فصل في منازل إياك نعبد
فصل الاتصال
فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১২৭৫
[فَصْلُ الِاتِّصَالِ]
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ (بَابُ الِاتِّصَالِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] آيَسَ الْعُقُولَ، فَقَطَعَ الْبَحْثُ بِقَوْلِهِ: " أَوْ أَدْنَى ".
كَأَنَّ الشَّيْخَ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِي دَنَى فَتَدَلَّى فَكَانَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] هَكَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ» وَلَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وَهَذَا جِبْرِيلُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِالْقُوَّةِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20] .
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] أَيْ: حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمَذْكُورُ فِي التَّكْوِيرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {فَاسْتَوَى - وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 6 - 7] وَهُوَ نَاحِيَةُ السَّمَاءِ الْعُلْيَا، وَهَذَا اسْتِوَاءُ جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فَعَلَى عَرْشِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] فَهَذَا دُنُوُّ جِبْرِيلَ وَتَدَلِّيهِ إِلَى الْأَرْضِ، حَيْثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. فَهُنَاكَ دَنَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْهُ وَتَدَلَّى.
পৃষ্ঠা - ১২৭৬
فَالدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي فِي الْآيَةِ، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي اللَّفْظِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] وَالْمَرْئِيُّ عِنْدَ السِّدْرَةِ: هُوَ جِبْرِيلُ قَطْعًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ «ذَاكَ جِبْرِيلُ» .
السَّادِسُ: أَنَّ مُفَسِّرَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ} [النجم: 13] ، وَفِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاسْتَوَى، وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 7] وَاحِدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ وَالْمُفَسَّرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ: الْمَلَكِيُّ، وَالْبَشَرِيُّ، وَنَزَّهَ الْبَشَرِيَّ عَنِ الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ، وَنَزَّهَ الْمَلَكِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا قَبِيحًا ضَعِيفًا، بَلْ هُوَ قَوِيٌّ كَرِيمٌ حَسَنُ الْخُلُقِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ سَوَاءً.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَهَاهُنَا أَخْبَرَ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ وَاحِدٌ، وُصِفَ بِصِفَتَيْنِ، فَهُوَ مُبِينٌ وَهُوَ أَعْلَى، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا عَلَا بَانَ وَظَهَرَ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] وَالْمِرَّةُ الْخُلُقُ الْحَسَنُ الْمُحْكَمُ، فَأَخْبَرَ عَنْ حُسْنِ خُلُقِ الَّذِي عَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ كُلَّهُ عَنْهُ نَسَقًا وَاحِدًا.
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ الْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْأُفُقِ، وَمَرَّةً عِنْدَ السِّدْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ وَقَدْ سَأَلَهُ: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟» فَكَيْفَ يُخْبِرُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَّى أَرَاهُ؟» " وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ أَرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَقَطْ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ، وَطَرَفًا مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى السَّائِلِ، كَمَا إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ؟ فَيَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟
পৃষ্ঠা - ১২৭৭
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ذِكْرٌ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] وَالَّذِي يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعَبْدِهِ.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ كَيْفَ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ، وَيُتْرَكُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَذْكُورِ مَعَ كَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ؟
الثَّالِثُ عَشَرَ: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ " صَاحِبِكُمْ " وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمَائِرَ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ " شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ " وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمَائِرَ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، وَالْخَبَرُ كُلُّهُ عَنْ هَذَيْنِ الْمُفَسَّرَيْنِ، وَهُمَا الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ، وَالرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ.
الرَّابِعُ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى كَانَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ أُفُقُ السَّمَاءِ، بَلْ هُوَ تَحْتَهَا قَدْ دَنَا مِنْ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُنُوُّ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَدَلِّيهِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ لَا إِلَى الْأَرْضِ.
الْخَامِسُ عَشَرَ: أَنَّهُمْ لَمْ يُمَارُوهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِ، وَلَا أَخْبَرَهُمْ بِهَا، لِتَقَعَ مُمَارَاتُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَارُوهُ عَلَى رُؤْيَةِ مَا أَخْبَرَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَلَوْ أَخْبَرَهُمُ الرَّبُّ تَعَالَى لَكَانَتْ مُمَارَاتُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ مُمَارَاتِهِمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقَاتِ.
السَّادِسُ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَّرَ صِحَّةَ مَا رَآهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مُمَارَاتَهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلَةٌ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَلَوْ كَانَ الْمَرْئِيُّ هُوَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُمَارَاةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَكَانَ تَقْرِيرُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَوْلَى، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: " آيَسَ الْعُقُولَ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَدْنَى " يَعْنِي: أَنَّ الْعُقُولَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُثْبِتَ عَلَى مَعْرِفَةِ اتِّصَالٍ هُوَ أَدْنَى مِنْ قَابَ قَوْسَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنَ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَالْعُقُولُ غَيْرُ آيِسَةٍ مِنْ دُنُوِّ رَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ مِنْ رَسُولِهِ الْبَشَرِيِّ، حَتَّى صَارَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنْ قَوْسَيْنِ، فَإِنَّهُ دُنُوُّ عَبْدٍ مِنْ عَبْدٍ، وَمَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقٍ.
يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ " أَوْ "؟ فَيُقَالُ: هِيَ لِتَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْقُرْبَ إِنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنْ قَدْرِ قَوْسَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْمِائَةِ الْأَلْفِ لَمْ يَنْقُصُوا عَنْهَا.
পৃষ্ঠা - ১২৭৮
فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِنَصِّيَّةِ عَدَدِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ، فَتَأَمَّلْهُ.
قَالَ: وَالِاتِّصَالُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، ثُمَّ اتِّصَالُ الشُّهُودِ، ثُمَّ اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ.
أَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُمَا اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا مَقَامَا الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، فَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ مَقَامُ الْإِيمَانِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ مَقَامُ الْإِحْسَانِ.
وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَرْمًى، وَكُلُّ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اتِّصَالٍ صَحِيحٍ فَهُوَ مِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فَاتِّصَالُ الْوُجُودِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مُرَادِ الشَّيْخِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِهَذَا الِاتِّصَالِ، وَمُرَادِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنْهُ، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَأَمَّا اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146] ، وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] .
فَالِاعْتِصَامُ بِهِ نَوْعَانِ: اعْتِصَامُ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَتَفْوِيضٍ وَلَجْءٍ وَعِيَاذٍ، وَإِسْلَامِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ سُبْحَانَهُ.
وَالثَّانِي: اعْتِصَامٌ بِوَحْيِهِ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ دُونَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَمَقَايِيسِهِمْ، وَمَعْقُولَاتِهِمْ، وَأَذْوَاقِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْسَلٌّ مِنْ هَذَا الِاعْتِصَامِ، فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِخْلَاصًا وَاسْتِعَانَةً، وَمُتَابَعَةً، وَاسْتِمْرَارًا عَلَى ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ اتِّصَالُ الشُّهُودِ " وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُشَاهَدَةِ قَرِيبًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ
পৃষ্ঠা - ১২৭৯
تَحَقُّقُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فَالِاتِّصَالُ الْأَوَّلُ اتِّصَالُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالثَّانِي اتِّصَالُ الْحَالِ وَالْمَعْرِفَةِ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ اتِّصَالُ الْوُجُودِ " الْوُجُودُ: الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ الشَّيْخُ: أَنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ يَتَّصِلُ بِوُجُودِ الرَّبِّ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ وُجُودًا وَاحِدًا، كَمَا يَظُنُّهُ الْمُلْحِدُ، فَإِنَّ كُفْرَ النَّصَارَى جُزْءٌ يَسِيرُ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ، وَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَلْ لَا عَبْدَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَفْسَدَ الْخَلْقِ وَأَفْجَرَهُمْ، فَنَفْسُ وُجُودِهِ مُتَّصِلٌ بِوُجُودِ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ، بَلْ لَا رَبَّ عِنْدَهُمْ وَلَا عَبْدَ.
وَإِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْخُ بِاتِّصَالِ الْوُجُودِ: أَنَّ الْعَبْدَ يَجِدُ رَبَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاقِدًا لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ يَطْلُبُ كَنْزًا وَلَا وُصُولَ لَهُ إِلَيْهِ، فَظَفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَغْنَى بِهِ غَايَةَ الْغِنَى، فَهَذَا اتِّصَالُ الْوُجُودِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ.
وَهَذَا الْوُجُودُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَتَنَوَّعُ بِحَسْبِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَمَقَامِهِ، فَإِنَّ التَّائِبَ الصَّادِقَ فِي تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ، وَجَدَهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُتَوَكِّلَ إِذَا صَدَقَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَجَدَهُ حَسِيبًا كَافِيًا، وَالدَّاعِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ قَرِيبًا مُجِيبًا، وَالْمُحِبَّ إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَجَدَهُ وَدُودًا حَبِيبًا، وَالْمَلْهُوفَ إِذَا صَدَقَ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَجَدَهُ كَاشِفًا لِلْكُرَبِ مُخَلِّصًا مِنْهُ، وَالْمُضْطَرَّ إِذَا صَدَقَ فِي الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ رَحِيمًا مُغِيثًا، وَالْخَائِفَ إِذَا صَدَقَ فِي اللَّجْءِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ مُؤَمِّنًا مِنَ الْخَوْفِ، وَالرَّاجِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّجَاءِ وَجَدَهُ عِنْدَ ظَنِّهِ بِهِ.
فَمُحِبُّهُ وَطَالِبُهُ وَمُرِيدُهُ الَّذِي لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا، وَلَا يَرْضَى بِسِوَاهُ عِوَضًا، إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَجَدَهُ أَيْضًا وُجُودًا أَخَصَّ مِنْ تِلْكَ الْوُجُودَاتِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرِيدُ مِنْهُ يَجِدُهُ، فَكَيْفَ بِمُرِيدِهِ وَمُحِبِّهِ؟ فَيَظْفَرُ هَذَا الْوَاجِدُ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ.
أَمَّا ظَفَرُهُ بِنَفْسِهِ فَتَصِيرُ مُنْقَادَةً لَهُ، مُطِيعَةً لَهُ، تَابِعَةً لِمَرْضَاتِهِ غَيْرَ آبِيَةٍ، وَلَا أَمَّارَةٍ، بَلْ تَصِيرُ خَادِمَةً لَهُ مَمْلُوكَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَخْدُومَةً مَالِكَةً.
وَأَمَّا ظَفَرُهُ بِرَبِّهِ فَقُرْبُهُ مِنْهُ وَأُنْسُهُ بِهِ، وَعِمَارَةُ سِرِّهِ بِهِ، وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ بِهِ أَعْظَمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، فَهَذَا حَقِيقَةُ اتِّصَالِ الْوُجُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: فَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ.
পৃষ্ঠা - ১২৮০
قُلْتُ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ؛ إِفْرَادُ الْمَقْصُودِ، وَجَمْعُ الْهَمِّ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَتُهُ تَوْحِيدُ الْقَصْدِ وَالْمَقْصُودِ، فَمَتَى انْقَسَمَ قَصْدُهُ أَوْ مَقْصُودُهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ " قَصْدٌ يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِيَاضِ، وَيُخَلِّصُ مِنَ التَّرَدُّدِ، وَيَدْعُو إِلَى مُجَانَبَةِ الْأَعْوَاضِ " فَالِاتِّصَالُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِهَذَا الْقَصْدِ.
وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ " هُوَ تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَتَعَلُّقِهَا بِالسِّوَى أَوْ بِالْأَعْوَاضِ، بَلْ تَكُونُ إِرَادَةً صَافِيَةً مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِاللَّهِ وَبِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ " أَيْ: يَكُونُ لَهُ حَالُ مُحَقِّقٍ ثَابِتٍ، لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْعَمَلُ، وَلَا بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْحَالُ، فَتَصِيرُ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِنَابَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ حَالًا لِقَلْبِهِ، قَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَتْ جَوَارِحُهُ كَانَ قَلْبُهُ فِي الْعَمَلِ وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلُ قَلْبِهِ أَقْوَى مِنْ عَمَلِ جَوَارِحِهِ.
قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: اتِّصَالُ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الِاعْتِلَالِ، وَالْغِنَى عَنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ.
الِاعْتِلَالُ هُوَ الْعَوَائِقُ وَالْعِلَلُ، وَالْخَلَاصُ مِنْهَا هُوَ الصِّحَّةُ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَإِنَّ الْأُولَى: اتِّصَالٌ بِصِحَّةِ الْقُصُودِ وَالْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ اتِّصَالٌ بِرُؤْيَةٍ مِنَ الْعَمَلِ لَهُ، عَلَى تَحْقِيقِ مُشَاهَدَتِهِ بِالْبَصِيرَةِ، فَيَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ مِنْ عِلَلِ الْأَعْمَالِ وَاسْتِكْثَارِهَا، وَاسْتِحْسَانِهَا وَالسُّكُونِ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: " وَالْغِنَى عَلَى الِاسْتِدْلَالِ " أَيْ: هُوَ مُسْتَغْنٍ بِمُشَاهَدَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ طَالِبَ الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ، فَإِذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْمَدْلُولِ، فَمَا لَهُ وَلِطَلَبِ الدَّلِيلِ؟
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ
فَكَيْفَ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، مَنِ النَّهَارُ بَعْضُ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ؟ {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] وَلِهَذَا خَاطَبَ الرُّسُلُ قَوْمَهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا يَشُكُّ
পৃষ্ঠা - ১২৮১
فِي رَبِّهِ وَلَا يَرْتَابُ فِي وُجُودِهِ {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] .
قَوْلُهُ: " وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ " يَعْنِي: أَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الِاعْتِلَالِ وَالْفَنَاءَ بِاتِّصَالِ الشُّهُودِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ يُسْقِطَانِ عَنْهُ شَتَاتَ الْأَسْرَارِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ بَالِهِ وَتَشَتُّتُ قَلْبِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَإِنَّ اتِّصَالَ شُهُودِهِ يَجْمَعُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ، كَمَا أَنَّ دَوَامَ الذِّكْرِ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَشُهُودَ الْمَذْكُورِ يَجْمَعُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُ شَتَاتَهُ، فَالشَّتَاتُ مَصْحُوبُ الْغَيْبَةِ، وَسُقُوطُهُ مَصْحُوبُ الْحُضُورِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَهَذَا الِاتِّصَالُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ، إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ، يَقُولُ: لِمَا يُعْهَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاتِّصَالِ وَكَانَ أَعَزَّ شَيْءٍ وَأَغْرَبَهُ عَنِ النُّفُوسِ عِلْمًا وَحَالًا لَمْ تَفِ الْعِبَارَةُ بِكَشْفِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَمَلُومٌ وَالْعِبَارَةَ فَتَّانَةٌ، إِمَّا أَنْ تُزِيغَ إِلَى زِيَادَةِ مَفْسَدَةٍ أَوْ نَقْصٍ مُخِلٍّ، أَوْ تَعْدِلَ بِالْمَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تُمْكِنُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ غَلَبَهُ نُورُ الْقُرْبِ، وَتَمَكُّنُ الْمَحَبَّةِ، وَقُوَّةُ الْأُنْسِ، وَكَمَالُ الْمُرَاقَبَةِ، وَاسْتِيلَاءُ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، فَيَذْهَبُ الْعَبْدُ عَنْ إِدْرَاكِهِ بِحَالِهِ لِمَا قَهَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَبْقَى بِوُجُودٍ آخَرَ غَيْرَ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ.
وَمَا أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا خَيَالٌ وَوَهْمٌ، فَلَا تَعْجَلْ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَضْلًا عَنْ ذَوْقِ حَالِهِ، وَأَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا، وَخَلِّ الْمَطَايَا وَحَادِيهَا، فَلَوْ أَنْصَفْتَ لَعَرَفْتَ أَنَّ الْوُجُودَ الْحَاصِلَ لَمُعَذَّبٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَأَضْيَقِ سِجْنٍ، وَأَنْكَدِ عَيْشٍ، إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الْحَالَ، وَصَارَ إِلَى مُلْكٍ هَنِيٍّ وَاسِعٍ، نَافِذَةٌ فِيهِ كَلِمَتُهُ مُطَاعٌ أَمْرُهُ، قَدِ انْقَادَتْ لَهُ الْجُيُوشُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ الْوُجُودِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، فَلِهَذَا قَالَ: " لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ " يُطَابِقُهُ وَيُحِيطُ بِهِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَظِيمَةَ جِدًّا نَعْتُهَا لَا يَكْشِفُ حَقِيقَتَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ بَعْضَ لَوَازِمِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا، فَيَدُلُّ بِالْمَذْكُورِ عَلَى غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: " وَلَا مِقْدَارَ " يُرِيدُ: مِقْدَارَ الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ كَبِيرُ الْمِقْدَارِ.