فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة التوبة
فصل مقام التوبة
পৃষ্ঠা - ২৫২
وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ لِدَاعٍ دَعَاهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَجَاذِبٍ جَذَبَهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَخَّرَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى سَبْقِ الرَّكْبِ لَهُ وَعَلَى تَأَخُّرِهِ، نَهَضَ نَهْضَةَ الْغَضْبَانِ الْآسِفِ عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَوَثَبَ وَجَمَزَ وَاشْتَدَّ سَعْيًا لِيَلْحَقَ الرَّكْبَ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ مَعَ دَاعِي التَّأَخُّرِ، وَأَصْغَى إِلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِرَدِّهِ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنَ الْغَفْلَةِ، وَإِجَابَةِ دَاعِي الْهَوَى، حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى أَسْوَأَ مِنْهَا وَأَنْزَلَ دَرَكًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكْسَةِ الشَّدِيدَةِ عُقَيْبَ الْإِبْلَالِ مِنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهَا أَخْطَرُ مِنْهُ وَأَصْعَبُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْعَبْدَ بِجَذْبَةٍ مِنْهُ مِنْ يَدِ عَدُوِّهِ وَتَخْلِيصُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي تَأَخُّرٍ إِلَى الْمَمَاتِ، رَاجِعٌ الْقَهْقَرَى، نَاكِصٌ عَلَى عَقِبَيْهِ، أَوْ مُولٍ ظَهْرَهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: وَيُطْفِئُ نُورَ الْمُرَاقَبَةِ.
يَعْنِي أَنَّ الْمُرَاقَبَةَ تُعْطِي نُورًا كَاشِفًا لِحَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَإِضَاعَةَ الْوَقْتِ تُغَطِّي ذَلِكَ النُّورَ، وَتُكَدِّرُ عَيْنَ الصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ مَعَ صُحْبَةِ اللَّهِ، وَلَهُ مَعَ اللَّهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، بِحَسَبِ حِفْظِهِ وَقْتَهُ مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ، فَإِذَا أَضَاعَ وَقْتَهُ كَدَّرَ عَيْنَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَتَعَرَّضَ لِقَطْعِ هَذِهِ الصُّحْبَةِ، فَلَا شَيْءَ أَضَرُّ عَلَى الْعَارِفِ بِاللَّهِ مِنْ إِضَاعَةِ وَقْتِهِ مَعَ اللَّهِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِالرُّجُوعِ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْإِضَاعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَتَكُونَ حَسْرَتُهُ وَنَدَامَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ حَسْرَةِ غَيْرِهِ وَنَدَامَتِهِ، وَحِجَابُهُ عَنِ اللَّهِ أَشَدَّ مِنْ حِجَابِ مَنْ سِوَاهُ، وَيَكُونَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ قَوْمٍ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا عَايَنُوهَا وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ عَنْهَا إِلَى النَّارِ، فَإِذَنْ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ تَكُونُ مِنْ تَضْيِيعِ أَوْقَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ.
[فَصْلٌ مَقَامُ التَّوْبَةِ]
فَصْلٌ
وَفَوْقَ هَذَا مَقَامٌ آخَرُ مِنَ التَّوْبَةِ، أَرْفَعُ مِنْهُ وَأَخَصُّ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ الْمُحِبُّونَ، الَّذِينَ يَسْتَقِلُّونَ فِي حَقِّ مَحْبُوبِهِمْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا قَطُّ إِلَّا بِعَيْنِ النَّقْصِ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَيَرَوْنَ شَأْنَ مَحْبُوبِهِمْ أَعْظَمَ، وَقَدْرَهُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَرْضَوْا نُفُوسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ لَهُ، فَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ احْتِقَارًا لَهَا، وَإِزْرَاءً عَلَيْهَا، وَإِذَا غَفَلُوا عَنْ مُرَادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ، تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةَ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ مِنْهَا، فَالتَّوْبَةُ لَا
পৃষ্ঠা - ২৫৩
تُفَارِقُهُمْ أَبَدًا، وَتَوْبَتُهُمْ لَوْنٌ وَتَوْبَةُ غَيْرِهِمْ لَوْنٌ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] وَكُلَّمَا ازْدَادُوا حُبًّا لَهُ ازْدَادُوا مَعْرِفَةً بِحَقِّهِ، وَشُهُودًا لِتَقْصِيرِهِمْ، فَعَظُمَتْ لِذَلِكَ تَوْبَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُمْ أَشَدَّ، وَإِزْرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ، وَمَا يَتُوبُ مِنْهُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ كِبَارِ حَسَنَاتِ غَيْرِهِمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَتَوْبَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ الْعَارِفِينَ بِرَبِّهِمْ وَبِحَقِّهِ هِيَ التَّوْبَةُ، وَسِوَاهُمْ مَحْجُوبٌ عَنْهَا، وَفَوْقَ هَذِهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، الْأَوْلَى بِنَا الْإِضْرَابُ عَنْهَا صَفْحًا.
فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَلَا يَتِمُّ مَقَامُ التَّوْبَةِ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا دُونَ الْحَقِّ، ثُمَّ رُؤْيَةُ عِلَّةِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ التَّوْبَةُ مِنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ.
التَّوْبَةُ مِمَّا دُونَ اللَّهِ أَنْ يَخْرُجَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِأَمْرِهِ وَبِاسْتِعَانَتِهِ، فَيَكُونَ كُلُّهُ لَهُ وَبِهِ.
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، فَامْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنَ اللَّهِ مَحَبَّةً لَهُ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا، وَذُلًّا وَخُضُوعًا وَانْكِسَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ.
فَإِذَا صَحَّ لَهُ ذَلِكَ بَقِيَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةٌ أُخْرَى، هِيَ عِلَّةٌ فِي تَوْبَتِهِ، وَهِيَ شُعُورُهُ بِهَا، وَرُؤْيَتُهُ لَهَا، وَعَدَمُ فَنَائِهِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ وَحَالِهِ ذَنْبٌ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ.
فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: تَوْبَتُهُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، وَرُؤْيَتِهِ هَذِهِ التَّوْبَةَ، وَهِيَ عِلَّتُهَا، وَتَوْبَتُهُ مِنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ الْغَايَةُ الَّتِي لَا شَيْءَ بَعْدَهَا، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا لِخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ فِعْلَهُ، وَاحْتِجَابَهُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَمُشَاهَدَتَهُ لَهُ عِلَّةٌ فِي طَرِيقِهِ مُوجِبَةٌ لِلتَّوْبَةِ.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لَهُ وَاقِعًا بِمِنَّةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وَحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ وَإِعَانَتِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ، وَأَتَمُّ عُبُودِيَّةً، وَأَدْعَى لِلْمَحَبَّةِ وَشُهُودِ الْمِنَّةِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ شُهُودُ الْمِنَّةِ عَلَى شَيْءٍ لَا شُعُورَ لِلشَّاهِدِ بِهِ الْبَتَّةَ.
পৃষ্ঠা - ২৫৪
وَالَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ سُلُوكُ وَادِي الْفَنَاءِ فِي الشُّهُودِ، فَلَا يَشْهَدُ مَعَ الْحَقِّ سَبَبًا، وَلَا وَسِيلَةً وَلَا رَسْمًا الْبَتَّةَ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ السَّالِكَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيَجِدُ لَهُ حَلَاوَةً وَوَجْدًا وَلَذَّةً لَا يَجِدُهَا لِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ أَرْبَابُهُ وَالْمُشَمِّرُونَ إِلَيْهِ بِأَمْرٍ وَرَاءَهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ حَالِ مَنْ شَهِدَ أَفْعَالَهُ وَرَآهَا، وَرَأَى تَفَاصِيلَهَا مُشَاهِدًا لَهَا، صَادِرَةً عَنْهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَشَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ مَعَ شُهُودِ مَعْبُودِهِ، فَكِلَاهُمَا نَقْصٌ، وَالْكَمَالُ: أَنْ تَشْهَدَ الْعُبُودِيَّةَ حَاصِلَةً بِمِنَّةِ الْمَعْبُودِ وَفَضْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيَجْتَمِعَ لَكَ الشُّهُودَانِ، فَإِنْ غِبْتَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَوْبَةٍ، وَهَلْ فِي الْغَيْبَةِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا هَضْمٌ لَهَا؟ .
وَالْوَاجِبُ: أَنْ يَقَعَ التَّحَاكُمُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ دُونَ الذَّوْقِ، فَإِنَّنَا لَا نُنْكِرُ ذَوْقَ هَذِهِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَهَا أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَيْنَ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي كَلَامِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى هَذَا الْفَنَاءِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْكَمَالُ، وَأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ بِاللَّهِ وَحَوْلِهِ وَفَضْلِهِ وَشُهُودَهُ لَهُ كَذَلِكَ عِلَّةٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا؟ .
وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا يَصْعُبُ إِنْكَارُهُ عَلَى الْقَوْمِ جِدًّا، وَيَرْمُونَ مُنْكِرَهُ بِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ مِنْ أَهْلِ الْفَرْقِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَلَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ لَمَا أَنْكَرَهُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ، وَلَا جَوَابُ الْمُطَالَبَةِ، فَقَدْ سَأَلَكَ هَذَا الْمَحْجُوبُ عَنْ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهَا.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ يَرَاكُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ حَالٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَمَقَامٍ أَرْفَعَ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْفَنَاءِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَإِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْحِكَمِ وَالْوَسَائِطِ كَثِيرُ عِلْمٍ، وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا عُبُودِيَّةٌ، وَهَلِ الْمَعْرِفَةُ كُلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعُبُودِيَّةُ إِلَّا شُهُودُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؟ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مَمْلُوءٌ مِنْ دُعَاءِ الْعِبَادِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَنَظَرِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ نَظَرُهُ فِيمَا قَدَّمَ لِغَدِهِ، وَمُطَالَعَتُهُ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَتَذَكُّرُ ذَلِكَ وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ، وَحَمْدُ اللَّهِ وَشُكْرُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ مَعَ الْفَنَاءِ حَتَّى عَنْ رُؤْيَةِ الرُّؤْيَةِ، وَشُهُودِ الشُّهُودِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ الْبَتَّةَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا جَعَلْتُمْ رُؤْيَتَهُ لِتَوْبَتِهِ عِلَّةً يَتُوبُ مِنْهَا، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَيْضًا عِلَّةٌ تُوجِبُ عَلَيْهِ تَوْبَةً، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَّا بِسُقُوطِ
পৃষ্ঠা - ২৫৫
التَّمْيِيزِ جُمْلَةً، وَالسُّكْرِ وَالطَّمْسِ الْمُنَافِي لِلْعُبُودِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْعُبُودِيَّةِ.
فَتَأَمَّلِ الْآنَ تَفَاصِيلَ عُبُودِيَّةِ الصَّلَاةِ، كَيْفَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِشُهُودِ فِعْلِكَ الَّذِي مَتَى غِبْتَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي الْعُبُودِيَّةِ.
فَإِذَا قَالَ الْمُصَلِّي: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَشْهَدَ وَجْهَهُ، وَهُوَ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَأَنْ يَشْهَدَ حَقِيقَتَهُ، وَهِيَ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ.
ثُمَّ إِذَا قَالَ: إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَشْهَدَ الصَّلَاةَ وَالنُّسُكَ الْمُضَافَيْنِ إِلَيْهِ لِلَّهِ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُمَا كَانَ قَدْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ بِلِسَانِهِ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ بِقَلْبِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا أَكْمَلَ وَأَعْلَى مِنْ حَالِ مَنِ اسْتَحْضَرَ فِعْلَهُ وَعُبُودِيَّتَهُ، وَأَضَافَهُمَا إِلَى اللَّهِ، وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ كَوْنَهُمَا بِهِ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ الْمُسْتَغْرِقِ الْفَانِي الْمُصْطَلِمِ، الَّذِي قَدْ غَابَ بِمَعْبُودِهِ عَنْ حَقِّهِ، وَقَدْ أُخِذَ مِنْهُ وَغُيِّبَ عَنْهُ؟ .
نَعَمْ غَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، أَمَّا أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُ أَعْلَى مَقَامٍ وَأَجَلَّهُ فَكَلَّا.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي قِرَاءَتِهِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ فَهْمُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَاسْتِحْضَارُهُمَا، وَتَخْصِيصُهُمَا بِاللَّهِ، وَنَفْيُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ، فَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي رُكُوعِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسَلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي، وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي فَكَيْفَ يُؤَدِّي عُبُودِيَّةَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ غَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، مُسْتَغْرِقٌ فِي فَنَائِهِ؟ وَهَلْ يَبْقَى غَيْرُ أَصْوَاتٍ جَارِيَةٍ عَلَى لِسَانِهِ؟ وَلَوْلَا الْعُذْرُ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عُبُودِيَّةً.
نَعَمْ، رُؤْيَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَالِاحْتِجَابُ بِهَا عَنِ الْمُنْعِمِ بِهَا الْمُوَفِّقِ لَهَا، الْمَانِّ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْعِلَلِ الْقَوَاطِعِ، قَالَ تَعَالَى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] فَالْعَارِفُ غَائِبٌ بِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ، مَعَ شُهُودِهَا وَرُؤْيَتِهَا، وَالْجَاهِلُ غَائِبٌ بِهَا عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ اللَّهِ، وَالْفَانِي غَائِبٌ بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْفَنَاءِ وَشُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ عَنْ شُهُودِهَا، وَهُوَ نَاقِصٌ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا.