মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل البسط

فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১২৫৫
[فَصْلُ الْبَسْطِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْبَسْطِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] . قُلْتُ: وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعَيِّشُكُمْ فِيمَا خَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُكَثِّرُكُمْ فِي هَذَا التَّزْوِيجِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّزْوِيجُ لَمْ يَكْثُرِ النَّسْلُ، وَالْمَعْنَى: يَخْلُقُكُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ جَعْلِهِ لَكُمْ أَزْوَاجًا، فَإِنَّ سَبَبَ خَلْقِنَا وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ: بِالْأَزْوَاجِ، وَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: " فِيهِ " يَرْجِعُ إِلَى الْجَعْلِ، وَمَعْنَى الذَّرْءِ: الْخَلْقُ، وَهُوَ هُنَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، فَهُوَ خَلْقٌ وَتَكْثِيرٌ، فَقِيلَ " فِي " بِمَعْنَى الْبَاءِ؛ أَيْ: يُكَثِّرُكُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَالْفِعْلُ تَضَمَّنَ مَعْنَى يُنْشِئُكُمْ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِفِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61] فَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ حَيَاتَيْنِ: حَيَاةَ الْأَبْدَانِ، وَحَيَاةَ الْأَرْوَاحِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُحْيِي قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ وَأَرْوَاحِهِمْ بِإِكْرَامِهِ وَلُطْفِهِ وَبَسْطِهِ كَانَ ذَلِكَ تَنْمِيَةً لَهَا وَتَكْثِيرًا وَذَرْءًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْبَسْطُ: أَنْ يُرْسِلَ شَوَاهِدَ الْعَبْدِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ، وَيُسْبِلَ عَلَى بَاطِنِهِ رِدَاءَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُمْ أَهْلُ التَّلْبِيسِ، وَإِنَّمَا بُسِطُوا فِي مَيْدَانِ الْبَسْطِ، بَعْدَ ثَلَاثِ مَعَانٍ، لِكُلِّ مَعْنًى طَائِفَةٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْبَسْطَ إِرْسَالُ ظَوَاهِرِ الْعَبْدِ وَأَعْمَالِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَيَكُونُ بَاطِنُهُ مَغْمُورًا بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، فَيَكُونُ جَمَالُهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَظَاهِرُهُ قَدِ اكْتَسَى الْجَمَالَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ، وَبَاطِنُهُ قَدِ اكْتَسَى الْجَمَالَ بِالْمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْأُنْسِ، فَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَهُ دِثَارٌ، وَالْأَحْوَالُ الْبَاطِنَةُ لَهُ شِعَارٌ، فَلَا حَالُهُ يُنْقِصُ عَلَيْهِ ظَاهِرَ حُكْمِهِ، وَلَا عِلْمُهُ يَقْطَعُ وَارِدَ حَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْجَمَالَيْنِ
পৃষ্ঠা - ১২৫৬
أَعْنِي جَمَالَ الظَّاهِرِ وَجَمَالَ الْبَاطِنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نِسَاءِ الْجَنَّةِ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] فَهُنَّ حِسَانُ الْوُجُوهِ، خَيِّرَاتُ الْأَخْلَاقِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] فَالنَّضْرَةُ جَمَالُ الْوُجُوهِ، وَالسُّرُورُ جَمَالُ الْقُلُوبِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] فَالنَّضْرَةُ تُزَيِّنُ ظَوَاهِرَهُمْ، وَالنَّظَرُ يُجَمِّلُ بَوَاطِنَهُمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] فَالْأَسَاوِرُ جَمَّلَتْ ظَوَاهِرَهُمْ، وَالشَّرَابُ الطَّهُورُ طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 6] فَجَمَّلَ ظَاهِرَهَا بِالْكَوَاكِبِ، وَبَاطِنَهَا بِالْحِرَاسَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. رَجَعْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: " وَهُمْ أَهْلُ التَّلْبِيسِ " يَعْنِي: أَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي بَابِ الْقَبْضِ وَهُمُ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ سُتِرُوا بِلِبَاسِ التَّلْبِيسِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. فَلَا تَرَى حَقَائِقَهُمْ. قَوْلُهُ: " وَإِنَّمَا بُسِطُوا فِي مَيْدَانِ الْبَسْطِ " أَيْ: بَسَطَهُمُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، لَا مَا يَظُنُّهُ الْمُلْحِدُ أَنَّهُ السَّمَاعُ الشَّهِيُّ، وَمُلَاحَظَةُ الْمَنْظَرِ الْبَهِيِّ، وَرُؤْيَةُ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَسَمَاعُ الْآلَاتِ الْمُطْرِبَاتِ. نَعَمْ هَذَا مَيْدَانٌ بَسَطَهُ الشَّيْطَانُ يَقْتَطِعُ بِهِ النُّفُوسَ عَنِ الْمَيْدَانِ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّحْمَنُ، فَمَيْدَانُ الرَّحْمَنِ الَّذِي بَسَطَهُ هُوَ الَّذِي نَصَبَهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ
পৃষ্ঠা - ১২৫৭
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ، وَمَعَ الْغَرِيبِ وَالْقَرِيبِ، وَهِيَ سِعَةُ الصَّدْرِ، وَدَوَامُ الْبِشْرِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ، وَالْوُقُوفُ مَعَ مَنِ اسْتَوْقَفَهُ، وَالْمِزَاحُ بِالْحَقِّ مَعَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَحْيَانًا، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلِينُ الْجَانِبِ حَتَّى يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمَيْدَانُ لَا تَجِدُ فِيهِ إِلَّا وَاجِبًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ مُبَاحًا يُعِينُ عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ: فَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ، يُبَاسِطُونَهُمْ وَيُلَابِسُونَهُمْ، فَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِمْ، وَالْحَقَائِقُ مَجْمُوعَةٌ، وَالسَّرَائِرُ مَصُونَةٌ. جَعَلَ اللَّهُ انْبِسَاطَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ رَحْمَةً لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ بَسَطَ هَؤُلَاءِ مَعَ خَلْقِهِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِمُ السَّالِكُ، وَيَهْتَدِيَ بِهِمُ الْحَيْرَانُ، وَيُشْفَى بِهِمُ الْعَلِيلُ، وَيُسْتَضَاءَ بِنُورِ هِدَايَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ دَيَاجِي الطَّبْعِ وَالْهَوَى، فَالسَّالِكُونَ يَقْتَدُونَ بِهِمْ إِذَا سَكَتُوا، وَيَنْتَفِعُونَ بِكَلِمَاتِهِمْ إِذَا نَطَقُوا، فَإِنَّ حَرَكَاتِهُمْ وَسُكُونَهُمْ لَمَّا كَانَتْ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ جَذَبَتْ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا النُّورُ الَّذِي أَضَاءَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُمْ هُوَ نُورُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ اسْتَنَارَ بِنُورِهِ وَاسْتَنَارَ بِهِ النَّاسُ، فَهَذَا مِنْ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَالِمٌ اسْتَنَارَ بِنُورِهِ، وَلَمْ يَسْتَنِرْ بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذَا إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ كَانَ نَفْعُهُ قَاصِرًا عَلَى نَفْسِهِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَعَالِمٌ لَمْ يَسْتَنِرْ بِنُورِهِ وَلَا اسْتَنَارَ بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذَا عِلْمُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ، وَبَسْطَتُهُ لِلنَّاسِ فِتْنَةٌ لَهُمْ، وَبَسْطَةُ الْأَوَّلِ رَحْمَةٌ لَهُمْ. قَوْلُهُ: " وَالْحَقَائِقُ مَجْمُوعَةٌ، وَالسَّرَائِرُ مَصُونَةٌ " أَيِ: انْبَسَطُوا وَالْحَقَائِقُ الَّتِي فِي سَرَائِرِهِمْ مَجْمُوعَةٌ فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَالِانْبِسَاطُ لَمْ يُشَتِّتْ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هِمَمَهُمْ، وَلَمْ يُحِلَّ عَقْدَ عَزَائِمِهِمْ. قَوْلُهُ: " وَسَرَائِرُهُمْ مَصُونَةٌ " مَسْتُورَةٌ لَمْ يَكْشِفُوهَا لِمَنِ انْبَسَطُوا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَسْطُ يَقْتَضِي الْإِلْفَ، وَاطِّلَاعَ كُلٍّ مِنَ الْمُتَبَاسِطَيْنِ عَلَى سِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تُطْلِعَ مَنْ بَاسَطْتَهُ عَلَى سِرِّكَ مَعَ اللَّهِ، وَلَكِنِ اجْذِبْهُ وَشَوِّقْهُ، وَاحْفَظْ وَدِيعَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ، لَا تُعَرِّضْهَا لِلِاسْتِرْجَاعِ.
পৃষ্ঠা - ১২৫৮
قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ لِقُوَّةِ مُعَايَنَتِهِمْ، وَتَصْمِيمِ مَنَاظِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ لَا تُخَالِجُ الشَّوَاهِدُ مَشْهُودَهُمْ، وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ، فَهُمْ مَبْسُوطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لِأَرْبَابِ الْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، بُسِطَتِ الْأُولَى: رَحْمَةً لِلْخَلْقِ، وَبُسِطَتْ هَذِهِ: اخْتِصَاصًا بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: " لِقُوَّةِ مُعَايَنَتِهِمْ " إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِقُوَّةِ إِدْرَاكِ مُعَايَنَتِهِمْ، أَوْ لِقُوَّةِ ظُهُورِ مُعَايَنَتِهِمْ لِبَوَاطِنِهِمْ، أَوْ لِقُوَّتِهَا وَبَيَانِهَا فِي نَفْسِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَطْمَعُ الْبَسْطُ أَنْ يَحْجُبَهُمْ عَنْ مُعَايَنَةِ مَطْلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْمُعَايَنَةِ مَنَعَتْ وُصُولَ الْبَسْطِ إِلَى إِزَالَتِهَا وَإِضْعَافِهَا. قَوْلُهُ: " وَتَصْمِيمُ مَنَاظِرِهِمْ " يَعْنِي ثَبَاتَ مَنَاظِرِ قُلُوبِهِمْ وَصِحَّتِهَا، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يَحُولُ بَيْنَ نَظَرِ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ مَا تَرَاهُ قَتَرٌ مِنْ شَكٍّ، وَلَا غَيْمٌ مِنْ رَيْبٍ، فَاللَّطِيفَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُدْرِكَةُ لِحَقِيقَةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ صَحِيحَةٌ، وَهِيَ شَدِيدَةُ التَّوَجُّهِ إِلَى مَشْهُودِهَا، فَلَمْ يَقْدِرِ الْبَسْطُ عَلَى حَجْبِهَا عَنْ مَشْهُودِهَا. قَوْلُهُ: " لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ لَا تُخَالِجُ الشَّوَاهِدُ مُشْهُودَهُمْ " أَيْ: لَا تُمَازِجُ الشَّوَاهِدُ مَشْهُودَهُمْ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ، بَلْ مَشْهُودُهُمْ حَاضِرٌ لَهُمْ، لَمْ يُدْرِكُوهُ بِغَيْرِهِ، فَلَا تُخَالِطُ مُشَاهَدَتُهُمْ لَهُ شَوَاهِدَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالشَّوَاهِدُ مِثْلَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَقَامَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ، وَمَلَأَ بِهَا كِتَابَهُ، وَهَدَى عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَلَكِنَّ الْعَارِفَ إِذَا حَصَلَ لَهُ مِنْهَا الدَّلَالَةُ، وَوَصَلَ مِنْهَا إِلَى الْيَقِينِ انْطَوَى حُكْمُهَا عَنْ شُهُودِهِ، وَسَافَرَ قَلْبُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَا، وَرَآهَا كُلَّهَا أَثَرًا مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمَشْهُودِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَا مُعَايَنَةَ الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ لِلصَّانِعِ إِذَا عَايَنَ صَنْعَتَهُ، فَكَأَنَّهُ يَرَى الْبَانِيَ وَهُوَ يَبْنِي مَا شَاهَدَهُ مِنَ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ؛ لِأَنَّ الشَّوَاهِدَ وَالْأَدِلَّةَ تَبْطُلُ وَيَبْطُلُ حُكْمُهَا. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَإِنَّهُ قَدْ غَلِطَ فِيهِ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِمَنْ طَوَى حُكْمَ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَنَسَبُوهُمْ إِلَى مَا نَسَبُوهُمْ إِلَيْهِ، وَفَرِيقٌ رَأَوْا أَنَّ الشَّوَاهِدَ نَفْسُ
পৃষ্ঠা - ১২৫৯
الْمَشْهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ شَاهِدًا وَدَلِيلًا، وَفِي الِانْتِهَاءِ مَشْهُودًا وَمَدْلُولًا. قَوْلُهُ: " وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ " شَبَّهَ الرُّسُومَ بِالرِّيَاحِ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الصُّوَرِ الْخَلْقِيَّةِ تَمُرُّ عَلَى أَهْلِ الشُّهُودِ الضَّعِيفِ، فَتُحَرِّكُ بَوَاطِنَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَسَطَهُمُ الْحَقُّ تَعَالَى سَالِمُونَ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: " فَهُمْ مُنْبَسِطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ " أَيْ: هُمْ فِي حَالِ انْبِسَاطِهِمْ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنْ مَعَانِي الْقَبْضِ، بَلْ هُمْ مَبْسُوطُونَ بِقَبْضِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَتَنَافَى فِي حَقِّهِمُ الْبَسْطُ وَالْقَبْضُ، بَلْ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ فِي بَسْطِهِمْ، وَبَسْطُهُمْ بِهِ فِي قَبْضِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْقَبْضِ قَبْضَةً تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ. قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ أَعْلَامًا عَلَى الطَّرِيقِ، وَأَئِمَّةً لِلْهُدَى، وَمَصَابِيحَ لِلسَّالِكِينَ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْهُمَا فِي دَرَجَتَيْهِمَا، وَاخْتَصَّتْ عَنْهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الْأُولَى مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَزَادَتْ عَلَيْهِمَا بِالنَّفْعِ لِلسَّالِكِينَ، وَالْهِدَايَةِ لِلْحَائِرِينَ، وَالْإِرْشَادِ لِلطَّالِبِينَ، فَاهْتَدَى بِهِمُ الْحَائِرُ، وَسَارَ بِهِمُ الْوَاقِفُ. وَاسْتَقَامَ بِهِمُ الْحَانِدُ، وَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُعْرِضُ، وَكَمُلَ بِهِمُ النَّاقِصُ، وَرَجَعَ بِهِمُ النَّاكِصُ، وَتَقَوَّى بِهِمُ الضَّعِيفُ، وَتَنَبَّهَ عَلَى الْمَقْصُودِ مَنْ هُوَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ حَقًّا، وَهُمْ أُولُو الْبَصَرِ وَالْيَقِينِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فَنَالُوا إِمَامَةَ الدِّينِ، بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ.