فصل في منازل إياك نعبد
فصل الغيبة
فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১১৭৪
الْأَوَّلِيَّةِ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ فِي مُطَالَعَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَتَخَلَّصَ مِنَ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ.
إِنَّمَا كَانَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ عِنْدَهُ أَكْمَلَ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِغْرَاقٌ كَاشِفٌ فِي كَشْفٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِتَفْرِقَةٍ، وَهَذَا اسْتِغْرَاقٌ عَنْ شُهُودِ كَشْفِهِ فِي الْجَمْعِ، فَتَمَكَّنَ هَذَا فِي حَالِ جَمْعِ هِمَّتِهِ مَعَ الْحَقِّ حَتَّى غَابَ عَنْ إِدْرَاكِ شُهُودِهِ، وَذَكَرَ رُسُومَهُ، لَمَّا تَوَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْوَارِ الَّتِي خَصَّهُ الْحَقُّ بِهَا فِي الْأَزَلِ، وَهِيَ أَنْوَارُ كَشْفِ اسْمِهِ الْأَوَّلِ فَفَتَحَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فِي مُطَالَعَةِ الِاخْتِصَاصَاتِ الْأَزَلِيَّةِ، فَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ مِنَ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ الْمُنْقَسِمَةِ بَيْنَ تَغْيِيرِ مَقْسُومٍ، أَوْ تَفْوِيتِ مَضْمُونٍ، أَوْ تَعْجِيلِ مُؤَخَّرٍ، أَوْ تَأْخِيرِ سَابِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُرَادُ بِالْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ تَعَلُّقُهَا بِمَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَا كَانَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَاسْتِغْرَاقُ شَوَاهِدِهِ فِي جَمْعِ الْحِكَمِ وَشُمُولِهِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ شَوَاهِدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لَهَا، فَإِنَّ الذَّاتَ جَامِعَةٌ لِأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْعَبْدُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ غَابَتِ الشَّوَاهِدُ فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ.
وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَشْهَدَ كَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ، وَوَحْدَةً فِي كَثْرَةٍ، بِمَعْنَى: أَنْ يَشْهَدَ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ، وَوَحْدَةَ الذَّاتِ مَعَ كَثْرَةِ أَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا.
وَقَوْلُهُ: " فَفَتَحَ عَيْنَهُ فِي مُطَالَعَةِ الْأَزَلِيَّةِ " نَظَرَ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَاسْتَمَدَّ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَحْقِيقِهِ، فَشَاهَدَ سَبْقَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَوَّلِيَّتَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَتَخَلَّصَ مِنْ هِمَمِ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدْنَى، وَصَارَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَبِّهِ الْأَعْلَى تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ الْأُنْسِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى مَقَامَاتِهَا تَحْتَ عَرْشِهِ سَاجِدَةً لَهُ، خَاضِعَةً لِعَظَمَتِهِ، مُتَذَلِّلَةً لِعِزَّتِهِ، لَا تَبْغِي عَنْهُ حَوْلًا وَلَا تَرُومُ بِهِ بَدَلًا.
[فَصْلُ الْغَيْبَةِ]
[حَقِيقَةُ الْغَيْبَةِ]
فَصْلُ الْغَيْبَةِ
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
(بَابُ الْغَيْبَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .
পৃষ্ঠা - ১১৭৫
وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ يَعْقُوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِحُبِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذِكْرِهِ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ أَخِيهِ، مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِمُصِيبَةِ فِرَاقِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ مَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهِ غَيْبَةً عَنْهُ بِمَحَبَّةِ يُوسُفَ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] لَكَانَ دَلِيلًا أَيْضًا، فَإِنَّ مُشَاهَدَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيَّبَ عَنِ النِّسْوَةِ السَّكَاكِينَ وَمَا يَقْطَعْنَ بِهِنَّ، حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَلَا يَشْعُرْنَ، وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ الْغَيْبَةِ.
[دَرَجَاتُ الْغَيْبَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى غَيْبَةُ الْمُرِيدِ فِي تَخَلُّصِ الْقَصْدِ عَنْ أَيْدِي الْعَلَائِقِ]
قَالَ الشَّيْخُ: الْغَيْبَةُ الَّتِي يُشَارُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: غَيْبَةُ الْمُرِيدِ فِي تَخَلُّصِ الْقَصْدِ عَنْ أَيْدِي الْعَلَائِقِ، وَدَرْكِ الْعَوَائِقِ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ.
يُرِيدُ غَيْبَةَ الْمُرِيدِ عَنْ بَلَدِهِ وَوَطَنِهِ وَعَادَاتِهِ، فِي مَحَلِّ تَخْلِيصِ الْقَصْدِ وَتَصْحِيحِهِ لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ الْعَلَائِقَ، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَلْبِهِ وَقَالِبِهِ وَحِسِّهِ مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَيَسْبِقُ الْعَوَائِقَ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُ وَلَا تُدْرِكَهُ.
قَوْلُهُ: " لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: " غَيْبَةُ الْمُرِيدِ " أَيْ: هَذِهِ الْغَيْبَةُ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ، فَإِنَّ الْعَوَائِقَ وَالْعَلَائِقَ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِهَا وَحُصُولِهَا لِمُضَادَّتِهَا لَهَا.
وَالْحَقَائِقُ جَمْعُ حَقِيقَةٍ، وَيُرَادُ بِهَا الْحَقُّ تَعَالَى وَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُهُ الْحَقُّ، وَرَسُولُهُ حَقٌّ، وَعُبُودِيَّتُهُ وَحْدَهُ حَقٌّ، وَعُبُودِيَّةُ مَا سِوَاهُ الْبَاطِلُ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُرِيدَ إِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ قَصْدُهُ فِي مَطْلُوبِهِ عَمَّا يَعُوقُهُ مِنَ الشَّوَاغِلِ أَوْ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْمُعَوِّقَاتِ؛ لَمْ يَبْلُغْ مَقْصُودَهُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ فَبَعْدَ جُهْدٍ شَدِيدٍ وَمَشَقَّةٍ، بِسَبَبِ تِلْكَ الشَّوَاغِلِ، وَلَمْ يَصِلِ الْقَوْمُ إِلَى مَطْلَبِهِمْ إِلَّا بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ وَرَفْضِ الشَّوَاغِلِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غَيْبَةُ السَّالِكِ عَنْ رُسُومِ الْعِلْمِ وَعِلَلِ السَّعْيِ وَرُخَصِ الْفُتُورِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: غَيْبَةُ السَّالِكِ عَنْ رُسُومِ الْعِلْمِ، وَعِلَلِ السَّعْيِ، وَرُخَصِ الْفُتُورِ.
পৃষ্ঠা - ১১৭৬
يُرِيدُ: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ إِجْمَالٌ، فَالْمُلْحِدُ يَفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ يُفَارِقُ أَحْكَامَ الْعِلْمِ، وَيَقِفُ مَعَ أَحْكَامِ الْحَالِ، وَهَذَا زَنْدَقَةٌ وَإِلْحَادٌ.
وَالْمُوَحِّدُ يَفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ إِلَى أَحْكَامِ الْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الْخَالِيَ عَنِ الْحَالِ ضَعْفٌ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحَالَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْعِلْمِ ضَلَالٌ عَنِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِحَالٍ مُجَرَّدٍ عَنْ عِلْمٍ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا.
قَوْلُهُ: " وَعِلَلُ السَّعْيِ " يَعْنِي: أَنَّ السَّالِكَ يَغِيبُ عَنْ عِلَلِ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ.
وَهَذِهِ الْعِلَلُ عِنْدَهُمْ: هِيَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ يَصِلُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهَا، وَفَرَحُهُ بِهَا وَرُؤْيَتُهَا، فَيَغِيبُ عَنْ هَذِهِ الْعِلَلِ.
وَمَرَادُهُ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا: إِعْدَامُهَا حَتَّى لَا تَحْضُرَهُ، لَا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَائِمَةٌ، نَعَمْ؛ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يُوصِلُهُ إِلَيْهِ بِهَا، وَيَفْرَحُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْأَوَّلِيَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الِاكْتِسَابِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا أَكْمَلُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سُكُونٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَحٌ بِهِ، وَاعْتِقَادٌ أَنَّهُ هُوَ الْمُوَصِّلُ لِعَبْدِهِ إِلَيْهِ بِمَا مِنْهُ وَحْدَهُ، لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِذَا انْتَقَلَ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ إِلَى أَحْكَامِ الْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ غَابَتْ عَنْهُ عِلَلُ السَّعْيِ.
وَكَذَلِكَ تَغِيبُ عَنْهُ رُخَصُ الْفُتُورِ فَلَا يَنْظُرُ إِلَى عَزِيمَةِ السَّعْيِ، وَلَا يَقِفُ مَعَ رُخَصِ الْفُتُورِ، فَهُمَا آفَتَانِ لِلسَّالِكِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُجَرِّدَ عَزْمَهُ وَهِمَّتَهُ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا مِنْهُ، وَأَنَّ هِمَّتَهُ وَعَزِيمَتَهُ تَحْمِلُهُ وَتَقُومُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصٍ تُفَتِّرُ عَزْمَهُ وَهِمَّتَهُ، فَكَمَالُ جَدِّهِ وَصِدْقِهِ وَصِحَّةِ طَلَبِهِ يُخَلِّصُهُ مِنْ رُخَصِ الْفُتُورِ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَنَفْسِهِ يُخَلِّصُهُ مِنْ عِلَلِ السَّعْيِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غَيْبَةُ الْعَارِفِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ وَالشَّوَاهِدِ وَالدَّرَجَاتِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: غَيْبَةُ الْعَارِفِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ وَالشَّوَاهِدِ وَالدَّرَجَاتِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ.
إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ أَعْلَى عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةَ الطَّالِبِ.
পৃষ্ঠা - ১১৭৭
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ غَيْبَتُهُ عَنْ خَيْرَاتٍ وَمَقَامَاتٍ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا وَأَشْرَفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ.
وَمَعْنَى غَيْبَتِهِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ هُوَ أَنْ لَا يَرَى الْأَحْوَالَ وَلَا تَرَاهُ، فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ لَهَا عُيُونًا؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَقْتَضِي وَجْدًا وَمَوْجُودًا وَوِجْدَانًا، وَهَذَا يُنَافِي الْفَنَاءَ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يَمْحُو أَثَرَ الرُّسُومِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِرَارًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ، وَغَيْرُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ.
وَأَمَّا " غَيْبَتُهُ عَنِ الشَّوَاهِدِ " فَقَدْ يُرِيدُ بِهَا شَوَاهِدَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدِلَّتَهَا، فَيَغِيبُ بِمَعْرُوفِهِ عَنِ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ وَفِي نَفْسِهِ.
وَقَدْ يُرِيدُ بِالشَّوَاهِدِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَالْغَيْبَةُ عَنْهَا بِشُهُودِ الذَّاتِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا هُوَ أَعْلَى مِنْ شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بَلْ هَذَا الشُّهُودُ هُوَ شُهُودُ الْمُعَطِّلَةِ الْمُنْكِرِينَ لِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ فِي فَنَائِهِمْ إِلَى شُهُودِ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ.
وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الْمَلَاحِدَةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَجَعَلُوا شُهُودَ نَفْسِ الْوُجُودِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدَاتِ، وَعَنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ عُلُّوًا كَبِيرًا، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ شُهُودِهِمْ.
وَمُرَادُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِجَمِيعِ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، فَيُغَيِّبُهُ شُهُودُهُ لِهَذِهِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ شُهُودِ صِفَةٍ وَاسْمٍ.
فَالشَّوَاهِدُ هِيَ الْأَفْعَالُ الدَّالَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلَذَّاتِ، وَشَوَاهِدُ الْمَعْرِفَةِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي حَصَلَتْ عَنْهَا الْمَعْرِفَةُ، فَإِذَا طَوَاهَا الشَّاهِدُ مِنْ وُجُودِهِ، وَشَهِدَ أَنَّهُ مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا بِهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ غَابَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُهُ فِي مَشْهُودِهِ، كَمَا تَغِيبُ مَعَارِفُهُ فِي مَعْرُوفِهِ.
وَبِكُلِّ حَالٍ فَمَا عُرِفَ اللَّهُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا دَلَّ عَلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا أَوْصَلَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» وَهُوَ الْمُحِبُّ
পৃষ্ঠা - ১১৭৮
لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا خَلَقَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، وَالشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا أَجْرَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ عَبِيدِهِ وَقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، فَمِنْهُ السَّبَبُ وَهُوَ الْغَايَةُ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] .
وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الذَاكِرَ وَالْمَذْكُورَ وَالذِّكْرَ، وَالْعَارِفَ وَالْمَعْرُوفَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَأَنَّ الَّذِي عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ هُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُ، فَالظَّاهِرُ فِيهَا وَاحِدٌ، ظَهَرَ بِوُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ فِيهَا، فَوُجُودُهَا عَيْنُ وُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ فَاضَ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَكْفَرُ مِنْ كُلِّ كُفْرٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ إِلْحَادٍ.
وَالْمُوَحِّدُونَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا فَاضَ عَلَيْهَا إِيجَادُهُ لَا وُجُودُهُ، فَظَهَرَ فِيهَا فِعْلُهُ، بَلْ أَثَرُ فِعْلِهِ لَا ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ، فَقَامَتْ بِهِ فَقْرًا إِلَيْهِ وَاحْتِياجًا لَا وُجُودًا وَذَاتًا، وَأَقَامَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ لَا بِظُهُورِهِ فِيهَا.
وَلَقَدْ لَحَظَ مَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ أَمْرًا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ فِي وَحْدَةِ الْمُوجِدِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِتَوْحِيدِ الْوُجُودِ، وَفَيَضَانِ جُودِهِ بِفَيَضَانِ وَجُودِهِ، فَوَحَّدُوا الْوُجُودَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَصَارُوا عَبِيدَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ، وَعَبِيدُ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجَةِ فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ وُجُودَهَا عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمُسَمَّى بِاللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْإِلْحَادِ الَّذِي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] وَسُبْحَانَ مَنْ هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
أَيْنَ حَقِيقَةُ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ مِنْ ذَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَيْنَ الْمُكَوَّنُ مِنْ تُرَابٍ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ أَيْنَ الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ إِلَى الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ؟ أَيْنَ وُجُودُ مَنْ يَضْمَحِلُّ وَجُودُهُ وَيَفُوتُ إِلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ؟ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24] .