقِينُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، بَلْ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْهُ هُوَ كَالْعَارِيَّةِ لَا الْمِلْكِ الْمُسْتَقِرِّ، فَهُوَ مُتَشَبِّعٌ بِزَعْمِ نَفْسِهِ بِأَنَّ الْيَقِينَ مِلْكُهُ وَلَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْيَقِينِ، بَلْ بِسَائِرِ الْأَحْوَالِ. فَالصَّادِقُ يَعُدُّ صِدْقَهُ تَشَبُّعًا. وَكَذَا الْمُخْلِصُ يَعُدُّ إِخْلَاصَهُ. وَكَذَا الْعَالَمُ. لِاتِّهَامِهِ لِصِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَعِلْمِهِ. وَأَنَّهُ لَمْ تَرْسَخْ قَدَمُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ مِلْكَةً. فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ رُوحَ الْأَعْمَالِ وَعَمُودَهَا، وَذُرْوَةَ سِنَامِهَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ. تَنْبِيهًا عَلَى مَا دُونَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي حُصُولِ الْيَقِينِ. فَإِذَا حَصَلَ فَلَيْسَ حُصُولُهُ بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا لَهُ فِيهِ شَيْءٌ، فَهُوَ يَذُمُّ نَفْسَهُ فِي عَدَمِ حُصُولِهِ. وَلَا يَحْمَدُهَا عِنْدَ حُصُولِهِ.
وَأَمَّا عَدُّ الْحَالِ دَعْوَى؛ أَيْ دَعْوَى كَاذِبَةً، اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ، وَتَطْهِيرًا لَهَا مِنْ رُعُونَةِ