فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة الرجاء
পৃষ্ঠা - ৫২৮
وَتَشَتُّتَهُمْ. فَيَرْغَبُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الْجَمْعِ. يَتَوَجَّهُ مَعَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ.
وَالْمُسْتَقِيمُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ السَّالِكِ مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ، وَقِيَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِهِمَا. فَمَنْ لَا تَفْرِقَةَ لَهُ لَا عُبُودِيَّةَ لَهُ. وَمَنْ لَا جَمْعَ لَهُ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ وَلَا حَالَ.
فَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَرْقٌ.: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] جَمْعٌ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ كُلًّا مِنْ مَشْهَدَيْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مُتَضَمِّنٌ لِلْفَرْقِ وَالْجَمْعِ، وَكَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ بِالْقِيَامِ بِهِمَا فِي كُلِّ مَشْهَدٍ.
فَفَرْقُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تَنَوُّعُ مَا يُعْبَدُ بِهِ، وَكَثْرَةُ تَعَلُّقَاتِهِ وَضُرُوبِهِ.
وَجَمْعُهُ: تَوْحِيدُ الْمَعْبُودِ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ، وَالْفَنَاءُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ وَمُرَادٍ يُزَاحِمُ حَقَّهُ وَمُرَادَهُ.
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَشْهَدُ فَرْقًا فِي جَمْعٍ، وَكَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ. فَصَاحِبُهُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَأَمَّا فَرْقُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَشُهُودُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَرْتَبَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ، وَمَحَلَّهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَبِدَايَتَهُ وَعَاقِبَتَهُ، وَاتِّصَالَهُ - بَلْ وَانْفِصَالَهُ - وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ.
وَيَشْهَدُ - مَعَ ذَلِكَ - فَقْرَ الْمُسْتَعِينِ وَحَاجَتَهُ وَنَقْصَهُ، وَضَرُورَتَهُ إِلَى كَمَالَاتِهِ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَآفَاتَهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي دَفْعِهَا. وَيَشْهَدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَكِفَايَةَ الْمُسْتَعَانِ بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فَرْقٌ يُثْمِرُ عُبُودِيَّةَ هَذَا الْمَشْهَدِ.
وَأَمَّا جَمْعُهُ: فَشُهُودُ تَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَصُدُورِ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَتَصْرِيفِهَا بِإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
فَغَيْبَتُهُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ عَمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْفَرْقِ: نَقْصٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَمَا أَنَّ تَفَرُّقَهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ دُونَ مُلَاحَظَتِهِ: نَقْصٌ أَيْضًا. وَالْكَمَالُ إِعْطَاءُ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ حَقَّهُمَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ وَالْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ.
فَتَبَيَّنَ تَضَمُّنُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِلْجَمْعِ وَالْفَرْقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ]
[حَقِيقَةُ الرَّجَاءِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ
পৃষ্ঠা - ৫২৯
وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ: طَلَبُ الْقُرْبِ مِنْهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَذَكَرَ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاؤُهُ: الْحُبَّ، وَالْخَوْفَ، وَالرَّجَاءَ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] ، وَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ -: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» .
" الرَّجَاءُ " حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى بِلَادِ الْمَحْبُوبِ. وَهُوَ اللَّهُ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ. وَيَطِيبُ لَهَا السَّيْرُ.
وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِبْشَارُ بِجُودِ وَفَضْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَالِارْتِيَاحُ لِمُطَالَعَةِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ.
পৃষ্ঠা - ৫৩০
وَقِيلَ: هُوَ الثِّقَةُ بِجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَنَّ التَّمَنِّيَ يَكُونُ مَعَ الْكَسَلِ. وَلَا يَسْلُكُ بِصَاحِبِهِ طَرِيقَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَ " الرَّجَاءُ " يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجُهْدِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ.
فَالْأَوَّلُ كَحَالِ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ يَبْذُرُهَا وَيَأْخُذُ زَرْعَهَا.
وَالثَّانِي كَحَالِ مَنْ يَشُقُّ أَرْضَهُ وَيَفْلَحُهَا وَيَبْذُرُهَا. وَيَرْجُو طُلُوعَ الزَّرْعِ.
وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ.
قَالَ شَاهٌ الْكَرْمَانِيُّ: عَلَامَةُ صِحَّةِ الرَّجَاءِ حُسْنُ الطَّاعَةِ.
وَالرَّجَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعَانِ مَحْمُودَانِ، وَنَوْعٌ غَرُورٌ مَذْمُومٌ.
فَالْأَوَّلَانِ رَجَاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ. فَهُوَ رَاجٍ لِثَوَابِهِ. وَرَجُلٌ أَذْنَبَ ذُنُوبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهَا. فَهُوَ رَاجٍ لِمَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ.
وَالثَّالِثُ: رَجُلٌ مُتَمَادٍ فِي التَّفْرِيطِ وَالْخَطَايَا. يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ. فَهَذَا هُوَ الْغُرُورُ وَالتَّمَنِّي وَالرَّجَاءُ الْكَاذِبُ.
وَلِلسَّالِكِ نَظَرَانِ: نَظَرٌ إِلَى نَفْسِهِ وَعُيُوبِهِ وَآفَاتِ عَمَلِهِ، يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْخَوْفِ إِلَى سِعَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وَكَرْمِهِ وَبَرِّهِ. وَنَظَرٌ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الرَّجَاءِ.
وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ الرَّجَاءِ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ. وَإِذَا نَقَصَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ. وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ.
পৃষ্ঠা - ৫৩১
وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: مَا عَلَامَةُ الرَّجَاءِ فِي الْعَبْدِ؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ الْإِحْسَانُ أُلْهِمَ الشُّكْرَ، رَاجِيًا لِتَمَامِ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَمَامِ عَفْوِهِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاخْتَلَفُوا، أَيُّ الرَّجَائَيْنِ أَكْمَلُ: رَجَاءُ الْمُحْسِنِ ثَوَابَ إِحْسَانِهِ. أَوْ رَجَاءُ الْمُسِيءِ التَّائِبِ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ وَعَفْوِهِ؟ .
فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتْ رَجَاءَ الْمُحْسِنِ. لِقُوَّةِ أَسْبَابِ الرَّجَاءِ مَعَهُ. وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتْ رَجَاءَ الْمُذْنِبِ؛ لِأَنَّ رَجَاءَهُ مُجَرَّدٌ عَنْ عِلَّةِ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ، مَقْرُونٌ بِذِلَّةِ رُؤْيَةِ الذَّنْبِ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: يَكَادُ رَجَائِي لَكَ مَعَ الذُّنُوبِ يَغْلِبُ رَجَائِي لَكَ مَعَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنِّي أَجِدُنِي أَعْتَمِدُ فِي الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَكَيْفَ أُصَفِّيهَا وَأُحْرِزُهَا؟ وَأَنَا بِالْآفَاتِ مَعْرُوفٌ. وَأَجِدُنِي فِي الذُّنُوبِ أَعْتَمِدُ عَلَى عَفْوِكَ، وَكَيْفَ لَا تَغْفِرُهَا وَأَنْتَ بِالْجُودِ مَوْصُوفٌ؟ .
وَقَالَ أَيْضًا: إِلَهِي، أَحْلَى الْعَطَايَا فِي قَلْبِي رَجَاؤُكَ. وَأَعْذَبُ الْكَلَامِ عَلَى لِسَانِي ثَنَاؤُكَ. وَأَحَبُّ السَّاعَاتِ إِلَيَّ سَاعَةٌ يَكُونُ فِيهَا لِقَاؤُكَ.
[فَصْلٌ مُنَاقَشَةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي تَعْرِيفِهِ لِلرَّجَاءِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ وُقُوعٌ فِي الرُّعُونَةِ فِي مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. وَفَائِدَةٌ وَاحِدَةٌ نَطَقَ بِهَا التَّنْزِيلُ وَالسُّنَّةُ. وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ كَوْنُهُ يَرُدُّ حَرَارَةَ الْخَوْفِ، حَتَّى لَا يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْيَأْسِ.
شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَبِيبٌ إِلَيْنَا. وَالْحَقُّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ. وَكُلُّ مَنْ عَدَا الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَى أَحْسَنِ مَحَامِلِهِ. ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا فِيهِ.
পৃষ্ঠা - ৫৩২
أَمَّا قَوْلُهُ: الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ، فَيَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ، كَمَنْزِلَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالصِّدْقِ وَالتَّوَكُّلِ، لَا أَنَّ مُرَادَهُ ضَعْفُ حَالِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ نَاقِصَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهٍ.
فَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِمُرَادِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، مِنَ الْإِحْسَانِ وَالثَّوَابِ وَالْإِفْضَالِ. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ، وَمُعَامَلَتَهُ بِحُكْمِ عَدْلِهِ لَهُ. لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ. فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ مِنْهُ مُعَامَلَتَهُ بِحُكْمِ الْفَضْلِ دَخَلَ فِي نَوْعِ مُعَارِضَةٍ. وَكَأَنَّ الرَّاجِيَ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُعَارِضُ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي حُكْمَ اسْتِسْلَامِهِ وَانْقِيَادِهِ، وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، مُسْتَسْلِمًا لِمَا يَحْكُمُ بِهِ فِيهِ. فَرَجَاؤُهُ مُعَارِضٌ لِحُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَوُقُوفٌ مَعَ مُرَادِهِ مِنْ سَيِّدِهِ. وَذَلِكَ يُعَارِضُ مُرَادَ سَيِّدِهِ مِنْهُ. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ مَنْ فَنِيَ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ عَنْ مُرَادِهِ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ فِيهِ تَعْذِيبُهُ.
وَأَمَّا وَجْهُ الِاعْتِرَاضِ: فَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالرَّجَاءِ وَلَمْ يَظْفَرْ بِمَرْجُوِّهِ اعْتَرَضَ. حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ مَرْجُوُّهُ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ. وَإِنْ ظَفِرَ بِهِ اعْتَرَضَ. حَيْثُ فَاتَهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَرْجُوِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْجُو فَضْلَ اللَّهِ. وَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْجُو مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ مُتَمَنٍّ لِمَا يَرْجُو، مُؤْثِرٌ لَهُ. وَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْقَدَرِ، مُنَافٍ لِكَمَالِ الِاسْتِسْلَامِ وَالرِّضَا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ. فَإِذَا تَيَقَّنَ لَهُ أَنَّهُ سَبَقَ الْقَضَاءَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ. فَعَلَّقَ قَلْبَهُ بِرَجَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْفَضْلِ. فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَعْرِفْ لِلِاسْتِسْلَامِ لِلْحُكْمِ حَقَّهُ. وَذَلِكَ وُقُوعٌ فِي الرُّعُونَةِ. فِي مَذْهَبِ السَّائِرِينَ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ، النَّاظِرِينَ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ. إِذِ الرُّعُونَةُ هِيَ الْوُقُوفُ مَعَ حَظِّ النَّفْسِ. وَالرَّجَاءُ هُوَ الْوُقُوفُ مَعَ الْحَظِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْحُظُوظِ.
وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَوَّلُ طَرِيقِهِمُ الْخُرُوجُ عَنْ نُفُوسِهِمْ، فَضْلًا عَنْ حُظُوظِهَا لِأَنَّهُمْ عَامِلُونَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا بِاللَّهِ لَا بِنُفُوسِهِمْ. فَغَايَةُ الْمُحِبِّ أَنَّ يَرْضَى بِأَحْكَامِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، سَاءَتْهُ أَمْ سَرَّتْهُ، حَتَّى يَبْلُغَ بِأَحَدِهِمْ هَذَا الْحَالَ إِلَى أَنْ يَنْشُدَ:
أُحِبُّكَ لَا أُحِبُّكَ لِلثَّوَابِ ... وَلَكِنِّي أُحِبُّكَ لِلْعِقَابِ
وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا سِوَى مَلْذُوذِ وَجْدِي بِالْعَذَابِ
وَلَوْ كَانَ نَفْسُ تَلَذُّذِهِ بِالْعَذَابِ مَقْصُودَهُ مِنَ الْعَذَابِ لَكَانَ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَ حَظِّهِ
পৃষ্ঠা - ৫৩৩
وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّ رِضَاهُ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ - وَلَوْ كَانَ عَذَابَهُ - لَمْ يَدَعْ فِيهِ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعًا وَلَا لِلْخَوْفِ. بَلْ يَقُولُ: أَنَا أُحِبُّ مَا تُرِيدُهُ بِي، وَلَوْ أَنَّهُ عَذَابِي. وَقَدْ كَشَفَ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ:
وَتَعْذِيبِي مَعَ الْهِجْرَانِ عِنْدِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طِيبِ الْوِصَالِ
لِأَنِّي فِي الْوِصَالِ عَبِيدُ حَظِّي وَفِي الْهِجْرَانِ عَبْدٌ لِلْمَوَالِي
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالْهِجْرَانِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طِيبِ الْوِصَالِ، لِكَوْنِ الْوِصَالِ فِيهِ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ. وَأَمَّا التَّعْذِيبُ فَلَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ مَقْصُودٌ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ تَبْرِيدُهُ لِحَرَارَةِ الْخَوْفِ. حَتَّى لَا يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْإِيَاسِ.
وَهَذَا وَجْهُ كَلَامِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ.
فَيُقَالُ: هَذَا وَنَحْوَهُ مِنَ الشَّطَحَاتِ الَّتِي تُرْجَى مَغْفِرَتُهَا بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ، وَيَسْتَغْرِقُهَا كَمَالُ الصِّدْقِ، وَصِحَّةُ الْمُعَامَلَةِ، وَقُوَّةُ الْإِخْلَاصِ، وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، وَلَمْ تُضْمَنُ الْعِصْمَةُ لِبَشَرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذِهِ الشَّطَحَاتُ أَوْجَبَتْ فِتْنَةٌ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ. إِحْدَاهُمَا حُجِبَتْ بِهَا عَنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَلُطْفِ نُفُوسِهِمْ، وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِمْ، فَأَهْدَرُوهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الشَّطَحَاتِ، وَأَنْكَرُوهَا غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِمْ مُطْلَقًا، وَهَذَا عُدْوَانٌ وَإِسْرَافٌ. فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ تُرِكَ جُمْلَةً، وَأُهْدِرَتْ مَحَاسِنُهُ، لَفَسَدَتِ الْعُلُومُ وَالصِّنَاعَاتُ، وَالْحُكْمُ، وَتَعَطَّلَتْ مَعَالِمُهَا.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: حُجِبُوا بِمَا رَأَوْهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْقَوْمِ، وَصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ، وَصِحَّةِ عَزَائِمِهِمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَاتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ عُيُوبِ شَطَحَاتِهِمْ، وَنُقْصَانِهَا. فَسَحَبُوا عَلَيْهَا ذَيْلَ الْمَحَاسِنِ. وَأَجْرَوْا عَلَيْهَا حُكْمَ الْقَبُولِ وَالِانْتِصَارِ لَهَا. وَاسْتَظْهَرُوا بِهَا فِي سُلُوكِهِمْ.
وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُعْتَدُونَ مُفْرِطُونَ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: - وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ - الَّذِينَ أَعْطَوْا كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، وَأَنْزَلُوا كُلَّ ذِي مَنْزِلَةٍ مَنْزِلَتَهُ، فَلَمْ يَحْكُمُوا لِلصَّحِيحِ بِحُكْمِ السَّقِيمِ الْمَعْلُولِ، وَلَا لِلْمَعْلُولِ السَّقِيمِ بِحُكْمِ الصَّحِيحِ. بَلْ قَبِلُوا مَا يُقْبَلُ. وَرَدُّوا مَا يُرَدُّ.
وَهَذِهِ الشَّحَطَاتُ وَنَحْوُهَا هِيَ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا سَادَاتُ الْقَوْمِ، وَذَمُّوا عَاقِبَتَهَا. وَتَبْرَءُوا
পৃষ্ঠা - ৫৩৪
مِنْهَا حَتَّى ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ رُؤِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي. وَمَا كَانَ شَيْءٌ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْ إِشَارَاتِ الْقَوْمِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الشَّحَّامَ يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيَّ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَقَالَ: دَعِ التَّشْيِيخَ. فَقُلْتُ: وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ؟ فَقَالَ: لَمْ تُغْنِ عَنَّا شَيْئًا. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِمَسَائِلَ كَانَتْ تَسْأَلُ عَنْهَا الْعَجَائِزُ.
وَذَكَرَ عَنِ الْجَرِيرِيِّ: أَنَّهُ رَأَى الْجُنَيْدَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ حَالُكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ. وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ. وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا تَسْبِيحَاتٌ كُنَّا نَقُولُهَا بِالْغُدْوَاتِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: تُعْرَضُ عَلَيَّ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ. فَلَا أَقْبَلُهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَذْهَبُنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ
পৃষ্ঠা - ৫৩৫
الْحَدِيثَ، لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي طَرِيقِنَا.
هَذَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْهُمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِهِمْ، وَأَعْلَاهَا وَأَشْرَفِهَا. وَعَلَيْهِ وَعَلَى الْحُبِّ وَالْخَوْفِ مَدَارُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ - «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي.» وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ. إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي. وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا، اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا. وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الَّذِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُمْ كَانُوا رَاجِينَ لَهُ، خَائِفِينَ مِنْهُ. فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56] .
يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِي: هُمْ عِبَادِي، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيَّ بِطَاعَتِي، وَيَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَيَخَافُونَ عَذَابِي، فَلِمَاذَا تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِي؟ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَفْضَلِ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ مِنَ الْحُبِّ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.
قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهٍ.
পৃষ্ঠা - ৫৩৬
يُقَالُ: وَهُوَ عُبُودِيَّةٌ، وَتَعَلُّقٌ بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ اسْمُهُ الْمُحْسِنُ الْبَرُّ فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ وَالتَّعَبُّدُ بِهَذَا الِاسْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لِلْعَبْدِ الرَّجَاءَ، مِنْ حَيْثُ يَدْرِي وَمِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. فَقُوَّةُ الرَّجَاءِ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَغَلَبَةِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ. وَلَوْلَا رُوحُ الرَّجَاءِ لَعُطِّلَتْ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. وَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ، وَبَيْعٌ، وَصَلَوَاتٌ، وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. بَلْ لَوْلَا رُوحُ الرَّجَاءِ لَمَا تَحَرَّكَتِ الْجَوَارِحُ بِالطَّاعَةِ. وَلَوْلَا رِيحُهُ الطَّيِّبَةُ لَمَا جَرَتْ سُفُنُ الْأَعْمَالِ فِي بَحْرِ الْإِرَادَاتِ. وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ:
لَوْلَا التَّعَلُّقُ بِالرَّجَاءِ تَقَطَّعَتْ ... نَفْسُ الْمُحِبِّ تَحَسُّرًا وَتَمَزُّقَا
وَكَذَاكَ لَوْلَا بَرْدُهُ بِحَرَارَةِ الْ ... أَكْبَادِ ذَابَتْ بِالْحِجَابِ تَحَرُّقَا
أَيَكُونُ قَطُّ حَلِيفُ حُبٍّ لَا يُرَى ... بِرَجَائِهِ لِحَبِيبِهِ مُتَعَلِّقًا؟ !
أَمْ كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ ... قَوِيَ الرَّجَاءُ فَزَادَ فِيهِ تَشَوُّقَا
لَوْلَا الرَّجَا يَحْدُو الْمَطِيَّ لَمَا سَرَتْ ... بِحُمُولِهَا لِدِيَارِهِمْ تَرْجُو اللِّقَا
وَعَلَى حَسَبِ الْمَحَبَّةِ وَقُوَّتِهَا يَكُونُ الرَّجَاءُ. فَكُلُّ مُحِبٍّ رَاجٍ خَائِفٌ بِالضَّرُورَةِ فَهُوَ أَرْجَى مَا يَكُونُ لِحَبِيبِهِ، أَحَبُّ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ خَوْفُهُ. فَإِنَّهُ يَخَافُ سُقُوطَهُ مِنْ عَيْنَيْهِ. وَطَرْدَ مَحْبُوبِهِ لَهُ وَإِبْعَادَهُ. وَاحْتِجَابَهُ عَنْهُ. فَخَوْفُهُ أَشَدُّ خَوْفٍ. وَرَجَاؤُهُ ذَاتِيٌّ لِلْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ يَرْجُوهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَإِذَا لَقِيَهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ اشْتَدَّ الرَّجَاءُ لَهُ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ رُوحِهِ، وَنَعِيمِ قَلْبِهِ مِنْ أَلْطَافِ مَحْبُوبِهِ، وَبِرِّهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَتَأْهِيلِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَيَاةَ لِلْمُحِبِّ، وَلَا نَعِيمَ وَلَا فَوْزَ إِلَّا بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ. فَرَجَاؤُهُ أَعْظَمُ رَجَاءٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَتَمُّهُ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ يُطْلِعْكَ عَلَى أَسْرَارٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَسْرَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَكُلُّ مَحَبَّةٍ فَهِيَ مَصْحُوبَةٌ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَعَلَى قَدْرِ تَمَكُّنِهَا مِنْ قَلْبِ الْمُحِبِّ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ، لَكِنَّ خَوْفَ الْمُحِبِّ لَا يَصْحَبُهُ وَحْشَةٌ. بِخِلَافِ خَوْفِ الْمُسِيءِ، وَرَجَاءِ الْمُحِبِّ لَا يَصْحَبُهُ عِلَّةٌ، بِخِلَافِ رَجَاءِ الْأَجِيرِ. وَأَيْنَ رَجَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ رَجَاءِ الْأَجِيرِ؟ ! وَبَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ حَالَيْهِمَا.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالرَّجَاءُ ضَرُورِيٌّ لِلْمُرِيدِ السَّالِكِ، وَالْعَارِفُ لَوْ فَارَقَهُ لَحْظَةً لَتَلِفَ أَوْ كَادَ. فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ذَنْبٍ يَرْجُو غُفْرَانَهُ، وَعَيْبٍ يَرْجُو إِصْلَاحَهُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْجُو قَبُولَهُ، وَاسْتِقَامَةٍ يَرْجُو حُصُولَهَا وَدَوَامَهَا، وَقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةٍ عِنْدَهُ يَرْجُو وُصُولَهُ إِلَيْهَا. وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنَ السَّالِكِينَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا. فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّجَاءُ مِنْ أَضْعَفِ مَنَازِلِهِ. وَهَذَا حَالُهُ؟
পৃষ্ঠা - ৫৩৭
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ الرَّاجِيَ لَيْسَ مُعَارِضًا. وَلَا مُعْتَرِضًا، بَلْ رَاغِبًا رَاهِبًا. مُؤَمِّلًا لِفَضْلِ رَبِّهِ. حَسَنَ الظَّنِّ بِهِ، مُتَعَلِّقَ الْأَمَلِ بِبِرِّهِ وَجُودِهِ، عَابِدًا لَهُ بِأَسْمَائِهِ: الْمُحْسِنِ، الْبَرِّ، الْمُعْطِي، الْحَلِيمِ، الْغَفُورِ، الْجَوَادِ، الْوَهَّابِ، الرَّزَاقِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْجُوَهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رَجَاءِ الْعَبْدِ لَهُ وَظَنِّهِ بِهِ.
وَالرَّجَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ مَا يَرْجُوهُ مِنْ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ. وَلَوْ تَضَمَّنَ مُعَارَضَةً وَاعْتِرَاضًا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ أَوْلَى فَكَانَ دُعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَسُؤَالُهُ - أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُوَفِّقَهُ وَيُسَدِّدَهُ، وَيُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُجَنِّبَهُ مَعْصِيَتَهُ، وَيَغْفِرَ ذُنُوبَهُ، وَيَدْخُلَهُ جَنَّتَهُ، وَيُنْجِيَهُ مِنَ النَّارِ - مُعَارَضَةً وَاعْتِرَاضًا؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ رَاجٍ وَطَالِبٌ مَا يَرْجُوهُ. فَهُوَ أَوْلَى حِينَئِذٍ بِالْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ.
وَالَّذِي أَوْجَبَ لِلشَّيْخِ هَذَا الْقَدْرَ: الِاسْتِرْسَالُ فِي الْقَدَرِ. وَالْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ. فَإِنَّهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ، الَّذِينَ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَهُوَ شَدِيدٌ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ أَئِمَّةٍ أَعْلَامٍ.
وَلَوْلَا أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ أَوْجَبُ مِنْ حَقِّ الْخَلْقِ لَكَانَ فِي الْإِمْسَاكِ فُسْحَةٌ وَمُتَّسَعٌ.
وَلَيْسَ فِي الرَّجَاءِ وَلَا فِي الدُّعَاءِ مُعَارَضَةٌ لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْجُو تَصَرُّفَهُ فِي مُلْكِهِ أَيْضًا بِمَا هُوَ أَوْلَى وَأَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْفَضْلَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَالْعَفْوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالْمُسَامَحَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَالتَّرْكَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، وَرَحْمَتَهُ غَلَبَتْ غَضَبَهُ.
فَالرَّاجِي عَلَّقَ رَجَاءَهُ بِتَصَرُّفِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ الْمُرْضِي لَهُ. فَلَمْ يُوجِبْ رَجَاؤُهُ خُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي مُلْكِهِ. بَلِ اقْتَضَى عُبُودِيَّتَهُ، وَحُصُولَ أَحَبِّ التَّصَرُّفَيْنِ إِلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَعُقُوبَةِ عَبْدِهِ، حَتَّى يَكُونَ رَجَاؤُهُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْعَبْدُ اسْتَدْعَى الْعُقُوبَةَ، وَأَخَذَ الْحَقَّ مِنْهُ لِشِرْكِهِ بِاللَّهِ وَكُفْرِهِ بِهِ. وَاجْتِهَادِهِ فِي غَضَبِهِ. وَلِغَضَبِهِ مُوجِبَاتٌ وَآثَارٌ وَمُقْتَضَيَاتٌ، وَالْعَبْدُ مُؤْثِرٌ لَهَا، سَاعٍ فِي تَحْصِيلِهَا، عَامِلٍ عَلَيْهَا بِإِيثَارِهِ إِيَّاهَا وَسَعْيِهِ فِي أَسْبَابِهَا. فَهُوَ الْمُهْلِكُ لِنَفْسِهِ. وَرَبُّهُ يُحَذِّرُهُ وَيُبَصِّرُهُ وَيُنَادِيهِ: هَلُمَّ إِلَيَّ أَحْمِكَ وَأَصُنْكَ، وَأُنْجِكَ مِمَّا تَحْذَرُ، وَأُؤَمِّنْكَ مِنْ كُلِّ مَا تَخَافُ، وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا شُرُودًا عَلَيْهِ وَنِفَارًا عَنْهُ، وَمُصَالَحَةً لِعَدُوِّهِ، وَمُظَاهَرَةً لَهُ عَلَى رَبِّهِ. وَمُتَطَلِّبًا لِمَرْضَاةِ خَلْقِهِ بِمَسَاخِطِهِ. رِضَا الْمَخْلُوقِ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْ رِضَا خَالِقِهِ. وَحَقُّهُ آكُدُ عِنْدَهُ مِنْ حَقِّهِ. وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَحُبُّهُ فِي قَلْبِهِ أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَحُبِّهِ. فَلَمْ يَدَعْ لِفَضْلِ رَبِّهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ إِلَيْهِ طَرِيقًا، بَلْ سَدَّ دُونَهُ طُرُقَ مَجَارِيهَا بِجُهْدِهِ. وَأَعْطَى بِيَدِهِ لِعَدُوِّهِ. فَصَالَحَهُ وَسَمِعَ لَهُ
পৃষ্ঠা - ৫৩৮
وَأَطَاعَ. وَانْقَادَ إِلَى مَرْضَاتِهِ. فَجَاءَ مِنَ الظُّلْمِ بِأَقْبَحِهِ وَأَشَدِّهِ.
فَهُوَ الَّذِي عَارَضَ مُرَادَهُ بِهِ مِنْهُ بِمُرَادِهِ وَهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ. وَاعْتَرَضَ لِمَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ بِالدَّفْعِ. وَلَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ. فَأَضَاعَ حَظَّهُ وَبَخَسَ حَقَّهُ. وَظَلَمَ نَفْسَهُ. وَعَادَى حَبِيبَهُ. وَوَالَى عَدُوَّهُ. وَأَسْخَطَ مِنْ حَيَاتِهِ فِي رِضَاهُ. وَأَرْضَى مِنْ حَيَاتِهِ فِي سَخَطِهِ. وَجَادَ بِنَفْسِهِ لِعَدُوِّهِ. وَبَخِلَ بِهَا عَنْ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ.
وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ ثَأْرٌ عِنْدَ عَبْدِهِ فَيُدْرِكَهُ بِعُقُوبَتِهِ. وَلَا يَتَشَفَّى بِعِقَابِهِ. وَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ مُلْكِهِ. كَيْفَ، وَالرَّحْمَةُ أَوْسَعُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَأَسْبَقُ مِنَ الْغَضَبِ وَأَغْلَبُ لَهُ؟ وَهُوَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. فَرَجَاءُ الْعَبْدِ لَهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا مِنْ حِكْمَتِهِ. وَلَا يُنْقِصُ ذَرَّةً مِنْ مُلِكِهِ. وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَمَالِ تَصَرُّفِهِ. وَلَا يُوجِبُ خِلَافَ كَمَالِهِ. وَلَا تَعْطِيلَ أَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ، وَأَغْلَقَ دُونَهَا أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ لَكَانَ رَبُّهُ لَهُ فَوْقَ رَجَائِهِ وَفَوْقَ أَمَلِهِ.
وَأَمَّا اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَاسْتِسْلَامُهُ بِانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرِضَاهُ بِمَوَاقِعِ حُكْمِهِ فِيهِ فَمَا ذَاكَ إِلَّا رَجَاءً مِنْهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، وَيُقِيلَهُ عَثْرَتَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ، وَيَقْبَلَ حَسَنَاتِهِ مَعَ عُيُوبِ أَعْمَالِهِ وَآفَاتِهَا. وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. فَقُوَّةُ رَجَائِهِ أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ، وَالِانْطِرَاحَ بِالْبَابِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا بِدُونِ الرَّجَاءِ أَلْبَتَّةَ. فَالرَّجَاءُ حَيَاةُ الطَّلَبِ. وَالْإِرَادَةُ رُوحُهَا.
وَأَمَّا رِضَاهُ بِمُرَادِهِ مِنْهُ وَإِنْ عَذَّبَهُ فَهَذَا هُوَ الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ. فَإِنَّ مُرَادَهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: مُرَادٌ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَيَمْدَحُ فَاعِلَهُ وَيُوَالِيهِ. فَمُوَافَقَتُهُ فِي هَذَا الْمُرَادِ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ، وَإِرَادَةُ خِلَافِهِ رُعُونَةٌ وَمُعَارَضَةٌ وَاعْتِرَاضٌ. وَمُرَادٌ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَمْقُتُ فَاعِلَهُ وَيُعَادِيهِ. فَمُوَافَقَتُهُ فِي هَذَا الْمُرَادِ عَيْنُ مُشَاقَّتِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ وَسَخَطِهِ.
فَهَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ فُرْقَانٍ. فَالْمُوَافَقَةُ كُلُّ الْمُوَافَقَةِ مُعَارَضَةُ هَذَا الْمُرَادِ، وَاعْتِرَاضُهُ بِالدَّفْعِ وَالرَّدِّ بِالْمُرَادِ الْآخَرِ.
فَالْعُبُودِيَّةُ الْحَقُّ مُعَارَضَةُ مُرَادِهِ بِمُرَادِهِ، وَمُزَاحَمَةُ أَحْكَامِهِ بِأَحْكَامِهِ.
فَاسْتِسْلَامُهُ لِهَذَا الْمُرَادِ الْمَكْرُوهِ الْمَسْخُوطِ، وَمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ عَيْنُ الرُّعُونَةِ. وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ. وَهُوَ عَيْنُ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَصْدَرَ ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَتَرَكُ الِاعْتِرَاضِ وَالْمُعَارَضَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِمَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ، وَأَوَامِرِهِ
পৃষ্ঠা - ৫৩৯
الَّتِي الِاسْتِسْلَامُ لَهَا وَالْمُوَافَقَةُ فِيهَا، وَتَرْكُ مُعَارَضَتِهَا، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا - هُوَ عَيْنُ الْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ.
وَأَمَّا الْفَنَاءُ بِمُرَادِ رَبِّهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحْمُودَ مِنْهُ هُوَ ذَلِكَ الْفَنَاءُ بِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، لَا الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ مُرَادُهُ الْقَدَرِيُّ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ.
وَأَمَّا تَعَلُّقُ الرَّجَاءِ بِمُرَادِهِ دُونَ مُرَادِ سَيِّدِهِ فَهُوَ إِنَّمَا عَلَّقَهُ بِمُرَادِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ، هَارِبًا مِنْ مُرَادِهِ الْمَسْخُوطِ الْمَكْرُوهِ لَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لَهُ - إِذَا كَانَ انْتِقَامًا - فَالْعَفْوُ وَالْفَضْلُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَهُوَ إِنَّمَا عَلَّقَ رَجَاءَهُ بِأَحَبِّ الْمُرَادَيْنِ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الرَّجَاءِ اعْتِرَاضًا عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ: فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ تَعَلُّقًا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْجُو فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَرَحْمَةً سَبَقَ بِهَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، وَجَعَلَ الرَّجَاءَ أَحَدَ أَسْبَابِ حُصُولِهَا. فَلَيْسَ الرَّجَاءُ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَدَرِ، وَلَا مُعَارَضَةً لِلْقَدَرِ. بَلْ طَلَبًا لِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ.
وَأَمَّا اعْتِرَاضُهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ مَرْجُوُّهُ فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَجَهْلٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ الرَّاجِي وَالدَّاعِي يَرْجُو وَيَدْعُو فَضْلًا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ بِمُعَاوَضَةٍ. فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَمَحْضُ الْمِنَّةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مُنِعَهُ فَلَمْ يُمْنَعْ حَقًّا هُوَ لَهُ. فَاعْتِرَاضُهُ رُعُونَةٌ وَجَهَالَةٌ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَوَاتِ الْمَرْجُوِّ، أَوْ عَدَمِ حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الصَّادِقِ، مُعَارَضَةٌ وَلَا اعْتِرَاضٌ.
وَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثَلَاثَ خِصَالٍ لِأُمَّتِهِ. فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَهُ وَاحِدَةً. فَرَضِيَ بِمَا أَعْطَاهُ. وَلَمْ يَعْتَرِضْ فِيمَا مَنَعَهُ بَلْ رَضِيَ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا كَوْنُ الرَّجَاءِ وُقُوفًا مَعَ الْحَظِّ، وَأَصْحَابِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَدْ خَرَجُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ فَكَيْفَ حُظُوظُهُمْ؟
فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! أَيُّ رُعُونَةٍ فِيمَنْ يَجْعَلُ رَجَاءَ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَطَمَعَهُ فِي بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، وَسُؤَالَهُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ؟ فَإِنَّ الرَّجَاءَ هُوَ اسْتِشْرَافُ الْقَلْبِ لِنَيْلِ مَا يَرْجُوهُ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ دَائِمًا مُسْتَشْرِفًا بِقَلْبِهِ، سَائِلًا بِلِسَانِهِ، طَالِبًا لِفَضْلِ رَبِّهِ. فَأَيُّ رُعُونَةٍ هَاهُنَا؟ وَهَلِ
পৃষ্ঠা - ৫৪০
الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ إِلَّا خِلَافُ ذَلِكَ؟
وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَاهُمْ خُرُوجَهُمْ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ عِبَادَةً لِنُفُوسِهِمْ. وَلَيْسَ الْخَارِجُ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا مَنْ جَعَلَهَا حَبْسًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ النَّبَوِيِّ. وَبَذَلَهَا لِلَّهِ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ. وَتَنْفِيذِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْمُعَارَضَةِ وَالْبَغْيِ. فَانْغَمَسَ فِيهِمْ يُمَزِّقُونَ أَدِيمَهُ، وَيَرْمُونَهُ بِالْعَظَائِمِ. وَيُخِيفُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ، وَيَتَطَلَّبُونَ دَمَهُ بِجُهْدِهِمْ، لَا تَأْخُذُهُ فِي جِهَادِهِمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. يَصْدَعُ بِالْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، قَدْ زَهِدَ فِي مَدْحِهِمْ وَثَنَائِهِمْ. وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَشْيِيخِهِمْ لَهُ، وَتَقْبِيلِ يَدِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ. يَصِيحُ فِيهِمْ بِالنَّصَائِحِ جِهَارًا. وَيُعْلِنُ لَهُمْ بِهَا. وَيُسِرُّ لَهُمْ إِسْرَارًا. قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْأَوْضَاعِ وَالْقُيُودِ وَالرُّسُومِ. وَتَعَلَّقَ بِمَرَاضِيِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ. مَقَامُهُ سَاعَةٌ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَرِبَاطُهُ لَيْلَةٌ عَلَى ثَغْرِ الْإِيمَانِ، آثَرُ عِنْدَهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَنَاءٍ وَمُشَاهَدَاتٍ وَأَحْوَالٍ هِيَ أَعْظَمُ عَيْشِ النَّفْسِ وَأَعْلَى قُوَّتِهَا، وَأَوْفَرُ حَظِّهَا. وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ حَظُّهَا؟ وَلَعَلَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ مُرَادِ رَبِّهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ إِلَى عَيْنِ مُرَادِهِ. وَهُوَ حَظُّهُ. وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ لَرَأَى ذَلِكَ فِيهَا عَيَانًا.
وَهَلِ الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ إِلَّا دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ لِعَذَابِهِ لَا لِثَوَابِهِ؟ وَأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ لِلثَّوَابِ كَانَ ذَلِكَ حَظًّا وَإِيثَارًا لِمُرَادِ النَّفْسِ؟ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ لِيُعَذِّبَهُ. فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِي ذَلِكَ؟
فَوَاللَّهِ لَيْسَ فِي أَنْوَاعِ الرُّعُونَةِ وَالْحَمَاقَةِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَلَا أَسْمَجُ. وَمَاذَا يَلْعَبُ الشَّيْطَانُ بِالنُّفُوسِ؟ وَإِنَّ نَفْسًا وَصَلَ بِهَا تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى سُؤَالِ الْمُعَافَاةِ.
فَزِنْ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَسُؤَالَهُمْ رَبَّهُمْ، عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْغَالِطِينَ، الَّذِينَ مَرَجَتْ بِهِمْ نُفُوسُهُمْ. ثُمَّ قَايِسْ بَيْنَهُمَا. وَانْظُرِ التَّفَاوُتَ.
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ؟ وَقَوْلِهِ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.» وَقَوْلِهِ لِلصِّدِّيقِ
পৃষ্ঠা - ৫৪১
الْأَكْبَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ - «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا. وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ. وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.» وَقَوْلِهِ لِصِدِّيقَةِ النِّسَاءِ - وَقَدْ سَأَلَتْهُ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ، إِنْ وَافَقَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فَقَالَ: «قَوْلِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.» وَقَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ الَّذِي كَانَ لَا يَدَعُهُ: وَإِنْ دَعَا بِدُعَاءٍ أَرْدَفَهُ إِيَّاهُ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ؟
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَاصَّتِهِ، وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، بِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، فَقَالُوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ: «لَوْ سَأَلَتِ اللَّهَ أَنْ يُجِيرَكِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ» ، وَكَانَ يَسْتَعِيذُ كَثِيرًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا فِي تَشَهُّدِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ. وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ. وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ حَتَّى قِيلَ:
পৃষ্ঠা - ৫৪২
إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ. لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نَسْتَقْصِيَهُ.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ. فَرَآهُ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ: «مَا كُنْتُ تَدْعُو بِهِ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبَنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَاقِبْنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. أَلَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؟» .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ سُؤَالِ الْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ.» وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُ إِذَا صَلَّيْتَ؟ فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ. وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» .
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ مَنْ قَالَ: لَا أُحِبُّكَ لِثَوَابِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ حَظِّي. وَإِنَّمَا أُحِبُّكَ لِعِقَابِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِي فِيهِ. وَالرَّجَاءُ عَيْنُ الْحَظِّ. وَنَحْنُ قَدْ خَرَجْنَا عَنْ نُفُوسِنَا، فَمَا لَنَا وَلِلرَّجَاءِ؟ .
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِيهِمْ: إِنَّهُ شَطَحَ قَدْ يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ. كَالسَّكْرَانِ وَنَحْوِهِ. وَلَا تُهْدَرُ مَحَاسِنُهُ وَمُعَامَلَاتُهُ وَأَحْوَالُهُ وَزُهْدُهُ.
وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْكَرُ كَوْنُ هَذَا مِنَ الْأَحْوَالِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ. الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْعَبْدُ. وَيُشَمِّرُ إِلَيْهَا. فَهَذَا الَّذِي لَا تُلْبَسُ عَلَيْهِ الثِّيَابُ. وَلَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ نُفُوسُ الْعُلَمَاءِ. وَحَاشَا سَادَاتِ الْقَوْمِ وَأَئِمَّتَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرُّعُونَاتِ. بَلْ هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهَا.
পৃষ্ঠা - ৫৪৩
نَعَمْ، قَدْ يَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ عَذَّبَهُ لَكَانَ رَاضِيًا بِعَذَابِهِ، كَرِضَا صَاحِبِ الثَّوَابِ بِثَوَابِهِ. وَيَعْزِمُ عَلَى ذَلِكَ بِقَلْبِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا عَزْمٌ وَأُمْنِيَةٌ، وَعِنْدَ الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ. وَلَوِ امْتَحَنَهُ بِأَدْنَى مِحْنَةٍ لَصَاحَ وَاسْتَغَاثَ. وَسَأَلَ الْعَافِيَةَ. كَمَا جَرَى لِلْقَائِلِ. وَهُوَ سَمْنُونٌ:
وَلَيْسَ لِي مِنْ هَوَاكَ بُدٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي
فَامْتَحَنَهُ بِعُسْرِ الْبَوْلِ. فَطَاحَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ، وَاضْمَحَلَّ حَالُهَا. وَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ، وَيَقُولُ: ادْعُوَا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ.
فَالْعَزْمُ عَلَى الرِّضَا لَوْنٌ. وَحَقِيقَتُهُ لَوْنٌ آخَرُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ: لِفَائِدَةٍ. وَهِيَ كَوْنُهُ يَبَرِّدُ حَرَارَةَ الْخَوْفِ
فَيُقَالُ: بَلْ لِفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ أُخَرَ مُشَاهَدَةٍ.
مِنْهَا: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَاقَةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَرْجُوهُ مِنْ رَبِّهِ، وَيَسْتَشْرِفُهُ مِنْ إِحْسَانِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُؤَمِّلُوهُ وَيَرْجُوهُ. وَيَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْجَوَادُ، أَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى. وَأَحَبُّ مَا إِلَى الْجَوَادِ أَنْ يُرْجَى وَيُؤَمَّلَ وَيُسْأَلَ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ،» وَالسَّائِلُ رَاجٍ وَطَالِبٌ. فَمَنْ لَمْ يَرْجُ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ.
فَهَذِهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى مِنْ فَوَائِدِ الرَّجَاءِ. وَهِيَ التَّخَلُّصُ بِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ.
পৃষ্ঠা - ৫৪৪
وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجَاءَ حَادٍ يَحْدُو بِهِ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَيُطِيبُ لَهُ الْمَسِيرَ. وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ. وَيَبْعَثُهُ عَلَى مُلَازَمَتِهِ. فَلَوْلَا الرَّجَاءُ لَمَا سَارَ أَحَدٌ. فَإِنَّ الْخَوْفَ وَحْدَهُ لَا يُحَرِّكُ الْعَبْدَ. وَإِنَّمَا يُحَرِّكُهُ الْحُبُّ. وَيُزْعِجُهُ الْخَوْفُ. وَيَحْدُوهُ الرَّجَاءُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَطْرَحُهُ عَلَى عَتَبَةِ الْمَحَبَّةِ، وَيُلْقِيَهِ فِي دِهْلِيزِهَا. فَإِنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّ رَجَاؤُهُ وَحَصَلَ لَهُ مَا يَرْجُوهُ ازْدَادَ حُبًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرًا لَهُ، وَرِضًا بِهِ وَعَنْهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَبْعَثُهُ عَلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. وَهُوَ مَقَامُ الشُّكْرِ، الَّذِي هُوَ خُلَاصَةُ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَرْجُوُّهُ كَانَ أَدْعَى لِشُكْرِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ لَهُ الْمَزِيدَ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَعَانِيهَا، وَالتَّعَلُّقِ بِهَا. فَإِنَّ الرَّاجِيَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، مُتَعَبِّدٌ بِهَا، دَاعٍ بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَطَّلَ دُعَاؤُهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَا يَدْعُو بِهَا الدَّاعِيَ. فَالْقَدْحُ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ تَعْطِيلٌ لِعُبُودِيَّةِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَتَعْطِيلٌ لِلدُّعَاءِ بِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الرَّجَاءِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَوْفَ مُسْتَلْزِمٌ لِلرَّجَاءِ. وَالرَّجَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخَوْفِ. فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ. وَكُلُّ خَائِفٍ رَاجٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا حَسُنَ وُقُوعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ وُقُوعُ الْخَوْفِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى مَا لَكَمَ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً؟ قَالُوا: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهُ. فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ مِنْ فَوَاتِ مَرْجُوِّهِ. وَالْخَوْفُ بِلَا رَجَاءٍ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا: لَا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِهِمْ، كَوَقَائِعِهِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرَجَاءِ رَبِّهِ، فَأَعْطَاهُ مَا رَجَاهُ، كَانَ ذَلِكَ أَلْطَفَ مَوْقِعًا، وَأَحْلَى عِنْدَ الْعَبْدِ. وَأَبْلَغَ مِنْ حُصُولِ مَا لَمْ يَرْجُهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ
পৃষ্ঠা - ৫৪৫
فِي جَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فِي هَذِهِ الدَّارِ. فَعَلَى قَدْرِ رَجَائِهِمْ وَخَوْفِهِمْ يَكُونُ فَرَحُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ بِحُصُولِ مَرْجُوِّهِمْ وَانْدِفَاعِ مُخَوِّفِهِمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ تَكْمِيلَ مَرَاتِبَ عُبُودِيَّتِهِ مِنَ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالرِّضَا وَالْإِنَابَةِ وَغَيْرِهَا. وَلِهَذَا قَدَّرَ عَلَيْهِ الذَّنْبَ وَابْتَلَاهُ بِهِ، لِتَكْمُلَ مَرَاتِبُ عُبُودِيَّتِهِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَحَبِّ عُبُودِيَّاتِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَكْمِيلُهَا بِالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فِي الرَّجَاءِ - مِنَ الِانْتِظَارِ وَالتَّرَقُّبِ وَالتَّوَقُّعِ لِفَضْلِ اللَّهِ - مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِذِكْرِهِ وَدَوَامِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ بِمُلَاحَظَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَنَقُّلَ الْقَلْبِ فِي رِيَاضِهَا الْأَنِيقَةِ، وَأَخْذَهُ بِنَصِيبِهِ مِنْ كُلِّ اسْمِ وَصْفَةٍ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - فَإِذَا فَنَى عَنْ ذَلِكَ وَعَابَ عَنْهُ، فَاتَهُ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
إِلَى فَوَائِدَ أُخْرَى كَثِيرَةٍ. يُطَالِعُهَا مَنْ أَحْسَنَ تَأَمُّلَهُ وَتَفَكُّرَهُ فِي اسْتِخْرَاجِهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَاللَّهُ يَشْكُرُ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ سَعْيَهُ، وَيُعْلِي دَرَجَتَهُ. وَيَجْزِيهِ أَفْضَلَ جَزَائِهِ. وَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ. فَلَوْ وَجَدَ مُرِيدُهُ سِعَةً وَفُسْحَةً فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ وَاعْتِرَاضِ كَلَامِهِ لَمَا فَعَلَ. كَيْفَ وَقَدْ نَفَعَهُ اللَّهُ بِكَلَامِهِ؟ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَجْلِسَ التِّلْمِيذِ مِنْ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ كَانَ عَلَى يَدَيْهِ فَتْحُهُ يَقَظَةً وَمَنَامًا؟
وَهَذَا غَايَةُ جُهْدِ الْمُقِلِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ عِلْمٍ فَلْيَجُدْ بِهِ، أَوْ فَلْيَعْذُرْ، وَلَا يُبَادِرُ إِلَى الْإِنْكَارِ. فَكَمْ بَيْنَ الْهُدْهُدِ وَنَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ؟ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] وَلَيْسَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَعْلَمَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ. وَلَا الْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِأَجْهَلَ مِنْ هُدْهُدٍ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرَّجَاءِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى رَجَاءٌ يَبْعَثُ الْعَامِلَ عَلَى الِاجْتِهَادِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الرَّجَاءُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رَجَاءٌ يَبْعَثُ الْعَامِلَ عَلَى الِاجْتِهَادِ. وَيُوَلِّدُ التَّلَذُّذَ بِالْخِدْمَةِ، وَيُوقِظُ الطِّبَاعَ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي.
পৃষ্ঠা - ৫৪৬
أَيْ يُنَشِّطُهُ لِبَذْلِ جُهْدِهِ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ قَدْرَ مَطْلُوبِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَبْذُلُ فِيهِ.
وَأَمَّا تَوْلِيدُهُ لِلتَّلَذُّذِ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا طَالَعَ قَلْبُهُ ثَمَرَتَهَا وَحُسْنَ عَاقِبَتِهَا الْتَذَّ بِهَا. وَهَذَا كَحَالِ مَنْ يَرْجُو الْأَرْبَاحَ الْعَظِيمَةَ فِي سَفَرِهِ، وَيُقَاسِي مَشَاقَّ السَّفَرِ لِأَجْلِهَا. فَكُلَّمَا صَوَّرَهَا لِقَلْبِهِ هَانَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَشَاقُّ وَالْتَذَّ بِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ السَّاعِي فِي مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ، كُلَّمَا تَأَمَّلَ ثَمَرَةَ رِضَاهُ عَنْهُ وَقَبُولِهِ سَعْيَهُ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ تَلَذَّذَ بِتِلْكَ الْمَسَاعِي، وَكُلَّمَا قَوِيَ عِلْمُ الْعَبْدِ بِإِفْضَاءِ ذَلِكَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ الْمَطْلُوبِ، وَقَوِيَ عِلْمُهُ بِقَدْرِ الْمُسَبِّبِ وَقُرْبِ السَّبَبِ مِنْهُ ازْدَادَ الْتِذَاذًا بِتَعَاطِيهِ.
وَأَمَّا إِيقَاظُ الطِّبَاعِ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي: فَإِنَّ الطِّبَاعَ لَهَا مَعْلُومٌ وَرُسُومٌ تَتَقَاضَاهَا مِنَ الْعَبْدِ. وَلَا تَسْمَحُ لَهُ بِتَرْكِهَا إِلَّا بِعِوَضٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ مَعْلُومِهَا وَرُسُومِهَا، وَأَجَلُّ عِنْدِهَا مِنْهُ وَأَنْفَعُ لَهَا. فَإِذَا قَوِيَ تَعَلُّقُ الرَّجَاءِ بِهَذَا الْعِوَضِ الْأَفْضَلِ الْأَشْرَفِ سَمَحَتِ الطِّبَاعُ بِتَرْكِ تِلْكَ الرُّسُومِ وَذَلِكَ الْمَعْلُومِ. فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. أَوْ حَذَرًا مِنْ مُخَوِّفٍ هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً لَهَا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَتِهَا بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَفِرَارُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ إِيثَارٌ لِضِدِّهِ الْمَحْبُوبِ لَهَا. فَمَا تَرَكَتْ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. فَإِنَّ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ يَضُرُّهُ وَيُوجِبُ لَهُ السَّقَمَ. فَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَحَبَّةً لِلْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ.
[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ، بِرَفْضِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ.
أَرْبَابُ الرِّيَاضَاتِ: هُمُ الْمُجَاهِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ مَأْلُوفَاتِهَا، وَالِاسْتِبْدَالِ بِهَا مَأْلُوفَاتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَكْمَلُ، فَرَجَاؤُهُمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَقْصُودَهُمْ بِصَفَاءِ الْوَقْتِ، وَالْهِمَّةِ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْمَلْذُوذَاتِ. وَتَجْرِيدِ الْهَمِّ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. وَبِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ. وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ. فَإِنَّ رَجَاءَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ.
وَ " الْحَمِيَّةُ " الْعِصْمَةُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا يُخْشَى ضَرَرُهُ آجِلًا أَوْ عَاجِلًا. وَلَهُ حُدُودٌ مَتَى خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ، وَالْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِهَا بِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ.
وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِأَمْرَيْنِ: بَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهَا عِلْمًا، وَأَخْذِ النَّفْسِ
পৃষ্ঠা - ৫৪৭
بِالْوُقُوفِ عِنْدَهَا طَلَبًا وَقَصْدًا.
[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. وَهُوَ رَجَاءُ لِقَاءِ الْخَالِقِ الْبَاعِثِ عَلَى الِاشْتِيَاقِ، الْمُبَغِّضِ الْمُنَغِّصِ لِلْعَيْشِ، الْمُزَهِّدِ فِي الْخَلْقِ.
هَذَا الرَّجَاءُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرَّجَاءِ وَأَعْلَاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] .
وَهَذَا الرَّجَاءُ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ وَزُبْدَتُهُ، وَإِلَيْهِ شَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُشْتَاقِينَ. وَلِذَلِكَ سَلَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْيَانِ أَجَلِ لِقَائِهِ. وَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا يُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَيُطَمْئِنُهَا.
وَالِاشْتِيَاقُ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُحِبُّونَ: هَلْ يَبْقَى عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ أَمْ يَزُولُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَزُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ. وَهُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ، وَاجْتَمَعَ بِمَحْبُوبِهِ، وَضَعَ عَصَا الِاشْتِيَاقِ عَنْ عَاتِقِهِ. وَصَارَ الِاشْتِيَاقُ أُنْسًا بِهِ وَلَذَّةً بِقُرْبِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ وَلَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْحُبَّ يَقْوَى بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ أَضْعَافَ مَا كَانَ حَالَ غَيْبَتِهِ. وَإِنَّمَا يُوَارِي سُلْطَانُهُ فَنَاءَهُ وَدَهْشَتَهُ بِمُعَايَنَةِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهُ ظَهَرَ سُلْطَانُ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قِيلَ:
وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقْصَاةً وَتَوَابِعَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَفِي كِتَابِ " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ ". وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى مَنْزِلَتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ " الْمُنَغِّصُ لِلْعَيْشِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ عَيْشَ الْمُشْتَاقِ مُنَغَّصٌ حَتَّى يَلْقَى مَحْبُوبَهُ. فَهُنَاكَ تَقَرُّ عَيْنُهُ. وَيَزُولُ عَنْ عَيْشِهِ تَنْغِيصُهُ. وَكَذَلِكَ يَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ غَايَةَ التَّزْهِيدِ؛ لِأَنَّ