মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة السر

فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১১৩৬
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْقَوْمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَحْكَامِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ. وَ " الْفَتْحُ " عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: فَتْحٌ قَلْبِيٌّ، وَفَتْحٌ رُوحِيٌّ. فَالْفَتْحُ الْقَلْبِيُّ: يَجْمَعُهُ عَلَى اللَّهِ وَيَلُمُّ شَعَثَهُ، وَالْفَتْحُ الرُّوحِيُّ: يُغْنِيهِ عَنْهُ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السِّرِّ] [حَقِيقَةُ السِّرِّ] فَصْلٌ وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ السِّرِّ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ السِّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31] أَصْحَابُ السِّرِّ: هُمُ الْأَخْفِيَاءُ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ. أَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْآيَةِ، فَوَجْهُهُ: أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ، وَآثَرُوا اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ قَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، خَفِيَ عَلَى أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، فَنَظَرُوا إِلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَعَمُوا عَنْ بَوَاطِنِهِمْ فَازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ، وَقَالُوا لِلرَّسُولِ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ عَنْكَ، حَتَّى نَأْتِيَكَ وَنَسْمَعَ مِنْكَ، وَقَالُوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّبَعُونِي فِي بَادِي الرَّأْيِ وَظَاهِرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا رَأَيْتُ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ عَمِلْتُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرَدَدْتُ عِلْمَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، إِذْ أَهَّلَهُمْ لِقَبُولِ دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ حَكِيمٌ، يَضَعُ الْعَطَاءَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]
পৃষ্ঠা - ১১৩৭
فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهَّلَهُمْ لِلْهُدَى وَالْحَقِّ، وَحَرَمَهُ رُؤَسَاءَ الْكُفَّارِ وَأَهْلَ الْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِعَطَاءِ الدُّنْيَا عَلَى عَطَاءِ الْآخِرَةِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُؤَهِّلُهُ لِذَلِكَ لِسِرٍّ عِنْدَهُ: مِنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وَرُؤْيَتِهَا مِنْ مُجَرَّدِ فَضْلِ الْمُنْعِمِ، وَمَحَبَّتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ عِنْدَهُ هَذَا السِّرُّ. فَلَا يُؤَهَّلُ كُلُّ أَحَدٍ لِهَذَا الْعَطَاءِ. قَوْلُهُ: أَصْحَابُ السِّرِّ: هُمُ الْأَخْفِيَاءُ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ قَدْ يُرِيدُ بِهِ: حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. حَيْثُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: أَنْتَ هَاهُنَا وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْإِمَارَةِ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» . وَقَدْ يُرِيدُ بِهِ: قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ، وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَقَدْ «مَرَّ بِهِ رَجُلٌ: فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ، إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ: أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ: أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا» . [فَصْلٌ أَصْحَابُ السِّرِّ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ] [الْأُولَى طَائِفَةٌ عَلَتْ هِمَمُهُمْ وَصَفَتْ قُصُودُهُمْ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ الطَّبَقَةُ الْأُولَى: طَائِفَةٌ عَلَتْ هِمَمُهُمْ، وَصَفَتْ
পৃষ্ঠা - ১১৩৮
قُصُودُهُمْ. وَصَحَّ سُلُوكُهُمْ. وَلَنْ يُوقَفَ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ. وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ. وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ. أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا. ذَكَرَ لَهُمْ ثَلَاثَ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةٍ، وَثَلَاثًا سَلْبِيَّةً. الْأُولَى: عُلُوُّ هِمَمِهِمْ. وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ: أَنْ لَا تَقِفَ دُونَ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَوَّضَ عَنْهُ بِشَيْءٍ سِوَاهُ. وَلَا تَرْضَى بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ. وَلَا تَبِيعَ حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ وَقُرْبِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ لَهُ، بِشَيْءٍ مِنَ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ. فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ عَلَى الْهِمَمِ: كَالطَّائِرِ الْعَالِي عَلَى الطُّيُورِ. لَا يَرْضَى بِمَسَاقِطِهِمْ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْآفَاتُ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْهِمَّةَ كُلَّمَا عَلَتْ بَعُدَتْ عَنْ وُصُولِ الْآفَاتِ إِلَيْهَا. وَكُلَّمَا نَزَلَتْ قَصَدَتْهَا الْآفَاتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَإِنَّ الْآفَاتِ قَوَاطِعُ وَجَوَاذِبُ، وَهِيَ لَا تَعْلُو إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي فَتَجْتَذِبُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَجْتَذِبُ مِنَ الْمَكَانِ السَّافِلِ، فَعُلُوُّ هِمَّةِ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ فَلَاحِهِ، وَسُفُولُ هِمَّتِهِ: عُنْوَانُ حِرْمَانِهِ. الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ الْقَصْدِ، وَهُوَ خَلَاصُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ مَقْصُودِهِ، فَصَفَاءُ الْقَصْدِ: تَجْرِيدُهُ لِطَلَبِ الْمَقْصُودِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَهَاتَانِ آفَتَانِ فِي الْقَصْدِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَتَجَرَّدَ لِمَطْلُوبِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَهُ لِغَيْرِهِ لَا لَذَاتِهِ. وَصَفَاءُ الْقَصْدِ: يُرَادُ بِهِ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى اقْتِحَامِ بَحْرِ الْفَنَاءِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّ الْفَنَاءَ غَايَةٌ. وَيُرَادُ بِهِ: خُلُوصُ الْقَصْدِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ الرَّبِّ تَعَالَى، بَلْ يَصِيرُ الْقَصْدُ مُجَرَّدًا لِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَجْعَلُ الْغَايَةَ: هِيَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، وَعَلَامَتُهُ: انْدِرَاجُ حَظِّ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَصِيرُ حَظُّهُ هُوَ نَفْسُ حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْبَصِيرِ الصَّادِقِ عُلُوُّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَفَضْلُهَا عَلَى مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ صِحَّةُ السُّلُوكِ وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعَوَائِقِ وَالْقَوَاطِعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّرْبِ الْأَعْظَمِ، الدَّرْبِ النَّبَوِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ، لَا عَلَى الْجَوَادِّ الْوَضْعِيَّةِ، وَالرُّسُومِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَهَا الْقَوْلَ وَدَقَّقُوا لَهَا الْإِشَارَةَ،
পৃষ্ঠা - ১১৩৯
وَحَسَّنُوا لَهَا الْعِبَارَةَ، فَتِلْكَ مِنْ بَقَايَا النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. الثَّانِي: أَنْ لَا يُجِيبَ عَلَى الطَّرِيقِ دَاعِيَ الْبَطَالَةِ وَالْوُقُوفِ وَالدَّعَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي سُلُوكِهِ نَاظِرًا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. فَبِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ السُّلُوكُ، وَالْعِبَارَةُ الْجَامِعَةُ لَهَا: أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَنْقَسِمُ طَلَبُهُ وَلَا مَطْلُوبُهُ، وَلَا يَتْلَوَّنُ مَطْلُوبُهُ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ السَّلْبِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. فَأَوُّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ. يُرِيدُ: أَنَّهُمُ انْمَحَتْ رُسُومُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا يَقِفُ عَلَيْهِ وَاقِفٌ. وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ الرَّسْمَ الظَّاهِرَ الْمُعَايَنَ لَا يُمْحَى مَا دَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا يَرَوْنَ مَحْوَ هَذَا الرَّسْمِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا يُعَبَّرُ بِالرَّسْمِ عَنْهُ. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الرَّسْمُ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَمَحْوُهُ هُوَ ذَهَابُ الْوُقُوفِ مَعَهُ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يُرِيدُ بِالرَّسْمِ: الظَّوَاهِرَ وَالْعَلَامَاتِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ رَسْمَ الدَّارِ هُوَ الْأَثَرُ الْبَاقِي مِنْهَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْأَثَرِ وَنَحْوَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْحَقَائِقِ، اشْتَغَلُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَدِلَّةِ. فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَا رَسْمَ لَهُمْ يَقِفُونَ عِنْدَهُ، بَلِ اشْتَغَلُوا بِالْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي عَنِ الرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ. وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ؛ إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْأَوَامِرَ وَالْأَوْرَادَ كُلَّهَا رُسُومٌ، وَأَنَّ الْعِبَادَ وَقَفُوا عَلَى الرُّسُومِ، وَوَقَفُوا هُمْ عَلَى الْحَقَائِقِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهَا لَرُسُومٌ إِلَهِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ، وَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ لَا يَتَعَدَّوْهَا، وَلَا يُقَصِّرُوا عَنْهَا، فَالرُّسُلُ قَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الرُّسُومِ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْهَا، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَجَاوُزِهَا، لِيَصِلُوا إِلَى حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا، فَعَطَّلَ الْمَلَاحِدَةُ تِلْكَ الرُّسُومَ، وَقَالُوا إِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَقَائِقُ، فَفَاتَتْهُمُ الرُّسُومُ وَالْحَقَائِقُ مَعًا. وَوَصَلُوا؛ وَلَكِنْ إِلَى الْحَقَائِقِ الْإِلْحَادِيَّةِ الْكُفْرِيَّةِ {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] . {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] .
পৃষ্ঠা - ১১৪০
فَأَحْسَنُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّيْخِ " وَلَمْ يَقِفُوا مَعَ رَسْمٍ ": أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَطِعُوا بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا قُطِعَ عَنِ اللَّهِ لَمْ يَقِفُوا مَعَهُ، وَمَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى اللَّهِ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ وُقُوفُهُمْ مَعَهُ. وَقَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: " لَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ " أَنَّهُمْ لِعُلُوِّ هِمَمِهِمْ سَبَقُوا النَّاسَ فِي السَّيْرِ، فَلَمْ يَقِفُوا مَعَهُمْ، فَهُمُ الْمُفَرِّدُونَ السَّابِقُونَ، فَلِسَبْقِهِمْ لَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى أَثَرٍ فِي الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ أَيْنَ سَلَكُوا؟ وَالْمُشَمِّرُ بَعْدَهُمْ: قَدْ يَرَى آثَارَ نِيرَانِهِمْ عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ، كَمَا يَرَى الْكَوْكَبَ، وَيَسْتَخْبِرُ مِمَّنْ رَآهُمْ: أَيْنَ رَآهُمْ؟ فَحَالُهُ كَمَا قِيلَ: أُسَائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِحٍ ... وَأُومِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ وَأُسَلِّمُ الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ " وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ " أَيْ: لَمْ يَشْتَهِرُوا بِاسْمٍ يُعْرَفُونَ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي صَارَتْ أَعْلَامًا لِأَهْلِ الطَّرِيقِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِعَمَلٍ وَاحِدٍ يَجْرِي عَلَيْهِمُ اسْمُهُ، فَيُعْرَفُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ هَذَا آفَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَهِيَ عُبُودِيَّةٌ مُقَيَّدَةٌ، وَأَمَّا الْعُبُودِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ: فَلَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا بَاسِمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهَا، فَإِنَّهُ مُجِيبٌ لِدَاعِيهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَلَهُ مَعَ كُلِّ أَهْلِ عُبُودِيَّةٍ نَصِيبٌ يَضْرِبُ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِرَسْمٍ وَلَا إِشَارَةٍ، وَلَا اسْمٍ وَلَا بِزِيٍّ، وَلَا طَرِيقٍ وَضْعِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ، بَلْ إِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْخِهِ؟ قَالَ: الرَّسُولُ. وَعَنْ طَرِيقِهِ؟ قَالَ: الِاتِّبَاعُ. وَعَنْ خِرْقَتِهِ؟ قَالَ: لِبَاسُ التَّقْوَى. وَعَنْ مَذْهَبِهِ؟ قَالَ: تَحْكِيمُ السُّنَّةِ. وَعَنْ مَقْصُودِهِ وَمَطْلَبِهِ؟ قَالَ: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَعَنْ رِبَاطِهِ وَعَنْ خَانَكَاهْ؟ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36] . وَعَنْ نَسَبِهِ؟ قَالَ: أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ وَعَنْ مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ؟ قَالَ: " «مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى
পৃষ্ঠা - ১১৪১
الشَّجَرَ حَتَّى تَلْقَى رَبَّهَا» ". وَاحَسْرَتَاهْ تَقَضَّى الْعُمُرُ وَانْصَرَمَتْ ... سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْقَوْمُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ وَقَدْ ... سَارُوا إِلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى عَلَى مَهْلِ وَالْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: " وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ " يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لِخَفَائِهِمْ عَنِ النَّاسِ لَمْ يُعَرَفُوا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يُشِيرُوا إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ. فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوا لَهُ. وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا» . فَسُئِلَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ مَعْنَى: " أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ " فَقَالَ: هُوَ الْمُبْتَدِعُ فِي دِينِهِ، الْفَاجِرُ فِي دُنْيَاهُ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُشِيرُونَ بِالْأَصَابِعِ إِلَى مَنْ يَأْتِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُهُ وَبَعْضُهُمْ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِذَا مَرَّ: أَشَارَ مَنْ يَعْرِفُهُ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: هَذَا فُلَانٌ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ ذَمًّا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَدْحًا، فَمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِاجْتِهَادٍ وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ وَانْقِطَاعٍ عَنِ الْخَلْقِ، ثُمَّ انْحَطَّ عَنْ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ: فَإِذَا مَرَّ بِالنَّاسِ أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ فُتِنَ وَانْقَلَبَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: " فَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا " لِأَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَرَجَعَ بَعْدَ الشِّرَّةِ إِلَى أَسْوَأِ فَتْرَةٍ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُنْهَمِكًا فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، ثُمَّ يُوقِظُهُ اللَّهُ لِآخِرَتِهِ، فَيَتْرُكُ مَا هُوَ فِيهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ. فَإِذَا مَرَّ أَشَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ مَفْتُونًا. ثُمَّ تَدَارَكَهُ اللَّهُ. فَهَذَا كَانَتْ شِرَّتُهُ فِي الْمَعَاصِي. ثُمَّ صَارَتْ فِي الطَّاعَاتِ. وَالْأَوَّلُ: كَانَتْ شِرَّتُهُ فِي الطَّاعَاتِ. ثُمَّ فَتَرَتْ وَعَادَتْ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ إِلَى الرَّجُلِ: عَلَامَةُ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَوْرِدُ هَلَاكِهِ وَنَجَاتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ.
পৃষ্ঠা - ১১৪২
قَوْلُهُ " أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا " ذَخَائِرُ الْمَلِكِ: مَا يُخَبَّأُ عِنْدَهُ، وَيَذْخُرُهُ لِمُهِمَّاتِهِ، وَلَا يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ ذَخِيرَةُ الرَّجُلِ: مَا يَذْخُرُهُ لِحَوَائِجِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا مَسْتُورِينَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ، غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِمْ وَلَا مُتَمَيِّزِينَ بِرَسْمٍ دُونَ النَّاسِ، وَلَا مُنْتَسِبِينَ إِلَى اسْمِ طَرِيقٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ زِيٍّ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الذَّخَائِرِ الْمَخْبُوءَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الْآفَاتِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ كُلَّهَا تَحْتَ الرُّسُومِ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا، وَلُزُومِ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَالْأَوْضَاعِ الْمُتَدَاوَلَةِ الْحَادِثَةِ؛ هَذِهِ هِيَ الَّتِي قَطَعْتَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَهَا: هُمُ الْمَعْرُوفُونَ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَهُمْ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ بِتِلْكَ الرُّسُومِ وَالْقُيُودِ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنِ السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: مَا لَا اسْمَ لَهُ سِوَى السُّنَّةِ يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسَ لَهُمُ اسْمٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ سِوَاهَا. فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ يَتَقَيَّدُ بِلِبَاسٍ لَا يَلْبِسُ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَانٍ لَا يَجْلِسُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ مِشْيَةٍ لَا يَمْشِي غَيْرَهَا، أَوْ بِزِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْهَا، أَوْ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى مَصْدُودُونَ عَنْهُ، قَدْ قَيَّدَتْهُمُ الْعَوَائِدُ وَالرُّسُومُ وَالْأَوْضَاعُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ عَنْ تَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ. فَأَضْحَوْا عَنْهُمَا بِمَعْزِلٍ، وَمَنْزِلَتُهُمْ مِنْهَا أَبْعَدَ مَنْزِلٍ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَتَعَبَّدُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ، وَيَعُدُّ الْعِلْمَ قَاطِعًا لَهُ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا ذُكِرَ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَدَّ ذَلِكَ فُضُولًا وَشَرًّا، وَإِذَا رَأَوْا بَيْنَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَعَدُّوهُ غَيْرًا عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ إِشَارَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الثَّانِيَةُ طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ] فَصْلٌ قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ، وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ وَأَدَبٍ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ وَظَرْفٍ يُهَذِّبُهُمْ. أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ اسْتَسَرُّوا اخْتِيَارًا وَإِرَادَةً لِذَلِكَ، صِيَانَةً لِأَحْوَالِهِمْ، وَكَمَالًا فِي
পৃষ্ঠা - ১১৪৩
تَمَكُّنِهِمْ، فَمَقَامَاتُهُمْ عَالِيَةٌ لَا تَرْمُقُهَا الْعُيُونُ وَلَا تُخَالِطُهَا الظُّنُونُ، يُشِيرُونَ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ السَّالِكِينَ، وَبِدَايَاتِ السُّلُوكِ، وَيُخْفُونَ مَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَحْوَالِ الْمَحَبَّةِ وَمَوَاجِيدِهَا، وَآثَارِ الْمَعْرِفَةِ وَتَوْحِيدِهَا، فَهَذِهِ هِيَ التَّوْرِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. فَكَأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لِلْمُخَاطَبِ: أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ مَعَهُمْ فِي الْبِدَايَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَمَقَامُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِنَّهُمْ يَسْتُرُونَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ عَنِ النَّاسِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُمْ مَعَ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ، يُخَاطِبُونَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَلَا يُخَاطِبُونَهُمْ بِمَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ، فَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ فَيَحْسَبُهُمُ الْمُخَاطَبُ مِثْلَهُ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ وَلَيْسُوا هُمْ عِنْدَ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: " أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ، وَهُمْ فِي غَيْرِهِ " يَعْنِي: يُشِيرُونَ إِلَى مَنْزِلِ التَّوْبَةِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ، وَالْوَجْدِ، وَالذَّوْقِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّهُمْ عَامَّةٌ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسِيئُونَ، وَهُمْ مُحْسِنُونَ. وَعَلَى هَذَا: فَيَكُونُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَلَامَتِيَّةِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مَا لَا يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ، وَيُسِرُّونَ مَا يَحْمَدُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَكْسُ الْمُرَائِينَ الْمُنَافِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ. لَهُمْ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ، تُسَمَّى طَرِيقَةَ أَهْلِ الْمَلَامَةِ وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَلَامَتِيَّةُ يَزْعُمُونَ: أَنَّهُمْ يَحْتَمِلُونَ مَلَامَ النَّاسِ لَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. لِيَخْلُصَ لَهُمْ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]
পৃষ্ঠা - ১১৪৪
فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى إِسْقَاطِ جَاهِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. لَمَّا رَأَوُا الْمُغْتَرِّينَ - الْمُغْتَرَّ بِهِمْ - مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَعْمَلُونَ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَتَوْفِيرِ جَاهِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَعَاكَسَهُمْ هَؤُلَاءِ وَأَظْهَرُوا بَطَالَةً وَأَبْطَنُوا أَعْمَالًا. وَكَتَمُوا أَحْوَالَهُمْ جُهْدَهُمْ. وَيَنْشُدُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ: فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةُ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى ... فَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ لِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصَوُّفُ تَرْكُ الدَّعَاوَى، وَكِتْمَانُ الْمَعَانِي، وَسُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ عَلَامَاتِ الصَّادِقِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُبَالِيَ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْ عَمَلِهِ. وَهَذَا يُحْمَدُ فِي حَالٍ، وَيُذَمُّ فِي حَالٍ، وَيَحْسُنُ مِنْ رَجُلٍ وَيَقْبُحُ مِنْ آخَرَ، فَيُحْمَدُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا ذَمَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِيَكْتُمَ بِهِ حَالَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا إِذَا أَظْهَرَ الْغِنَى وَكَتَمَ الْفَقْرَ وَالْفَاقَةَ، وَأَظْهَرَ الصِّحَّةَ وَكَتَمَ الْمَرَضَ، وَأَظْهَرَ النِّعْمَةَ وَكَتَمَ الْبَلِيَّةَ. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كُنُوزِ السِّتْرِ، وَلَهُ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ ذَاقَهُ، وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ شَكَاةً فَقَالَ: يَا ابْنِ أَخِي قَدْ ذَهَبَ ضَوْءُ بَصَرِي مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحْدًا. وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يُذَمُّ فِيهَا: فَأَنْ يُظْهِرَ مَا لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِيُسِيءَ بِهِ النَّاسُ الظَّنَّ، فَلَا يُعَظِّمُوهُ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَرَقَ ثِيَابَ رَجُلٍ، وَمَشَى رُوَيْدًا حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ وَسَبُّوهُ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَحِلُّ تَعَاطِيهِ، وَيَقْبُحُ أَيْضًا مِنَ الْمَتْبُوعِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ، بَلْ وَمَا هُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يُغِرُّ النَّاسَ، وَيُوقِعُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ سُوءٍ.
পৃষ্ঠা - ১১৪৫
فَالْمَلَامَتِيَّةُ نَوْعَانِ: مَمْدُوحُونَ أَبْرَارٌ، وَمَذْمُومُونَ جُهَّالٌ. وَإِنْ كَانُوا فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ. فَالْأَوَّلُونَ: الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمِ اللَّوْمِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ: مَنْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.. وَالنَّوْعُ الثَّانِي الْمَذْمُومُ: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنْ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ. لِيَكْتُمَ بِذَلِكَ حَالَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» . فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ. قَوْلُهُ: أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ. وَهُمْ فِي غَيْرِهِ. مِثَالُهُ: أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي التَّوْبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ وَالْفَنَاءِ. قَوْلُهُ " وَوَرُّوا بِأَمْرٍ. وَهُمْ لِغَيْرِهِ " التَّوْرِيَةُ: أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَفْهَمُ بِهِ الْمُخَاطَبُ مَعْنًى، وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَنَا غَنِيٌّ. فَيُوهِمُ الْمُخَاطَبَ لَهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ بِالشَّيْءِ. وَمُرَادُهُ: غَنِيٌّ بِاللَّهِ عَنْهُ. كَمَا قِيلَ: غَنِيتُ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... وَإِنَّ الْغِنَى الْعَالِي عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ وَأَنْ يَقُولَ: مَا صَحَّ لِي مَقَامُ التَّوْبَةِ بَعْدُ. وَيُرِيدُ: مَا صَحَّتْ لِيَ التَّوْبَةُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ " وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ. وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ " أَيْ: عَظَّمُوا شَأْنًا مِنْ شِئُونِ الْقَوْمِ، وَدَعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى مِنْهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: " فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ " أَيْ: يَغَارُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَيَسْتُرُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ، وَيَغَارُونَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، فَيَسْتُرُونَ أَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، كَمَا قِيلَ:
পৃষ্ঠা - ১১৪৬
أَلِفَ الْخُمُولَ صِيَانَةً وَتَسَتُّرًا ... فَكَأَنَّمَا تَعْرِيفَهُ أَنْ يُنْكَرَا وَكَأَنَّهُ كَلِفُ الْفُؤَادِ بِنَفْسِهِ ... فَحَمَتْهُ غَيْرَتُهُ عَلَيْهَا أَنْ تَرَى قَوْلُهُ: وَأَدَبٌ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ، بِهَذَا يَتِمُّ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ بِهِمْ أَدَبٌ يَصُونُهُمْ عَنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِمْ، وَيَصُونُهُمْ عَنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، فَأَدَبُهُمْ صِوَانٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَهِمَّتُهُ الْعَلِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِهِ، وَأَدَبُهُ يَرْسُو بِهِ إِلَى التُّرَابِ، كَمَا قِيلَ: أَبْلَجُ سَهْلُ الْأَخْلَاقِ مُمْتَنِعٌ ... يُبْرِزُهُ الدَّهْرُ وَهْوَ يَحْتَجِبُ إِذَا تَرَقَّتْ بِهِ عَزَائِمُهُ ... إِلَى الثُّرَيَّا رَسَا بِهِ الْأَدَبُ فَأَدَبُ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ: صِوَانٌ لَهُ، وَتَاجٌ عَلَى رَأْسِهِ. قَوْلُهُ: " وَظَرْفٌ يُهَذِّبُهُمْ " التَّهْذِيبُ: هُوَ التَّأْدِيبُ وَالتَّصْفِيَةُ. وَ " الظَّرْفُ " فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ: أَحْلَى مِنْ كُلِّ حُلْوٍ. وَأَزْيَنُ مِنْ كُلِّ زَيْنٍ. فَمَا قُرِنَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ ظَرْفٍ إِلَى صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَسِرٍّ مَعَ اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ عُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ تَضِيقُ نَفْسُهُ وَأَخْلَاقُهُ عَنْ سِوَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَتَثْقُلُ وَطْأَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ وَجَلِيسِهِ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ بِبِشْرِهِ، وَالتَّبَسُّطِ إِلَيْهِ، وَلِينِ الْجَانِبِ لَهُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَعْذُورٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ بِمَشْكُورٍ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَغْيَارٌ، إِلَّا مَنْ أَعَانَكَ عَلَى شَأْنِكَ وَسَاعَدَكَ عَلَى مَطْلُوبِكَ. فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي حَالِهِ وَصَارَ لَهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٌ عَلَيْهِ مَلَكَةً وَمَقَامًا رَاسِخًا أَنِسَ بِالْخَلْقِ وَأَنِسُوا بِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى ضَلَعِهِمْ وَبُطْءِ سَيْرِهِمْ، فَعَكَفَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لِلُطْفِهِ وَظَرْفِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَنْفِرُونَ مِنَ الْكَثِيفِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الدِّينِ مَا بَلَغَ، وَلِلَّهِ مَا يَجْلِبُ اللُّطْفُ وَالظَّرْفُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَيَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَيُسَهِّلُ لَهُ مَا تَوَعَّرَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَيْسَ الثُّقَلَاءُ بِخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا ثَقُلَ أَحَدٌ عَلَى قُلُوبِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ إِلَّا مِنْ آفَةٍ هُنَاكَ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَكْسُو الْعَبْدَ حَلَاوَةً وَلَطَافَةً وَظَرْفًا، فَتَرَى الصَّادِقَ فِيهَا مِنْ أَحْلَى النَّاسِ وَأَلْطَفِهِمْ وَأَظْرَفِهِمْ، قَدْ زَالَتْ عَنْهُ ثَقَالَةُ النَّفْسِ وَكُدُورَةُ الطَّبْعِ، وَصَارَ رُوحَانِيًّا سَمَائِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيَوَانِيًّا أَرْضِيًّا، فَتَرَاهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عِشْرَةً، وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَلْطَفَهُمْ قَلْبًا وَرُوحًا، وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهَا تَلْطُفُ وَتَظْرُفُ وَتَنْظُفُ. وَمِنْ ظَرْفِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَنْ لَا يَظْهَرَ أَحَدُهُمْ عَلَى جَلِيسِهِ بِحَالٍ وَلَا مَقَامٍ.
পৃষ্ঠা - ১১৪৭
وَلَا يُوَاجِهَهُ إِذَا لَقِيَهُ بِالْحَالِ، بَلْ بِلِينِ الْجَانِبِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، فَيَفْرِشُ لَهُ بِسَاطَ الْأُنْسِ وَيُجْلِسُهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْفُرُشِ الْوَثِيرَةِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَصَّابُ أُسْتَاذُ الْجُنَيْدِ عَنِ التَّصَوُّفِ؟ فَقَالَ: أَخْلَاقٌ كَرِيمَةٌ ظَهَرَتْ فِي زَمَانٍ كَرِيمٍ مَعَ قَوْمٍ كِرَامٍ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَا تُنَافِي اللُّطْفَ وَالظَّرْفَ. وَالصَّلَفُ بَلْ هِيَ أَصْلَفُ شَيْءٍ لَكِنْ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ قَاطِعَةٌ وَهِيَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهَا أَقْطَعُ شَيْءٍ لِلْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ، فَمَنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهَا قَطَعَتْهُ، وَمَنْ عَادَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طَرِيقُ سُلُوكِهِ، وَمَنِ اسْتَعَانَ بِهَا أَرَاحَتْهُ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ أَرَاحَتْ غَيْرَهُ بِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ: الْبَحْثُ عَمَّا جَرَيَاتِ النَّاسِ، وَطَلَبُ تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَثْقَلُ مَا عَلَى قُلُوبِهِمْ سَمَاعُهَا، فَهُمْ مَشْغُولُونَ عَنْهَا بِشَأْنِهِمْ، فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنْهَا فَاتَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ عِنَايَةً لَهُمْ، وَإِذَا عَدَّ غَيْرُهُمْ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ وَسَمَاعَهُ مِنْ بَابِ الظَّرْفِ وَالْأَدَبِ، وَسَتْرِ الْأَحْوَالِ كَانَ هَذَا مِنْ خِدَعِ النُّفُوسِ وَتَلْبِيسِهَا، فَإِنَّهُ يَحُطُّ الْهِمَمَ الْعَالِيَةِ مِنْ أَوْجِهَا إِلَى حَضِيضِهَا، وَرُبَّمَا يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَصِّلَ هِمَّةً أُخْرَى يَصْعَدُ بِهَا إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَأَهْلُ الْهِمَمِ وَالْفِطَنِ الثَّاقِبَةِ لَا يَفْتَحُونَ مِنْ آذَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ طَرِيقًا إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا مَا تَقَاضَاهُ الْأَمْرُ، وَكَانَتْ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحَ، وَمَا عَدَاهُ فَبَطَالَةٌ وَحَطُّ مَرْتَبَةٍ. [فَصْلٌ الثَّالِثَةُ طَائِفَةٌ أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ فَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ] فَصْلٌ قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: طَائِفَةٌ أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ، فَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ وَهَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا هُمْ لَهُ، وَضَنَّ بِحَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِمْ مَا هُمْ بِهِ، فَاسْتَسَرُّوا عَنْهُمْ مَعَ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامِهِمْ، عَنْ قَصْدٍ صَادِقٍ يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ وَحُبٌّ صَادِقٌ يَخْفَى عَلَيْهِ عِلْمُهُ، وَوَجْدٌ غَرِيبٌ لَا يَنْكَشِفُ لَهُ مُوقِدُهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ.
পৃষ্ঠা - ১১৪৮
أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَحَقُّ بِاسْمِ السِّرِّ مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ أَحْوَالُ الْقَلْبِ، وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ الَّتِي وَضَعَهَا فِيهِ سِرًّا عَنْ صَاحِبِهِ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ هُوَ بِهَا، شُغْلًا عَنْهَا بِالْعَزِيزِ الْوَهَّابِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِمُجْرِيهَا وَمُنْشِئِهَا وَوَاهِبِهَا عَنْهَا فَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ السِّرِّ، بَلْ ذَلِكَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَمِنْ أَعْظَمِ السِّتْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَ عَبْدِهِ وَيُخْفِيهِ عَنْهُ، رَحْمَةً بِهِ وَلُطْفًا، لِئَلَّا يُسَاكِنَهُ وَيَنْقَطِعَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خِلْعَةٌ مِنْ خِلَعِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَإِذَا سَتَرَهَا صَاحِبُهَا وَمُلْبِسُهَا عَنْ عَبْدِهِ، فَقَدْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَقِفَ مَعَ شَيْءٍ دُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّتْرُ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ الْعَبْدُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَجَمَالِهِ، أَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي تِلْكَ الصِّفَاتِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا. وَعَلَامَةُ هَذَا الشُّهُودِ الصَّحِيحِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ مَعْمُورًا بِالْإِحْسَانِ، وَظَاهِرُهُ مَغْمُورًا بِالْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ عُنْوَانًا لِبَاطِنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا اتَّصَفَ بِهِ، وَبَاطِنُهُ مُصَحِّحًا لِظَاهِرِهِ، هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَنَاءِ. وَأَكْمَلُ مِنْهُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لَهُ وَيُلَاحِظُهُ وَيَرَاهُ مِنْ مَحْضِ الْمِنَّةِ وَعَيْنِ الْجُودِ، فَلَا يَفْنَى بِالْمُعْطَى عَنْ رُؤْيَةِ عَطِيَّتِهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْعَطِيَّةِ عَنْ مُعْطِيهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَمُلَاحَظَتِهِمَا، وَأَمَرَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] . فَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَنَاءِ عَنْ شُهُودِ نِعْمَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْفَنَاءِ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِ شُهُودِهَا مِنْ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا تَأْخُذُ أَرْبَابَ الْفَنَاءِ فِي تَرْجِيحِ الْفَنَاءِ عَلَيْهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. فَقَوْلُهُ: " أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ " أَيْ: شَغَلَهُمْ بِهِ عَنْ ذِكْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْسَاهُمْ بِذِكْرِهِ ذِكْرَ نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا ضِدَّ حَالِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمَّا نَسُوهُ أَنْسَاهُمْ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي لَا صَلَاحَ لَهُمْ إِلَّا بِهَا، فَلَا يَطْلُبُونَهَا، وَأَنْسَاهُمْ عُيُوبَهُمْ،
পৃষ্ঠা - ১১৪৯
فَلَا يُصْلِحُونَهَا، وَهَؤُلَاءِ أَنْسَاهُمْ حُظُوظَهُمْ بِحُقُوقِهِ، وَذِكْرَ مَا سِوَاهُ بِذِكْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخَذَهُمْ إِلَيْهِ وَشَغَلَهُمْ بِهِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ. أَلَاحَ؛ أَيْ: أَظْهَرَ، وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ لَائِحًا مَا لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهُمْ بَعْدَهُ لِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، وَهَذَا رَقِيقَةٌ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ وَأَرَاهُمْ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: «فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ الَّذِي أَلَاحَهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ أَذْهَلَهُمْ عَنِ الشُّعُورِ بِغَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " هَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا هُمْ لَهُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ هَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا خُلِقُوا لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اتِّسَاعٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْمَحَلِّ، حَيْثُ لَمْ يَتَّسِعِ الْقَلْبُ مَعَهُ لِذِكْرِ مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْكَمَالُ: أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ الْأَمْرَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ غَيَّبَهُمْ عَنْ شُهُودِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي هُمْ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَغَابُوا بِمَشْهُودِهِمْ عَنْ شُهُودِهِمْ، وَبِمَعْرُوفِهِمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَبِمَعْبُودِهِمْ عَنْ عِبَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الْهَائِمَ لَا يَشْعُرُ بِمَا هُوَ فِيهِ وَلَا بِحَالِ نَفْسِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ. قَوْلُهُ: " وَضَنَّ بِحَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِمْ " أَيْ: بَخِلَ بِهِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ أَنْ يُدْرِكَ حَالَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: " فَاسْتَسَرُّوا عَنْهُمْ " أَيِ: اخْتَفُوا حَتَّى عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ تَعْلَمْ نُفُوسُهُمْ كَيْفَ هُمْ؟ وَلَا تُبَادِرُ بِإِنْكَارِ هَذَا، تَكُنْ مِمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَى الْعُنْقُودِ، فَيَقُولُ: هُوَ حَامِضٌ. قَوْلُهُ: مَعَ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامِهِمْ. يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُعَطِّلُوا أَحْكَامَ الْعُبُودِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ، بَلْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ شَوَاهِدُ صَحِيحَةٌ، تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامَاتِهِمْ، وَتِلْكَ الشَّوَاهِدُ: هِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَآدَابِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَوْلُهُ: عَنْ قَصْدٍ سَابِقٍ، يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ