فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة التوبة
فصل مراتب الذل والخضوع
পৃষ্ঠা - ২০৩
فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْأُمِّ: لَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟
فَإِذَا أَغْضَبَهُ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ صَرْفَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا تَابَ إِلَيْهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ.
فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّ فَرَحِ اللَّهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ هَذَا الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهَا.
وَوَرَاءَ هَذَا مَا تَجْفُو عَنْهُ الْعِبَارَةُ، وَتَدِقُّ عَنْ إِدْرَاكِهِ الْأَذْهَانُ.
وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَةَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ عَلَى عِلَّاتِهِ وَخِيمٌ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هَذَا الْأَمْرِ وَنَفْسَهُ، لِأَنَّ زُكَامَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الشَّمِّ، كَمَا هُوَ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، فَلَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ، وَالْمَحْرُومُ كُلُّ الْمَحْرُومِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْغِنَى وَالْخَيْرُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
[فَصْلٌ مَرَاتِبُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ]
فَصْلٌ
هَذَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى تَعَلُّقِ الْفَرَحِ الْإِلَهِيِّ بِالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالْبِرِّ.
وَأَمَّا إِنْ لَاحَظْتَ تَعَلُّقَهُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَكَوْنِهِ مَعْبُودًا فَذَاكَ مَشْهَدٌ أَجَلُّ مِنْ هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُهُ خَوَاصُّ الْمُحِبِّينَ.
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ الْجَامِعَةِ لِمَحَبَّتِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَطَاعَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهُوَ غَايَةُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَنَفْيُهُ - كَمَا يَقُولُ أَعْدَاؤُهُ - هُوَ الْبَاطِلُ، وَالْعَبَثُ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَهُوَ السُّدَى الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَلَا يَعْبَأُ بِخَلْقِهِ شَيْئًا لَوْلَا مَحَبَّتُهُمْ لَهُ، وَطَاعَتُهُمْ لَهُ، وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ.
পৃষ্ঠা - ২০৪
وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ خُلِقُوا لِغَيْرِ عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ لَكَانَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَسُدًى، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى عَنْهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَالْإِلَهُ الْحَقُّ، فَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَعَنِ الْغَايَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْخَلِيقَةُ، وَصَارَ كَأَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، إِذْ لَمْ تُخْرِجْ أَرْضُهُ الْبَذْرَ الَّذِي وُضِعَ فِيهَا، بَلْ قَلَبَتْهُ شَوْكًا وَدَغَلًا، فَإِذَا رَاجَعَ مَا خُلِقَ لَهُ وَأُوجِدَ لِأَجْلِهِ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى خَالِقِهِ وَفَاطِرِهِ، وَرَجَعَ إِلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا، وَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْعَبَثِ وَالسُّدَى وَالْبَاطِلِ، فَاشْتَدَّتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، فَأَوْجَبَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ فَرَحًا كَأَعْظَمِ مَا يُقْدَرُ مِنَ الْفَرَحِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرَحِ الْمَشْهُودِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَوْعٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَذَكَرَهُ، وَلَكِنْ لَا فَرْحَةَ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَةِ هَذَا الْوَاجِدِ الْفَاقِدِ لِمَادَّةِ حَيَاتِهِ وَبَلَاغِهِ فِي سَفَرِهِ، بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِفَقْدِهِ، وَهَذَا كَشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِ الْمُحِبِّ إِذَا اشْتَدَّتْ مَحَبَّتُهُ لِلشَّيْءِ وَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ وَصَارَ طَوْعَ يَدِهِ، فَلَا فَرْحَةَ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَتِهِ بِهِ.
فَمَا الظَّنُّ بِمَحْبُوبٍ لَكَ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، أَسَرَهُ عَدُوُّكَ، وَحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَيَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَيُعَرِّضُهُ لِأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَهُوَ غَرْسُكَ وَتَرْبِيَتُكَ، ثُمَّ إِنَّهُ انْفَلَتَ مِنْ عَدُوِّهِ، وَوَافَاكَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَلَمْ يَفْجَأْكَ إِلَّا وَهُوَ عَلَى بَابِكَ، يَتَمَلَّقُكَ وَيَتَرَضَّاكَ وَيَسْتَعِينُكَ، وَيُمَرِّغُ خَدَّيْهِ عَلَى تُرَابِ أَعِتَابِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُكَ بِهِ، وَقَدِ اخْتَصَصْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَرَضِيتَهُ لِقُرْبِكَ، وَآثَرْتَهُ عَلَى سِوَاهُ؟
هَذَا، وَلَسْتَ الَّذِي أَوْجَدْتَهُ وَخَلَقْتَهُ، وَأَسْبَغْتَ عَلَيْهِ نِعَمَكَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ عَبْدَهُ، وَخَلَقَهُ وَكَوَّنَهُ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُتِمَّهَا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ مُظْهِرًا لِنِعَمِهِ، قَابِلًا لَهَا، شَاكِرًا لَهَا، مُحِبًّا لِوَلِيِّهَا، مُطِيعًا لَهُ عَابِدًا لَهُ، مُعَادِيًا لِعَدُوِّهِ، مُبْغِضًا لَهُ عَاصِيًا لَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ مُعَادَاةَ عَدُوِّهِ، وَمَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتَهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهَ مَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ وَيُطِيعَهُ وَيَعْبُدَهُ، فَتَنْضَافُ مَحَبَّتُهُ لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، إِلَى مَحَبَّتِهِ لِعَدَاوَةِ عَدُوِّهِ، وَمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَتَشْتَدُّ الْمَحَبَّةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، مَعَ حُصُولِ مَحْبُوبِهِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْفَرَحِ.
وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ " عَبْدِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي " وَهَذَا لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، جَعَلَهُ مِمَّا تُسَرُّ نَفْسُهُ بِهِ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ هَذَا ضَحِكُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عَبْدِهِ، حِينَ يَأْتِي مِنْ عُبُودِيَّتِهِ بِأَعْظَمِ مَا يُحِبُّهُ،
পৃষ্ঠা - ২০৫
فَيَضْحَكُ سُبْحَانَهُ فَرَحًا وَرِضًا، كَمَا يَضْحَكُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَفِرَاشِهِ وَمُضَاجَعَةِ حَبِيبِهِ إِلَى خِدْمَتِهِ، يَتْلُو آيَاتِهِ وَيَتَمَلَّقُهُ.
وَيَضْحَكُ مِنْ رَجُلٍ هَرَبَ أَصْحَابُهُ عَنِ الْعَدُوِّ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، وَبَاعَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَلَقَاهُمْ نَحْرَهُ، حَتَّى قُتِلَ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ.
وَيَضْحَكُ إِلَى مَنْ أَخْفَى الصَّدَقَةَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِسَائِلٍ اعْتَرَضَهُمْ فَلَمْ يُعْطُوهُ، فَتَخَلَّفَ بِأَعْقَابِهِمْ وَأَعْطَاهُ سِرًّا، حَيْثُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاهُ، فَهَذَا الضَّحِكُ مِنْهُ حُبًّا لَهُ، وَفَرَحًا بِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ حِينَ يَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضْحَكُ إِلَيْهِ فَرَحًا بِهِ وَبِقُدُومِهِ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ فَرَحٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَضَحِكٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، فَالْبَابُ بَابٌ وَاحِدٌ، لَا تَمْثِيلَ وَلَا تَعْطِيلَ.
وَلَيْسَ مَا يُلْزَمُ بِهِ الْمُعَطِّلُ الْمُثْبِتُ إِلَّا ظُلْمٌ مَحْضٌ، وَتَنَاقُضٌ وَتَلَاعُبٌ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ لَازِمًا لَلَزِمَ رَحْمَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَعِلْمَهُ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ، فَكَيْفَ جَاءَ هَذَا اللُّزُومُ لِهَذِهِ الصِّفَةِ دُونَ الْأُخْرَى؟ وَهَلْ يَجِدُ ذُو عَقْلٍ إِلَى الْفَرْقِ سَبِيلًا؟ فَمَا ثَمَّ إِلَّا التَّعْطِيلُ الْمَحْضُ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْإِثْبَاتُ الْمُطْلَقُ لِكُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَرْضَاهُ الْمُحَصِّلُونَ.
قَوْلُهُ الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبُهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ.
اعْتِرَافُ الْعَبْدِ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، أَطَاعَ أَمْ عَصَى، فَإِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ قَامَتْ عَلَى الْعَبْدِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَبُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، سَوَاءً عَلِمَ أَمْ جَهِلَ، فَكُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَصَّرَ عَنْهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَاقَبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ عَاقَبَهُ بِحُجَّتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَالَ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9]
পৃষ্ঠা - ২০৬
وَقَالَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .
وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لِيُهْلِكَهَا بِظُلْمٍ مِنْهُمْ، الثَّانِي: مَا كَانَ لِيُهْلِكَهَا بِظُلْمٍ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِيُهْلِكَهَا بِظُلْمِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ الْآنَ، أَيْ إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحُوا وَتَابُوا، لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الظُّلْمِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ فِي إِهْلَاكِهِمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ! وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ ظَالِمُونَ، فَهُمُ الظَّالِمُونَ لِمُخَالَفَتِهِمْ، وَهُوَ الْعَادِلُ فِي إِهْلَاكِهِمْ، وَالْقَوْلَانِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ أَيْضًا {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] .
قِيلَ: لَمْ يَكُنْ مُهْلِكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ، وَشِرْكِهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ، لَمْ يُنْذَرُوا وَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ.
وَقِيلَ: لَمْ يُهْلِكْهُمْ قَبْلَ التَّذْكِيرِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهُمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْخُذُ أَحَدًا وَلَا يُعَاقِبُهُ إِلَّا بِذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُذْنِبًا إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالرُّسُلِ.
فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ السَّابِقَ بِالذَّنْبِ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَهُ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِأَثَرِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، كَمَا قَدَّرَ الطَّاعَةَ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِلثَّوَابِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ سَائِرِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَجَعْلِ السُّمِّ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَالنَّارِ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَالْمَاءِ سَبَبًا لِلْإِغْرَاقِ.
فَإِذَا أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى سَبَبِ الْهَلَاكِ - وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ سَبَبُ الْهَلَاكِ - فَهَلَكَ فَالْحُجَّةُ مُرَكَّبَةٌ عَلَيْهِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ لَازِمَةٌ لَهُ، كَالْحَرِيقِ مَثَلًا، وَالذَّنْبُ كَالنَّارِ، وَإِتْيَانُهُ لَهُ كَتَقْدِيمِهِ نَفْسَهُ لِلنَّارِ، وَمُلَاحَظَةُ الْحُكْمِ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا الَّذِي يَشْهَدُهُ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ مُلَاحَظَةُ الْأَمْرِ، لَا مُلَاحَظَةُ الْقَدَرِ.
فَجَعْلُ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجِنَايَةِ وَالْقَضِيَّةِ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ، بَلْ هُوَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجِنَايَةِ وَالْأَمْرِ، لَكِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ سِرَّ التَّقْدِيرِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا
পৃষ্ঠা - ২০৭
يَصْلُحُ إِلَّا لِلْوَقُودِ، كَالشَّوْكِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلنَّارِ، وَالشَّجَرَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الثَّمَرِ وَالشَّوْكِ، فَاقْتَضَى عَدْلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَسُوقَ هَذَا الْعَبْدَ إِلَى مَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ، وَأَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَإِنْ قَدَّرَ عَلَيْهِ الذَّنْبَ فَوَاقَعَهُ، فَاسْتَحَقَّ مَا خُلِقَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ - لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: حَيٌّ قَابِلٌ لِلِانْتِفَاعِ، يَقْبَلُ الْإِنْذَارَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَمَيِّتٌ لَا يَقْبَلُ الْإِنْذَارَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، لِأَنَّ أَرْضَهُ غَيْرُ زَاكِيَةٍ وَلَا قَابِلَةٍ لِخَيْرٍ الْبَتَّةَ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْعَذَابِ، وَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْهُدَى وَالْإِيمَانِ، بَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ وَلَا فَاعِلٍ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ كَوْنُهُ غَيْرَ قَابِلٍ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرَّسُولِ، إِذْ لَوْ عَذَّبَهُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لَقَالَ: لَوْ جَاءَنِي رَسُولٌ مِنْكَ لَامْتَثَلْتُ أَمْرَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ، فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَعَصَى الرَّسُولَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْهُدَى، فَعُوقِبَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ فَاعِلٍ، فَحَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَوْ جَاءَهُ الرَّسُولُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] ، وَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6] .
فَالْكَلِمَةُ الَّتِي حَقَّتْ كَلِمَتَانِ: كَلِمَةُ الْإِضْلَالِ، وَكَلِمَةُ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وَكَلِمَتُهُ سُبْحَانَهُ، إِنَّمَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ حُجَّتِهِ، وَكَلِمَةُ عَدْلِهِ بِعُقُوبَتِهِ.
وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، أَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ مِنْهُمْ، لَا مَعَ مُرَادِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَهْلُ طَاعَتِهِ آثَرُوا اللَّهَ وَمُرَادَهُ عَلَى مُرَادِهِمْ، فَاسْتَحَقُّوا كَرَامَتَهُ، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِهِ آثَرُوا مُرَادَهُمْ عَلَى مُرَادِهِ، وَعَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْثِرُونَ مُرَادَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمُرَادَهُمْ، فَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، فَظَهَرَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِيثَارِهِمْ هَوَى أَنْفُسِهِمْ وَمُرَادِهِمْ عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ وَمُرَادِهِ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ حُجَّةُ عَدْلِهِ، فَعَاقَبَهُمْ بِظُلْمِهِمْ.