মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة الفرار

পৃষ্ঠা - ৪৩৭
يَزَلْ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِيَ الْفَنَاءِ طَوْعًا وَرَغْبَةً لَا كَرْهًا، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ امْتَزَجَ فِيهِ الْحُبُّ بِالتَّعْظِيمِ مَعَ الْقُرْبِ، وَهُوَ مُنْتَهَى سَفَرِ الطَّالِبِينَ لِمَقَامِ الْفَنَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ هُوَ مُرَادَ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ، وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ، لَا فِي الْمُرِيدِ، وَلَا فِي الْإِرَادَةِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاجِدِينَ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ حَقِيقَةٌ: يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ إِرَادَةً وَإِيثَارًا، وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَفِيهِ تَرْتَفِعُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ حَقِيقَةً وَيَحْصُلُ لَهُ الِاسْتِحْذَاءُ الْمَذْكُورُ مَقْرُونًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، وَغَايَةِ التَّعْظِيمِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِي الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا لَا كَرْهًا، بَلْ يَنْجَذِبُ إِلَيْهِ انْجِذَابَ قَلْبِ الْمُحِبِّ وَرُوحِهِ، الَّذِي قَدْ مَلَأَتِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ جُزْءٌ فَارِغٌ مِنْهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مَحْبُوبٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَحَقُّهُ بِالْحُبِّ. وَهَذَا الْفَنَاءُ أَوْجَبَهُ الْحُبُّ الْكَامِلُ الْمُمْتَزِجُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْقُرْبِ، وَمَحْوِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَمُرَادُهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قُرْبًا، أَيْ يَشْغَلُهُ قُرْبُ الْحَقِّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْقُرْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَرِيبَ مِنَ السُّلْطَانِ جِدًّا، الْمُقْبِلَ عَلَيْهِ، الْمُكَلِّمَ لَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ؟ فَعَلَى قَدْرِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَكُونُ اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ] وَمِنْ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] وَحَقِيقَةُ الْفِرَارِ: الْهَرَبُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِرَارُ السُّعَدَاءِ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ.
পৃষ্ঠা - ৪৩৮
فَفِرَارُ السُّعَدَاءِ: الْفِرَارُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ: الْفِرَارُ مِنْهُ لَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ فَفِرَارُ أَوْلِيَائِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] : فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اهْرُبُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى ثَوَابِهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: هُوَ الْهَرَبُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا، وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ جِدًّا وَعَزْمًا، وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً. يُرِيدُ بِ " مَا لَمْ يَكُنْ " الْخَلْقَ، وَبِ " مَا لَمْ يَزَلْ " الْحَقَّ. وَقَوْلُهُ: فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا. الْجَهْلُ نَوْعَانِ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ النَّافِعِ، وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَكِلَاهُمَا جَهْلٌ لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا وَحَقِيقَةً، قَالَ مُوسَى {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لَمَّا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] أَيْ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] أَيْ مِنْ مُرْتَكِبِي مَا حَرَّمْتَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَسُمِّيَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ الْعِلْمِ جَهْلًا، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجَهْلِ، وَإِمَّا لِجَهْلِهِ بِسُوءِ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ فِعْلِهِ. فَالْفِرَارُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْفِرَارُ مِنَ الْجَهْلَيْنِ: مِنَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ إِلَى تَحْصِيلِهِ، اعْتِقَادًا وَمَعْرِفَةً وَبَصِيرَةً، وَمِنْ جَهْلِ الْعَمَلِ إِلَى السَّعْيِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَصْدًا وَسَعْيًا.
পৃষ্ঠা - ৪৩৯
قَوْلُهُ: وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ جِدًّا وَعَزْمًا. أَيْ يَفِرُّ مِنْ إِجَابَةِ دَاعِي الْكَسَلِ إِلَى دَاعِي الْعَمَلِ وَالتَّشْمِيرِ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَالْجِدُّ هَاهُنَا هُوَ صِدْقُ الْعَمَلِ، وَإِخْلَاصُهُ مِنْ شَوَائِبِ الْفُتُورِ، وَوُعُودِ التَّسْوِيفِ وَالتَّهَاوُنِ، وَهُوَ تَحْتَ السِّينِ وَسَوْفَ، وَعَسَى، وَلَعَلَّ، فَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ ثَمَرُهَا الْخُسْرَانُ وَالنَّدَامَاتُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجِدِّ وَالْعَزْمِ أَنَّ الْعَزْمَ صِدْقُ الْإِرَادَةِ وَاسْتِجْمَاعُهَا، وَالْجِدَّ صِدْقُ الْعَمَلِ وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَلَقِّي أَوَامِرِهِ بِالْعَزْمِ وَالْجِدِّ، فَقَالَ {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وَقَالَ {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] وَقَالَ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ وَعَزْمٍ، لَا كَمَنْ يَأْخُذُ مَا أُمِرَ بِهِ بِتَرَدُّدٍ وَفُتُورٍ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً. يُرِيدُ هُرُوبَ الْعَبْدِ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ مَصَالِحِهِ، وَمَصَالِحِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَأَهْلِهِ وَعَدُوِّهِ، يَهْرُبُ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى سَعَةِ فَضَاءِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ الرَّجَاءِ لِجَمِيلِ صُنْعِهِ بِهِ، وَتَوَقُّعِ الْمَرْجُوِّ مِنْ لُطْفِهِ وَبِرِّهِ، وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُمْ: لَا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2] قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ، وَهَذَا جَامِعٌ لِشَدَائِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَضَايِقِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِلْمُتَّقِي مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَخْرَجًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ كَافِي مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي نَوَائِبِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، يَكْفِيهِ كُلَّ مَا أَهَمَّهُ، وَالْحَسْبُ الْكَافِي {حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] كَافِينَا اللَّهُ.
পৃষ্ঠা - ৪৪০
وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ لَهُ، صَادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، وَلَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وَعَبَّرَ عَنِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّعَةِ، فَإِنَّهُ لَا أَشْرَحَ لِلصَّدْرِ، وَلَا أَوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِ لَهُ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ. فَصْلٌ. قَالَ: وَفِرَارُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الشُّهُودِ، وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ، وَمِنَ الْحُظُوظِ إِلَى التَّجْرِيدِ. يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ عَنْ مُجَرَّدِ خَبَرٍ، حَتَّى يَتَرَقَّوْا مِنْهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَيَطْلُبُونَ التَّرَقِّيَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ بِالْخَبَرِ، إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ بِالشُّهُودِ كَمَا طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ إِذْ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فَطَلَبَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَكُونَ الْيَقِينُ عِيَانًا، وَالْمَعْلُومُ مُشَاهَدًا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّكِّ فِي قَوْلِهِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» حَيْثُ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشُكَّ وَلَا إِبْرَاهِيمُ، حَاشَاهُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ. هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ، أَيْ لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ حَيْثُ قَالَ مَا قَالَ، وَلَمْ نَشُكَّ نَحْنُ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ أَيْضًا أَيْ لَوْ كَانَ مَا طَلَبَهُ لِلشَّكِّ لَكُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ، لَكِنْ لَمْ يَطْلُبْ مَا طَلَبَ شَكًّا، وَإِنَّمَا طَلَبَ مَا طَلَبَهُ طُمَأْنِينَةً. فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ، عِلْمُ يَقِينٍ يَحْصُلُ عَنِ الْخَبَرِ، ثُمَّ تَتَجَلَّى حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِلْقَلْبِ أَوِ الْبَصَرِ، حَتَّى يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ يُبَاشِرُهُ وَيُلَابِسُهُ فَيَصِيرُ حَقَّ يَقِينٍ، فَعِلْمُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ عِلْمُ يَقِينٍ، فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَشَاهَدُوهُمَا عِيَانًا، كَانَ ذَلِكَ عَيْنَ يَقِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6 - 7]
পৃষ্ঠা - ৪৪১
فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فَذَلِكَ حَقُّ الْيَقِينِ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِالرُّسُومِ ظَوَاهِرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَبِالْأُصُولِ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَمُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ، وَأَذْوَاقَ الْإِيمَانِ وَوَارِدَاتِهِ، فَيَفِرُّ مِنْ إِحْكَامِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِلَى خُشُوعِ السِّرِّ لِلْعِرْفَانِ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْعَزَائِمِ فِي السَّيْرِ لَا يَقْنَعُونَ بِرُسُومِ الْأَعْمَالِ وَظَوَاهِرِهَا، وَلَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِأَرْوَاحِهَا وَحَقَائِقِهَا، وَمَا يُثْبِتُهُ لَهُمُ التَّعَرُّفُ الْإِلَهِيُّ، وَهُوَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَمْرِ. وَالتَّعَرُّفُ الْإِلَهِيُّ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ الْأَمْرِ، كَمَا يَظُنُّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَزَنَادِقَةُ الصُّوفِيَّةِ، بَلْ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُمْ حَقَائِقَ الْأَمْرِ، وَأَسْرَارَ الْعُبُودِيَّةِ، وَرُوحَ الْمُعَامَلَةِ، فَحَظُّهُمْ مِنَ الْأَمْرِ حَظُّ الْعَالِمِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ، تَصْرِيحًا وَإِيمَاءً، وَتَنْبِيهًا وَإِشَارَةً، وَحَظُّ غَيْرِهِمْ مِنْهُ حَظُّ التَّالِي لَهُ حِفْظًا بِلَا فَهْمٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ لِمُرَادِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى تِلْكَ التَّعَرُّفَاتِ وَالْحَقَائِقِ إِلَّا بِهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ لَهُمْ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا ضَرُورِيَّةٌ، لَا عِوَضَ لَهُمْ عَنْهُ الْبَتَّةَ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي فَاتَ الزَّنَادِقَةَ، وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقَةِ الْقَوْمِ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ أَرْوَاحُهَا، لَا صُوَرُهَا وَأَشْبَاحُهَا وَرُسُومُهَا، قَالُوا: نَجْمَعُ هِمَمَنَا عَلَى مَقَاصِدِهَا وَحَقَائِقِهَا، وَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى رُسُومِهَا وَظَوَاهِرِهَا، بَلِ الِاشْتِغَالُ بِرُسُومِهَا اشْتِغَالٌ عَنِ الْغَايَةِ بِالْوَسِيلَةِ، وَعَنِ الْمَطْلُوبِ لِذَاتِهِ بِالْمَطْلُوبِ لِغَيْرِهِ، وَغَرَّهُمْ مَا رَأَوْا فِيهِ الْوَاقِفِينَ مَعَ رُسُومِ الْأَعْمَالِ وَظَوَاهِرِهَا دُونَ مُرَاعَاةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَأَرْوَاحِهَا، فَرَأَوْا نُفُوسَهُمْ أَشْرَفَ مِنْ نُفُوسِ أُولَئِكَ، وَهِمَمَهُمْ أَعْلَى، وَأَنَّهُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِاللُّبِّ وَأُولَئِكَ بِالْقِشْرِ، فَتَرَكَّبَ مِنْ تَقْصِيرِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِ هَؤُلَاءِ تَعْطِيلٌ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَطَّلُوا سِرَّهُ وَمَقْصُودَهُ وَحَقِيقَتَهُ، وَهَؤُلَاءِ عَطَّلُوا رَسْمَهُ وَصُورَتَهُ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ رَسْمِهِ وَظَاهِرِهِ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا إِلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَجَحَدُوا مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ، وَأُولَئِكَ مُقَصِّرُونَ غَيْرُ كَامِلِينَ، وَالْقَائِمُونَ بِهَذَا وَهَذَا هُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قُلُوبِهِمْ قَبْلَ جَوَارِحِهِمْ، وَأَنَّ عَلَى الْقَلْبِ عُبُودِيَّةً فِي الْأَمْرِ كَمَا عَلَى الْجَوَارِحِ، وَأَنَّ تَعْطِيلَ عُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ تَعْطِيلِ عُبُودِيَّةِ الْجَوَارِحِ، وَأَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ قِيَامُ كُلٍّ مِنَ الْمَلِكِ وَجُنُودِهِ بِعُبُودِيَّتِهِ، فَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ. فَصْلٌ.
পৃষ্ঠা - ৪৪২
قَوْلُهُ: وَمِنَ الْحُظُوظِ إِلَى التَّجْرِيدِ. يُرِيدُ الْفِرَارَ مِنْ حُظُوظِ النُّفُوسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا لَا الْمُعْتَنُونَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمُرَادِهِ، وَحَقِّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَآفَاتِهِمَا وَرُبَّ مُطَالِبَ عَالِيَةٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْعِبَادِ هِيَ حُظُوظٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا وَيَفِرُّونَ إِلَيْهِ مِنْهَا، يَرَوْنَهَا حَائِلَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَظُّ مَا سِوَى مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ مِنْكَ، كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ مَا يَبْرَحُ حَظًّا مُحَرَّمًا إِلَى مَكْرُوهٍ إِلَى مُبَاحٍ إِلَى مُسْتَحَبٍّ، غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ هَذَا إِلَّا فِي مَقَامِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَبِالنَّفْسِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا. فَهُنَاكَ تَتَبَيَّنُ لَهُ الْحُظُوظُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيَفِرُّ مِنَ الْحَظِّ إِلَى التَّجْرِيدِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ هَذَا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى الْحُظُوظِ وَعَلَى مُرَادِهِمْ مِنْهُ، وَأَمَّا تَجْرِيدُ عِبَادَتِهِ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ عَبْدِهِ: فَتِلْكَ مَنْزِلَةٌ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ ... سِوَى نَبِيٍّ وَصِدِّيقٍ مِنَ الْبَشَرِ وَالزُّهْدُ زُهْدُكُ فِيهَا لَيْسَ زُهْدَكَ فِي ... مَا قَدْ أُبِيحَ لَنَا فِي مُحْكَمِ السُّوَرِ وَالصِّدْقُ صِدْقُكُ فِي تَجْرِيدِهَا وَكَذَا الْ ... إِخْلَاصُ تَخْلِيصُهَا إِنْ كُنْتَ ذَا بَصَرِ كَذَا تَوَكُّلُ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ فِي ... تَجْرِيدِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَدَرِ كَذَاكَ تَوْبَتُهُمْ مِنْهَا فَهُمْ أَبَدًا ... فِي تَوْبَةٍ أَوْ يَصِيرُوا دَاخِلَ الْحُفَرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَصَاحِبُ هَذَا التَّجْرِيدِ لَا يَقْنَعُ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَسْكُنُ إِلَيْهِ دُونَ اللَّهِ، وَلَا يَفْرَحُ بِمَا حَصَلَ لَهُ دُونَ اللَّهِ، وَلَا يَأْسَى عَلَى مَا فَاتَهُ سِوَى اللَّهِ، وَلَا يَسْتَغْنِي بِرُتْبَةٍ شَرِيفَةٍ وَإِنْ عَظُمَتْ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ النَّاسِ، فَلَا يَسْتَغْنِي إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَلَا يَفْرَحُ إِلَّا بِمُوَافَقَتِهِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ، وَلَا يَحْزَنُ إِلَّا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَخَافُ إِلَّا مِنْ سُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ، وَاحْتِجَابِ اللَّهِ عَنْهُ، فَكُلُّهُ بِاللَّهِ، وَكُلُّهُ لِلَّهِ، وَكُلُّهُ مَعَ اللَّهِ، وَسَيْرُهُ دَائِمًا إِلَى اللَّهِ، قَدْ رُفِعَ لَهُ عَلَمُهُ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، وَتَجَرَّدَ لَهُ مَطْلُوبُهُ فَعَمِلَ عَلَيْهِ، تُنَادِيهِ الْحُظُوظُ: إِلَيَّ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ إِذَا حَصَلَ لِي حَصَلَ لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا فَاتَنِي فَاتَنِي كُلُّ شَيْءٍ، فَهُوَ مَعَ اللَّهِ مُجَرَّدٌ عَنْ خَلْقِهِ، وَمَعَ خَلْقِهِ مُجَرَّدٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَعَ الْأَمْرِ مُجَرَّدٌ عَنْ حَظِّهِ، أَعْنِي الْحَظَّ الْمُزَاحِمَ لِلْأَمْرِ، وَأَمَّا الْحَظُّ الْمُعِينُ عَلَى الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يَحُطُّهُ تَنَاوُلُهُ عَنْ مَرْتَبَتِهِ وَلَا يُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ.