فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة السماع
পৃষ্ঠা - ৪৪৮
«إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَسْكَنُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، وَسَادَاتِ الْعَارِفِينَ، فَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ لَيْسَ عِلَّةً فِي عُبُودِيَّتِهِمْ، وَلَا قَدْحًا فِيهَا.
وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي (كِتَابِ سَفَرِ الْهِجْرَتَيْنِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عِلَلِ الْمَقَامَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الشَّيْخُ بِقَطْعِ الْمُعَاوَضَاتِ أَنْ تَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاكَ شَيْئًا مُعَاوَضَةً، بَلْ إِنَّمَا أَعْطَاكَ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا، لَا لِعِوَضٍ يَرْجُوهُ مِنْكَ، كَمَا يَكُونُ عَطَاءُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِيمَا مِنَ الْعَبْدِ، مِمَّا يُؤْمَرُ بِالتَّجَرُّدِ عَنْهُ، كَتَجَرُّدِهِ عَنِ التَّفْرِقَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، فَهَذَا أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ]
[أَقْسَامُ السَّمَاعِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ.
وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ كَالنَّبَاتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْبُشْرَى لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة: 108] وَقَالَ {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16] وَقَالَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46] وَقَالَ {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17] وَقَالَ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَقَالَ
পৃষ্ঠা - ৪৪৯
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] .
وَجَعَلَ الْإِسْمَاعَ مِنْهُ وَالسَّمَاعَ مِنْهُمْ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِمْ، وَعَدَمَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْخَيْرِ فِيهِمْ، فَقَالَ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] .
وَأَخْبَرَ عَنْ أَعْدَائِهِ أَنَّهُمْ هَجَرُوا السَّمَاعَ وَنَهَوْا عَنْهُ، فَقَالَ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] .
فَالسَّمَاعُ رَسُولُ الْإِيمَانِ إِلَى الْقَلْبِ وَدَاعِيهِ وَمُعْلِمُهُ، وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] وَقَالَ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] الْآيَةَ.
فَالسَّمَاعُ أَصْلُ الْعَقْلِ، وَأَسَاسُ الْإِيمَانِ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ، وَهُوَ رَائِدُهُ وَجَلِيسُهُ وَوَزِيرُهُ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ كُلَّ الشَّأْنِ فِي الْمَسْمُوعِ، وَفِيهِ وَقَعَ خَبْطُ النَّاسِ وَاخْتِلَافُهُمْ، وَغَلِطَ مِنْهُمْ مَنْ غَلِطَ.
وَحَقِيقَةُ السَّمَاعِ تَنْبِيهُ الْقَلْبِ عَلَى مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَتَحْرِيكُهُ عَنْهَا طَلَبًا وَهَرَبًا
পৃষ্ঠা - ৪৫০
وَحُبًّا وَبُغْضًا، فَهُوَ حَادٍ يَحْدُو بِكُلِّ أَحَدٍ إِلَى وَطَنِهِ وَمَأْلَفِهِ.
وَأَصْحَابُ السَّمَاعِ، مِنْهُمْ: مَنْ يَسْمَعُ بِطَبْعِهِ وَنَفْسِهِ وَهَوَاهُ، فَهَذَا حَظُّهُ مِنْ مَسْمُوعِهِ مَا وَافَقَ طَبْعَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ بِحَالِهِ وَإِيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعَقْلِهِ، فَهَذَا يُفْتَحُ لَهُ مِنَ الْمَسْمُوعِ بِحَسَبَ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّتِهِ وَمَادَّتِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ بِاللَّهِ، لَا يَسْمَعُ بِغَيْرِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ " وَهَذَا أَعْلَى سَمَاعًا، وَأَصَحُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ.
وَالْكَلَامُ فِي السَّمَاعِ مَدْحًا وَذَمًّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ صُورَةِ الْمَسْمُوعِ، وَحَقِيقَتِهِ وَسَبَبِهِ، وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ، وَثَمَرَتِهِ وَغَايَتِهِ، فَبِهَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ يَتَحَرَّرُ أَمْرُ السَّمَاعِ وَيَتَمَيَّزُ النَّافِعُ مِنْهُ وَالضَّارُّ، وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَالْمَمْدُوحُ وَالْمَذْمُومُ.
فَأَمَّا الْمَسْمُوعُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَسْمُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ بِهِ.
الثَّانِي: مَسْمُوعٌ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَنَهَى عَنْهُ، وَمَدَحَ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ.
الثَّالِثُ: مَسْمُوعٌ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُبْغِضُهُ، وَلَا مَدَحَ صَاحِبَهُ وَلَا ذَمَّهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْمَنَاظِرِ، وَالْمَشَامِّ، وَالْمَطْعُومَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ الْمُبَاحَةِ، فَمَنْ حَرَّمَ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَحَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ دِينًا وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَشَرَعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَضَاهَأَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ.
[فَصْلٌ السَّمَاعُ الَّذِي يَمْدَحُهُ اللَّهُ]
فَصْلٌ
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ السَّمَاعُ الَّذِي مَدَحَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَرَ بِهِ وَأَثْنَى عَلَى
পৃষ্ঠা - ৪৫১
أَصْحَابِهِ، وَذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ وَلَعَنَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ سَبِيلًا، وَهُمُ الْقَائِلُونَ فِي النَّارِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] وَهُوَ سَمَاعُ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ، فَهَذَا السَّمَاعُ أَسَاسُ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، سَمَاعِ إِدْرَاكٍ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَسَمَاعِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ، وَسَمَاعِ فَهْمٍ وَإِجَابَةٍ وَقَبُولٍ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقُرْآنِ.
فَأَمَّا سَمَاعُ الْإِدْرَاكِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ قَوْلَهُمْ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1] وَقَوْلِهِ: {يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] الْآيَةَ، فَهَذَا سَمَاعُ إِدْرَاكٍ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْإِجَابَةُ
وَأَمَّا سَمَاعُ الْفَهْمِ فَهُوَ الْمَنْفِيُّ عَنْ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] .
فَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا لِإِسْمَاعِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، وَإِلَّا فَالسَّمْعُ الْعَامُّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] أَيْ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَبُولًا وَانْقِيَادًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَإِلَّا فَهُمْ قَدْ سَمِعُوا سَمْعَ الْإِدْرَاكِ {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] أَيْ وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ لَمَا انْقَادُوا وَلَا انْتَفَعُوا بِمَا فَهِمُوا; لِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ دَاعِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ مَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوهُ.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] فَإِنَّ هَذَا سَمْعُ قَبُولٍ وَإِجَابَةٍ مُثْمِرٌ لِلطَّاعَةِ.
পৃষ্ঠা - ৪৫২
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمَسْمُوعَ وَفَهِمُوهُ، وَاسْتَجَابُوا لَهُ.
وَمِنْ سَمْعِ الْقَبُولِ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أَيْ قَابِلُونَ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُيُونٌ لَهُمْ وَجَوَاسِيسُ فَضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي تَثْبِيطِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ بِأَنَّ خُرُوجَهُمْ يُوجِبُ الْخَبَالَ وَالْفَسَادَ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الْعَسْكَرِ بِالْفِتْنَةِ، وَفِي الْعَسْكَرِ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَكَانَ فِي إِقْعَادِهِمْ عَنْهُمْ لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً، حَتَّى لَا يَقَعُوا فِي عَنَتِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ.
أَمَّا اشْتِمَالُ الْعَسْكَرِ عَلَى جَوَاسِيسَ وَعُيُونٍ لَهُمْ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيطِ وَالْإِقْعَادِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَوَاسِيسَهُمْ وَعُيُونَهُمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَقْعَدَهُمْ لِئَلَّا يَسْعَوْا بِالْفَسَادِ فِي الْعَسْكَرِ، وَلِئَلَّا يَبْغُوهُمُ الْفِتْنَةَ، وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ إِنَّمَا تَنْدَفِعُ بِإِقْعَادِهِمْ، وَإِقْعَادِ جَوَاسِيسِهِمْ وَعُيُونِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَوَاسِيسَ إِنَّمَا تُسَمَّى عُيُونًا هَذَا الْمَعْرُوفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا تُسَمَّى سَمَّاعِينَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِخْوَانِهِمُ الْيَهُودِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] أَيْ قَابِلُونَ لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَمَاعَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُقَرَّبِينَ هُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ: إِدْرَاكًا وَفَهْمًا، وَتَدَبُّرًا، وَإِجَابَةً. وَكُلُّ سَمَاعٍ فِي الْقُرْآنِ مَدَحَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَهُوَ هَذَا السَّمَاعُ.
وَهُوَ سَمَاعُ الْآيَاتِ، لَا سَمَاعَ الْأَبْيَاتِ، وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ، لَا سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَسَمَاعُ كَلَامِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَا سَمَاعَ قَصَائِدِ الشُّعَرَاءِ، وَسَمَاعُ الْمَرَاشِدِ، لَا سَمَاعَ الْقَصَائِدِ، وَسَمَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، لَا سَمَاعَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُطْرِبِينَ.
فَهَذَا السَّمَاعُ حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى جِوَارِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَسَائِقٌ يَسُوقُ الْأَرْوَاحَ
পৃষ্ঠা - ৪৫৩
إِلَى دِيَارِ الْأَفْرَحِ، وَمُحَرِّكٌ يُثِيرُ سَاكِنَ الْعَزَمَاتِ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ، وَمُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ، وَدَلِيلٌ يَسِيرُ بِالرَّكْبِ فِي طَرِيقِ الْجِنَانِ، وَدَاعٍ يَدْعُو الْقُلُوبَ بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، مِنْ قِبَلِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
فَلَمْ يُعْدَمْ مَنِ اخْتَارَ هَذَا السَّمَاعَ إِرْشَادًا لِحُجَّةٍ، وَتَبْصِرَةً لِعِبْرَةٍ، وَتَذْكِرَةً لِمَعْرِفَةٍ، وَفِكْرَةً فِي آيَةٍ، وَدَلَالَةً عَلَى رُشْدٍ، وَرَدًّا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِرْشَادًا مِنْ غَيٍّ، وَبَصِيرَةً مِنْ عَمًى، وَأَمْرًا بِمَصْلَحَةٍ، وَنَهْيًا عَنْ مَضَرَّةٍ وَمَفْسَدَةٍ، وَهِدَايَةً إِلَى نُورٍ، وَإِخْرَاجًا مِنْ ظُلْمَةٍ، وَزَجْرًا عَنْ هَوًى، وَحَثًّا عَلَى تُقًى، وَجَلَاءً لِبَصِيرَةٍ، وَحَيَاةً لِقَلْبٍ، وَغِذَاءً وَدَوَاءً وَشِفَاءً، وَعِصْمَةً وَنَجَاةً، وَكَشْفَ شُبْهَةٍ، وَإِيضَاحَ بُرْهَانٍ، وَتَحْقِيقَ حَقٍّ، وَإِبْطَالَ بَاطِلٍ.
وَنَحْنُ نَرْضَى بِحُكْمِ أَهْلِ الذَّوْقِ فِي سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَالْقَصَائِدِ، وَنُنَاشِدُهُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَنُورًا وَحَيَاةً هَلْ وَجَدُوا ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي الدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ؟ وَنَغَمَةِ الشَّادِنِ وَمُطْرِبَاتِ الْأَلْحَانِ؟ . وَالْغِنَاءُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُبِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مُحِبُّ الرَّحْمَنِ، وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ، وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ، وَمُحِبُّ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَمُحِبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَثْمَانِ، وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ، وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ، فَهُوَ يُثِيرُ مِنْ قَلْبِ كُلِّ مُشْتَاقٍ وَمُحِبٍّ لِشَيْءٍ سَاكِنَهُ، وَيُزْعِجُ قَاطِنَهُ، فَيَثُورُ وَجْدُهُ، وَيَبْدُو شَوْقُهُ، فَيَتَحَرَّكُ عَلَى حَسَبِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالشَّوْقِ وَالْوَجْدِ بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَلِهَذَا تَجِدُ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ ذَوْقًا فِي السَّمَاعِ، وَحَالًا وَوَجْدًا وَبُكَاءً.
وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! أَيُّ إِيمَانٍ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ وَهُدًى وَمَعْرِفَةٍ تَحْصُلُ بِاسْتِمَاعِ أَبْيَاتٍ بِأَلْحَانٍ وَتَوْقِيعَاتٍ، لَعَلَّ أَكْثَرَهَا قِيلَتْ فِيمَا هُوَ مُحَرَّمٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَزَلٍ وَتَشْبِيبٍ بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؟ فَإِنَّ غَالِبَ التَّغَزُّلِ وَالتَّشْبِيبِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْ أَنْدَرِ النَّادِرِ تَغَزُّلُ الشَّاعِرِ وَتَشْبِيبُهُ فِي امْرَأَتِهِ، وَأَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ لَكِنَّهُ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، فَكَيْفَ يَقَعُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ وَحَيَاةِ قَلْبٍ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ، وَيَزْدَادَ إِيمَانًا وَقُرْبًا مِنْهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، بِالْتِذَاذِهِ بِمَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَيْهِ، مَقِيتٌ عِنْدَهُ، يَمْقُتُ قَائِلَهُ وَالرَّاضِيَ بِهِ؟ وَتَتَرَقَّى بِهِ الْحَالُ حَتَّى يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! .
يَا لَلَّهِ! إِنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَخْسُوفٌ بِهِ، مَمْكُورٌ بِهِ مَنْكُوسٌ، لَمْ يَصْلُحْ لِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ وَأَذْوَاقِ مَعَانِيهِ، وَمُطَالَعَةِ أَسْرَارِهِ، فَبَلَاهُ بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا " «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: يَا رَبِّ، اجْعَلْ لِي قُرْآنًا، قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي كِتَابًا، قَالَ: كِتَابُكَ الْوَشْمُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا، قَالَ: مُؤَذِّنُكَ الْمِزْمَارُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي بَيْتًا، قَالَ: بَيْتُكَ الْحَمَّامُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي مَصَائِدَ، قَالَ: مَصَائِدُكَ النِّسَاءُ، قَالَ:
পৃষ্ঠা - ৪৫৪
اجْعَلْ لِي طَعَامًا، قَالَ: طَعَامُكُ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمِي» " وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ مِنَ السَّمَاعِ]
فَصْلٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ السَّمَاعِ
مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيَمْدَحُ الْمُعْرِضَ عَنْهُ، وَهُوَ سَمَاعُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ فِي قَلْبِهِ وَدِينِهِ، كَسَمَاعِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ، إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ رَدَّهُ وَإِبْطَالَهُ وَالِاعْتِبَارَ بِهِ وَقَصَدَ أَنْ يُعْلِمَ بِهِ حُسْنَ ضِدِّهِ، فَإِنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا سَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِكَ زَادَنِي ... حُبًّا لَهُ سَمْعِي حَدِيثَ سِوَاكَا
وَكَسَمَاعِ اللَّغْوِ الَّذِي مَدَحَ التَّارِكِينَ لِسَمَاعِهِ، وَالْمُعْرِضِينَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَوْ غَيْرُهُ: أَكْرَمُوا نُفُوسَهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ، وَهَذَا كَلَامُ عَارِفٍ بِأَثَرِ الْغِنَاءِ وَثَمَرَتِهِ، فَإِنَّهُ مَا اعْتَادَهُ أَحَدٌ إِلَّا نَافَقَ قَلْبُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَلَوْ عَرَفَ حَقِيقَةَ النِّفَاقِ وَغَايَتَهُ لَأَبْصَرَهُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ مَا اجْتَمَعَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ قَطُّ مَحَبَّةُ الْغِنَاءِ وَمَحَبَّةُ الْقُرْآنِ إِلَّا طَرَدَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا ثِقَلَ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْغِنَاءِ وَسَمَاعِهِ، وَتَبَرُّمَهُمْ بِهِ، وَصِيَاحَهُمْ بِالْقَارِئِ إِذَا طَوَّلَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَمَ انْتِفَاعِ قُلُوبِهِمْ بِمَا يَقْرَؤُهُ، فَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَطْرَبُ، وَلَا تُهَيِّجُ مِنْهَا بَوَاعِثَ الطَّلَبِ، فَإِذَا جَاءَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَيْفَ تَخْشَعُ مِنْهُمُ الْأَصْوَاتُ، وَتَهْدَأُ الْحَرَكَاتُ، وَتَسْكُنُ الْقُلُوبُ وَتَطْمَئِنُ،
পৃষ্ঠা - ৪৫৫
وَيَقَعُ الْبُكَاءُ وَالْوَجْدُ، وَالْحَرَكَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَالسَّمَاحَةُ بِالْأَثْمَانِ وَالثِّيَابِ، وَطِيبُ السَّهَرِ، وَتَمَنِّي طُولِ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا نِفَاقًا فَهُوَ آخِيَّةُ النِّفَاقِ وَأَسَاسُهُ.
تُلِيَ الْكِتَابُ فَأَطْرَقُوا لَا خِيفَةً ... لَكِنَّهُ إِطْرَاقُ سَاهٍ لَاهِي
وَأَتَى الْغِنَاءُ فَكَالَذُّبَابِ تَرَاقَصُوا ... وَاللَّهِ مَا رَقَصُوا مِنْ أَجْلِ اللَّهِ
دُفٌّ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَاهِدٍ ... فَمَتَى شَهِدْتَ عِبَادَةً بِمَلَاهِي
ثَقُلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُ لَمَّا رَأَوْا ... تَقْيِيدَهُ بِأَوَامِرٍ وَنَوَاهِي
وَعَلَيْهِمُ خَفَّ الْغِنَا لَمَّا رَأَوْا ... إِطْلَاقَهُ فِي اللَّهْوِ دُونَ مَنَاهِي
يَا فِرْقَةً مَا ضَرَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... وَجَنَى عَلَيْهِ وَمَلَّهُ إِلَّا هِي
سَمِعُوا لَهُ رَعْدًا وَبَرْقًا إِذْ حَوَى ... زَجْرًا وَتَخْوِيفًا بِفِعْلِ مَنَاهِي
وَرَأَوْهُ أَعْظَمَ قَاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَنْ ... شَهَوَاتِهَا يَا وَيْحَهَا الْمُتَنَاهِي
وَأَتَى السَّمَاعُ مُوَافِقًا أَغْرَاضَهَا ... فَلِأَجْلِ ذَاكَ غَدًا عَظِيمَ الْجَاهِ
أَيْنَ الْمُسَاعِدُ لِلْهَوَى مِنْ قَاطَعٍ ... أَسْبَابَهُ عِنْدَ الْجَهُولِ السَّاهِي
إِنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرَ الْجُسُومِ فَإِنَّهُ ... خَمْرُ الْعُقُولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِي
فَانْظُرْ إِلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ شَرَابِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ تَلَاهِي
وَانْظُرْ إِلَى تَمْزِيقِ ذَا أَثْوَابَهُ ... مِنْ بَعْدِ تَمْزِيقِ الْفُؤَادِ اللَّاهِي
فَاحْكُمْ بِأَيِّ الْخَمْرَتَيْنِ أَحَقُّ بِال ... تَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ عِنْدَ اللَّهِ
وَكَيْفَ يَكُونُ السَّمَاعُ الَّذِي يَسْمَعُهُ الْعَبْدُ بِطَبْعِهِ وَهَوَاهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنَ الَّذِي يَسْمَعُهُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَنِ اللَّهِ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ هَذَا السَّمَاعَ الْغِنَائِيَّ الشِّعْرِيَّ كَذَلِكَ، فَهَذَا غَايَةُ اللَّبْسِ عَلَى الْقَوْمِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَسْمَعُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَنِ اللَّهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ صُورَةِ الْمَسْمُوعِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مَنْ شُرْبُهُ وَنَصِيبُهُ وَذَوْقُهُ وَوَجْدُهُ مِنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ كَمَنْ نَصِيبُهُ وَشُرْبُهُ وَذَوْقُهُ وَوَجْدُهُ مِنْ سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْأَبِيَّاتِ.
وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ، وَأَنَّهُ مُبَاحٌ بِكَوْنِهِ مُسْتَلَذًّا طَبْعًا، تَسْتَلِذُّهُ النُّفُوسُ، وَتَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الطِّفْلَ يَسْكُنُ إِلَى الصَّوْتِ الطَّيِّبِ، وَالْجَمَلَ يُقَاسِي تَعَبَ السَّيْرِ وَمَشَقَّةَ الْحُمُولَةِ فَيُهَوَّنُ عَلَيْهِ بِالْحِدَاءِ، وَبِأَنَّ
পৃষ্ঠা - ৪৫৬
الصَّوْتَ الطَّيِّبَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَزِيَادَةٌ فِي خَلْقِهِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الصَّوْتَ الْفَظِيعَ، فَقَالَ {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] وَبِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ فِيهِ {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] ، وَبِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّمَاعُ الطَّيِّبُ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ؟ وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَذِنَ لِشَيْءٍ كَأِذْنِهِ أَيْ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، وَبِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَوْتِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَالَ «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ اسْتَمَعْتَ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا،» أَيْ زَيَّنْتُهُ لَكَ وَحَسَّنْتُهُ، وَبُقُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» .
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ التَّغَنِّي بِمَعْنَى
পৃষ্ঠা - ৪৫৭
تَحْسِينِ الصَّوْتِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مَا اسْتَطَاعَ.
وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عَائِشَةَ عَلَى غِنَاءِ الْقَيْنَتَيْنِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ «دَعْهُمَا، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ» .
وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي الْعُرْسِ فِي الْغِنَاءِ وَسَمَّاهُ لَهْوًا، وَقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِدَاءَ، وَأَذِنَ فِيهِ، وَكَانَ يَسْمَعُ أَنَسًا وَالصَّحَابَةَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
وَدَخَلَ مَكَّةَ وَالْمُرْتَجِزُ يَرْتَجِزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِشِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَحَدَا بِهِ الْحَادِي فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ خَيْبَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
পৃষ্ঠা - ৪৫৮
إِنَّ الَّذِينَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا ... وَنَحْنُ إِنْ صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا ... وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا
فَدَعَا لِقَائِلِهِ.
وَسَمِعَ قَصِيدَةَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَأَجَازَهُ بِبُرْدَةٍ.
وَاسْتَنْشَدَ الْأَسْوَدَ بْنَ سَرِيعٍ قَصَائِدَ حَمِدَ بِهَا رَبَّهُ.
وَاسْتَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ مِائَةَ قَافِيَةٍ.
وَأَنْشَدَهُ الْأَعْشَى شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ فَسَمِعَهُ.
وَصَدَّقَ لَبِيدًا فِي قَوْلِهِ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ.
وَدَعَا لِحَسَّانَ أَنْ يُؤَيِّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا دَامَ يُنَافِحُ عَنْهُ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ شِعْرُهُ،
পৃষ্ঠা - ৪৫৯
وَقَالَ لَهُ «اهْجُهُمْ، وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» .
وَأَنْشَدَتْهُ عَائِشَةُ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ:
وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ
وَقَالَتْ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَسُّرَ بِقَوْلِهَا.
وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَخَّصَ فِيهِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَبِأَنَّ كَذَا وَكَذَا وَلِيًّا لِلَّهِ حَضَرُوهُ وَسَمِعُوهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ فَقَدْ قَدَحَ فِي هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْقُدْوَةِ الْأَعْلَامِ.
وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِبَاحَةِ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ الْمُطْرِبَةِ الشَّجِيَّةِ، فَلَذَّةُ سَمَاعِ صَوْتِ الْآدَمِيِّ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ، أَوْ مُسَاوِيَةٌ.
وَبِأَنَّ السَّمَاعَ يَحْدُو رُوحَ السَّامِعِ وَقَلْبَهُ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبُهُ حَرَامًا كَانَ السَّمَاعُ مُعِينًا لَهُ عَلَى الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَانَ السَّمَاعُ فِي حَقِّهِ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ رَحْمَانِيَّةً كَانَ السَّمَاعُ فِي حَقِّهِ قُرْبَةً وَطَاعَةً، لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ الْمَحَبَّةَ الرَّحْمَانِيَّةَ وَيُقَوِّيهَا وَيُهَيِّجُهَا.
وَبِأَنَّ الْتِذَاذَ الْأُذُنِ بِالصَّوْتِ الطَّيِّبِ كَالْتِذَاذِ الْعَيْنِ بِالْمَنْظَرِ الْحَسَنِ، وَالشَّمِّ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ، وَالْفَمِ بِالطُّعُومِ الطَّيِّبَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا حَرَامًا كَانَتْ جَمِيعُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ وَالْإِدْرَاكَاتِ مُحَرَّمَةً.
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ حَيْدَةٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَرَوَغَانٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَتَعَلُّقٌ بِمَا لَا
পৃষ্ঠা - ৪৬০
مُتَعَلَّقَ بِهِ، فَإِنَّ جِهَةَ كَوْنِ الشَّيْءِ مُسْتَلَذًا لِلْحَاسَّةِ مُلَائِمًا لَهَا، لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ وَلَا تَحْرِيمِهِ، وَلَا كَرَاهَتِهِ وَلَا اسْتِحْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ تَكُونُ فِيمَا فِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ تَكُونُ فِي الْحَرَامِ، وَالْوَاجِبِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالْمُبَاحِ، فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ مَنْ يَعْرِفُ شُرُوطَ الدَّلِيلِ، وَمَوَاقِعَ الِاسْتِدْلَالِ؟ .
وَهَلْ هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الزِّنَا بِمَا يَجِدُهُ فَاعِلُهُ مِنَ اللَّذَّةِ، وَأَنَّ لَذَّتَهُ لَا يُنْكِرُهَا مَنْ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ، وَهَلْ يَسْتَدِلُّ بِوُجُودِ اللَّذَّةِ وَالْمُلَاءَمَةِ عَلَى حِلِّ اللَّذِيذِ الْمُلَائِمِ أَحَدٌ؟ وَهَلْ خَلَتَ غَالِبُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ اللَّذَّاتِ؟ وَهَلْ أَصْوَاتُ الْمَعَازِفِ الَّتِي صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُهَا، وَأَنَّ فِي أُمَّتِهِ مَنْ سَيَسْتَحِلُّهَا بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ بِتَحْرِيمِ جُمْلَتِهَا إِلَّا لَذِيذَةً تُلِذُّ السَّمْعَ؟ وَهَلْ فِي الْتِذَاذِ الْجَمَلِ وَالطِّفْلِ بِالصَّوْتِ الطَّيِّبِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الصَّوْتَ الطَّيِّبَ، وَهُوَ زِيَادَةُ نِعْمَةٍ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ.
فَيُقَالُ: وَالصُّورَةُ الْحَسَنَةُ الْجَمِيلَةُ، أَلَيْسَتْ زِيَادَةً فِي النِّعْمَةِ، وَاللَّهُ خَالِقُهَا. وَمُعْطِي حُسْنِهَا؟ أَفَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ التَّمَتُّعِ بِهَا، وَالِالْتِذَاذِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِهَا؟
وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَذْهَبُ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِينَ مَعَ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ؟ .
وَهَلْ فِي ذَمِّ اللَّهِ لِصَوْتِ الْحِمَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَاتِ بِالنَّغَمَاتِ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْأَلْحَانِ اللَّذِيذَاتِ، مِنَ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، بِأَنْوَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُنَغَّمَاتِ بِالدُّفُوفِ وَالشَّبَّابَاتِ؟ ! .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِسَمَاعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا أَجْدَرَ صَاحِبَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ بِأَنَّ فِي الْجَنَّةِ خَمْرًا، وَعَلَى حِلِّ لِبَاسِ الْحَرِيرِ بِأَنَّ لِبَاسَ أَهْلِهَا حَرِيرٌ، وَعَلَى حِلِّ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتَّحَلِّي بِهِمَا لِلرِّجَالِ بِكَوْنِ ذَلِكَ ثَابِتًا بِوُجُودِ النَّعِيمِ بِهِ فِي الْجَنَّةِ.
فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ.
قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ غَيْرُ الِاسْتِدْلَالِ بِإِبَاحَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَعُلِمَ أَنَّ اسْتِدْلَالَكُمْ بِإِبَاحَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، لَا يَرْضَى بِهِ مُحَصِّلٌ.
পৃষ্ঠা - ৪৬১
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ.
فَيُقَالُ لَكَ: أَيَّ السَّمَاعَاتِ تَعْنِي؟ وَأَيَّ الْمَسْمُوعَاتِ تُرِيدُ؟ فَالسَّمَاعَاتُ وَالْمَسْمُوعَاتُ مِنْهَا الْمُحَرَّمُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَالْمُبَاحُ، وَالْوَاجِبُ، وَالْمُسْتَحَبُّ، فَعَيِّنْ نَوْعًا يَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.
فَإِنْ قُلْتَ: سَمَاعُ الْقَصَائِدِ، قِيلَ لَكَ: أَيَّ الْقَصَائِدِ تَعْنِي؟ مَا مُدِحَ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَدِينُهُ وَكِتَابُهُ، وَهُجِيَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ؟ .
فَهَذِهِ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَرْوُونَهَا وَيَسْمَعُونَهَا وَيَتَدَارَسُونَهَا، وَهِيَ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَثَابَ عَلَيْهَا، وَحَرَّضَ حَسَّانَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الَّتِي غَرَّتْ أَصْحَابَ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ، فَقَالُوا: تِلْكَ قَصَائِدُ، وَسَمَاعُنَا قَصَائِدُ، فَنَعَمْ إِذَنْ، وَالسُّنَّةُ كَلَامٌ، وَالْبِدْعَةُ كَلَامٌ، وَالتَّسْبِيحُ كَلَامٌ، وَالْغِيبَةُ كَلَامٌ، وَالدُّعَاءُ كَلَامٌ، وَالْقَذْفُ كَلَامٌ، وَلَكِنْ هَلْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ سَمَاعَكُمْ هَذَا الشَّيْطَانِيَّ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَفْسَدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى بَعْضِهَا؟ .
وَنَظِيرُ هَذَا: مَا غَرَّهُمْ مِنَ اسْتِحْسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّوْتَ الْحَسَنَ بِالْقُرْآنِ، وَأَذَنِهِ لَهُ وَإِذْنِهِ فِيهِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ.
فَنَقَلُوا هَذَا الِاسْتِحْسَانَ إِلَى صَوْتِ النِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ وَغَيْرِهِمْ، بِالْغَنَاءِ الْمَقْرُونِ بِالْمَعَازِفِ وَالشَّاهِدِ، وَذِكْرِ الْقَدِّ وَالنَّهْدِ وَالْخَصْرِ، وَوَصْفِ الْعُيُونِ وَفِعْلِهَا، وَالشَّعْرِ الْأَسْوَدِ، وَمَحَاسِنِ الشَّبَابِ، وَتَوْرِيدِ الْخُدُودِ، وَذِكْرِ الْوَصْلِ وَالصَّدِّ، وَالتَّجَنِّي وَالْهِجْرَانِ، وَالْعِتَابِ وَالِاسْتِعْطَافِ، وَالِاشْتِيَاقِ، وَالْقَلَقِ وَالْفِرَاقِ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، مِمَّا هُوَ أَفْسَدُ لِلْقَلْبِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّ نِسْبَةٍ لِمَفْسَدَةِ سُكْرِ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ إِلَى سَكْرَةِ الْعِشْقِ الَّتِي لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهَا إِلَّا فِي عَسْكَرِ الْهَالِكِينَ، سَلِيبًا حَرْبِيًّا، أَسِيرًا قَتِيلًا؟ .
وَهَلْ تُقَاسُ سَكْرَةُ الشَّرَابِ بِسَكْرَةِ الْأَرْوَاحِ بِالسَّمَاعِ؟ وَهَلْ يُظَنُّ بِحَكِيمٍ أَنْ يُحَرِّمَ سُكْرًا لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ مَعْلُومَةٍ، وَيُبِيحَ سُكْرًا مَفْسَدَتُهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَفْسَدَةِ الشَّرَابِ؟ حَاشَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ.
فَإِنْ نَازَعُوا فِي سُكْرِ السَّمَاعِ، وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْأَرْوَاحِ خَرَجُوا عَنِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ، وَظَهَرَتْ مُكَابَرَةُ الْقَوْمِ، فَكَيْفَ يَحْمِي الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ عَمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ،
পৃষ্ঠা - ৪৬২
وَيُبِيحُ لَهُ مَا فِيهِ أَعْظَمُ السُّقْمِ؟ وَالْمُنْصِفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ سُقْمِ الْأَرْوَاحِ بِسُكْرِ الشَّرَابِ، وَسُقْمِهَا بِسُكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلَامُنَا مَعَ وَاجِدٍ لَا فَاقِدٍ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: اسْتِدْلَالُكُمْ عَلَى إِبَاحَةِ السَّمَاعِ الْمُرَكَّبِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِغِنَاءِ بُنَيَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ دُونَ الْبُلُوغِ، عِنْدَ امْرَأَةٍ صَبِيَّةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَفَرَحٍ، بِأَبْيَاتٍ مِنْ أَبْيَاتِ الْعَرَبِ، فِي وَصْفِ الشَّجَاعَةِ وَالْحُرُوبِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمَّى ذَلِكَ مَزْمُورًا مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِجُوَيْرِيَّتَيْنِ غَيْرِ مُكَلَّفَتَيْنِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي إِنْشَادِهِمَا، وَلَا اسْتِمَاعِهِمَا، أَفَيَدُلُّ هَذَا عَلَى إِبَاحَةِ مَا تَعْمَلُونَهُ وَتَعْلَمُونَهُ مِنَ السَّمَاعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى؟ فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبَاحَتِهِ بِمَا سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِدَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ؟ ! وَهَلْ حَرَّمَ أَحَدٌ مُطْلَقَ الشِّعْرِ، وَقَوْلَهُ وَاسْتِمَاعَهُ؟ فَكَمْ فِي هَذَا التَّعَلُّقِ بِبُيُوتِ الْعَنْكَبُوتِ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبَاحَتِهِ بِإِبَاحَةِ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ اللَّذِيذَةِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَأَيْنَ أَصْوَاتُ الطُّيُورِ إِلَى نَغَمَاتِ الْغِيدِ الْحِسَانِ، وَالْأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ، وَأَصْوَاتِ أَشْبَاهِ النِّسَاءِ مَنِ الْمُرْدَانِ، وَالْغِنَاءِ بِمَا يَحْدُو الْأَرْوَاحَ وَالْقُلُوبَ إِلَى مُوَاصَلَةِ كُلِّ مَحْبُوبَةٍ وَمَحْبُوبٍ؟ وَأَيْنَ الْفِتْنَةُ بِهَذَا إِلَى الْفِتْنَةِ بِصَوْتِ الْقُمْرِيِّ وَالْبُلْبُلِ وَالْهَزَارِ وَنَحْوِهَا؟ .
بَلْ نَقُولُ: لَوْ كَانَا سَوَاءً لَكَانَ اتِّخَاذُ هَذَا السَّمَاعِ قُرْبَةً وَطَاعَةً تُسْتَنْزَلُ بِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ، وَتُحَرَّكُ بِهِ الْأَحْوَالُ بِمَنْزِلَةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَصْوَاتِ الطُّيُورِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً.
وَالَّذِي يَفْصِلُ النِّزَاعَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ قَوَاعِدَ، مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ، فَمَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا فَبِنَاؤُهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.
পৃষ্ঠা - ৪৬৩
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى:
أَنَّ الذَّوْقَ وَالْحَالَ وَالْوَجْدَ: هَلْ هُوَ حَاكِمٌ أَوْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحَاكِمٍ آخَرَ، وَيَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ؟ .
فَهَذَا مَنْشَأُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْمُفْسِدِينَ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ الصَّحِيحَةِ، حَيْثُ جَعَلُوهُ حَاكِمًا، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِيمَا يَسُوغُ وَيَمْتَنِعُ، وَفِيمَا هُوَ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، وَجَعَلُوهُ مَحَكًّا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَنَبَذُوا لِذَلِكَ مُوجَبَ الْعِلْمِ وَالنُّصُوصِ، وَحَكَّمُوا فِيهَا الْأَذْوَاقَ وَالْأَحْوَالَ وَالْمَوَاجِيدَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَتَفَاقَمَ الْفَسَادُ وَالشَّرُّ، وَطُمِسَتْ مَعَالِمُ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ الْمُسْتَقِيمِ، وَانْعَكَسَ السَّيْرُ، وَكَانَ إِلَى اللَّهِ فَصَيَّرُوهُ إِلَى النُّفُوسِ، فَالنَّاسُ الْمَحْجُوبُونَ عَنْ أَذْوَاقِهِمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ نُفُوسَهُمْ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي أَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ وَالزُّهْدِ، لِيَتَجَرَّدُوا عَنْ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَحُظُوظِهَا، فَانْتَقَلُوا مِنْ شَهَوَاتٍ إِلَى شَهَوَاتٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، وَمِنْ حُظُوظٍ إِلَى حُظُوظٍ أَحَطَّ مِنْهَا، وَكَانَ حَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ نُفُوسِهِمُ الَّتِي انْتَقَلُوا عَنْهَا أَكْمَلَ، وَحَالُ أَرْبَابِهَا خَيْرًا مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَارِضُوا بِهَا الْعِلْمَ، وَلَا قَدَّمُوهَا عَلَى النُّصُوصِ، وَلَا جَعَلُوهَا دِينًا وَقُرْبَةً، وَلَا ازْدَرَوْا مِنْ أَجْلِهَا الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ. وَالشَّهَوَاتُ الَّتِي انْتَقَلُوا إِلَيْهَا جَعَلُوهَا أَعْلَى مَا يُشَمِّرُونَ إِلَيْهَا، فَهِيَ قِبْلَةُ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ حَوْلَهَا عَاكِفُونَ، وَاقِفُونَ مَعَ حُظُوظِهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَانُونَ بِهَا عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُمْ، النَّاسُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ أَنْفُسَهُمْ، عَائِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ وَمُزْدَرُونَ لَهُمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حُظُوظًا، وَإِنَّمَا زَهِدُوا فِي حَظٍّ إِلَى حَظٍّ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا شَهْوَةً لِشَهْوَةٍ أَحَطَّ.
فَلْيَتَدَبَّرِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ مُرَادَ اللَّهِ الدِّينِيَّ مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ حَظُّهُ وَشَهْوَتُهُ، مَالًا كَانَ، أَوْ رِيَاسَةً، أَوْ صُورَةً، أَوْ حَالًا، أَوْ ذَوْقًا، أَوْ وَجْدًا.
ثُمَّ مَنْ قَدَّمَهُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ عَرَفَ أَنَّهُ نَقْصٌ وَمِحْنَةٌ، وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْهُ، فَهُوَ يَتُوبُ مِنْهُ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللَّهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ مِنْ تَحْكِيمِ الذَّوْقِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْأَذْوَاقَ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَنْفُسِهَا، كَثِيرَةُ الْأَلْوَانِ، مُتَبَايِنَةٌ أَعْظَمَ التَّبَايُنِ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ لَهُمْ أَذْوَاقٌ وَأَحْوَالٌ وَمَوَاجِيدُ، بِحَسَبِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ.
فَالْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ لَهُمْ ذَوْقٌ وَحَالٌ وَوَجْدٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ بِحَسَبِهِ، وَالنَّصَارَى لَهُمْ ذَوْقٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بِحَسَبِ رِيَاضَتِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا أَوْ سَلَكَ
পৃষ্ঠা - ৪৬৪
سُلُوكًا حَقًّا كَانَ أَوْ بَاطِلًا فَإِنَّهُ إِذَا ارْتَاضَ وَتَجَرَّدَ لَزِمَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَقِيَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَذَوْقٌ وَوَجْدٌ، فَيَذُوقُ مَنْ يَزِنُ الْحَقَائِقَ إِذَنْ وَيَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
وَهَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ، وَالْكُشُوفِ وَالْأَحْوَالِ، مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَدَّثُ الْمُكَاشَفُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى يَنْشُدَ عَنْهُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْأَعْرَابَ، فَإِذَا أَخْبَرُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَوْقِهِ، وَلَا إِلَى وَجْدِهِ وَخِطَابِهِ، بَلْ يَقُولُ " لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِغَيْرِهِ " وَيَقُولُ " أَيُّهَا النَّاسُ، رَجُلٌ أَخْطَأَ وَامْرَأَةٌ أَصَابَتْ " فَهَذَا فِعْلُ النَّاصِحِ لِنَفْسِهِ وَلِلْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيْسَ كَفِعْلِ مَنْ غَشَّ نَفْسَهُ وَالدِّينَ وَالْأُمَّةَ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي حُكْمِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، أَوْ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ ذَوْقٍ مِنَ الْأَذْوَاقِ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ؟ وَحَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْحُجَّةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ وَحْيُهُ الَّذِي تُتَلَقَّى أَحْكَامُ النَّوَازِلِ وَالْأَحْوَالِ وَالْوَارِدَاتِ مِنْهُ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ وَتُوزَنُ بِهِ، فَمَا زَكَّاهُ مِنْهَا وَقَبِلَهُ وَرَجَّحَهُ وَصَحَّحَهُ فَهُوَ الْمَقْبُولُ، وَمَا أَبْطَلَهُ وَرَدَّهُ فَهُوَ الْبَاطِلُ الْمَرْدُودُ، وَمَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِلْمَهُ وَسُلُوكَهُ وَعَمَلَهُ فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَإِنْ وَإِنْ، وَإِنَّمَا مَعَهُ خُدَعٌ وَغُرُورٌ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ:
إِذَا أَشْكَلَ عَلَى النَّاظِرِ أَوِ السَّالِكِ حُكْمُ شَيْءٍ هَلْ هُوَ الْإِبَاحَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ؟ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَفْسَدَتِهِ وَثَمَرَتِهِ وَغَايَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى الشَّارِعِ الْأَمْرُ بِهِ أَوْ إِبَاحَتُهُ، بَلِ الْعِلْمُ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ شَرْعِهِ قَطْعِيٌّ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ طَرِيقًا مُفْضِيًا إِلَى مَا يُغْضِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُوصِلًا إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ
পৃষ্ঠা - ৪৬৫
، وَهُوَ رُقْيَةٌ لَهُ وَرَائِدٌ وَبَرِيدٌ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ أُولُو الْبَصَائِرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْحَكِيمِ الْخَبِيرِ أَنْ يُحَرِّمَ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنَ الْمُسْكِرِ لِأَنَّهُ يَسُوقُ النَّفْسَ إِلَى السُّكْرِ الَّذِي يَسُوقُهَا إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ يُبِيحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ سَوْقًا لِلنُّفُوسِ إِلَى الْحَرَامِ بِكَثِيرٍ؟ فَإِنَّ الْغِنَاءَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ أَنَّهُ مَا عَانَاهُ صَبِيٌّ إِلَّا وَفَسَدَ، وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا وَبَغَتْ، وَلَا شَابٌّ إِلَّا وَإِلَّا، وَلَا شَيْخٌ إِلَّا وَإِلَّا، وَالْعِيَانُ مِنْ ذَلِكَ يُغْنِي عَنِ الْبُرْهَانِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا جَمَعَ هَيْئَةً تَحْدُو النُّفُوسَ أَعْظَمَ حَدْوٍ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْفُجُورِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي لِأَهْلِهِ، مِنَ الْمَكَانِ وَالْإِمْكَانِ، وَالْعُشَرَاءِ وَالْإِخْوَانِ، وَآلَاتِ الْمَعَازِفِ مِنَ الْيَرَاعِ، وَالدُّفِّ، وَالْأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ، وَكَانَ الْقَوَّالُ شَادِنًا شَجِيَّ الصَّوْتِ، لِطَيْفَ الشَّمَائِلِ مِنَ الْمُرْدَانِ أَوِ النِّسْوَانِ، وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْعِشْقِ وَالْوِصَالِ، وَالصَّدِّ وَالْهِجْرَانِ.
وَدَارَتْ كُئُوسُ الْهَوَى بَيْنَهُمْ ... فَلَسْتَ تَرَى فِيهِمْ صَاحِيَا
فَكُلٌّ عَلَى قَدْرِ مَشْرُوبِهِ ... وَكُلٌّ أَجَابَ الْهَوَى الدَّاعِيَا
فَمَالُوا سُكَارَى وَلَا سُكْرَ مِنْ ... تَنَاوُلِ أُمِّ الْهَوَى خَالِيَا
وَجَارٍ عَلَى الْقَوْمِ سَاقِيهِمُ ... وَلَمْ يُؤْثِرُوا غَيْرَهُ سَاقِيَا
فَمَزَّقَ مِنْهُمْ قُلُوبًا غَدَتْ ... لِبَاسًا عَلَيْهِ يُرَى ضَافِيَا
فَلَمْ يَسْتَفِيقُوا إِلَى أَنْ أَتَى ... إِلَيْهِمْ مُنَادِي اللِّقَا دَاعِيَا
أَجِيبُوا فَكُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمُ ... عَلَى حَالِهِ رَبَّهُ لَاقَيَا
هُنَالِكَ تَعْلَمُ مِنْ حَمْأَةٍ ... شَرِبْتَ مَعَ الْقَوْمِ أَمْ صَافِيَا؟
وَبِاللَّهِ لَا بُدَّ قَبْلَ اللِّقَا ... سَنَعْلَمُ ذَا إِنْ تَكُ وَاعِيَا
لَا بُدَّ تَصْحُو فَإِمَّا هُنَا ... وَإِمَّا هُنَاكَ فَكُنْ رَاضِيَا
[فَصْلٌ تَحْكِيمُ الْوَحْيِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَذْوَاقِ]
فَصْلٌ
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى الذَّوْقِ، فَهَلُمَّ نُحَاكِمُكَ إِلَى ذَوْقٍ لَا نُنْكِرُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ غَيْرِ هَذِهِ الْأَذْوَاقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
فَالْقَلْبُ يَعْرِضُ لَهُ حَالَتَانِ: حَالَةُ حَزْنٍ وَأَسَفٍ عَلَى مَفْقُودٍ، وَحَالَةُ فَرَحٍ وَرِضًى بِمَوْجُودٍ، وَلَهُ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عُبُودِيَّتَانِ.
وَلَهُ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الْأُولَى عُبُودِيَّةُ الرِّضَاءِ، وَهِيَ لِلسَّابِقِينَ، وَالصَّبْرِ وَهِيَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.
পৃষ্ঠা - ৪৬৬
وَلَهُ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ عُبُودِيَّةُ الشُّكْرِ، وَالشَّاكِرُونَ فِيهَا أَيْضًا نَوْعَانِ: سَابِقُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ، فَاقْتَطَعَتْهُ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ عَنْ هَاتَيْنِ الْعُبُودِيَّتَيْنَ، بِصَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، هُمَا لِلشَّيْطَانِ لَا لِلرَّحْمَنِ: صَوْتِ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ عِنْدَ الْحُزْنِ وَفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، وَصَوْتِ اللَّهْوِ وَالْمِزْمَارِ وَالْغَنَاءِ عِنْدَ الْفَرَحِ وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، فَعَوَّضَهُ الشَّيْطَانُ بِهَذَيْنِ الصَّوْتَيْنِ عَنْ تَيْنِكَ الْعُبُودِيَّتَيْنِ.
وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " «إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ، فَاجِرَيْنِ: صَوْتِ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَصَوْتِ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ» ".
وَوَافَقَ ذَلِكَ رَاحَةً مِنَ النَّفْسِ وَشَهْوَةً وَلَذَّةً، وَسَرَتْ فِيهَا تِلْكَ الرَّقَائِقُ حَتَّى تَعَبَّدَ بِهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ النُّورِ النَّبَوِيِّ، وَقَلَّ مَشْرَبُهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَانْضَافَ ذَلِكَ إِلَى صِدْقٍ وَطَلَبٍ وَإِرَادَةٍ مُضَادَّةٍ لِشَهَوَاتِ أَهْلِ الْغَيِّ وَأَهْلِ الْبِطَالَةِ، وَرَأَوْا قَسَاوَةَ قُلُوبِ الْمُنْكِرِينَ لِطَرِيقَتِهِمْ، وَكَثَافَةَ حَجْبِهِمْ، وَغِلْظَةَ طِبَاعِهِمْ، وَثِقَلَ أَرْوَاحِهِمْ، وَصَادَفَ ذَلِكَ تَحَرُّكًا لِسَوَاكِنِهِمْ، وَانْقِيَادًا لِلَوَاعِجِ الْحُبِّ، وَإِزْعَاجًا لِلنُّفُوسِ إِلَى أَوْطَانِهَا الْأُولَى وَمَعَاهِدِهَا الَّتِي سُبِيَتْ مِنْهَا. وَالنُّفُوسُ الطَّالِبَةُ الْمُرْتَاضَةُ السَّائِرَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحَرِّكٍ يُحَرِّكُهَا، وَحَادٍ يَحْدُوهَا، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ حَادِي الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ حَادِي السَّمَاعِ.
فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِيثَارٌ مِنْهُمْ لِلسَّمَاعِ، وَمَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ لَهُ، تَزُولُ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَلَا تُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، إِذْ هُوَ مُثِيرُ عَزَمَاتِهِمْ وَمُحَرِّكُ سَوَاكِنِهِمْ، وَمُزْعِجُ بَوَاطِنِهِمْ.
فَدَوَاءُ صَاحِبِ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ يُنْقَلَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِالْأَصْوَاتِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ الْإِمْعَانِ فِي تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ، وَتَدَبُّرِ خِطَابِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا، إِلَى أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ قَلْبِهِ سَمَاعُ الْأَبْيَاتِ، وَيَلْبَسَ مَحَبَّةَ سَمَاعِ الْآيَاتِ، وَيَصِيرَ ذَوْقُهُ وَشُرْبُهُ وَحَالُهُ وَوَجْدُهُ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ، وَيَتَمَثَّلُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
وَكُنْتُ أَرَى أَنْ قَدْ تَنَاهَى بِيَ الْهَوَى ... إِلَى غَايَةٍ مَا فَوْقَهَا لِي مَطْلَبُ
فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا وَعَايَنْتُ حُسْنَهَا ... تَيَقَّنْتُ أَنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ
وَمُنَافَاةُ النَّوْحِ لِلصَّبْرِ وَالْغِنَاءِ لِلشُّكْرِ: أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، لَا يَمْتَرِي فِيهِ إِلَّا أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ هُوَ الِاشْتِغَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ لَا بِالصَّوْتِ
পৃষ্ঠা - ৪৬৭
الْأَحْمَقِ الْفَاجِرِ، الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ النَّوْحُ ضِدُّ الصَّبْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّائِحَةِ وَقَدْ ضَرَبَهَا حَتَّى بَدَا شَعْرُهَا وَقَالَ: لَا حُرْمَةَ لَهَا، إِنَّهَا تَأْمُرُ بِالْجَزَعِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَنْهَى عَنِ الصَّبْرِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَفْتِنُ الْحَيَّ وَتُؤْذِي الْمَيِّتَ، وَتَبِيعُ عَبْرَتَهَا، وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا.
وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ فِتْنَةَ سَمَاعِ الْغَنَاءِ وَالْمَعَازِفِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ النَّوْحِ بِكَثِيرٍ، وَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ نَحْنُ وَغَيْرُنَا وَعَرَفْنَاهُ بِالتَّجَارِبِ أَنَّهُ مَا ظَهَرَتِ الْمَعَازِفُ وَآلَاتُ اللَّهْوِ فِي قَوْمٍ، وَفَشَتْ فِيهِمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهَا، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ، وَبُلُوا بِالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَوُلَاةِ السُّوءِ، وَالْعَاقِلُ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَيَنْظُرُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَلَا تَسْتَطِلْ كَلَامَنَا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَإِنَّ لَهَا عِنْدَ الْقَوْمِ شَأْنًا عَظِيمًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَنْ أَنْكَرَ عَلَى أَهْلِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَلِيٍّ لِلَّهِ، فَحُجَّةٌ عَامِّيَّةٌ، نَعَمْ إِذَا أَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَاذَا؟ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ عَدَدًا، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ قَدْرًا، وَأَقْرَبُ بِالْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ عَهْدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ تَقَاتَلَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فِي صِفِّينَ بِالسُّيُوفِ، وَلَمَّا سَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَانَ يُقَالُ: سَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَكَوْنُ وَلِيِّ اللَّهِ يَرْتَكِبُ الْمَحْظُورَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَأَوِّلًا أَوْ عَاصِيًا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَضَرَ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ الْمُبْتَدَعَ، الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي تَفْتِنُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَشْرُوبِ، وَحَاشَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا السَّمَاعُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُ الْقَوْمِ: اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ الْأَغْيَارِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَيَتْلُونَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُومُ بَيْنَهُمْ قَوَّالٌ يُنْشِدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْعَارِ الْمُزَهِّدَةِ فِي الدُّنْيَا، الْمُرَغِّبَةِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ يَقَظَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، أَوْ بُعْدٍ أَوِ انْقِطَاعٍ، أَوْ تَأَسُّفٍ عَلَى فَائِتٍ، أَوْ تَدَارُكٍ لِفَارِطٍ، أَوْ وَفَاءٍ بِعَهْدٍ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِوَعْدٍ، أَوْ ذِكْرِ قَلَقٍ وَشَوْقٍ، أَوْ خَوْفِ فُرْقَةٍ أَوْ صَدٍّ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى.
فَهَذَا السَّمَاعُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَوْمُ، لَا سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَالْمَعَازِفِ وَالْخَمْرِيَّاتِ. وَعِشْقُ الصُّوَرِ مِنَ الْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ، وَذِكْرُ مَحَاسِنِهَا وَوِصَالِهَا وَهِجْرَانِهَا، فَهَذَا لَوْ سُئِلَ عَنْهُ مَنْ سُئِلَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ لَقَضَى بِتَحْرِيمِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْتِي بِإِبَاحَتِهِ
পৃষ্ঠা - ৪৬৮
، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَضَرُّ مِنْهُ، وَلَا أَفْسَدُ لِعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ السَّمَاعِ الثَّلَاثُ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
السَّمَاعُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: سَمَاعُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: إِجَابَةُ زَجْرِ الْوَعِيدِ رَغْبَةً، وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ الْوَعْدِ جَهْدًا، وَبُلُوغُ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ اسْتِبْصَارًا.
الْوَعِيدُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَإِجَابَةُ دَاعِيهِ هُوَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ.
وَقَوْلُهُ: رَغْبَةً، يَعْنِي امْتِثَالًا لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ وَنَهَى وَأَوْعَدَ.
وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ، رَاجِيًا الثَّوَابَ، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ خَائِفًا مِنَ الْعِقَابِ.
وَفِي الرَّغْبَةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ فِعْلَهُ يَكُونُ فِعْلَ رَاغِبٍ مُخْتَارٍ، لَا فِعْلَ كَارِهٍ، كَأَنَّمَا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَنْظُرُ.
وَأَمَّا إِجَابَةُ الْوَعْدِ جَهْدًا: فَهُوَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ طَلَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى الْمَوْعُودِ بِهِ، بَاذِلًا جُهْدَهُ فِي ذَلِكَ، مُسْتَفْرِغًا فِيهِ قُوَاهُ.
وَأَمَّا بُلُوغُ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ اسْتِبْصَارًا: فَهُوَ تَنَبُّهُ السَّامِعِ فِي سَمَاعِهِ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَلَهُ مِنْ خَيْرٍ فَمِنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ، وَلَا بَذْلِ عِوَضٍ اسْتَوْجَبَ بِهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .
وَكَذَلِكَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ مَا لَحِقَهُ مِنْهَا مِنْ ضَرَرٍ وَأَذًى فَهُوَ مِنَّةٌ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيَسْتَخْرِجُهَا الْفِكْرُ الصَّحِيحُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيْكَ أَفْضَلُ: نِعْمَتُهُ فِيمَا أَعْطَاكَ، أَوْ نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنْكَ؟ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ أَوْ أَمْسَيْتُ، إِنْ كَانَ الْغِنَى، إِنَّ فِيهِ لِلشُّكْرِ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرَ، إِنَّ فِيهِ لِلصَّبْرِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:
পৃষ্ঠা - ৪৬৯
نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنِّي مِنَ الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ فِيمَا بَسَطَ لِي مِنْهَا، إِنِّي رَأَيْتُهُ أَعْطَاهَا قَوْمًا فَاغْتَرُّوا.
إِذَا عَمَّ بِالسَّرَّاءِ أَعْقَبَ شُكْرَهَا ... وَإِنْ مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهَا الْأَجْرُ
وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا لَهُ فِيهِ نِعْمَةٌ ... تَضِيقُ بِهَا الْأَوْهَامُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يَشْهَدُ مِنَّتَهُ فِيمَا لَحِقَهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالذَّنْبِ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَالْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ، كَانَتْ مِنْ أَعْظَمَ الْمِنَنِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
فَصْلٌ.
قَالَ: وَسَمَاعُ الْخَاصَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: شُهُودُ الْمَقْصُودِ فِي كُلِّ رَمْزٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ، وَالْخَلَاصُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ.
وَالْمَقْصُودُ فِي كُلِّ رَمْزٍ: هُوَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ كُلَّهُ يُعَرِّفُ بِهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَهَذَا الشُّهُودُ يُنَالُ بِالسَّمَاعِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ.
أَمَّا السَّمَاعُ بِهِ: فَأَنْ لَا يَسْمَعَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ قَطَعَهَا كَمَالُ تَعَلُّقِهِ بِالْمَسْمُوعِ، فَيَكُونُ سَمَاعُهُ بِقَيُّومِيَّتِهِ مُجَرَّدًا مِنَ الْتِفَاتِهِ إِلَى نَفْسِهِ.
وَأَمَّا السَّمَاعُ لَهُ: فَأَنْ يُجَرِّدَ النَّفْسَ فِي السَّمَاعِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُ. وَتَجَمُّعُ قُوَى سَمْعِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ.
وَأَمَّا السَّمَاعُ فِيهِ: فَشَأْنٌ آخَرُ، وَهُوَ تَجْرِيدُ مَا لَا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ وَصْفٍ، أَوْ سِمَةٍ أَوْ نَعْتٍ، أَوْ فِعْلٍ، مِمَّا هُوَ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ، فَيُثْبِتُ لَهُ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ، وَيُنَزِّهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِيهِ إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَأَضَلَّ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] .
পৃষ্ঠা - ৪৭০
وَأَمَّا السَّمَاعُ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِوَاسِطَةٍ، فَهُوَ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ، وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ، إِلَّا لِمَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَلَكِنَّ السَّمَاعَ لِكَلَامِهِ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، فَمَنْ سَمِعَهُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ.
هَذَا هُوَ السَّمَاعُ مِنَ اللَّهِ، لَا سَمَاعَ أَرْبَابِ الْخَيَالِ، وَدَعْوَى الْمُحَالِ الْقَائِلِ أَحَدُهُمْ: نَادَانِي فِي سِرِّي، وَخَاطَبَنِي، وَقَالَ لِي، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الْمُنَادِي لَكَ؟ وَمَنِ الْمُخَاطِبُ، يَا مَخْدُوعُ يَا مَغْرُورُ؟ فَمَا يُدْرِيكَ أَنِدَاءٌ شَيْطَانِيٌّ، أَمْ رَحْمَانِيٌّ؟ وَمَا الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَكَ هُوَ الرَّحْمَنُ؟
نَعَمْ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ النِّدَاءَ وَالْخِطَابَ وَالْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُنَادِي الْمُخَاطِبِ الْمُحَدِّثِ، فَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يُخَاطِبُهُ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ السَّمَاعُ بِهِ وَلَهُ وَفِيهِ ازْدَحَمَتْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ وَلَطَائِفُهُ وَعَجَائِبُهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ، فَمَا شِئْتَ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَتَعَرُّفٍ وَبَصِيرَةٍ، وَهِدَايَةٍ وَغَيْرَةٍ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ: فَهُوَ التَّطَلُّبُ وَالسَّفَرُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْمَسْمُوعِ الَّذِي جُعِلَ وَسِيلَةً إِلَيْهَا. وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، وَلَا دُونَهُ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا تَقَرُّ الْعَيْنُ بِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ سِوَاهُ فَظِلٌّ زَائِلٌ، وَخَيَالٌ مُفَارِقٌ مَائِلٌ وَإِنْ تَمَتَّعَ بِهِ صَاحِبُهُ فَمَتَاعُ الْغُرُورِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ: فَالتَّفَرُّقُ فِي مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَتَنَقُّلُ الْقَلْبِ فِي مَنَازِلِهَا يُوجِبُ لَهُ لَذَّةً، كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ فِي الِانْتِقَالِ، فَلْيَتَخَلَّصْ مِنْ لَذَّةِ تَفَرُّقِهِ الَّتِي هِيَ حَظُّهُ، إِلَى الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْمَسْمُوعِ بِهِ وَلَهُ وَمِنْهُ.
وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ " مِنَ التَّفَرُّقِ " فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ إِنَّمَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ وَيُفْهَمُ بِالتَّفَرُّقِ لِتَنَوُّعِهِ، وَلَكِنْ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ لَذَّتِهِ، لَا مِنْهُ، لِئَلَّا يَكُونَ مَعَ حَظِّهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ أَحْوَالِ السَّامِعِينَ الْمُخْلِصِينَ.
فَصْلٌ.
قَالَ: وَسَمَاعُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ: سَمَاعٌ يَنْفِي الْعِلَلَ عَنِ الْكَشْفِ، وَيَصِلُ الْأَبَدَ إِلَى