মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة التوبة

فصل من حقائق التوبة طلب أعذار الخليقة

পৃষ্ঠা - ১৮৬
مُوَالَاتُهُ لِعَبْدِهِ إِحْسَانًا إِلَيْهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ وَبِرًّا بِهِ، لَا يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَا يَتَعَزَّزُ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَا يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْ غَلَبَةٍ، وَلَا يَعُدُّهُ لِنَائِبَةٍ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَمْرٍ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ. فَهَذَا شَأْنُ الرَّبِّ وَشَأْنُ الْعَبْدِ، وَهُمْ يُقِيمُونَ أَعْذَارَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى أَقْدَارِهِ. اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْمَحَامِدِ وَالْمَجْ ... دِ وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: تَطْوِي الْمَرَاحِلَ عَنْ حَبِيبِكَ دَائِبًا ... وَتَظَلُّ تَبْكِيهِ بِدَمْعٍ سَاجِمِ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَسْتَ مِنْ أَحْبَابِهِ ... تَشْكُو الْبِعَادَ وَأَنْتَ عَيْنُ الظَّالِمِ [فَصْلٌ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ طَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ] فَصْلٌ فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ طَلَبَ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ بِهَذَا أَنَّ طَلَبَ أَعْذَارِهِمْ فِي الْجِنَايَةِ عَائِدٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إِقَامَةَ أَعْذَارِهِمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْكَ، وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَقْدَارِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي حَقِّكَ، لَا فِي حَقِّ رَبِّكَ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ، وَخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْكُمَّلِ، يَفْنَى أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، وَيَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، يَنْظُرُ فِي التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَرِ، وَيَنْظُرُ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْأَمْرِ، فَيَطْلُبُ لَهُمُ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِ، وَيَمْحُو عَنْهُمُ الْعُذْرَ وَيَطْلُبُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ» .
পৃষ্ঠা - ১৮৭
وَقَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا، وَلَا دَابَّةً، وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْهُ؟ وَكَانَ إِذَا عَاتَبَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ، فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» . فَانْظُرْ إِلَى نَظَرِهِ إِلَى الْقَدَرِ عِنْدَ حَقِّهِ، وَقِيَامِهِ بِالْأَمْرِ، وَقَطَعَ يَدَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ حَقِّ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَاكَ: الْقَدَرُ حَكَمَ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ عَزْمُهُ عَلَى تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَهُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ قُضِيَ لَهُمُ الصَّلَاةُ لَكَانَتْ. وَكَذَلِكَ رَجْمُهُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلَ لَمَّا زَنَيَا، وَلَمْ يَحْتَجَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا بِالْقَدَرِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا رَاعِيَهُ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: قُدِّرَ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ بَسْطُهُ.
পৃষ্ঠা - ১৮৮
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَبِحَقِّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ أَمْرِهِ، وَيَقْبَلَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَعَ هَذَا فَعَذَرَ أَنَسًا بِالْقَدَرِ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ «لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي - وَإِنْ كَانَ حَقًّا - لَكَانَ لَيْسَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَلَا مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ أَعْذَارَهُمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِ لَمَا نَقَصَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَوْبَتِهِ، فَمَا أَرَادَ إِلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْذُرَهُمْ بِالْقَدَرِ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْأَمْرِ، فَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْقَدَرِ وَيَعْذِرَهُمْ بِهَا، وَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْأَمْرِ وَيَحْمِلَهُمْ عَلَيْهَا بِمُوجَبِهَا، فَلَا يَحْجُبُهُ مُطَالَعَةُ الْأَمْرِ عَنِ الْقَدَرِ، وَلَا مُلَاحَظَةُ الْقَدَرِ عَنِ الْأَمْرِ. فَهَذَا - وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَا بُدَّ مِنْهُ - فَلَا وَجْهَ لِعُذْرِهِمْ، وَلَيْسَ عُذْرُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا - فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ بَاطِلًا - فَلَا هُمْ مَعْذُورُونَ، وَلَا طَلَبُ عُذْرِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَيْرَةَ لِلَّهِ، وَالْغَضَبَ لَهُ، مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ، فَتَعْطِيلُ عُذْرِ الْخَلِيقَةِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَشِدَّةِ الْغَضَبِ: هُوَ مِنْ عَلَامَاتِ تَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ أَوْلَى مِنْ عُذْرِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا عُذْرُ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَقَتَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَنَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ، وَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَكُلِّ كَافِرٍ وَظَالِمٍ، وَمُتَعَدٍّ حُدُودَ اللَّهِ، وَمُنْتَهِكٍ مَحَارِمَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْقَدَرِ، وَهُمْ مِنَ الْخَلِيقَةِ، أَفَيَكُونُ عُذْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ؟ فَهَذَا مِمَّا أَوْجَبَهُ السَّيْرُ فِي طَرِيقِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْغَايَةَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ. ثُمَّ أَيُّ مُوَافَقَةٍ لِلْمَحْبُوبِ فِي عُذْرِ مَنْ لَا يَعْذِرُهُ هُوَ؟ بَلْ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ قُرْبِهِ، وَطَرَدَهُ عَنْ بَابِهِ، وَمَقَتَهُ أَشَدَّ الْمَقْتِ؟ فَإِذَا عَذَرْتَهُ، فَهَلْ يَكُونُ عُذْرُهُ إِلَّا تَعَرُّضًا لِسُخْطِ الْمَحْبُوبِ، وَسُقُوطًا مِنْ عَيْنِهِ؟ .
পৃষ্ঠা - ১৮৯
وَلَا تُوجِبُ هَذِهِ الزِّلَّةُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ إِهْدَارَ مَحَاسِنِهِ، وَإِسَاءَةَ الظَّنِّ بِهِ، فَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِمَامَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِي طَرِيقِ السُّلُوكِ الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ إِلَّا الْمَعْصُومَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْكَامِلُ مَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجَالِ الضَّنْكِ، وَالْمُعْتَرَكِ الصَّعْبِ، الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَافْتَرَقَتْ بِالسَّالِكِينَ فِيهِ الطُّرُقَاتُ، وَأَشْرَفُوا - إِلَّا أَقَلَّهُمْ - عَلَى أَوْدِيَةِ الْهَلَكَاتِ. وَكَيْفَ لَا؟ وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي تَجْرِي سَفِينَةُ رَاكِبِهِ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وَالْمُعْتَرَكُ الَّذِي تَضَاءَلَتْ لِشُهُودِهِ شَجَاعَةُ الْأَبْطَالِ، وَتَحَيَّرَتْ فِيهِ عُقُولُ أَلِبَّاءِ الرِّجَالِ، وَوَصَلَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى سَاحِلِهِ يَبْغُونَ رُكُوبَهُ. فَمِنْهُمْ: مَنْ وَقَفَ مُطْرِقًا دَهِشًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلَأَ مِنْهُ عَيْنَهُ، وَلَا يَنْقُلَ عَنْ مَوْقِفِهِ قَدَمَهُ، قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ مَا شَاهَدَ مِنْهُ، فَقَالَ: الْوُقُوفُ عَلَى السَّاحِلِ أَسْلَمُ، وَلَيْسَ بِلَبِيبٍ مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ لَمَّا سَمِعَ هَدِيرَهُ، وَصَوْتَ أَمْوَاجِهِ، وَلَمْ يُطِقْ نَظَرًا إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي لُجَجِهِ، تَخْفِضُهُ مَوْجَةٌ، وَتَرْفَعُهُ أُخْرَى. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَلَى خَطَرٍ، إِذِ الْوَاقِفُ عَلَى السَّاحِلِ عُرْضَةٌ لِوُصُولِ الْمَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَالْهَارِبُ - وَلَوْ جَدَّ فِي الْهَرَبِ - فَمَا لَهُ مَصِيرٌ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالْمُخَاطِرُ نَاظِرٌ إِلَى الْغَرْقَى كُلَّ سَاعَةٍ بِعَيْنَيْهِ، وَمَا نَجَا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ، وَهُمُ الَّذِينَ انْتَظَرُوا مُوَافَاةَ سَفِينَةِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا قَرُبَتْ مِنْهُمْ نَادَاهُمُ الرُّبَّانُ {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فَهِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ حَقًّا، وَسَفِينَةُ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ، فَرَكِبُوا سَفِينَةَ الْأَمْرِ بِالْقَدَرِ، تَجْرِي بِهِمْ فِي تَصَارِيفِ أَمْوَاجِهِ عَلَى حُكْمِ التَّسْلِيمِ لِمَنْ بِيَدِهِ التَّصَرُّفُ فِي الْبِحَارِ، فَلَمْ يَكُ إِلَّا غَفْوَةً، حَتَّى قِيلَ لِأَرْضِ الدُّنْيَا وَسَمَائِهَا: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى جُودِيِّ دَارِ الْقَرَارِ. وَالْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ السَّفِينَةِ - كَقَوْمِ نُوحٍ - أُغْرِقُوا، ثُمَّ أُحْرِقُوا، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ عَلَى
পৃষ্ঠা - ১৯০
رُءُوسِ الْعَالَمِينَ {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] ثُمَّ نُودِيَ بِلِسَانِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، تَحْقِيقًا لِتَوْحِيدِهِ، وَإِثْبَاتًا لِحُجَّتِهِ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] . فَصْلٌ وَرَاكِبُ هَذَا الْبَحْرِ فِي سَفِينَةِ الْأَمْرِ، وَظِيفَتُهُ مُصَادَمَةُ أَمْوَاجِ الْقَدَرِ، وَمُعَارَضَتُهَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِلَّا هَلَكَ، فَيَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، وَهَذَا سَيْرُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ مِنَ الْعَارِفِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ: النَّاسُ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا، إِلَّا أَنَا، فَانْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ، وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ، لَا مَنْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا مَعَ الْقَدَرِ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ إِلَّا بِدَفْعِ الْأَقْدَارِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَكَيْفَ فِي مَعَادِهِمْ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ تُدْفَعَ السَّيِّئَةُ - وَهِيَ مِنْ قَدَرِهِ - بِالْحَسَنَةِ - وَهِيَ مِنْ قَدَرِهِ - وَكَذَلِكَ الْجُوعُ مِنْ قَدَرِهِ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهِ بِالْأَكْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَدَرِهِ، وَلَوِ اسْتَسْلَمَ الْعَبْدُ لِقَدَرِ الْجُوعِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهِ بِقَدَرِ الْأَكْلِ، حَتَّى مَاتَ: مَاتَ عَاصِيًا، وَكَذَلِكَ الْبَرْدُ وَالْحَرُّ وَالْعَطَشُ، كُلُّهَا مِنْ أَقْدَارِهِ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهَا بِأَقْدَارٍ تُضَادُّهَا، وَالدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ وَالدَّفْعُ مِنْ قَدَرِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كُلَّ الْإِفْصَاحِ، إِذْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقًى نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟