فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة النفس
فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১১৫০
يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَرْفُ وَمَا بَعْدَهُ بِمَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ؛ أَيْ: حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ صَادِقٍ؛ أَيْ: لَازِمٍ ثَابِتٍ، لَا يَلْحَقُهُ تَلَوُّنٌ " يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ " أَيْ: أَمْرٌ غَائِبٌ عَنْ إِدْرَاكِهِمْ هَيَّجَ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَصْدَ الصَّادِقَ.
قَوْلُهُ: وَحُبٌّ صَادِقٌ يَخْفَى عَلَيْهِ مَبْدَأُ عِلْمِهِ، أَيْ: هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبْدَأَ مَا بِهِمْ، وَلَا يَصِلُ عِلْمُهُمْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَاحَ لَهُمْ ذَلِكَ اللَّائِحُ اسْتَغْرَقَ قُلُوبَهُمْ، وَشَغَلَ عُقُولَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَهُمْ مَأْخُوذُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَقْهُورُونَ بِوَارِدِهِمْ.
قَوْلُهُ: وَوَجْدٌ غَرِيبٌ لَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِهِ مُوقِدُهُ
أَيْ: لَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِ هَذَا الْوَجْدِ السَّبَبُ الَّذِي أَهَاجَهُ لَهُ، وَأَوْقَدَهُ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ لَا يَعْرِفُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَدَ نَارَ وَجْدِهِ.
قَوْلُهُ: " وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ " جَعَلَهُ دَقِيقًا لِكَوْنِ الْحِسِّ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يَحْكُمَانِ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنِ الْحِسِّ وَالْعَادَةِ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْمَقَامِ: الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ الشَّيْخِ
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ أَهْلَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ أَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَرْفَعُ مَقَامًا، وَهُمُ الْكُمَّلُ؛ وَهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ مَقَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ التَّجَلِّي، وَلَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَنَاءِ مَا حَصَلَ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حُبُّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مِنْ تَقْطِيعِ الْأَيْدِي وَنَحْوِهِ مَا حَصَلَ لَهُنَّ، وَكَانَ حُبُّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْغَشْيِ وَالْإِقْعَادِ مَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ.
فَأَهْلُ الْبَقَاءِ وَالتَّمَكُّنِ: أَقْوَى حَالًا، وَأَرْفَعُ مَقَامًا مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ النَّفَسِ]
[فَصْلٌ حَقِيقَةُ النَّفَسِ]
فَصْلٌ وَمِنْهَا النَّفَسُ
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
(بَابُ النَّفَسِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] .
পৃষ্ঠা - ১১৫১
وَجْهُ إِشَارَتِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ النَّفَسَ يَكُونُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْحَالِ، وَانْفِصَالِهِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَشَبَّهَ الْحَالَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَأْخُذُ صَاحِبَهُ فَيَغُتُّهُ وَيَغُطُّهُ، حَتَّى إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ تَنَفَّسَ نَفَسًا يَسْتَرِيحُ بِهِ وَيَسْتَرْوِحُ.
قَالَ: وَيُسَمَّى النَّفَسُ: نَفَسًا، لِتَرَوُّحِ الْمُتَنَفِّسِ بِهِ
" التَّنْفِيسُ " هُوَ التَّرْوِيحُ، يُقَالُ: نَفَّسَ اللَّهُ عَنْكَ الْكَرْبَ؛ أَيْ: أَرَاحَكَ مِنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
وَهَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ النُّونُ وَالْفَاءُ وَمَا يُثَلِّثُهُمَا تَدُلُّ حَيْثُ وُجِدَتْ عَلَى الْخُرُوجِ وَالِانْفِصَالِ، فَمِنْهُ النَّفَلُ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْأَصْلِ خَارِجٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ: النَّفَرُ، وَالنَّفْيُ، وَالنَّفَسُ، وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ، وَنُفِسَتِ الْمَرْأَةُ وَنَفَسَتْ: إِذَا حَاضَتْ أَوْ وَلَدَتْ، فَالنَّفَسُ: خُرُوجٌ وَانْفِصَالٌ يَسْتَرِيحُ بِهِ الْمُتَنَفِّسُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وَهِيَ تُشَابِهُ دَرَجَاتِ الْوَقْتِ
وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَوْقَاتَ تُعَدُّ بِالْأَنْفَاسِ كَدَرَجَاتِهَا.
وَأَيْضًا فَالْوَقْتُ، كَمَا قَالَ هُوَ: " حِينُ وَجْدٍ صَادِقٍ " فَقَيَّدَ الْحِينَ بِالْوَجْدِ، وَالْوَجْدُ بِالصِّدْقِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ: هُوَ نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ، فَقَيَّدَ النَّفَسَ بِالْحِينِ وَبِالْوَجْدِ،
পৃষ্ঠা - ১১৫২
وَقَيَّدَ بِهِ الْوَقْتَ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِهِمَا.
وَأَيْضًا فَالْوَقْتُ وَالنَّفَسُ لَهُمَا أَسْبَابٌ تَعْرِضُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ حَجْبِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ، أَوْ مُفَارَقَةِ حَالٍ كَانَ فِيهَا فَاسْتَتَرَتْ عَنْهُ، فَبَيْنَهُمَا تَشَابُهٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا.
[فَصْلٌ الْأَنْفَاسُ ثَلَاثَةٌ]
[الْأَوَّلُ نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَالْأَنْفَاسُ ثَلَاثَةٌ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْكَظْمِ، مُتَعَلِّقٍ بِالْعِلْمِ، إِنْ تَنَفَّسَ تَنَفَّسَ بِالْأَسَفِ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالْحُزْنِ، وَعِنْدِي: هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ وَحْشَةِ الِاسْتِتَارِ، وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ.
فَقَوْلُهُ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ؛ أَيْ: يَكُونُ لَهُ حَالٌ صَادِقٌ، وَكَشْفٌ صَحِيحٌ، فَيَسْتَتِرُ عَنْهُ بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ وَلَا بُدَّ، فَيَضِيقُ بِذَلِكَ صَدْرُهُ، وَيَمْتَلِئُ كَظْمًا بِحَجْبِ مَا كَانَ فِيهِ وَاسْتِتَارِهِ لِأَسْبَابٍ فَاعِلِيَّةٍ وَغَائِيَّةٍ، سَتَرِدُ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا تَنَفَّسَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَتَنَفُّسُهُ تَنَفُّسُ الْحَزِينِ الْمَكْرُوبِ.
قَوْلُهُ: " مَمْلُوءٌ مِنَ الْكَظْمِ " الْكَظْمُ: هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ: كَظَمَ غَيْظَهُ، إِذَا تَجَرَّعَهُ وَحَبَسَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ.
قَوْلُهُ: " مُتَعَلِّقٍ بِالْعِلْمِ " يُرِيدُ: أَنَّ ذَلِكَ النَّفَسَ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْكَامِ الظَّاهِرِ لَا بِأَحْكَامِ الْحَالِ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّيْخِ لَهُ، وَهُوَ بَلَاءُ الْعَبْدِ بَيْنَ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْعِلْمِ وَدَاعِي الْحَالِ.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَفَسٌ مَكْظُومٌ: لِخُلُوِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي تُهَوِّنُ الشَّدَائِدَ، وَتُسَهِّلُ الصَّعْبَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَتَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ دَاعِي التَّفَرُّقِ فَإِنَّ كَرْبَ الْمَحَبَّةِ مَمْزُوجٌ بِالْحَلَاوَةِ، فَإِذَا خَلَا مِنْ أَحْكَامِهَا إِلَى أَحْكَامِ الْعِلْمِ فَقَدَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ، وَاشْتَاقَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْبِ، كَمَا قِيلَ:
وَيَشْكُو الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي ... تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي
فَكَانَ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا ... فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي
قَوْلُهُ: إِنْ تَنَفَّسَ تَنَفَّسَ بِالْأَسَفِ.
পৃষ্ঠা - ১১৫৩
الْأَسَفُ: الْحُزْنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وَالْأَسَفُ: الْغَضَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْحُزْنُ عَلَى مَا تَوَارَى عَنْهُ مِنْ مَطْلُوبِهِ، أَوْ مِنْ صِدْقِ حَالِهِ.
قَوْلُهُ: " وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالْحُزْنِ " يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْمُتَنَفِّسَ إِنْ نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُزْنِ عَلَى مَا تَوَارَى عَنْهُ، فَمَصْدَرُ تَنَفُّسِهِ وَنُطْقِهِ حُزْنُهُ عَلَى مَا حُجِبَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ:: وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ وَحْشَةِ الِاسْتِتَارِ وَالْحَجْبِ.
وَكَأَنَّ الِاسْتِتَارَ السَّبَبُ فَيَتَوَلَّدُ السَّبَبُ.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْأَسَفَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الِاسْتِتَارِ وَالْحِجَابِ فَتَوَلُّدُهُ: إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَبُهَا الِاسْتِتَارُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْشَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُ مُشَاهَدًا لَهُ، وَحَالُ مَحَبَّتِهِ وَأَحْكَامِهَا قَائِمًا بِهِ، كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الْأُنْسِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَارَى عَنْهُ مَطْلُوبُهُ وَأَحْكَامُ مَحَبَّتِهِ اسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ، فَتَوَلَّدَ الْحُزْنُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْشَةِ.
وَبَعْدُ، فَالْحُزْنُ يَتَوَلَّدُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبِ، لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ سِوَاهُ، وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، فَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا فَاتَ بِهِ مِنَ الْمَحْبُوبِ، فَلَا حُزْنَ إِذًا وَلَا هَمَّ وَلَا غَمَّ، وَلَا أَذًى وَلَا كَرْبَ إِلَّا فِي مُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبِ، وَلِهَذَا كَانَ حُزْنُ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ وَالْجَهْلِ وَالْخُمُولِ وَالضِّيقِ وَسُوءِ الْحَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: عَلَى فِرَاقِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَجْدِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْعِلْمِ وَالسِّعَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُفَارَقَةَ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ - كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54] فَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالظَّفَرِ بِالْمَحْبُوبِ، وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْحُزْنُ وَالْأَسَفُ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُحِبِّ الْوَاصِلِ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَأَمَرُّ الْعَيْشِ عَيْشُ مَنْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ.
وَالِاسْتِتَارُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَشْفٍ وَعِيَانٍ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَسْتُرُ عَنْهُمْ مَا يَسْتُرُهُ رَحْمَةً بِهِمْ، وَلُطْفًا بِضَعِيفِهِمْ، إِذْ لَوْ دَامَ لَهُ حَالُ الْكَشْفِ لَمَحَقَهُ، بَلْ رَحْمَةٌ بِهِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ رَدَّهُ إِلَى أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ.
পৃষ্ঠা - ১১৫৪
وَأَيْضًا لِيَتَزَايَدَ طَلَبُهُ، وَيَقْوَى شَوْقُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ دَامَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ لَأَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَوْقِعَ الْمَاءِ مِنْ ذِي الْغُلَّةِ الصَّادِي، وَلَا مَوْقِعَ الْأَمْنِ مِنَ الْخَائِفِ، وَلَا مَوْقِعَ الْوِصَالِ مِنَ الْمَهْجُورِ، فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَارَاهَا عَنْهُ لِيُكْمِلَ فَرَحَهُ وَلَذَّتَهُ وَسُرُورَهُ بِهَا.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ سُبْحَانَهُ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بِمَا أَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ مَرَارَةَ الْفَقْدِ عَرَفَ حَلَاوَةَ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فَضْلِهِ وَبِرِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ إِنِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِمْدَادُهُ فَسَدَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْعَطَاءَ لَيْسَ لِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِكَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ، وَأَنَّهَا مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ لَا يَبْلُغُهَا عَمَلُهُ وَلَا يَنَالُهَا سَعْيُهُ.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ عِزَّهُ فِي مَنْعِهِ، وَبِرَّهُ فِي عَطَائِهِ، وَكَرَمَهُ وَجُودَهُ فِي عَوْدِهِ عَلَيْهِ بِمَا حَجَبَ عَنْهُ، فَيَنْفَتِحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الِاسْتِتَارِ وَالْكَشْفِ بَعْدَهُ أُمُورٌ غَرِيبَةٌ عَجِيبَةٌ، يَعْرِفُهَا الذَّائِقُ لَهَا، وَيُنْكِرُهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ وَالنَّفَسَ لَمْ يَمُوتَا، وَلَمْ يُعْدَمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَ سُوقُ الِامْتِحَانِ وَالتَّكْلِيفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ قَهْرًا بِسُلْطَانِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْمَقْهُورُ الْمَغْلُوبُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ أَحْيَانًا وَإِنْ قَلَّتْ وَلَكِنْ حَرَكَةَ أَسِيرٍ مَقْهُورٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ أَمِيرٍ مُسَلَّطٍ.
فَمِنْ تَمَامِ إِحْسَانِ الرَّبِّ إِلَى عَبْدِهِ، وَتَعْرِيفِهِ قَدْرَ نِعْمَتِهِ أَنْ أَرَاهُ فِي الْأَعْيَانِ مَا كَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِ قَاهِرًا لَهُ، وَقَدْ تَقَاضَى مَا كَانَ يَتَقَاضَاهُ مِنْهُ أَوَّلًا، فَحِينَئِذٍ يَسْتَغِيثُ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ وَوَلِيِّهِ وَمَالِكِ أَمْرِهِ كُلِّهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُزِيلُ مِنْ قَلْبِهِ آفَةَ الرُّكُونِ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَمَلِهِ أَوْ حَالِهِ، كَمَا قِيلَ: إِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْعِلْمِ أَنْسَيْنَاكَهُ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْحَالِ: سَلَبْنَاكَ إِيَّاهُ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: حَجَبْنَاهَا عَنْكَ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى قَلْبِكَ: أَفْسَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَلَا يَرْكَنُ الْعَبْدُ إِلَى شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ أَلْبَتَّةَ، وَمَتَى وَجَدَ قَلْبَهُ رُكُونًا إِلَى غَيْرِهِ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أُحِيلَ عَلَى مُفْلِسٍ، بَلْ مُعْدَمٍ، وَأَنَّهُ قَدْ فُتِحَ لَهُ الْبَابُ مَكْرًا، فَلْيَحْذَرْ وُلُوجَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
পৃষ্ঠা - ১১৫৫
قَوْلُهُ: وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ.
يَعْنِي: أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ ظُلْمَةٌ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مَقَامٌ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ عَبْدَهُ بِحِكْمَتِهِ فِيهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ.
فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ مَقَامًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ: أَنْفَاسُهُ أَنْفَاسُ حُزْنٍ وَأَسَفٍ، وَهَلَاكٍ وَتَلَفٍ، لِمَا حُجِبَ عَنْهُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
وَالشَّيْخُ كَأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ مَقَامًا، فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ هِيَ مَنَازِلُ فِي طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ فَكُلُّ أَمْرٍ أُقِيمَ فِيهِ السَّالِكُ مِنْ حَالِهِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَأَمَّا وَحْشَةُ الِاسْتِتَارِ: فَهِيَ تَأَخُّرٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَقَدُّمٌ، فَكَيْفَ تُسَمَّى مَقَامًا؟ بَلْ هِيَ ضِدُّ الْمَقَامِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ لَيْسَتْ مَقَامًا: أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ فَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ عَلَى وَجْهِ الثُّبُوتِ، وَحَقِيقَتُهُ: بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِالْمُقِيمِ لَا بِالْمَقَامِ.
وَأَمَّا حَالُ الِاسْتِتَارِ: فَهُوَ حَالُ انْقِطَاعٍ عَنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ الْمَذْكُورِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ لَهُ وَجْهَيْنِ؛ هُوَ مِنْ أَحَدِهِمَا: ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ. وَمِنَ الثَّانِي: مَقَامٌ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَيْسَ مَقَامًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ الثَّانِي نَفَسٌ فِي حِينِ التَّجَلِّي]
فَصْلٌ
قَالَ: وَالنَّفَسُ الثَّانِي: نَفَسٌ فِي حِينِ التَّجَلِّي، وَهُوَ نَفَسٌ شَاخِصٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ إِلَى رَوْحِ الْمُعَايَنَةِ، مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، شَاخِصٌ إِلَى مُنْقَطَعِ الْإِشَارَةِ.
هَذَا النَّفَسُ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ وَظُلْمَةٍ، وَهَذَا نَفَسٌ فِي حَالِ تَجَلٍّ وَنُورِهِ، وَحِينَ التَّجَلِّي: هُوَ زَمَانُ حُصُولِ الْكَشْفِ، وَالتَّجَلِّي مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِلْوَةِ، قِيلَ: وَحَقِيقَتُهُ إِشْرَاقُ نُورِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْمُرِيدِينَ.
فَإِنْ أَرَادُوا إِشْرَاقَ نُورِ الذَّاتِ فَغَلَطٌ شَنِيعٌ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: احْتَرِزْ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ " إِشْرَاقُ نُورِ الصِّفَاتِ ".
فَإِنْ أَرَادُوا أَيْضًا إِشْرَاقَ نَفْسِ الصِّفَةِ فَغَلَطٌ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ الذَّاتِيَّ
পৃষ্ঠা - ১১৫৬
وَالصِّفَاتِيَّ لَا يَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِشْرَاقُ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَاسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي شُهُودِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ وَصِفَاتِهَا اسْتِغْرَاقًا عِلْمِيًّا، نَعَمْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ لِأَسْبَابٍ.
مِنْهَا: قُوَّتُهُ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ وَالْعُلُومَ تَتَفَاوَتُ.
وَمِنْهَا: صَفَاءُ الْمَحَلِّ وَنَقَاؤُهُ مِنَ الْكَدَرِ الْمَانِعِ مِنْ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِيهِ.
وَمِنْهَا: التَّجَرُّدُ عَنِ الْمَوَانِعِ وَالشَّوَاغِلِ.
وَمِنْهَا: كَمَالُ الِالْتِفَاتِ وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُودِ.
وَمِنْهَا: كَمَالُ الْأُنْسِ بِهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ لِلْقَلْبِ شُهُودًا وَكَشْفًا وَرَاءَ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: وَهُوَ نَفَسٌ شَاخِصٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ؛ أَيْ: صَادِرٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ، وَ " الشُّخُوصُ " الْخُرُوجُ، يُقَالُ: شَخَصَ فُلَانٌ إِلَى بَلَدِ كَذَا؛ إِذَا خَرَجَ إِلَيْهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا النَّفَسَ صَدَرَ عَنْ سُرُورٍ وَفَرَحٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ صَدَرَ عَنْ ظُلْمَةٍ وَوَحْشَةٍ أَثَارَتْ حُزْنًا، فَهَذَا النَّفْسُ صَدَرَ عَنْ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ الَّذِي يَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ.
قَوْلُهُ: " إِلَى رَوْحِ الْمُعَايَنَةِ " هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَالرَّاحَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْمُعَايَنَةِ ضِدَّ الْأَلَمِ وَالْوَحْشَةِ الْحَاصِلَيْنِ فِي حِينِ الِاسْتِتَارِ، فَهَذَا النَّفَسُ مَصْدَرُهُ السُّرُورُ، وَنِهَايَتُهُ رَوْحُ الْمُعَايَنَةِ صَادِرًا عَنْ مَسَرَّةٍ، طَالِبًا الْمُعَايَنَةَ.
وَأَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ، وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمُعَايَنَةِ أَنَّهَا تَزَايُدُ الْعِلْمِ حَتَّى يَصِيرَ يَقِينًا، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الدَّارِ.
وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ، فَالْغَلَطُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّبِيعَةِ، وَالْعِلْمُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْغَلَطِ وَالصَّوَابِ.
وَقَدْ أَشْعَرَ كَلَامُ الشَّيْخِ هَاهُنَا بِأَنَّ التَّجَلِّيَ دُونَ الْمُعَايَنَةِ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَحَاجِزٍ لَطِيفٍ، وَالْكَشْفُ وَالْعِيَانُ هُوَ الظُّهُورُ مِنْ غَيْرِ سِتْرٍ، فَإِذَا كَانَ مَسْرُورًا بِحَالِ التَّجَلِّي كَانَتْ أَنْفَاسُهُ مُتَعَلِّقَةً بِمَقَامِ الْمُعَايَنَةِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ مَقَامِ التَّجَلِّي، وَلِهَذَا جَعَلَهُ شَاخِصًا إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: " مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ " يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا النَّفَسَ مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، وَ " الْوُجُودُ " عِنْدَهُ: هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا النَّفَسُ مُنْصَبِغٌ مُكْتَسٍ بِنُورِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَمَّا تَنَفَّسَ بِهِ كَانَ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ.
পৃষ্ঠা - ১১৫৭
قَوْلُهُ: " شَاخِصٌ إِلَى مُنْقَطَعِ الْإِشَارَةِ " لَمَّا كَانَ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِنْ نُورِ الْوُجُودِ وَكَانَ شَاخِصًا إِلَى الْمُعَايَنَةِ مُسْتَفْرِغًا بِكُلِّيَّتِهِ فِي طَلَبِهَا، كَانَ شَاخِصًا إِلَى حَضْرَةِ الْجَمْعِ، الَّتِي هِيَ مُنْقَطَعُ الْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ، فَضْلًا عَنِ الْعِبَارَةِ، فَلَا إِشَارَةَ هُنَاكَ وَلَا عِبَارَةَ وَلَا رَسْمَ، بَلْ تَفْنَى الْإِشَارَاتُ وَتَعْجَزُ الْعِبَارَاتُ، وَتَضْمَحِلُّ الرُّسُومُ.
[فَصْلٌ الثَّالِثُ نَفَسٌ مُطَهَّرٌ بِمَاءِ الْقُدْسِ]
فَصْلٌ
قَوْلُهُ: وَالنَّفَسُ الثَّالِثُ: نَفَسٌ مُطَهَّرٌ بِمَاءِ الْقُدْسِ، قَائِمٌ بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ، وَهُوَ النَّفَسُ الَّذِي يُسَمَّى بِصِدْقِ النُّورِ.
الْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ، وَالتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ وَالتَّنْزِيهُ، وَمُرَادُهُ بِالْقُدْسِ هَاهُنَا: الشُّهُودُ الَّذِي يَفْنَى الْحَادِثُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، فَكَأَنَّ صِفَاتِ الْحُدُوثِ عِنْدَهُمْ: مِمَّا يُتَطَهَّرُ مِنْهَا بِالتَّجَلِّي الْمَذْكُورِ، فَالتَّجَلِّي يُطَهِّرُ الْعَبْدَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي الْحِجَابِ فَهُوَ بَاقٍ مَعَ إِنِّيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ التَّجَلِّي طَهَّرَهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَشُهُودِهَا وَتَوْسِيطِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَشْهُودِهِ الْحَقُّ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: أَنَّ هَذَا النَّفَسَ صَادِرٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَزَلِ الْمَاحِي لِلْحَوَادِثِ الْمُفْنِي لَهَا، فَهَذَا النَّفَسُ مُطَهَّرٌ بِالطُّهْرِ الْمُقَدَّسِ عَنْ كُلِّ غَيْرٍ، وَعَنْ مُلَاحَظَةِ كُلِّ مَقَامٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَغْرِقٌ بِنُورِ الْحَقِّ، وَآثَارِ الْحَقِّ تَنْطِقُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. وَهَذَا نُطْقٌ غَيْرُ النُّطْقِ النَّفْسَانِيِّ الطَّبِيعِيِّ، وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا النَّفَسُ
পৃষ্ঠা - ১১৫৮
بِصِدْقِ النُّورِ لِصِدْقِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِالنُّورِ، وَمُلَازَمَتِهِ لَهُ.
قَوْلُهُ: " قَائِمٌ بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ " أَيْ: هَذَا النَّفَسُ مُنَزَّهٌ مُطَهَّرٌ عَنْ إِشَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَقَدْ تَرَحَّلَ عَنْهَا وَفَارَقَهَا إِلَى إِشَارَاتِ الْأَزَلِ، وَيَعْنِي بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ أَنَّهُ قَدْ فَنِيَ فِي عِيَانِهِ الَّذِي شَخَصَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، فَصَارَتْ أَنْفَاسُهُ مِنْ جُمْلَةِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ.
وَلَمْ يُرِدِ الشَّيْخُ: أَنَّ أَنْفَاسَهُ تَنْقَلِبُ أَزَلِيَّةً، فَمَنْ هُوَ دُونَ الشَّيْخِ لَا يَتَوَهَّمُ هَذَا بَلْ أَنْفَاسُ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا نَفَسُهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ.
وَبَعْدُ، فَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهْمٌ بَاطِلٌ وَخَيَالٌ.
وَفِي قَوْلِهِ: " يُسَمَّى بِصِدْقِ النُّورِ " لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّالِكَ يَلُوحُ لَهُ فِي سُلُوكِهِ النُّورُ مِرَارًا، ثُمَّ يَخْتَفِي عَنْهُ كَالْبَرْقِ يَلْمَعُ ثُمَّ يَخْتَفِي، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ وَدَامَ ظُهُورُهُ، صَارَ نُورًا صَادِقًا.
قَوْلُهُ: فَالنَّفَسُ الْأَوَّلُ: لِلْعُيُونِ سِرَاجٌ. وَالثَّانِي: لِلْقَاصِدِ مِعْرَاجٌ. وَالثَّالِثُ: لِلْمُحَقِّقِ تَاجٌ.
أَيِ: النَّفَسُ الْأَوَّلُ: سِرَاجٌ فِي ظُلْمَةِ السُّلُوكِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ سِرَاجٌ يُهْتَدَى بِهِ فِي طُرُقَاتِ الْقَصْدِ، وَيُوَضِّحُ مَسَالِكَهَا، وَيُبَيِّنُ مَرَاتِبَهَا، فَهُوَ سِرَاجٌ لِلْعُيُونِ.
وَالنَّفَسُ الثَّانِي: لِلْقَاصِدِ مِعْرَاجٌ، فَإِنَّهُ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نُورِ الْمَعْرِفَةِ الرَّافِعَةِ لِلْحِجَابِ.
وَالنَّفَسُ الثَّالِثُ لِلْمُحَقِّقِ تَاجٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَسٌ مُطَهَّرٌ مِنْ أَدْنَاسِ الْأَكْوَانِ، وَمُتَّصِلٌ بِالْكَائِنِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْكَائِنِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، فَهَذَا تَاجٌ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ الْمَلِكِ.
وَالنَّفَسُ الْأَوَّلُ يُؤَمِّنُ السَّالِكَ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَالثَّانِي يُوصِلُهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَالثَّالِثُ: يَدُلُّهُ عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.