فصل في منازل إياك نعبد
فصل البقاء
فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১৩৩১
[فَصْلٌ الْبَقَاءُ]
[حَدُّ الْبَقَاءِ]
قَالَ الشَّيْخُ: (بَابُ الْبَقَاءِ) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] .
الْبَقَاءُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَمَقَامُهُ، وَالْبَقَاءُ فِي الْآيَةِ: هُوَ بَقَاءُ الرَّبِّ، وَدَوَامُ وَجُودِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُؤْمِنُو السَّحَرَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِتْلَافِ حَيَاتِهِمْ، وَإِفْنَاءِ ذَوَاتِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَالَّذِي آمَنَّا بِهِ وَانْتَقَلْنَا مِنْ عُبُودِيَّتِكَ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَمِنْ طَلَبِ رِضَاكَ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَكَ إِلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ - خَيْرٌ مِنْكَ وَأَدْوَمُ، وَعَذَابُكَ وَنَعِيمُكَ يَنْقَطِعُ وَيَفْرَغُ، وَعَذَابُهُ هُوَ وَنَعِيمُهُ وَكَرَامَتُهُ لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تَبِيدُ، فَكَيْفَ نُؤْثِرُ الْمُنْقَطِعَ الْفَانِيَ الْأَدْنَى، عَلَى الْبَاقِي الْمُسْتَمِرِّ الْأَعْلَى؟
وَلَكِنْ وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ أَنَّ الْوَسَائِلَ وَالتَّعَلُّقَاتِ وَالْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ تَابِعَةٌ لِغَايَاتِهَا وَمَحْبُوبِهَا وَمُرَادِهَا، فَمَنْ كَانَتْ غَايَةُ مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ مُنْقَطِعَةً انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ عِنْدَ انْقِطَاعِهَا، وَذَهَبَ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ وَاضْمَحَلَّ، وَمَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ وَغَايَتُهُ بَاقِيًا دَائِمًا لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا فَنَاءَ، وَلَا يَضْمَحِلُّ وَلَا يَتَلَاشَى دَامَ تَعَلُّقُهُ وَنَعِيمُهُ بِهِ بِدَوَامِهِ، فَالْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْغَايَاتِ، وَالتَّعَلُّقَاتُ تَابِعَةٌ لِمُتَعَلِّقَاتِهَا، وَالْمَحَبَّةُ تَابِعَةٌ لِلْمَحْبُوبِ، فَلَيْسَ الْمَحْبُوبُ الَّذِي يَتَلَاشَى وَيَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى كَالْمَحْبُوبِ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فَالْمُحِبُّ بَاقٍ بِبَقَاءِ مَحْبُوبِهِ، يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيَعْظُمُ خَطَرُهُ بِحَسَبِ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْنِي بِغِنَاهُ، وَيَقْوَى بِقُوَّتِهِ، وَيَعِزُّ بِعِزِّهِ، وَيَعْظُمُ شَأْنُهُ فِي النُّفُوسِ بِخِدْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، تَاللَّهِ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ وَالْعَوَائِدُ وَالْهَوَى وَالْمُخَالَفَاتُ لَذَاقَ الْقَلْبُ أَعْظَمَ الْأَلَمِ بِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ، وَلَذَاقَ أَعْظَمَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَصْلٌ
قَالَ الشَّيْخُ: " الْبَقَاءُ: اسْمٌ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ فَنَاءِ الشَّوَاهِدِ وَسُقُوطِهَا ".
لَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ، وَأَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ هَمُّهُمُ الْمَعَانِي، فَهُمْ يُسَامِحُونَ
পৃষ্ঠা - ১৩৩২
فِي الْعِبَارَاتِ مَا لَا يُسَامَحُ فِيهِ غَيْرُهُمْ.
فَالْبَقَاءُ: هُوَ الدَّوَامُ وَاسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مُقَيَّدٌ وَمُطْلَقٌ، فَالْمُقَيَّدُ: الْبَقَاءُ إِلَى مُدَّةٍ، وَالْمُطْلَقُ: الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا إِلَى غَايَةٍ.
وَ " الْبَقَاءُ " أَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ " الْبَقَاءَ " الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَمَقَامُهُ، قَالَ: " هُوَ اسْمٌ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ فَنَاءِ الشَّوَاهِدِ "، وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ مَا بَقِيَ الْعَبْدُ مُتَّصِفًا بِهِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَدِلَّةِ وَالْآثَارِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَ " الشَّوَاهِدُ " عِنْدَهُ هِيَ الرُّسُومُ كُلُّهَا، وَرُبَّمَا يُرَادُ بِهَا مَعَالِمُ الشُّهُودِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا جُعِلَتِ الشَّوَاهِدُ هَاهُنَا مَعَالِمَ الشُّهُودِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَعَالِمَ تُوصِلُ إِلَى الشُّهُودِ، وَيَبْقَى الشُّهُودُ قَائِمًا بَعْدَ فَنَاءِ مَعَالِمِهِ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يُفْنِيهِمْ عَمَّا سِوَاهُ وَيُبْقِيهِمْ بِهِ، وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْمَعَالِمُ وَالرُّسُومُ.
[دَرَجَاتُ الْبَقَاءِ]
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ عَيْنًا لَا عِلْمًا، وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا لَا نَعْتًا، وَبَقَاءُ مَا لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا.
قُلْتُ: أَمَّا بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ، فَقَدْ يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ امْتِنَاعُهُ، إِذْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا - مَعَ سُقُوطِ الْعِلْمِ بِهِ - جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَكَأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْلُومًا مَعَ سُقُوطِهِ؟
وَجَوَابُ هَذَا، أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُودُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ فِي قَلْبِ الْعَالِمِ، وَإِدْرَاكُهُ لَهَا وَشُعُورُهُ بِهَا.
وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِعِلْمِهِ وَشُعُورِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَرَاءَ حُضُورِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَهَذَا فِي سَائِرِ الْمَدَارِكِ، فَقَدْ يَرَى الرَّائِي الشَّيْءَ وَيَسْمَعُهُ وَيَشَمُّهُ، وَيَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ بِصِفَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ إِدْرَاكُهُ، فَيَغِيبُ بِمُدْرَكِهِ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَبِمَعْلُومِهِ عَنْ عِلْمِهِ وَبِمَرْئِيهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: أَوْضِحْ لِي هَذَا لِيَنْجَلِيَ فَهْمُهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا قُوَّةً مُدْرِكَةً لَهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ صَارَ مَعْلُومًا مُدْرَكًا، فَتَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ
পৃষ্ঠা - ১৩৩৩
هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ، تُسَمَّى " الشُّعُورَ " وَ " الْعِلْمَ " وَ " الْإِدْرَاكَ ".
مِثَالُ ذَلِكَ: مَا يُدْرِكُهُ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ وَالشَّمِّ، فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُدْرَكِ الْمَذُوقِ الْمَشْمُومِ، وَلَابُدَّ مِنْ قُوَّةٍ فِي الْآلَةِ وَالْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ، تُقَابِلُ الْمُدْرَكَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَيْفِيَّةُ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَلْمُوسِ وَالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ، فَتَمَامُ الْإِدْرَاكِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَيَشْعُرُ بِالْمُدْرَكِ، وَبِالْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ، وَبِحَالَةِ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْقَلْبُ فِي شُهُودِهِ الْمَعْلُومَ غَابَ بِهِ عَنْ شُهُودِ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ، وَعَنْ حَالَةِ الْعِلْمِ، وَمَثَّلَ هَذَا بِرَجُلٍ أَدْرَكَ بِلَمْسِهِ مَا الْتَذَّ بِهِ أَعْظَمَ لَذَّةٍ حَصُلَتْ لَهُ، فَاسْتَغْرَقَتْهُ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَمَّا سِوَاهَا، فَأَسْقَطَتْ شُعُورَهُ بِهَا دُونَ وُجُودِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ " بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ عَيَانًا لَا عِلْمًا " فَعَيَانًا حَالٌ مِنَ الْبَقَاءِ لَا مِنَ السُّقُوطِ أَيْ بَقَاؤُهُ وُجُودًا لَا نَعْتًا، فَإِنَّهُ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ بَاقٍ نَعْتًا وَوَصْفًا، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بَاقٍ وُجُودًا وَعَيَانًا لَا عِلْمًا مُجَرَّدًا.
وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَبْقَى وُجُودُهُ وَعَيْنُهُ لَا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْعِلْمُ بِهِ لَمْ يُعْدَمْ، وَلَكِنِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ مِنْ وُجُودِ الْعِلْمِ إِلَى وُجُودِ الْمَعْلُومِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ - " وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا لَا نَعْتًا " الشُّهُودُ فَوْقَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ عِلْمُ عِيَانٍ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ مُجَرَّدِ الشُّهُودِ إِلَى الْوُجُودِ، فَيَبْقَى الْمَشْهُودُ مَوْجُودًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَشْهُودًا، وَمَرْتَبَةُ الْوُجُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ حُصُولٌ ذَاتِيٌّ، وَالشُّهُودُ حُصُولٌ عِلْمِيٌّ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: " وَبَقَاءُ مَنْ لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا "، أَيْ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ سُلْطَانُ الْحَقِيقَةِ، وَنُورُ الْجَمْعِ، حَتَّى يَنْطَمِسَ مِنْ قَلْبِهِ أَثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَنْطَمِسُ نُورُ الْكَوَاكِبِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَبْقَى فِيهِ تَعْظِيمُ مَنْ لَمْ يَزَلْ وَذِكْرُهُ وَحُبُّهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ.
فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، وَالثَّانِيَةُ: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، وَالثَّالِثَةُ: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ، فَهَذَا وَجْهٌ.
وَيُمْكِنُ شَرْحُ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْلُومَ يُسْقِطُ شُهُودَ الْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ يَسْقُطُ وَالْمَعْلُومُ يَثْبُتُ، فَالْعَبْدُ إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَنَاءِ سَقَطَ عِلْمُهُ فِي مَشْهَدِ عِيَانِهِ بِحَيْثُ تَبْقَى مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ عِيَانًا، فَيَسْقُطُ الْعِلْمُ بِالْعِيَانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ عَيْنًا لَا عِلْمًا، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْعِلْمِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ - وَهِيَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ - سَقَطَ الْعِلْمُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ لَمْ يَسْقُطْ، فَسُقُوطُهُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَثُبُوتُهُ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ.