মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل الفناء

فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১৩১৭
قَوْلُهُ: " وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: مُشَاهَدَةِ الْقُرْبِ، وَالصُّعُودِ عَنِ الْعِلْمِ، وَمُطَالَعَةِ الْجَمْعِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَرْكَانًا لَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدْ وَصَلَ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى مَقَامٍ يَلِيقُ بِهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ أَتَمَّ؛ كَانَ قُرْبُهُ أَتَمَّ، فَإِنَّ شُهُودَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ حِجَابٌ عَنْ عَيْنِ الْقُرْبِ، وَإِلْغَاؤُهَا وَجُحُودُهَا حِجَابٌ عَنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا صُعُودُهُ عَنِ الْعِلْمِ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ صُعُودَهُ عَنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُقُوطٌ وَنُزُولٌ إِلَى الْحَضِيضِ الْأَدْنَى، لَا صُعُودٌ إِلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: أَنَّهُ يَصْعَدُ بِأَحْكَامِ الْعِلْمِ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَهُ، وَتَوْسِيطِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْوَسَائِطَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهَا فِي هَذَا الشُّهُودِ وَالْعِرْفَانِ، أَعْنِي: بِسَاطَ الْوُقُوفِ مَعَهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَيُدْرِكُ مَشْهُودَهُ وَمَعْرُوفَهُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا بِالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، بَلْ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، لَكِنَّهُ قَدْ صَعِدَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ إِلَى الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْجَمْعِ فَهِيَ الْغَايَةُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، لَكِنْ أَيُّ جَمْعٍ هُوَ؟ هَلْ هُوَ جَمْعُ الْوُجُودِ، كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيُّ؟ أَمْ جَمْعُ الشُّهُودِ، كَمَا يَقُولُهُ صَاحِبُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ أَمْ هُوَ جَمْعُ الْإِرَادَةِ كُلِّهَا فِي مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ؟ فَالشَّأْنُ فِي هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي مُطَالَعَتُهُ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ. نَعَمْ هَاهُنَا جَمْعٌ آخَرُ، مُطَالَعَتُهُ هِيَ كُلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ: جَمْعُ الْأَفْعَالِ فِي الصِّفَاتِ، وَجَمْعُ الصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ، وَجَمْعُ الْأَسْمَاءِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمُطَالَعَةُ هَذَا الْجَمْعِ: هِيَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِهَا، وَهِيَ - لَعَمْرُ اللَّهِ - مَعْرِفَةٌ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. [فَصْلٌ الْفَنَاءُ] [حَقِيقَةُ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ الْفَنَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْفَنَاءِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] . {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] .
পৃষ্ঠা - ১৩১৮
الْفَنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ: لَيْسَ هُوَ الْفَنَاءَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ، فَإِنَّ الْفَنَاءَ فِي الْآيَةِ الْهَلَاكُ وَالْعَدَمُ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ يُعْدَمُ وَيَمُوتُ، وَيَبْقَى وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَمِثْلُ قَوْلِهِ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْهَلَاكِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَرَأْتَ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} [الرحمن: 27] وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ: الْإِخْبَارُ بِفَنَاءِ مَنْ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِتَمْدَحَهُ بِالْبَقَاءِ وَحْدَهُ، وَمُجَرَّدُ فَنَاءِ الْخَلِيقَةِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحُهُ، إِنَّمَا الْمَدْحُ فِي بَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، فَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .
পৃষ্ঠা - ১৩১৯
وَأَمَّا الْفَنَاءُ الَّذِي تُتَرْجِمُ عَنْهُ الطَّائِفَةُ: فَأَمْرٌ غَيْرُ هَذَا، وَلَكِنْ وُجِدَ الْإِشَارَةُ بِالْآيَةِ: أَنَّ الْفَنَاءَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي لَهُ الْبَقَاءُ فَلَا يُدْرِكُهُ الْفَنَاءُ، وَمَنْ فَنِيَ فِي مَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ أَوْصَلَهُ هَذَا الْفَنَاءُ إِلَى مَنْزِلِ الْبَقَاءِ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِمَنْ هُوَ فَانٍ، وَيَذَرَ مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ، وَهُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَكَأَنَّهَا تَقُولُ: إِذَا تَعَلَّقْتَ بِمَنْ هُوَ فَانٍ انْقَطَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عِنْدَ فَنَائِهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَعَلَّقْتَ بِمَنْ هُوَ بَاقٍ لَا يَفْنَى لَمْ يَنْقَطِعْ تَعَلُّقُكَ وَدَامَ بِدَوَامِهِ. وَالْفَنَاءُ الَّذِي يُتَرْجَمُ عَلَيْهِ هُوَ غَايَةُ التَّعَلُّقِ وَنِهَايَتُهُ، فَإِنَّهُ انْقِطَاعٌ عَمَّا سِوَى الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: " الْفَنَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ: اضْمِحْلَالُ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا ". قُلْتُ: " الْفَنَاءُ " ضِدُّ " الْبَقَاءِ "، وَالْبَاقِي: إِمَّا بَاقٍ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُبْقِيهِ، بَلْ بَقَاؤُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَمَا سِوَاهُ فَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الرَّبِّ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ بَقَاءٌ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ، فَإِيجَادُهُ وَإِبْقَاؤُهُ مِنْ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْعَدَمُ قَبْلَ إِيجَادِهِ، وَالْفَنَاءُ بَعْدَ إِيجَادِهِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَهُ وَفَنَاءَهُ، وَإِنَّمَا الْفَنَاءُ أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى ذَاتِهِ - بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِيجَادِ مُوجِدِهِ لَهُ - كَانَ مَعْدُومًا، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِبْقَاءِ مُوجِدِهِ لَهُ - اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَبْقَى بِإِبْقَائِهِ، كَمَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّهُ نَفْسَهُ مَعْدُومٌ وَفَانٍ، فَافْهَمْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ إِفْنَاءُ الْمَوْجُودِ وَإِعْدَامُهُ بِخَلْقِ عَرَضٍ فِيهِ يُسَمَّى الْفَنَاءُ وَالْإِعْدَامُ؟ أَمْ بِإِمْسَاكِ خَلْقِ الْبَقَاءِ لَهُ، إِذْ هُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ بَقَاءً يُبْقِيهِ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِعْدَامِ الْمَشْهُورَةُ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا: أَنَّ ذَاتَهُ لَا تَقْتَضِي الْوُجُودَ، وَهُوَ مَعْدُومٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا قَدَّرَ الرَّبُّ تَعَالَى لِوُجُودِهِ أَجَلًا وَوَقْتًا انْتَهَى وُجُودُهُ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ وَهُوَ الْعَدَمُ، نَعَمْ قَدْ يُقَدِّرُ لَهُ وَقْتًا ثُمَّ يَمْحُو سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَيُرِيدُ إِعْدَامَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ، وَيُرِيدُ اسْتِمْرَارَ وَجُودِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ إِلَى أَمَدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ
পৃষ্ঠা - ১৩২০
يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 - 4] فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِبْقَاءَ الشَّيْءِ أَبْقَاهُ إِلَى حِينِ يَشَاءُ، وَإِذَا أَرَادَ إِفْنَاءَهُ أَعْدَمَهُ بِمَشِيئَتِهِ، كَمَا يُوجِدُهُ بِمَشِيئَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَدَمُ مُتَعَلِّقَ الْمَشِيئَةِ؟ قِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ أَمْرَانِ: إِيجَادٌ، وَإِعْدَامٌ، وَكِلَاهُمَا مُمْكِنٌ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ أَمْرًا وُجُودِيًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، نَعَمُ، الْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ، وَأَمَّا الْإِعْدَامُ: فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعَدَمِ. وَلَوْلَا أَنَّا فِي أَمْرٍ أَخَصَّ مِنْ هَذَا لَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا أَوْهَامَ النَّاسِ وَأَغْلَاطَهُمْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ " الْفَنَاءُ اسْمٌ لِاضْمِحْلَالِ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا " يَعْنِي: يَضْمَحِلُّ عَنِ الْقَلْبِ وَالشُّهُودِ عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ فَانِيَةً فِي الْحَالِ مُضْمَحِلَّةً، فَتَغِيبُ صُوَرُ الْمَوْجُودَاتِ فِي شُهُودِ الْعَبْدِ، بِحَيْثُ تَكُونُ كَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَدَمِ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ، وَيَبْقَى الْحَقُّ تَعَالَى ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَحْدَهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، كَمَا كَانَ وَحْدَهُ قَبْلَ إِيجَادِ الْعَوَالِمِ. قَوْلُهُ " عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا " هَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَرَاتِبُ الِاضْمِحْلَالِ إِذَا وَرَدَ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا جَاءَ وَهْلَةً وَاحِدَةً لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْرِفُ ذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى عِلْمِهِ وَشُهُودِهِ، فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إِذَا رَقَّى عَبْدَهُ بِالتَّدْرِيجِ نَوَّرَ بَاطِنَهُ وَعَقْلَهُ بِالْعِلْمِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَالْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ - بِنِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَالْحُبِّ - سِوَاهُ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَبَاطِلٌ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ.
পৃষ্ঠা - ১৩২১
ثُمَّ إِذَا رَقَّاهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ دَرَجَةً أُخْرَى فَوْقَ هَذِهِ أَشْهَدَهُ عَوْدَ الْمَفْعُولَاتِ إِلَى أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَوْدَ أَفْعَالِهِ إِلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِيَامَ صِفَاتِهِ بِذَاتِهِ، فَيَضْمَحِلُّ شُهُودُ غَيْرِهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ لِسِوَاهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَجْحَدِ السَّوِيُّ كَمَا يَجْحَدُهُ الْمَلَاحِدَةُ، فَإِنَّ هَذَا الْجُحُودَ عَيْنُ الْإِلْحَادِ. ثُمَّ إِذَا رَقَّاهُ دَرَجَةً أُخْرَى؛ أَشْهَدَهُ قِيَامَ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا - جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا - بِهِ وَحْدَهُ، أَيْ بِإِقَامَتِهِ لَهَا وَإِمْسَاكِهِ لَهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَيُمْسِكُ الْبِحَارَ أَنْ تَغِيضَ أَوْ تَفِيضَ عَلَى الْعَالَمِ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُمْسِكُ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ، وَيُمْسِكُ الْقُلُوبَ الْمُوقِنَةَ أَنْ تَزِيغَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيُمْسِكُ حَيَاةَ الْحَيَوَانِ أَنْ تُفَارِقَهُ إِلَى الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ، وَيُمْسِكُ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ وُجُودَهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ، وَالْكُلُّ قَائِمٌ بِأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَلَيْسَ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ إِلَّا لَهُ، أَعْنِي الْوُجُودَ الَّذِي هُوَ مُسْتَغْنٍ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ، لَا قِيَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَلَمَّا كَانَ لِلْفَنَاءِ مَبْدَأٌ وَتَوَسُّطٌ وَغَايَةٌ؛ أَشَارَ إِلَى مَرَاتِبِهِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَحَقِّقِينَ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ: فَنَاءُ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ، وَالثَّالِثَةُ: فَنَاءُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. فَأَوَّلُ الْأَمْرِ، أَنْ تَفْنَى قُوَّةُ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ بِالْمَخْلُوقِينَ فِي جَنْبِ عَلَمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ، ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ حَتَّى يَعُدَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ وَكَالْعَدَمِ، ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ يُكَلَّمُ وَلَا يَسْمَعُ، وَيُمَرُّ بِهِ وَلَا يَرَى، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ حَالِ السُّكْرِ، وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ عَلَيْهَا. [دَرَجَاتُ الْفَنَاءِ] [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عِلْمًا، وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا، وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا. هَذَا تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا، وَنُبَيِّنُ مَا أَرَادُوا بِالْعِلْمِ، وَالْجَحْدِ، وَالْحَقِّ.
পৃষ্ঠা - ১৩২২
فَفَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ: هُوَ غَيْبَةُ الْعَارِفِ بِمَعْرُوفِهِ عَنْ شُعُورِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعَانِيهَا فَيَفْنَى بِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ وَصْفِهِ هُنَا وَمَا قَامَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُهُ وَوَصْفُهُ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ الْمَعْرُوفِ فَنِيَ عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ وَفِعْلِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقَ الْعِلْمِ وَأَخَصَّ مِنْهُ كَانَ فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ مُسْتَلْزِمًا لِفَنَاءِ الْعِلْمِ فِي الْمَعْرِفَةِ، فَيَفْنَى أَوَّلًا فِي الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ تَفْنَى الْمَعْرِفَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَأَمَّا فَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ: فَالْعِيَانُ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْعِلْمِ وَدُونَ الْعِيَانِ، فَإِذَا انْتَقَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَى الْعِيَانِ فَنِيَ عِيَانُهُ فِي مُعَايَنِهِ، كَمَا فَنِيَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي مَعْرُوفِهِ. وَأَمَّا فَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِ هَذَا الْفَنَاءِ طَلَبٌ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِالْمَطْلُوبِ الْمُشَاهَدِ، وَصَارَ وَاجِدًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَالِبًا، فَكَانَ إِدْرَاكُهُ أَوَّلًا عِلْمًا، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ عِيَانًا، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ وُجُودًا. وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَسْتَنْكِرَ - أَوْ تَسْتَبْعِدَ - هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيهَا، فَاسْمَعْ ضَرْبَ مَثَلٍ يُهَوِّنُ عَلَيْكَ ذَلِكَ، وَيُقَرِّبُهُ مِنْكَ: مِثْلَ مَلِكٍ - عَظِيمِ السُّلْطَانِ، شَدِيدِ السَّطْوَةِ، تَامِّ الْهَيْبَةِ، قَوِيِّ الْبَأْسِ - اسْتَدْعَى رَجُلًا مِنْ رَعِيَّتِهِ قَدِ اشْتَدَّ جُرْمُهُ وَعِصْيَانُهُ لَهُ، فَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِتْلَافُهُ، فَأَحْوَالُهُ فِي حَالِ حُضُورِهِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُشَاهِدُهُ، فَتَارَةً يَتَذَكَّرُ جُرْمَهُ وَسَطْوَةَ السُّلْطَانِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، فَيُفَكِّرُ فِيمَا سَيَلْقَاهُ، وَتَارَةً تَقْهَرُهُ الْحَالُ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَلَا يَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ وَلَا مَا أُحْضِرَ مِنْ أَجْلِهِ، لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى قَلْبِهِ وَيَأْسِهِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَلَكِنَّ عَقْلَهُ وَذِهْنَهُ مَعَهُ، وَتَارَةً يَغِيبُ قَلْبُهُ وَذِهْنُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَشْعُرُ أَيْنَ هُوَ؟ وَلَا مَنْ إِلَى جَانِبِهِ، وَلَا بِمَا يُرَادُ بِهِ، وَرُبَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا فَنَاءُ الْخَوْفِ. وَمِثَالٌ ثَانٍ فِي فَنَاءِ الْحُبِّ: مُحِبٌّ اسْتَغْرَقَتْ مَحَبَّتُهُ شَخْصًا فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، وَأَكْبَرُ أُمْنِيَّتِهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَمُحَادَثَتُهُ وَرُؤْيَتُهُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى حَالِهِ قَدْ مَلَأَ الْحُبُّ قَلْبَهُ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَ فِكْرُهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَحْبُوبُهُ بَغْتَةً عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، فَقَابَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَيْسَ دُونَهُ سِوَاهُ، أَفَلَيْسَ هَذَا حَقِيقًا أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِهِ بَمَشْهُودِهِ، بَلْ وَعَنْ حُبِّهِ بِمَحْبُوبِهِ؟ فَيَمْلِكُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوبُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَإِحْسَاسَهُ، وَيَغِيبُ بِهِ عَنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ؟ وَانْظُرْ إِلَى النِّسْوَةِ كَيْفَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفُ، وَشَاهَدْنَ ذَلِكَ الْجَمَالَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ مِنْ عِشْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَا تَقَدَّمَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَأَفْنَاهُنَّ شُهُودُ جَمَالِهِ عَنْ حَالِهِنَّ حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.
পৃষ্ঠা - ১৩২৩
وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: فَإِنَّهَا - وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ الْمَحَبَّةِ - فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَلِفَتْ رُؤْيَتَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهَا حَالُهَا كَمَا تَغَيَّرَ عَلَى الْعَوَاذِلِ، فَكَانَ مَقَامَهَا الْبَقَاءُ وَمَقَامَهُنَّ الْفَنَاءُ، وَحَصَلَ لَهُنَّ الْفَنَاءُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ذُهُولُهُنَّ عَنِ الشُّعُورِ بِقَطْعِ مَا فِي أَيْدِيهِنَّ حَتَّى تَخَطَّاهُ الْقَطْعُ إِلَى الْأَيْدِي. الثَّانِي: فَنَاؤُهُنَّ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْقَطْعِ، وَهَكَذَا الْفَنَاءُ بِالْمَخُوفِ، وَالْفَرَحُ بِالْمَحْبُوبِ يُفْنِي صَاحِبَهُ عَنْ شُعُورِهِ وَعَنْ إِحْسَاسِهِ بِالْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. هَذَا فِي مُشَاهَدَةِ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٍ لَهُ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ، وَلَهُ مَنْ يُقَارِبُهُ وَيُدَانِيهِ فِي الْجَمَالِ، وَإِنَّمَا فَاقَ بَنِي جِنْسِهِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ، وَامْتَازَ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمَخْلُوقَةِ الْمَصْنُوعَةِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَهُ الْجَمَالُ كُلُّهُ، وَالْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْإِحْسَانُ وَالْإِجْمَالُ، وَنِسْبَةُ كُلِّ جَمَالٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ قُوَى الْبَشَرِ لَا تَحْتَمِلُ - فِي هَذِهِ الدَّارِ - رُؤْيَتَهُ؛ احْتَجَبَ عَنْ عِبَادِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُنْشِئُهُمْ نَشْأَةً يَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنْ مُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ وَرُؤْيَةِ وَجْهِهِ، وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَ آيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَمُبْدَعَاتِهِ كَيْفَ يَفْنَى فِيهَا مُشَاهِدُهَا عَنْ غَيْرِهَا؟ وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي الْمُشَاهَدَاتِ العِيَانِيَّةِ، وَالْوَارِدَاتِ الْوِجْدَانِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ: فَإِنَّ حَالَةَ " الْبَقَاءِ " فِيهَا أَكْمَلُ مِنْ حَالَةِ " الْفَنَاءِ " وَهِيَ حَالَةُ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَحَالُ الْكُمَّلِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَلِهَذَا رَأَى مَا رَأَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَهُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ، رَابِطُ الْجَأْشِ، حَاضِرُ الْإِدْرَاكِ، تَامُّ التَّمْيِيزِ، وَلَوْ رَأَى غَيْرُهُ بَعْضَ ذَلِكَ لَمَا تَمَالَكَ. فَإِنْ قُلْتَ: رُبَّمَا أَفْهَمُ مَعْنَى فَنَاءِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ وَفَنَاءِ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، فَمَا مَعْنَى فَنَاءِ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْفَنَاءَ حَقًّا؟ قُلْتُ: مَتَى فَهِمْتَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فَهِمْتَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَاجِدَ لَمَّا ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ فَنِيَ طَلَبُهُ لَهُ وَاضْمَحَلَّ، وَهَذَا مَشْهُودٌ فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّكَ تَرَى طَالِبَ أَمْرٍ مُهِمٍّ، فَإِذَا ظَفِرَتْ يَدَاهُ بِهِ وَأَدْرَكَهُ كَيْفَ يَبْرُدُ طَلَبُهُ، وَيَفْنَى فِي وُجُودِهِ؟ لَكِنَّ هَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ الْعَارِفِ، فَإِنَّ طَلَبَهُ لَا يُفَارِقُهُ، بَلْ إِذَا وَجَدَ اشْتَدَّ طَلَبُهُ، فَلَا يَزَالُ طَالِبًا، فَكُلَّمَا كَانَ أَوْجَدَ كَانَ أَطْلَبَ، نَعَمُ، الَّذِي يَفْنَى طَلَبُ حَظِّهِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ وَطَلَبِ مَرَاضِيهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا غَايَةٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَصِلُ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمُشَاهَدَةِ إِلَى حَالَةٍ تَسْتَوْلِي فِيهَا عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْقُرْبِ وَآثَارُ الصِّفَاتِ،
পৃষ্ঠা - ১৩২৪
بِحَيْثُ يَذْهَلُ لُبُّهُ عَنْ شُعُورِهِ بِطَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ، وَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ شُهُودِ قِيَامِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ: مُكَابِدًا وَصَابِرًا وَمُرَابِطًا، فَإِذَا صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ - صَبَرَ فِي نَفْسِهِ وَصَابَرَ عَدُوَّهُ، وَرَابَطَ عَلَى ثَغْرِ قَلْبِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ خَاطِرٌ لَا يُحِبُّهُ وَلَيُّهُ الْحَقُّ - ظَهَرَ حِينَئِذٍ فِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ غَيَّبَهُ عَنْ وُجُودِهِ الذِّهْنِيِّ، وَسَرَى بِهِ فِي مَطَاوِي الْغَيْبِ، فَحِينَئِذٍ يَصْفُو لَهُ إِقْبَالُهُ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا صَفَا لَهُ ذَلِكَ غَابَ عَنْ وُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، فَغَابَ بِنُورِ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ بِوُصُولِ خَالِصِ الذِّكْرِ وَصَافِيهِ إِلَى قَلْبِهِ، حَيْثُ خَلَا مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، وَصَارَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فَيَسْتَوْلِي نُورُ الْمُرَاقَبَةِ عَلَى أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ مِنْ نُورِ التَّوَجُّهِ، بِحَيْثُ يَغْمُرُ قَلْبَهُ، وَيَسْتُرُهُ عَمَّا سِوَاهُ، ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ النُّورُ مِنْ بَاطِنِهِ فَيَعُمُّ أَجْزَاءَ ظَاهِرِهِ، فَيَتَشَابَهُ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَفْنَى الْعَبْدُ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَبْقَى بِالْمَشْهَدِ الرُّوحِيِّ الذَّاتِيِّ الْمُوجِبِ لِلْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُلْهِبَةِ لِلرُّوحِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَضْعُفُ لِقِلَّةِ الْوَارِدِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّسِعَ لِغَيْرِ مَا بَاشَرَ سِرُّهُ وَقَلْبُهُ مِنْ آثَارِ الْحُبِّ الْخَاصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْوَى وَيَتَّسِعُ نَظَرُهُ، فَيَجِدُ آثَارَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُقَدَّسِ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَيَجِدُ الْعُبُودِيَّةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَالدُّعَاءَ وَالِافْتِقَارَ، وَالتَّوَكُّلَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، لَا تَشْغَلُهُ عَنْ مَشْهَدِ الرُّوحِ، وَلَا تَسْتَغْرِقُ مَشْهَدَ الرُّوحِ عَنْهُ، وَيَجِدُ مُلَاحَظَتَهُ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَاضِرًا فِي جِذْرِ قَلْبِهِ حَيْثُ نَزَلَتِ الْأَمَانَةُ، فَلَا يَشْغَلُهُ مَشْهَدُ الرُّوحِ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَا مَشْهَدُ الْقَلْبِ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ وَحَقِّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَيَجِدُ تَرْكَ التَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ وَصِحَّةَ التَّفْوِيضِ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ نَفْسِهِ، فَيُعَامِلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا تَشْغَلُهُ مُشَاهَدَةُ الْأُولَى عَنْهُ، وَيَقُومُ بِمُلَاحَظَةِ عَقْلِهِ لِأَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَلَا يَحْجُبُهُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ عُبُودِيَّتِهِ، فَيَبْقَى مَغْمُورَ الرُّوحِ بِمُلَاحَظَةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَجَمَالِهَا، قَدِ اسْتَغْرَقَتْهُ مَحَبَّتُهُ وَالشَّوْقُ إِلَيْهِ، مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِعِبَادَاتِ الْقُلُوبِ مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِمُلَاحَظَةِ الْحِكْمَةِ وَمَعَانِي الْخِطَابِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ عَنْ سَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ، مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ الْخَلْقِ، قَدْ صَارَ عَبْدًا مَحْضًا لِرَبِّهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَعَقْلِهِ، وَنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، قَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا تَحْجُبُهُ عُبُودِيَّةُ بَعْضِهِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قَدْ فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَبَقِيَ بِرَبِّهِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكِتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا، وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَقَالُوا لَهُ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ، فَأَطْرَقَ سَاعَةً، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ
পৃষ্ঠা - ১৩২৫
نَفْسِهِ، وَمُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ، وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ، وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَمِلَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَمَعَ اللَّهِ. فَبَكَى الشُّيُوخُ، وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ جَبَرَكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ] فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِلْمِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْفَنَاءِ أَعْلَى عِنْدَهُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْفَنَاءِ مِنْ جِهَةِ فَنَاءِ أَرْبَابِهَا عَنْ فَنَائِهِمْ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ذِكْرُ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ بِرَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ " لِإِسْقَاطِهِ " أَيْ لِإِسْقَاطِ الشُّهُودِ، لَا إِسْقَاطِ الْمَشْهُودِ، فَالطَّلَبُ وَالْعِلْمُ وَالْعِيَانُ قَائِمٌ، وَقَدْ سَقَطَ الشُّهُودُ، لِاسْتِغْرَاقِ صَاحِبِهِ فِي الْمَطْلُوبِ الْمُعَايَنِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا، شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ، رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ، سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ. الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَنَاءِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا قَدْ فَنِيَ عَنْ شُهُودِ طَلَبِهِ وَعِلْمِهِ وَعِيَانِهِ، مَعَ شُعُورِهِ بِفَنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ قَدْ فَنِيَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفَنِيَ عَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ، كَمَا يُقَالُ: آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ عِنْدَهُ هُوَ الْفَنَاءَ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَنِيَ فِيهِ كُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَشْهَدُ الْفَنَاءَ قَدْ فَنِيَ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَقَوْلُهُ " شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ " الشَّائِمُ النَّاظِرُ مِنْ بُعْدٍ، وَبَرْقُ الْعَيْنِ نُورُ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ هَذَا بِالنُّورِ الْخَارِجِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنْوَارُ الْقُرْبِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ.
পৃষ্ঠা - ১৩২৬
وَقَوْلُهُ " رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ " " الْجَمْعُ " الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: عِبَارَةٌ عَنْ شُخُوصِ الْبَصِيرَةِ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْدَرِ الْمُتَفَرِّقَاتِ كُلِّهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَرُكُوبُ لُجَّةِ هَذَا الْجَمْعِ هُوَ فَنَاؤُهُ فِيهِ. قَوْلُهُ " سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ " يَعْنِي: أَنَّ مَنْ فَنِيَ فَقَدْ تَأَهَّلَ لِلْبَقَاءِ بِالْحَقِّ، وَهَذَا الْبَقَاءُ هُوَ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ بِالْفَنَاءِ رُفِعَ لَهُ عَلَمُ الْحَقِيقَةِ، فَشَمَّرَ إِلَيْهِ سَالِكًا فِي طَرِيقِ الْبَقَاءِ، وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَوْرَادِ، وَحِفْظُ الْوَارِدَاتِ، فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْوُصُولُ. فَصْلٌ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَدْحُ لَفْظِ الْفَنَاءِ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا اسْتَعْمَلُوا لَفْظَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، وَلَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلَا جَعَلُوهُ غَايَةً وَلَا مَقَامًا، وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ أَحَقَّ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَأَسْبَقَ إِلَى كُلِّ غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا اللَّفْظَ مُطْلَقًا، وَلَا نَقْبَلُهُ مُطْلَقًا. وَلَابُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَبَيَانِ صَحِيحِهِ مِنْ مَعْلُولِهِ، وَوَسِيلَتِهِ مِنْ غَايَتِهِ، فَنَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ: حَقِيقَةُ " الْفَنَاءِ " الْمُشَارِ إِلَيْهِ هُوَ اسْتِهْلَاكُ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ الذِّهْنِيِّ، وَهَاهُنَا تَقَسَّمَهُ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَهْلُ الزَّيْغِ وَالْإِلْحَادِ، فَزَعَمَ أَهْلُ الِاتِّحَادِ - الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - أَنَّ الْفَنَاءَ هُوَ غَايَةُ الْفَنَاءِ عَنْ وُجُودِ السِّوَى، فَلَا يَثْبُتُ لِلسِّوَى وُجُودٌ الْبَتَّةَ، لَا فِي الشُّهُودِ وَلَا فِي الْعِيَانِ، بَلْ يَتَحَقَّقُ بِشُهُودِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّ وُجُودَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ، فَمَا ثَمَّ وُجُودَانِ، بَلِ الْمَوْجُودُ وَاحِدٌ، وَحَقِيقَةُ الْفَنَاءِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ وَهْمٌ وَخَيَالٌ، فَيَفْنَى عَمَّا هُوَ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، لَا وُجُودَ لَهُ، فَيَشْهَدُ فَنَاءَ وُجُودِ كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي وُجُودِهِ، وَهَذَا تَعْبِيرٌ مَحْضٌ، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ " سِوَى " وَلَا " غَيْرُ " وَإِنَّمَا السِّوَى وَالْغَيْرُ فِي الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، فَحَوْلَ هَذَا الْفَنَاءِ يُدَنْدِنُونَ وَعَلَيْهِ يَحُومُونَ. وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ: فَيُشِيرُونَ بِالْفَنَاءِ إِلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَرْفَعُ مِنَ الْآخَرِ.
পৃষ্ঠা - ১৩২৭
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقَيُّومِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مُنْفَعِلَةٌ لَا فَاعِلَةٌ، وَمَا لَهُ مِنْهَا فِعْلٌ فَهُوَ مُنْفَعِلٌ فِي فِعْلِهِ، مَحَلُّ مَحْضٍ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ؛ خَمَدَتْ مِنْهُ الْخَوَاطِرُ وَالْإِرَادَاتُ، نَظَرًا إِلَى الْقَيُّومِ الَّذِي بِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأُمُورِ، وَشَخُوصًا مِنْهُ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ نَاظِرٌ مِنْهُ بِهِ إِلَيْهِ، فَانٍ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ سَاعٍ فِي طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، قَائِمًا بِالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْفَنَاءُ فِي مَشْهَدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَحَقِيقَتُهُ " الْفَنَاءُ " عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَيَفْنَى بِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَبِخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَرَجَائِهِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفَنَاءِ إِفْرَادُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَبَادِئِ ذَلِكَ وَتَوَسُّطِهِ وَغَايَتِهِ، فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا خَلَا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالدُّنْيَا وَالتَّعَلُّقِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ، أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ صُورَةٍ، وَتَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ، وَالِاهْتِمَامِ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْعُدَّةِ، وَالتَّأَهُّبِ لِلْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ أَوَّلُ فُتُوحِهِ، وَتَبَاشِيرُ فَجْرِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَرَّكُ قَلْبُهُ لِمَعْرِفَةِ مَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ مِنْهُ، فَيَفْعَلُهُ وَيَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يُسْخِطُهُ مِنْهُ، فَيَجْتَنِبُهُ، وَهَذَا عُنْوَانُ صِدْقِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ كَلِمَتَيْنِ - يُسْأَلُ عَنْهُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ - مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ لَابُدَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِ، وَالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي ذَلِكَ فَتَحَ لَهُ بَابَ الْأُنْسِ بِالْخَلْوَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ الَّتِي تَهْدَأُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ وَالْحَرَكَاتُ، فَلَا شَيْءَ أَشْوَقُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَجْمَعُ عَلَيْهِ قُوَى قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَسُدُّ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ الَّتِي تُفَرِّقُ هَمَّهُ وَتَشِتُّ قَلْبَهُ، فَيَأْنَسُ بِهَا وَيَسْتَوْحِشُ مِنَ الْخَلْقِ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْبَعُ مِنْهَا، وَيَجِدُ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ أَضْعَافَ مَا كَانَ يَجِدُهُ فِي لَذَّةِ اللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَدَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ هَدَأَ قَلْبُهُ بِهِ كَمَا يَهْدَأُ الصَّبِيُّ إِذَا أُعْطِيَ مَا هُوَ شَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لَهُ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ شُهُودِ عَظَمَةِ اللَّهِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَعَانِي خِطَابِهِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ فِيهِ، وَيُحِسُّ بِقَلْبِهِ وَقَدْ دَخَلَ
পৃষ্ঠা - ১৩২৮
فِي عَالَمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا النَّاسُ فِيهِ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ شَوَاهِدِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ، يُرِيهِ ذَلِكَ النُّورُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْتَحِي مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَجَلَوَاتِهِ، وَيُرْزَقُ عِنْدَ ذَلِكَ دَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ لِلرَّقِيبِ، وَدَوَامَ التَّطَلُّعِ إِلَى حَضْرَةِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، نَاظِرًا إِلَى خَلْقِهِ، سَامِعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، مُشَاهِدًا لِبَوَاطِنِهِمْ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّاهِدُ غَطَّى عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْهُمُومِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَهُوَ فِي وُجُودٍ وَالنَّاسُ فِي وُجُودٍ آخَرَ، هُوَ فِي وُجُودٍ بَيْنِ يَدَيْ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي حِجَابِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يَرَاهُمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهُ إِلَّا مَا يُنَاسِبُ عَالَمَهُمْ وَوُجُودَهُمْ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الشُّعُورِ بِمَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ، فَيَرَى سَائِرَ التَّقَلُّبَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَتَصَارِيفَ الْوُجُودِ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، فَيَشْهَدُهُ مَالِكَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَيَتَّخِذُهُ وَحْدَهُ وَكِيلًا، وَيَرْضَى بِهِ رَبًّا وَمُدَبِّرًا وَكَافِيًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ دَلَّهُ عَلَى خَالِقِهِ وَبَارِئِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، فَلَا يَحْجُبُهُ خَلْقُهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ يُنَادِيهِ كُلٌّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِلِسَانِ حَالِهِ: اسْمَعْ شَهَادَتِي لِمَنْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَأَنَا صُنْعُ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ ذَلِكَ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، فَيَقْبِضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ أَلَمَ الْقَبْضِ لِقُوَّةِ وَارِدِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُ وِعَاءَهُ بِأَنْوَارِ الْوُجُودِ، فَيَفْنَى عَنْ وُجُودِهِ، وَيَنْمَحِي كَمَا يَمْحُو نُورُ الشَّمْسِ نُورَ الْكَوَاكِبِ، وَيَطْوِي الْكَوْنَ عَنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَتَفِيضُ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ مِنْ قَلْبِهِ، كَمَا يَفِيضُ نُورُ الشَّمْسِ عَنْ جِرْمِهَا، فَيَغْرَقُ حِينَئِذٍ فِي الْأَنْوَارِ كَمَا يَغْرَقُ رَاكِبُ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَزَوَالِ أَحْكَامِ الطَّبِيعَةِ، وَطُولِ الْوُقُوفِ فِي الْبَابِ. وَهَذَا هُوَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ، لَا مِنْ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَلَا مِنْ حَقِّ الْيَقِينِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ عَيْنَ الْيَقِينِ مُشَاهَدَةٌ، وَحَقَّ الْيَقِينِ مُبَاشَرَةٌ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ حَقُّ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالْقُلُوبِ فَقَطْ، لَيْسَ إِلَّا، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا، وَنَحْنُ لَا تَأْخُذُنَا فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي كَوْنِ ذَلِكَ فِي الْعِيَانِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَهُمْ عِنْدَنَا صَادِقُونَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ عِنْدَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاصِلِينَ إِلَيْهِ.
পৃষ্ঠা - ১৩২৯
فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ وَاقِفًا بِبَابِ مَوْلَاهُ، لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا يُجِيبُ غَيْرَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، وَمَتَى تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَزِيدُ - رُجِيَ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ فَتْحٌ آخَرُ، هُوَ فَوْقَ مَا كَانَ فِيهِ، مُسْتَغْرِقًا قَلْبُهُ فِي أَنْوَارِ مُشَاهَدَةِ الْجَلَالِ بَعْدَ ظُهُورِ أَنْوَارِ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَحْوِ وُجُودِهِ هُوَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ وُجُودَ صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ تَبْطُلُ، بَلِ الَّذِي يَبْطُلُ هُوَ وُجُودُهُ النَّفْسَانِيُّ الطَّبْعِيُّ، وَيَبْقَى لَهُ وُجُودٌ قَلْبِيٌّ رُوحَانِيٌّ مَلَكِيٌّ، فَيَبْقَى قَلْبُهُ سَابِحًا فِي بَحْرٍ مِنْ أَنْوَارِ آثَارِ الْجَلَالِ، فَتَنْبُعُ الْأَنْوَارُ مِنْ بَاطِنِهِ، كَمَا يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، حَتَّى يَجِدَ الْمَلَكُوتَ الْأَعْلَى كَأَنَّهُ فِي بَاطِنِهِ وَقَلْبِهِ، وَيَجِدُ قَلْبَهُ عَالِيًا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، صَاعِدًا إِلَى مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُرَقِّيهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيُشْهِدُهُ أَنْوَارَ الْإِكْرَامِ بَعْدَ مَا شَهِدَ أَنْوَارَ الْجَلَالِ، فَيَسْتَغْرِقُ فِي نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ أَشِعَّةِ الْجَمَالِ، وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَذُوقُ الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُلْهِبَةَ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ، فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَأْسُورًا فِي يَدِ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ، مَمْتَحَنًا بِحُبِّهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْهَمَ ذَلِكَ تَقْرِيبًا، فَانْظُرْ إِلَيْكَ وَإِلَى غَيْرِكَ - وَقَدِ امْتُحِنْتَ بِصُورَةٍ بَدِيعَةِ الْجَمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا - فَمَلَكَتْ عَلَيْكَ قَلْبَكَ وَفِكْرَكَ، وَلَيْلَكَ وَنَهَارَكَ، فَيَحْصُلُ لَكَ نَارٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَتُضْرَمُ فِي أَحْشَائِكَ يَعِزُّ مَعَهَا الِاصْطِبَارُ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَيَا لَهُ مِنْ قَلْبٍ مُمْتَحَنٍ مَغْمُورٍ مُسْتَغْرِقٌ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْجَمَالِ الْأَحَدِىِّ، وَالنَّاسُ مَفْتُونُونَ مُمْتَحَنُونَ بِمَا يَفْنَى مِنَ الْمَالِ وَالصُّوَرِ وَالرِّيَاسَةِ، مُعَذَّبُونَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَحَالَ حُصُولِهِ، وَبَعْدَ حُصُولِهِ، وَأَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً مَنْ يَكُونُ مَفْتُونًا بِالْحُورِ الْعِيْنِ، أَوْ عَامِلًا عَلَى تَمَتُّعِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا الْمُحِبُّ قَدْ تَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمَقَامَاتِ، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ الْغَابِرِ فِي الْأُفُقِ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ حَبِيبِهِ، وَمَعِيَّتِهِ مَعَهُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ، وَجَزَاءُ الْمَحَبَّةِ الْمَحَبَّةُ وَالْوُصُولُ وَالِاصْطِنَاعُ وَالْقُرْبُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وَفَخْرًا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَقَامَاتِهِمُ الْعَالِيَةِ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ؟ فَكَيْفَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَسْمَعَهُمُ الْمُنَادِي " لِيَنْطَلِقْ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ " فَيَبْقَوْنَ فِي مَكَانِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَعْبُودَهُمْ وَحَبِيبَهُمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ ضَاحِكًا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا يَزَالُ اللَّهُ يُرَقِّيهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَمَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، إِلَى أَنْ يُوصِلَهُ إِلَيْهِ، وَيُمَكِّنَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ فِي الطَّرِيقِ، فَيَقَعُ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَالسَّعِيدُ كُلُّ السَّعِيدِ، وَالْمُوَفَّقُ كُلُّ الْمُوَفَّقِ مَنْ لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَمِينًا
পৃষ্ঠা - ১৩৩০
وَلَا شَمَالًا، وَلَا اتَّخَذَ سِوَاهُ رَبًّا وَلَا وَكِيلًا، وَلَا حَبِيبًا وَلَا مُدَبِّرًا، وَلَا حَكَمًا وَلَا نَاصِرًا وَلَا رَازِقًا. وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُصُولِ إِنَّمَا هِيَ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ إِذَا تَجَلَّتْ لَهُ الْحَقَائِقُ فِي الْغَيْبِ - بِحَسْبِ اسْتِعْدَادِهِ وَلُطْفِهِ وَرِقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهَا - ظَهَرَ مِنْ تَجَلِّيهَا شَاهِدٌ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ الشَّاهِدُ دَالٌّ عَلَيْهَا لَيْسَ هُوَ عَيْنَهَا، فَإِنَّ نُورَ الْجَلَالِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ نُورَ ذِي الْجَلَالِ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ ظَهَرَ لِلْوُجُودِ لَتَدَكْدَكَ، لَكِنَّهُ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمَثَلَ الْأَعْلَى شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ، وَالْحَقُّ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ عَنْ حُلُولٍ وَاتِّحَادٍ، وَمُمَازَجَةٍ لِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ رَقَائِقُ وَشَوَاهِدُ تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَارِفِ، تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْأَلْطَافِ مِنْهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ حَيْثُ يَرَاهَا، وَإِذَا فَنِيَ فَإِنَّمَا يَفْنَى بِحَالِ نَفْسِهِ لَا بِاللَّهِ وَلَا فِيهِ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّمَا يَبْقَى بِحَالِهِ هُوَ وَوَصْفِهِ، لَا بِبَقَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى بِاللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْوُصُولُ حَقٌّ، يَجِدُ الْوَاصِلُ آثَارَ تَجَلِّي الصِّفَاتِ فِي قَلْبِهِ، وَآثَارَ تَجَلِّي الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، وَيُوقِفُ الْقَلْبَ فَوْقَ الْأَكْوَانِ كُلِّهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَمِنْ هُنَاكَ يُكَاشَفُ بِآثَارِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَيَجِدُ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ حُكْمًا، وَلَيْسَ الَّذِي يَجِدُهُ تَحْتَ قَلْبِهِ حَقِيقَةً الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ، بَلْ شَاهِدٌ وَمِثَالٌ عِلْمِيٌّ، يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قَلْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَقُرْبِ رَبِّهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَيْنَ الذَّوْقَيْنِ تَفَاوُتٌ، فَإِذَا قَرُبَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ قَلْبِ عَبْدِهِ بَقِيَتِ الْأَكْوَانُ كُلُّهَا تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَطْلُعُ فِي أُفُقِهِ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، فَيَنْقَشِعُ بِهَا ضَبَابُ وُجُودِهِ وَيَضْمَحِلُّ وَيَتَلَاشَى، وَذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ رَبِّهِ، وَرَبُّهُ بَائِنٌ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَفْنَى، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَاقٍ، غَيْرُ فَانٍ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي سِرِّهِ غَيْرُ اللَّهِ، قَدْ فَنِيَ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَجِدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَذَلِكَ لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي مَشْهُودِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَالِقًا بَارِئًا مُصَوِّرًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا. فَعَلَيْكَ بِهَذَا الْفُرْقَانِ، وَاحْذَرْ فَرِيقَيْنِ هُمَا أَعْدَى عَدُوٍّ لِهَذَا الشَّأْنِ: فَرِيقَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ، الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَشَمُّ رَائِحَةِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَمْكِنَةِ حَرَامٌ عَلَيْهَا، وَفَرِيقَ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَهِي فِي هَذَا السَّفَرِ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَعَيْشُكَ بِجَهْلِكَ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَانْقِطَاعُكَ مَعَ الشَّهَوَاتِ خَيْرُكَ مَعَهُمَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.