মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة السرور

فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১১২৩
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السُّرُورِ] [فَصْلٌ ذِكْرُ السُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا السُّرُورُ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ السُّرُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . تَصْدِيرُ الْبَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَذَلِكَ تَبَعٌ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِصَاحِبِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. فَإِنَّ مَنْ فَرِحَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ جَوَادٍ كَرِيمٍ، مُحْسِنٍ، بَرٍّ. يَكُونُ فَرَحُهُ بِمَنْ أَوْصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ: أَوْلَى وَأَحْرَى. وَنَذْكُرُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَعْنَى. ثُمَّ نَشْرَحُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمْ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ. وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. فَجَعَلُوا رَحْمَتَهُ أَخَصَّ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ فَضْلَهُ الْخَاصَّ عَامٌّ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَرَحْمَتَهُ بِتَعْلِيمِ كِتَابِهِ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ. فَجَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ بِفَضْلِهِ. وَأَنْزَلَ إِلَيْهِمْ كِتَابَهُ بِرَحْمَتِهِ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ. قُلْتُ: يُرِيدُ بِذَلِكَ. أَنَّ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْفَضْلُ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: اسْتِعْدَادُ الْمَحَلِّ لِقَبُولِهِ، كَالْغَيْثِ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْقَابِلَةِ لِلنَّبَاتِ. فَيَتِمُّ الْمَقْصُودُ بِالْفَضْلِ، وَقَبُولُ الْمَحَلِّ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْفَرَحُ لَذَّةٌ تَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِإِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ وَنَيْلِ الْمُشْتَهَى. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِدْرَاكِهِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ. كَمَا أَنَّ الْحُزْنَ وَالْغَمَّ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا فَقَدَهُ: تَوَلَّدَ مِنْ فَقْدِهِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْحُزْنَ وَالْغَمَّ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]
পৃষ্ঠা - ১১২৪
وَلَا شَيْءَ أَحَقُّ أَنْ يَفْرَحَ الْعَبْدُ بِهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْمَوْعِظَةَ وَشِفَاءَ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا بِالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا آتَى عِبَادَهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ - الَّتِي هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَشِفَاءَ الصُّدُورِ الْمُتَضَمِّنَ لِعَافِيَتِهَا مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْغَيِّ، وَالسَّفَهِ - وَهُوَ أَشَدُّ أَلَمًا لَهَا مِنْ أَدْوَاءِ الْبَدَنِ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا أَلِفَتْ هَذِهِ الْأَدْوَاءَ لَمْ تُحِسَّ بِأَلَمِهَا. وَإِنَّمَا يَقْوَى إِحْسَاسُهَا بِهَا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ لِلدُّنْيَا. فَهُنَاكَ يَحْضُرُهَا كُلُّ مُؤْلِمٍ مُحْزِنٍ. وَمَا آتَاهَا مِنْ رَبِّهَا الْهُدَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ ثَلْجَ الصُّدُورِ بِالْيَقِينِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ بِهِ، وَسُكُونَ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَحَيَاةَ الرُّوحِ بِهِ. وَالرَّحْمَةَ الَّتِي تَجْلِبُ لَهَا كُلَّ خَيْرٍ وَلَذَّةٍ. وَتَدْفَعُ عَنْهَا كُلَّ شَرٍّ وَمُؤْلِمٍ. فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا يَجْمَعُ النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَحَ بِهِ. وَمَنْ فَرِحَ بِهِ فَقَدْ فَرِحَ بِأَجَلِّ مَفْرُوحٍ بِهِ. لَا مَا يَجْمَعُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلْفَرَحِ. لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ. وَوَشِيكُ الزَّوَالِ، وَوَخِيمُ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ طَيْفُ خَيَالٍ زَارَ الصَّبَّ فِي الْمَنَامِ. ثُمَّ انْقَضَى الْمَنَامُ. وَوَلَّى الطَّيْفُ. وَأَعْقَبَ مَزَارَهُ الْهِجْرَانَ. وَقَدْ جَاءَ الْفَرَحُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَوْعَيْنِ. مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ. فَالْمُطْلَقُ: جَاءَ فِي الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] . وَالْمُقَيَّدُ: نَوْعَانِ أَيْضًا. مُقَيَّدٌ بِالدُّنْيَا. يُنْسِي صَاحِبَهُ فَضْلَ اللَّهِ وَمِنَّتَهُ. فَهُوَ مَذْمُومٌ. كَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . وَالثَّانِي: مُقَيَّدٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضًا. فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ بِالسَّبَبِ. وَفَضْلٌ بِالْمُسَبَّبِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] .
পৃষ্ঠা - ১১২৫
فَالْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَبِالْإِيمَانِ، وَبِالسُّنَّةِ، وَبِالْعِلْمِ، وَبِالْقُرْآنِ: مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] . فَالْفَرَحُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ: دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِهِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَإِيثَارِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ فَرَحَ الْعَبْدِ بِالشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِهِ لَهُ: عَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، وَرَغْبَتِهِ فِيهِ. فَمَنْ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الشَّيْءِ لَا يُفْرِحُهُ حُصُولُهُ لَهُ، وَلَا يُحْزِنُهُ فَوَاتُهُ. فَالْفَرَحُ تَابِعٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِبْشَارِ: أَنَّ الْفَرَحَ بِالْمَحْبُوبِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالِاسْتِبْشَارُ يَكُونُ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ إِذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170] . وَالْفَرَحُ صِفَةُ كَمَالٍ وَلِهَذَا يُوصَفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِأَعْلَى أَنْوَاعِهِ وَأَكْمَلِهَا، كَفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَةِ الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ بَعْدَ فَقْدِهِ لَهَا، وَالْيَأْسِ مِنْ حُصُولِهَا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْفَرَحَ أَعْلَى أَنْوَاعِ نَعِيمِ الْقَلْبِ، وَلَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ. وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ نَعِيمُهُ. وَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ عَذَابُهُ. وَالْفَرَحُ بِالشَّيْءِ فَوْقَ الرِّضَا بِهِ. فَإِنَّ الرِّضَا طُمَأْنِينَةٌ وَسُكُونٌ وَانْشِرَاحٌ. وَالْفَرَحُ لَذَّةٌ وَبَهْجَةٌ وَسُرُورٌ. فَكُلُّ فَرِحٍ رَاضٍ. وَلَيْسَ كُلُّ رَاضٍ فَرِحًا. وَلِهَذَا كَانَ الْفَرَحُ ضِدَّ الْحُزْنِ، وَالرِّضَا ضِدَّ السُّخْطِ. وَالْحُزْنُ يُؤْلِمُ صَاحِبَهُ، وَالسُّخْطُ لَا يُؤْلِمُهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الِانْتِقَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حَدُّ السُّرُورِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: السُّرُورُ: اسْمٌ لِاسْتِبْشَارٍ جَامِعٍ. وَهُوَ أَصْفَى مِنَ الْفَرَحِ. لِأَنَّ الْأَفْرَاحَ رُبَّمَا شَابَهَا الْأَحْزَانُ. وَلِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ فِي أَفْرَاحِ الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ. وَوَرَدَ السُّرُورُ
পৃষ্ঠা - ১১২৬
فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي حَالِ الْآخِرَةِ. السُّرُورُ وَالْمَسَرَّةُ: مَصْدَرُ سَرَّهُ سُرُورًا وَمَسَرَّةً. وَكَأَنَّ مَعْنَى سَرَّهُ: أَثَّرَ فِي أَسَارِيرِ وَجْهِهِ. فَإِنَّهُ تَبْرُقُ مِنْهُ أَسَارِيرُ الْوَجْهِ. كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ: وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: رَأَسَهُ; إِذَا أَصَابَ رَأْسَهُ، وَبَطَنَهُ وَظَهَرَهُ; إِذَا أَصَابَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ، وَأَمَّهُ; إِذَا أَصَابَ أُمَّ رَأْسِهِ. وَأَمَّا الِاسْتِبْشَارُ: فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْبُشْرَى. وَالْبِشَارَةُ: هِيَ أَوَّلُ خَبَرٍ صَادِقٍ سَارٍّ. وَ " الْبُشْرَى " يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: بِشَارَةُ الْمُخْبِرِ. وَالثَّانِي: سُرُورُ الْمُخْبَرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] . فُسِّرَتِ الْبُشْرَى بِهَذَا وَهَذَا. فَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُشْرَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: هِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِالْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ: عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ إِذَا خَرَجَتْ يَعْرُجُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ، تُزَفُّ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، تُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. وَفُسِّرَتْ بُشْرَى الدُّنْيَا بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، يَجْرِي لَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ. وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ. فَالثَّنَاءُ: مِنَ الْبُشْرَى، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الْبُشْرَى، وَتَبْشِيرُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عِنْدَ
পৃষ্ঠা - ১১২৭
الْمَوْتِ مِنَ الْبُشْرَى. وَالْجَنَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] . قِيلَ: وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ نَوْعَيْنِ: بُشْرَى سَارَّةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ نَضَارَةً وَبَهْجَةً، وَبُشْرَى مُحْزِنَةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ بُسُورًا وُعُبُوسًا. وَلَكِنْ إِذَا أُطْلِقَتْ كَانَتْ لِلسُّرُورِ. وَإِذَا قُيِّدَتْ كَانَتْ بِحَسَبِ مَا تُقَيَّدُ بِهِ. قَوْلُهُ " وَهُوَ أَصْفَى مِنَ الْفَرَحِ " وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَفْرَاحَ رُبَّمَا شَابَهَا أَحْزَانٌ، أَيْ رُبَّمَا مَازَجَهَا ضِدُّهَا. بِخِلَافِ السُّرُورِ. فَيُقَالُ: وَالْمَسَرَّاتُ رُبَّمَا شَابَهَا أَنْكَادٌ وَأَحْزَانٌ فَلَا فَرْقَ. قَوْلُهُ: وَلِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ فِي أَفْرَاحِ الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ يُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَبَ الْفَرَحَ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] . فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا تَتَخَلَّصُ أَفْرَاحُهَا مِنْ أَحْزَانِهَا وَأَتْرَاحِهَا أَلْبَتَّةَ. بَلْ مَا مِنْ فَرْحَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا تَرْحَةٌ سَابِقَةٌ، أَوْ مُقَارِنَةٌ، أَوْ لَاحِقَةٌ. وَلَا تَتَجَرَّدُ الْفَرْحَةُ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْحَةٍ تُقَارِنُهَا. وَلَكِنْ قَدْ تَقْوَى الْفَرْحَةُ عَلَى الْحُزْنِ فَيَنْغَمِرُ حُكْمُهُ وَأَلَمُهُ مَعَ وُجُودِهَا. وَبِالْعَكْسِ. فَيُقَالُ: وَلَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ أَيْضًا بِالْفَرَحِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ. قَوْلُهُ: وَوَرَدَ اسْمُ السُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي حَالِ الْآخِرَةِ. يُرِيدُ بِهِمَا: قَوْلَهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7]
পৃষ্ঠা - ১১২৮
وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] . فَيُقَالُ: وَوَرَدَ السُّرُورُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 10] . فَقَدْ رَأَيْتَ وُرُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ. فَلَا يَظْهَرُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْجِيحِ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: التَّرْجِيحُ لِلْفَرَحِ: لِأَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوصَفُ بِهِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ دُونَ السُّرُورِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَكْمَلُ مِنْ مَعْنَى السُّرُورِ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] وَأَثْنَى عَلَى السُّعَدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] وَقَوْلُهُ {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] فَعَدَلَ إِلَى لَفْظِ السُّرُورِ لِاتِّفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ. وَلَوْ أَنَّهُ تَرْجَمَ الْبَابَ بِبَابِ الْفَرَحِ، لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً لِلْآيَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ. فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ. [دَرَجَاتُ السُّرُورِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى سُرُورُ ذَوْقٍ] قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ: عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سُرُورُ ذَوْقٍ. ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَحْزَانٍ: حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ. وَحُزْنٌ هَاجَمَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ. وَحُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ. السُّرُورُ ضِدُّ الْحُزْنِ. وَالْحُزْنُ لَا يُجَامِعُهُ: كَانَ مُذْهِبًا لَهُ. وَلَمَّا كَانَ سَبَبُهُ: ذَوْقَ الشَّيْءِ السَّارِّ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّوْقُ أَتَمَّ: كَانَ السُّرُورُ بِهِ أَكْمَلَ. وَهَذَا السُّرُورُ يُذْهِبُ ثَلَاثَةَ أَحْزَانٍ. الْحُزْنُ الْأَوَّلُ: حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ. وَهَذَا حُزْنُ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَكْبِ الْمُحِبِّينَ، وَوَفْدِ الْمَحَبَّةِ، فَأَهْلُ الِانْقِطَاعِ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ صُحْبَةِ هَذَا الرَّكْبِ وَهَذَا
পৃষ্ঠা - ১১২৯
الْوَفْدِ. وَهُمُ الَّذِينَ {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] فَثَبَّطَ عَزَائِمَهُمْ وَهِمَمَهُمْ: أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ. وَأَمَرَ قُلُوبَهُمْ أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا: أَنْ تَقْعُدَ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَحَابِّهِ. فَلَوْ عَايَنْتَ قُلُوبَهُمْ - حِينَ أُمِرَتْ بِالْقُعُودِ عَنْ مُرَافَقَةِ الْوَفْدِ، وَقَدْ غَمَرَتْهَا الْهُمُومُ، وَعَقَدَتْ عَلَيْهَا سَحَائِبُ الْبَلَاءِ، فَأَحْضَرَتْ كُلَّ حُزْنٍ وَغَمٍّ، وَأَمْوَاجُ الْقَلَقِ وَالْحَسَرَاتِ تَتَقَاذَفُ بِهَا، وَقَدْ غَابَتْ عَنْهَا الْمَسَرَّاتُ. وَنَابَتْ عَنْهَا الْأَحْزَانُ - لَعَلِمْتَ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي نَعِيمٍ. وَأَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رُفْقَتِهِمْ فِي جَحِيمٍ. وَهَذَا الْحُزْنُ يَذْهَبُ بِهِ ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. فَيُذِيقُ الصِّدِّيقَ طَعْمَ الْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ. فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ. وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَيُبَاشِرُ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ - وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ: وَحُزْنٌ هَاجَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ. وَهَذَا الْحُزْنُ الثَّانِي: الَّذِي يُذْهِبُ سُرُورَ الذَّوْقِ، هُوَ حَزْنُ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ. وَالْجَهْلُ نَوْعَانِ: جَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ. وَهُوَ مُرَادُ الشَّيْخِ هَاهُنَا، وَجَهْلُ عَمَلٍ وَغَيٍّ. وَكِلَاهُمَا لَهُ ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ نُورًا وَأُنْسًا. فَضِدُّهُ يُوجِبُ ظُلْمَةً وَيُوقِعُ وَحْشَةً. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ نُورًا وَهُدًى وَحَيَاةً. وَسَمَّى ضِدَّهُ: ظُلْمَةً وَمَوْتًا وَضَلَالًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]
পৃষ্ঠা - ১১৩০
وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] وَقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] . فَجَعَلَهُ رُوحًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَنُورًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ. وَمَثَّلَ هَذَا النُّورَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ - الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ - الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ - نُورٌ عَلَى نُورٍ - يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ فَقَدَ هَذَا النُّورِ: بِمَنْ هُوَ فِي {ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . الْحُزْنُ الثَّالِثُ: حُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ. وَهُوَ تَفَرُّقُ الْهَمِّ وَالْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلِهَذَا التَّفَرُّقِ حُزْنٌ مُمِضٌّ عَلَى فَوَاتِ جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَلَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا، فَلَوْ فُرِضَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا حَاصِلَةً لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِسْبَةٌ إِلَى لَذَّةِ جَمْعِيَّةِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفَرَحِهِ بِهِ، وَأُنْسِهِ بِقُرْبِهِ، وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ ذَاقَهُ. فَإِنَّمَا يُصَدِّقُكَ مَنْ أَشْرَقَ فِيهِ مَا أَشْرَقَ فِيكَ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلُ: أَيَا صَاحِبِي أَمَا تَرَى نَارَهُمْ ... فَقَالَ: تُرِينِي مَا لَا أَرَى سَقَاكَ الْغَرَامُ وَلَمْ يَسْقِنِي ... فَأَبْصَرْتَ مَا لَمْ أَكُنْ مُبْصِرًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَلَمُ الْوَحْشَةِ، وَنَكَدُ التَّشَتُّتِ، وَغُبَارُ الشَّعَثِ
পৃষ্ঠা - ১১৩১
لَكَفَى بِهِ عُقُوبَةً، فَكَيْفَ؟ وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ: أَنْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْمُنْقَطِعِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ - الَّتِي هِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ - وَلَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَغْرَقَةً فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَنَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ. وَهَذِهِ عُقُوبَةُ قَلْبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ. ثُمَّ آثَرَ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ. وَرَضِيَ بِطَرِيقَةِ بَنِي جِنْسِهِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَهُ أَدْنَى حَيَاةٍ فِي قَلْبِهِ وَنُورٍ فَإِنَّهُ يَسْتَغِيثُ قَلْبُهُ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا التَّفَرُّقِ. كَمَا تَسْتَغِيثُ الْحَامِلُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا. فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ، لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ. وَفِيهِ وَحْشَةٌ، لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ. وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ. وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ: لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ. وَفِيهِ طَلَبٌ شَدِيدٌ: لَا يَقِفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطْلُوبَهُ. وَفِيهِ فَاقَةٌ: لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا. فَالتَّفَرُّقُ يُوقِعُ وَحْشَةَ الْحِجَابِ. وَأَلَمُهُ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15] . فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْحِجَابِ وَعَذَابُ الْجَحِيمِ. وَ " الذَّوْقُ " الَّذِي يُذْهِبُ وَحْشَةَ هَذَا التَّفَرُّقِ: هُوَ الذَّوْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ سُرُورُ شُهُودٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: سُرُورُ شُهُودٍ. كَشَفَ حِجَابَ الْعِلْمِ، وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ. وَنَفَى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ. يُرِيدُ: أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ. فَشُهُودُ كَشْفِ ذَلِكَ الْحِجَابِ، حَتَّى
পৃষ্ঠা - ১১৩২
يُفْضِيَ الْقَلْبُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: يُوجِبُ سُرُورًا. وَ " الْعِلْمُ " عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: اسْتِدْلَالٌ. وَالْمَعْرِفَةُ ضَرُورِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ: لَهُ الْخَبَرُ. وَالْمَعْرِفَةُ: لَهَا الْعِيَانُ، فَالْعِلْمُ عِنْدَهُمْ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ لَهَا كَالصِّوَانِ لِمَا تَحْتَهُ، فَهُوَ حِجَابٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ. وَمِثَالُ هَذَا: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ فِي حَوْمَةِ ثَلْجٍ ثُقْبًا خَالِيًا: اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلَى أَنَّ تَحْتَهُ حَيَوَانًا يَتَنَفَّسُ، فَهَذَا عِلْمٌ. فَإِذَا حَفَرْتَهُ، وَشَاهَدْتَ الْحَيَوَانَ. فَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ. قَوْلُهُ " وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ " عِبَارَةٌ قَلِقَةٌ، غَيْرُ سَدِيدَةٍ. وَ " رِقُّ التَّكْلِيفِ " لَا يُفَكُّ إِلَى الْمَمَاتِ. وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ الْعَبْدُ مَنْزِلًا شَاهَدَ مِنْ رَقِّ تَكْلِيفِهِ مَا لَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَبْلُ، فَرِقُّ التَّكْلِيفِ: أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ مَا بَقِيَ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَالَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّ السُّرُورَ بِالذَّوْقِ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ - يُعْتِقُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ، بِحَيْثُ لَا يَعُدُّهُ تَكْلِيفًا. بَلْ تَبْقَى الطَّاعَاتُ غِذَاءً لِقَلْبِهِ، وَسُرُورًا لَهُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ فِي حَقِّهِ، وَنَعِيمًا لِرُوحِهِ. يَتَلَذَّذُ بِهَا، وَيَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَإِنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ أَقْوَى وَأَتَمُّ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَلَا يَجِدُ فِي أَوْرَادِ الْعِبَادَةِ كُلْفَةً. وَلَا تَصِيرُ تَكْلِيفًا فِي حَقِّهِ. فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ، وَيَأْتِي بِهِ فِي خِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ: هُوَ أَسَرُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَأَلَذُّهُ عِنْدَهُ. وَلَا يَرَى ذَلِكَ تَكْلِيفًا، لِمَا فِي التَّكْلِيفِ: مِنْ إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا سَمَّى أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ: وَصِيَّةً، وَعَهْدًا، وَمَوْعِظَةً، وَرَحْمَةً وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهَا اسْمَ التَّكْلِيفِ إِلَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَوُقُوعُ الْوُسْعِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُؤَوَّلُ بِهِ كَلَامُهُ. عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا. وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ: إِنَّمَا هِيَ لِأَقْوَامٍ انْتَقَلَتْ عِبَادَاتُهُمْ مِنْ ظَوَاهِرِهِمْ إِلَى بَوَاطِنِهِمْ. فَانْتَقَلَ حُكْمُ أَوْرَادِهِمْ إِلَى وَارِدَاتِهِمْ. فَاسْتَغْنَوْا بِالْوَارِدَاتِ عَنِ الْأَوْرَادِ، وَبِالْحَقَائِقِ عَنِ الرُّسُومِ، وَبِالْمَعَانِي عَنِ الصُّوَرِ. فَخَلَصُوا مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ الْمُخْتَصِّ بِالْعِلْمِ، وَقَامُوا بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحُكْمُ. وَهَكَذَا الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ عُرْضَةٌ لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ. قَوْلُهُ: " وَنَفْى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ " يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى كَانَ مَرْبُوطًا بِاخْتِيَارَاتِهِ،
পৃষ্ঠা - ১১৩৩
مَحْبُوسًا فِي سِجْنِ إِرَادَاتِهِ، فَهُوَ فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: انْتَفَى عَنْهُ صَغَارُ الِاخْتِيَارِ. وَبَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ. فَيَا لَهَا مِنْ عُبُودِيَّةٍ أَوْجَبَتْ حُرِّيَّةً، وَحُرِّيَّةٍ كَمَّلَتْ عُبُودِيَّةً. فَيَصِيرُ وَاقِفًا مَعَ مَا يَخْتَارُ اللَّهُ لَهُ، لَا مَعَ مَا يَخْتَارُهُ هُوَ لِنَفْسِهِ. بَلْ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَمَنْ كَانَ مَحْجُوبًا بِالْعِلْمِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ: نَازَعَتْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَنَازَعَهَا، فَهُوَ مَعَهَا فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ. وَمَتَى أَفْضَى إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكُشِفَ لَهُ عَنْ حِجَابِهَا: شَاهَدَ الْبَلَاءَ نَعِيمًا، وَالْمَنْعَ عَطَاءً، وَالذُّلَّ عِزًّا، وَالْفَقْرَ غِنًى. فَانْقَادَ بَاطِنُهُ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَظَاهِرُهُ لِأَحْكَامِ الْعِلْمِ. عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا، قَدْ جَالَ فِيهِ هُوَ وَطَائِفَتُهُ. فَقَالَ: هَذَا يُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَالتَّخَلُّصَ وَالرَّاحَةَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَالِمَ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ. وَالْعَارِفَ يُنْشِقُكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ. قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ. وَمَعَ الْعَارِفِ فِي رَاحَةٍ. لِأَنَّ الْعَارِفَ يَبْسُطُ عُذْرَ الْعَوَالِمِ وَالْخَلَائِقِ. وَالْعَالِمَ يَلُومُ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الْعِلْمِ مَقَتَهُمْ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ عَذَرَهُمْ. فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي مَلْمَسُهُ نَاعِمٌ. وَسُمُّهُ زُعَافٌ قَاتِلٌ، مِنَ الِانْحِلَالِ عَنِ الدِّينِ وَدَعْوَى الرَّاحَةِ مِنْ حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْتِمَاسِ الْأَعْذَارِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَالظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ، وَأَنَّ أَحْكَامَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - الْوَارِدَيْنِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ - لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ سَعْطِ الْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ، وَأَنَّ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلَائِقِ، وَالْوُقُوفَ مَعَهَا، وَالِانْقِيَادَ لِحُكْمِهَا: بِمَنْزِلَةِ تَنْشِيقِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. فَلْيَهْنِ الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَالْفُسَّاقَ: انْتِشَاقُ هَذَا الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، إِذَا شَهِدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهَا. وَيَا رَحْمَةً لِلْأَبْرَارِ الْمُحَكِّمِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثْرَةِ سُعُوطِهِمْ بِالْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا يَجُوزُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَهَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ. وَهَذَا يُرْضِي اللَّهَ وَهَذَا يُسْخِطُهُ: خَلٌّ وَخَرْدَلٌ، عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ. وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ تُشْهِدُكَ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ - عِنْدَهُمْ - إِلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ: عَذَرْتَ الْجَمِيعَ. فَتَعْذِرُ مَنْ تَوَعَّدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْظَمَ الْوَعِيدِ. وَتَهَدَّدَهُ أَعْظَمَ التَّهْدِيدِ.
পৃষ্ঠা - ১১৩৪
وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! إِذَا كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَعْذُورَ. وَيُذِيقُهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ؟ وَهَلَّا كَانَ الْغَنِيُّ الرَّحِيمُ أَوْلَى بِعُذْرِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ نَعَمْ. الْعَالِمُ النَّاصِحُ يَلُومُ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْعَارِفُ الصَّادِقُ يَرْحَمُ بِقَدَرِ اللَّهِ. وَلَا يَتَنَافَى عِنْدَهُ اللَّوْمُ وَالرَّحْمَةُ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ: عُقُوبَةُ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِعُقُوبَتِهِ. فَذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ. وَتَرْكُ عُقُوبَتِهِ زِيَادَةٌ فِي أَذَاهُ وَأَذَى غَيْرِهِ. وَأَنْتَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ يُعْقِبُ كُلَّ الرَّاحَةِ، وَمَعَ عَارِفِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ: فِي رَاحَةٍ وَهْمِيَّةٍ: تُعْقِبُ كُلَّ تَعَبٍ وَخَيْبَةٍ وَأَلَمٍ، كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: عَلَى قَدْرِ مَا تَتْعَبُونَ هَاهُنَا تَسْتَرِيحُونَ هُنَالِكَ. وَعَلَى قَدْرِ مَا تَسْتَرِيحُونَ هَاهُنَا تَتْعَبُونَ هُنَالِكَ. فَالْعِلْمُ يُحَذِّرُكَ، وَيَمْنَعُكَ الْوُقُوفَ حَتَّى تَبْلُغَ الْمَأْمَنَ. وَعَارِفُ الْمَلَاحِدَةِ يُوهِمُكَ الرَّاحَةَ مِنْ كَدِّ الْمَسِيرِ وَمُؤْنَةِ السَّفَرِ، حَتَّى تُؤْخَذَ فِي الطَّرِيقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ. وَهُوَ سُرُورٌ يَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ. وَيُضْحِكُ الرُّوحَ. قَيَّدَ الشَّيْخُ السَّمَاعَ: بِكَوْنِهِ سَمَاعَ إِجَابَةٍ فَإِنَّهُ السَّمَاعُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، لَا مُجَرَّدَ سَمَاعِ الْإِدْرَاكِ. فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُجِيبِ وَالْمُعْرِضِ. وَبِهِ تَقُومُ الْحُجَّةُ وَيَنْقَطِعُ الْعُذْرُ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ -: يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنِي.» وَأَمَّا سَمَاعُ الْإِجَابَةِ: فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أَيْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] أَيْ: مُسْتَجِيبُونَ لَهُ. وَهُوَ الْمُرَادُ. وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ. وَهُوَ
পৃষ্ঠা - ১১৩৫
السَّمْعُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا. فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] أَيْ لَجَعَلَهُمْ يَسْمَعُونَ سَمْعَ إِجَابَةٍ وَانْقِيَادٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَأَفْهَمَهُمْ. وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ الْمَعْنَى لَأَسْمَعَ قُلُوبَهُمْ. فَإِنَّ سَمَاعَ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ الْفَهْمَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ. فَلَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَلَجَعَلَهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِمَا سَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ هُوَ سَمَاعُ انْقِيَادِ الْقَلْبِ، وَالرُّوحِ، وَالْجَوَارِحِ، لِمَا سَمِعَتْهُ الْأُذُنَانِ. قَوْلُهُ: وَيَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ، يَعْنِي: يُزِيلُ بَقَايَا الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَّبَهَا تَرْكُ الِانْقِيَادِ التَّامِّ. فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ فَقْدِ ذَلِكَ: تَكُونُ الْوَحْشَةُ. وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالِانْقِيَادِ التَّامِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ آثَارٌ. وَهُمْ أَهْلُ كَشْفِ حِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُمْ إِذَا انْكَشَفَ عَنْهُمْ حِجَابُ الْعِلْمِ، وَأَفْضَوْا إِلَى الْمَعْرِفَةِ: بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ بَقَايَا مِنْ آثَارِ الْحِجَابِ. فَإِذَا حَصَلُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: زَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَقَايَا. وَقَدْ يُوَجَّهُ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا دَعَا رَبَّهُ سُبْحَانَهُ. فَسَمِعَ رَبُّهُ دُعَاءَهُ سَمَاعَ إِجَابَةٍ، وَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَهُ، عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ وَمَطْلَبِهِ، أَوْ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْهُ: حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ سُرُورٌ يَمْحُو مِنْ قَلْبِهِ آثَارَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ وَحْشَةِ الْبُعْدِ. فَإِنَّ لِلْعَطَاءِ وَالْإِجَابَةِ سُرُورًا وَأُنْسًا وَحَلَاوَةً. وَلِلْمَنْعِ وَحْشَةً وَمَرَارَةً. فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَتَكَرَّرَ مِنْ رَبِّهِ سَمَاعٌ وَإِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ: مَحَا عَنْهُ آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَأَبْدَلَهُ بِهَا أُنْسًا وَحَلَاوَةً. قَوْلُهُ: وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ. يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مُشَاهَدَةَ حَضْرَةِ الْجَمْعِ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ عِنْدَهُ. وَإِلَّا فَمُشَاهَدَةُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ: قَدْ سَبَقَتْ فِي الدَّرَجَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ. وَانْتَقَلَ الْمُشَاهِدُ لِذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْحَضْرَةِ الْمَذْكُورَةِ. قَوْلُهُ " وَيُضْحِكُ الرُّوحَ " يَعْنِي: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ يُضْحِكُ الرُّوحَ، لِسُرُورِهَا بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرُّوحَ بِالضَّحِكِ: لِيُخْرِجَ بِهِ سُرُورًا يُضْحِكُ النَّفْسَ وَالْعَقْلَ وَالْقَلْبَ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ رَفْعِ الْحِجَابِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، إِذْ مَحَلُّهُ النَّفْسُ. فَإِذَا ارْتَفَعَ وَمَحَا الشُّهُودُ رَسْمَ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ الْإِدْرَاكُ حِينَئِذٍ بِالرُّوحِ. فَيُضْحِكُهَا بِالسُّرُورِ.