فصل في منازل إياك نعبد
فصل منزلة اللحظ
فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১০৭৪
فَلَا تَعْدِلْ عَنْ أَلْفَاظِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ، وَصَادِرَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَالْإِجْمَالُ وَالْإِشْكَالُ فِي اصْطِلَاحَاتِ الْقَوْمِ وَأَوْضَاعِهِمْ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ]
[حَقِيقَةُ اللَّحْظِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ
وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
(بَابُ اللَّحْظِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] .
قُلْتُ: يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِالِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَثْبُتُ لِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا. لِصَيْرُورَةِ الْجَبَلِ دَكًّا عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ أَدْنَى تَجَلٍّ.
كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ «عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] قَالَ حَمَّادٌ: هَكَذَا - وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَىمَفْصِلِ الْخِنْصَرِ الْأَيْمَنِ - فَقَالَ حُمَيْدٌ لِثَابِتٍ: أَتُحَدِّثُبِمِثْلِي هَذَا؟ فَضَرَبَ ثَابِتٌ صَدْرَ حُمَيْدٍ ضَرْبَةً بِيَدِهِ. وَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِهِ، وَأَنَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ» ؟ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
পৃষ্ঠা - ১০৭৫
صَحِيحِهِ وَقَالَ: هُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الشَّيْخَ اسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ اللَّحْظِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ. فَرَأَى أَثَرَ التَّجَلِّي فِي الْجَبَلِ دَكًّا. فَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا.
قَالَ الشَّيْخُ: " اللَّحْظُ: لَمْحٌمُسْتَرِقٌ " الصَّوَابُ قِرَاءَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِالتَّخْفِيفِ. فَوَصَفَ اللَّمْحَ بِأَنَّهُمُسْتَرِقٌ كَمَا يُقَالُ: سَارَقْتُهُ النَّظَرَ. وَهُوَ لَمْحٌ بِخُفْيَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَلْمُوحُ.
وَلِهَذَاالِاسْتِرَاقِ أَسْبَابٌ. مِنْهَا: تَعْظِيمُ الْمَلْمُوحِ وَإِجْلَالُهُ. فَالنَّاظِرُيُسَارِقُهُ النَّظَرَ. وَلَا يُحِدُّ نَظَرَهُ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ. وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ لَمَا قَدَرْتُ. لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: خَوْفُ اللَّامِحِ سَطْوَتَهُ. وَمِنْهَا مَحَبَّتُهُ. وَمِنْهَا الْحَيَاءُ مِنْهُ. وَمِنْهَا ضَعْفُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ عَنِ التَّحْدِيقِ فِيهِ. وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُقْرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. أَيْ نَظَرًا يَسْتَرِقُّ صَاحِبَهُ. أَيْ يَأْسِرُ قَلْبَهُ وَيَجْعَلُهُ رَقِيقًا - أَيْ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ - لِمَا شَاهَدَ مِنْ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، فَاسْتَرَقَّ قَلْبَهُ. فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِقِّهِ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ وُقُوعِ لَحْظِهِ عَلَيْهِ.
فَهَكَذَا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا لَاحَظَ بِقَلْبِهِ جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالَ نُعُوتِهِ، وَمَوَاقِعَ لُطْفِهِ وَفَضْلِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ: اسْتَرَقَّ قَلْبَهُ لَهُ وَصَارَتْ لَهُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ.
[دَرَجَاتُ اللَّحْظِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا]
قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا. وَهِيَ تَقْطَعُ طَرِيقَ السُّؤَالِ، إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا. وَتُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ. وَتَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ.
পৃষ্ঠা - ১০৭৬
الشَّيْخُ عَادَتُهُ فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَقُولَ: " وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ ". وَقَالَ هَاهُنَا: " وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ " فَعَيَّنَ " هَذَا الْبَابَ " هُنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْوَابِ. لِأَنَّ اللَّحْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ لِحَظِّ الْبَصَرِ، وَلَحْظِ الْبَصِيرَةِ. وَالشَّيْخُ إِنَّمَا أَرَادَ هَاهُنَا هَذَا الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيهِ خَاصَّةً.
وَهُوَ لَمَّا صَدَّرَ بِالْآيَةِ وَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِيهَا: إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْأَمْرِ بِنَظَرِ الْعَيْنِ، اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ.
وَقَالَ: اللَّحْظُ الَّذِي نُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ لَحْظُ الْعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ " مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا " الْفَضْلُ: هُوَ الْعَطَاءُ الْإِلَهِيُّ. وَ " السَّبْقُ " هُوَ مَا سَبَقَ لَهُ بِالتَّقْدِيرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وَقَالَ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171] وَهَذَا الْكَلَامُ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ قَدْ سَبَقَ بِهِ تَقْدِيرُهُ - فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ - سَكَنَ جَأْشُهُ. وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ، وَعَلِمَ «أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ. وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» . وَأَنَّهُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ وَلِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا. {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] . فَإِذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ، وَذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ بِهِ: قَطَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ مِنْ رَبِّهِ. لِأَنَّ مَا سَبَقَ لَهُ بِهِ الْقَدَرُ كَائِنٌ وَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الشَّيْخُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سُؤَالِ رَبِّهِ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ. فَقَالَ: " إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا " أَيْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ سُؤَالَهُ وَطَلَبَهُ يَجْلِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ. وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَحْذَرُهُ. فَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِوُصُولِ الْمَقْدُورِ إِلَيْهِ، سَأَلَهُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ. وَلَكِنْ يَكُونُ سُؤَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ، وَإِظْهَارِ فَقْرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَذُلِّهَا بَيْنَ يَدَيْ عِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَرْغَبَ إِلَيْهِ. لِأَنَّ وُصُولَ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى سُؤَالِهِ. بَلْ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا تَوَسُّطِ سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ.
بَلْ قَدَّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِسُؤَالِهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ، إِظْهَارًا لِمَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَاعْتِرَافًا بِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالِ غِنَى الرَّبِّ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا غِنَى لَهُ عَنْ فَضْلِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَيَأْتِي بِالطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ إِتْيَانَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِطَلَبِهِ وَسُؤَالِهِ شَيْئًا.
وَلَكِنَّ
পৃষ্ঠা - ১০৭৭
رَبَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ، وَيُطْلَبَ مِنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] .
وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] .
وَقَالَ {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] ، وَقَالَ {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] ، وَقَالَ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ، وَقَالَ {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ» وَقَالَ «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ. وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ» .
وَقَالَ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ. فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِهِ. وَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ» .
وَقَالَ «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ بِهَا أَحَدَ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ حَاجَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَاللَّهُ أَكْثَرُ»
পৃষ্ঠা - ১০৭৮
وَقَالَ «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ» .
وَقَالَ تَعَالَى - فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ. فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مِنْ كَسَوْتُهُ. فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ. فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي. فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَأَمَّا السُّجُودُ: فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ. وَلَكِنْ أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ. فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ.
وَفِي هَذَا يَقُولُ الْقَائِلُ:
لَوْ لَمْ تُرِدْ بَذْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ ... مِنْ جُودِ كَفِّكَ مَا عَوَّدْتَنِي الطَّلَبَا
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ تَذَلُّلَ عَبِيدِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُؤَالَهُمْ إِيَّاهُ، وَطَلَبَهُمْ حَوَائِجَهُمْ مِنْهُ، وَشَكْوَاهُمْ إِلَيْهِ، وَعِيَاذَهُمْ بِهِ مِنْهُ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِ. كَمَا قِيلَ:
পৃষ্ঠা - ১০৭৯
قَالُوا أَتَشْكُو إِلَيْهِ ... مَا لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ
فَقُلْتُ رَبِّي يَرْضَى ... ذُلَّ الْعَبِيدِ لَدَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَذَاكَرْتُ: مَا جِمَاعُ الْخَيْرِ؟ فَإِذَا الْخَيْرُ كَثِيرٌ: الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ. وَإِذَا هُوَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تَسْأَلَهُ، فَيُعْطِيَكَ. فَإِذَا جِمَاعُ الْخَيْرِ: الدُّعَاءُ.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ:
طَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ.
قَالُوا: فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِ، دَعَا الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِهِ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ.
وَلَمَّا رَأَوُا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْآثَارَ قَدْ تَظَاهَرَتْ بِالدُّعَاءِ وَفَضْلِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: هُوَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ اللَّهُ. وَلَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: ظَنَّتْ أَنَّ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ يُنَالُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحُصُولِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ. وَرُبَّمَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شُهُودُهُمْ: أَنَّ هَذَا السَّبَبَ مِنْهُمْ وَبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَعَلُوهُ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ الَّتِي فَعَلَتْهُ وَأَحْدَثَتْهُ.
وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَرُبَّمَا غَابَ عَنْهُمْ شُهُودُ كَوْنِ ذَلِكَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ، لَا بِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَهُمْ لِلدُّعَاءِ. وَقَذَفَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ.
فَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ غَالِطَتَانِ أَقْبَحَ غَلَطٍ. وَهُمَا مَحْجُوبَتَانِ عَنِ اللَّهِ.
فَالْأُولَى: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَنَصْبِهَا لِإِقَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ بِهَا. فَحِجَابُهَا كَثِيفٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَنِهِ وَفَضْلِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ - بَلْ وَلَا لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ - إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ. وَأَنَّهُ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى: إِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ قُدِّرَ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ.
পৃষ্ঠা - ১০৮০
جَوَابُهُ، أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ أَنَّهُ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ. فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ لَمْ يُوجَدْ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الْمَطْلُوبِ: الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ اللَّذَيْنِ إِذَا وُجِدَا وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِمَا. كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوَلَدِ: الْجِمَاعُ. وَمِنْ أَسْبَابِ الزَّرْعِ: الْبَذْرُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ.
وَيُقَالُ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: لَا مُوجِبَ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ هَاهُنَا سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُهَا. فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ السَّبَبَ سَبَبًا. وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ عَلَى السَّبَبِ حُصُولِ الْمُسَبَّبِ. وَلَوْ شَاءَ لِأَوْجَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَإِذَا شَاءَ مَنْعَ سَبَبِيَّةِ السَّبَبِ، وَقَطَعَ عَنْهُ اقْتِضَاءَ أَثَرِهِ. وَإِذَا شَاءَ أَقَامَ لَهُ مَانِعًا يَمْنَعُهُ عَنِ اقْتِضَاءِ أَثَرِهِ، مَعَ بَقَاءِ قُوَّتِهِ فِيهِ. وَإِذَا شَاءَ رَتَّبَ عَلَيْهِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ.
فَالْأَسْبَابُ طَوْعُ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَقُدْرَتِهِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ. يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَاحَظَ بِعَيْنِ قَلْبِهِ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ جَزِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا سَبَبَ مِنَ الْعَبْدِ أَصْلًا. فَإِنَّهُ سَبَقَتْ لَهُ تِلْكَ السَّابِقَةُ وَهُوَ فِي الْعَدَمِ. لَمْ يَكُنْ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ - شَغَلَتْهُ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ بِطَلَبِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَنِ الطَّلَبِ مِنْهُ. وَقَطَعَتْ عَلَيْهِ طَرِيقَ السُّؤَالِ، اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. لَا لِأَنَّ مَسْأَلَتَهُ وَالطَّلَبَ مِنْهُ نَقْصٌ. بَلْ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَمْرَيْنِ، بَلِ اسْتِغْرَاقُهُ فِي شُهُودِ الْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْفَضْلِ قَطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ مَقَامًا لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ هَذَا حُكْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَيُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ.
يَعْنِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ مِنَ الْعَبْدِ يُنْبِتُ لَهُ السُّرُورَ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فَضْلَ رَبِّهِ قَدْ سَبَقَ لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ وَتَقْصِيرِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ. وَلَمْ يَمْنَعْهُ عِلْمُهُ بِهِ: أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ. فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ إِذْ أَنْشَأَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ هُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَّرَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْجُودِ مَا قَدَّرَهُ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْهُ. بَلْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَقْتَضِي قَطْعَ ذَلِكَ وَمَنْعَهُ عَنْهُ.
فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ: اشْتَدَّ سُرُورُهُ بِرَبِّهِ، وَبِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَهَذَا فَرَحٌ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]
পৃষ্ঠা - ১০৮১
فَفَضْلُهُ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْعِلْمُ وَالْقُرْآنُ. وَهُوَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِذَلِكَ وَيُسَرَّ بِهِ. بَلْ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِالْحَسَنَةِ إِذَا عَمِلَهَا وَأَنَّ يُسَرَّ بِهَا. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرَحٌ بِفَضْلِ اللَّهِ، حَيْثُ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهَا، وَأَعَانَهُ عَلَيْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُ. فَفِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا يَفْرَحُ الْعَبْدُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ. فَيَفْرَحُ بِهِ إِذْ هُوَ عَبْدُهُ وَمُحِبُّهُ. وَيَفْرَحُ بِهِ سُبْحَانَهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَمُنْعِمًا وَمُرَبِّيًا، أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِسَيِّدِهِ الْمَخْلُوقِ الْمُشْفِقِ عَلَيْهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيَطْلُبُهُ مِنْهُ. الْمُتَنَوِّعُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالذَّبِّ عَنْهُ.
وَسَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَمَامُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ السُّرُورِ.
قَوْلُهُ " إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ " أَيْ يُمَازِجُهُ. فَإِنَّ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيُنَمِّيهَا. وَيُنْسِيهَا عُيُوبَهَا وَآفَاتِهَا وَنَقَائِصَهَا. إِذْ لَوْ شَهِدَتْ ذَلِكَ وَأَبْصَرَتْهُ لَشَغَلَهَا ذَلِكَ عَنِ الْفَرَحِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ قَدْ يُنْسِيهِ الْمُنْعِمَ. فَيَشْتَغِلُ بِالْخِلْعَةِ الَّتِي خَلَعَهَا عَلَيْهِ عَنْهُ. فَيَطْفَحُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتَّى يَغِيبَ بِنِعْمَتِهِ عَنْهُ. وَهُنَا يَكُونُ الْمَكْرُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ.
وَلِلَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ مُسْتَرِدٍّ مِنْهُ مَا وَهَبَ لَهُ عَزَّةً وَحِكْمَةً! وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ. إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ لَخِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] فَإِذَا كَانَ هَذَا غِنًى بِالْحُطَامِ الْفَانِي، فَكَيْفَ بِالْغِنَى بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ؟ فَصَاحِبُ هَذَا إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَذَرُ الْمَكْرِ: خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَهُ وَيَنْحَطَّ عَنْهُ.
وَ " الْمَكْرُ " الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ: أَنْ يُغَيِّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ شُهُودَ أَوَّلِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْهُ وَحْدَهُ. فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَقَوْلِهِ {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] وَقَوْلِهِ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]
পৃষ্ঠা - ১০৮২
وَقَوْلِهِ {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] وَقَوْلِهِ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَيُغَيِّبُهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ. وَيُحِيلُهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَطَلَبِهِ. فَيُحِيلُهُ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي لَهَا الْفَقْرُ بِالذَّاتِ، وَيَحْجُبُهُ عَنِ الْحِوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ الْوَفِيِّ الَّذِي لَهُ الْغِنَى التَّامُّ كُلُّهُ بِالذَّاتِ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَكْرِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مِنَ الطَّاعَةِ مَا بَلَغَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ هَذَا الْحَذَرُ. وَقَدْ خَافَهُ خِيَارُ خَلْقِهِ، وَصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ شُعَيْبٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 88]- إِلَى قَوْلِهِ - {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةً بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وُوُقُوفًا مَعَ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمِهِ - وَقَدْ خَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ - فَقَالَ {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] .
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ؟
فَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يَدْعُو بِذَلِكَ. وَمُرَادُهُ: لَا تَخْذُلْنِي، حَتَّى آمَنَ مَكْرَكَ وَلَا أَخَافَهُ، وَكَرِهَهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَلَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ. وَلَكِنْ أَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ آمَنَ مَكْرَكَ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تُؤَمِّنُنِي.
পৃষ্ঠা - ১০৮৩
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ أُحِيلَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَدْ مُكِرَ بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ - مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ طَرِيفٍ الْمِعْوَلِيِّ حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: وَجَدْتُ هَذَا الْإِنْسَانَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ. فَإِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ خَيْرًا: جَبَذَهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا: وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ. وَمَنْ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ هَلَكَ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: لَوْ أُخْرِجَ قَلْبِي فَجُعِلَ فِي يَدِي هَذِهِ فِي الْيَسَارِ. وَجِيءَ بِالْخَيْرِ فَجُعِلَ فِي هَذِهِ الْيُمْنَى. ثُمَّ قُرِّبْتُ مِنَ الْأُخْرَى مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُولِجَ فِي قَلْبِي شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَضَعُهُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَكْرِ، مَا لَمْ يُقَارِنْهُ خَوْفٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
وَقَالَ قَوْمُ قَارُونَ لَهُ {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] فَالْفَرَحُ مَتَى كَانَ بِاللَّهِ، وَبِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ، مُقَارِنًا لِلْخَوْفِ وَالْحَذَرِ: لَمْ يَضُرَّ صَاحِبَهُ، وَمَتَى خَلَا عَنْ ذَلِكَ: ضَرَّهُ وَلَا بُدَّ.
قَوْلُهُ: وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ.
هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تَبْعَثُهُ عَلَى الشُّكْرِ لِلَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي كُلِّ حِينٍ، إِلَّا مَا عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ شُكْرِهِ. فَإِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ لِنَفْسِهِ بِحَقِّ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ. فَتِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ تَبْسُطُ لِلْعَبْدِ الشُّكْرَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِهِ.
فَإِنَّ شُكْرَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ. فَهِيَ تَسْتَدْعِي شُكْرًا آخَرَ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ الشُّكْرُ نِعْمَةٌ أَيْضًا. فَيَسْتَدْعِي شُكْرًا ثَالِثًا. وَهَلُمَّ جَرًّا. فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ الرَّبِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَلَا يَشْكُرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ. فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ وَبِشُكْرِهَا. فَهُوَ الشَّكُورُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَمَّى عَبْدَهُ شَكُورًا. فَمِدْحَةُ الشُّكْرِ فِي الْحَقِيقَةِ: رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَمَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ. فَهُوَ الشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ. فَمَا شَكَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، مَعَ كَوْنِ الْعَبْدِ عَبْدًا وَالرَّبِّ رَبًّا. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ.
পৃষ্ঠা - ১০৮৪
الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ يَبْسُطُهُ لِلشُّكْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَفِعْلُهُ. لَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَفِعْلُهُ. فَإِنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ بِالشَّكُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] فَهَذَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَلَا يَبْعَثُ الْعَبْدَ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنَّهُ: إِذَا لَاحَظَ سَبْقَ الْفَضْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لِلشُّكْرِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ. كَمَا قَالَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا رَبِّ، هَلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ» .
وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الشُّكْرَ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، قَوِيٌّ، وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. فَكَذَلِكَ هُوَ شَكُورٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. فَمُلَاحَظَةُ الْعَبْدِ سَبْقَ الْفَضْلِ تُشْهِدُهُ صِفَةَ الشُّكْرِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ. وَهِيَ تُسْبِلُ لِبَاسَ التَّوَلِّي وَتُذِيقُ طَعْمَ التَّجَلِّي. وَتَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ: أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ: مُلَاحَظَةُ مَا سَبَقَ بِنُورِ الْعِلْمِ. وَهَذِهِ مُلَاحَظَةُ كَشْفٍ بِحَالٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى شَغَلَهُ عَنِ الْخَلْقِ. فَأَسْبَلَ عَلَيْهِ لِبَاسَ تَوَلِّيهِ اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَوَلِّيهِ عَمَّا سِوَاهُ.
وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ. وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ. فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ. وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ.
وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا. وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ. فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّي حَقِيقَةَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ.
পৃষ্ঠা - ১০৮৫
وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ.
وَيُنَظِّرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ. وَلَمْ تُعْدَمِ الْكَوَاكِبُ. وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ. فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ. وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا. وَهَكَذَا نُورُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ، قَوِيَ سُلْطَانُهَا، وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبِ عَنِ الْقَلْبِ.
وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ: بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ - كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ - إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.
فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ: يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ. فَيَظُنُّهُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ! ثُمَّ هَيْهَاتَ! نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ، كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ. وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ. وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ. لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَإِنَّ صِفَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِيهِ. فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ
পৃষ্ঠা - ১০৮৬
الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَا اتِّحَادَ، وَلَا حُلُولَ، وَلَا مُمَازَجَةَ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ " وَيَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي " الْعُوَارُ: الْعَيْبُ. وَالتَّسَلِّي السَّلْوَةُ عَنِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِحُبِّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ سُلُوَّ الْقَلْبِ وَغَفْلَتَهُ عَنْ ذِكْرِهِ: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ. فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ إِذَا صَدَقَتْ عَصَمَتْ صَاحِبَهَا عَنْ عَيْبِ سَلْوَتِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْإِيمَانِ بِهَا وَمَعْرِفَتُهَا، وَدَوَامُ ذِكْرِهَا. وَمَعَ هَذَا: فَبَابُ السَّلْوَةِ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ، وَطَرِيقُهَا عَلَيْهِ مَقْطُوعٌ. وَالْمُحِبُّ يُمْكِنُهُ التَّسَلِّي قَبْلَ أَنْ يُشَاهِدَ جَمَالَ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي شُهُودِ كَمَالِهِ، وَيَغِيبَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَمَا قِيلَ:
مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفُهُ ... فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَهِيَ تُوقِظُ لِاسْتِهَانَةِ الْمُجَاهَدَاتِ. وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ. وَتُفِيدُ مُطَالَعَةَ الْبِدَايَاتِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ: أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا - مُطَالَعَةُ كَشْفِ الْأَنْوَارِ - تُشِيرُ إِلَى نَوْعِ كَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ. وَهَذِهِ مُطَالَعَةٌ تَجْذِبُ الْقَلْبَ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ، وَشِعَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، إِلَى مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْنِ الْجَمْعِ، النَّاظِرِ إِلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنِ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. سَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ. وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ.
فَالنَّظَرُ بِهَذِهِ الْعَيْنِ: يُوقِظُ قَلْبَهُ لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لَهُ شِرَّةٌ، وَفِي طَلَبِهِ حِدَّةٌ، تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَتَرْمِيهِ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ طَلَبِهِ. فَفُتُورُهُ نَائِمٌ، وَاجْتِهَادُهُ يَقْظَانُ.
فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: اسْتَهَانَ بِالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ لَهُ
পৃষ্ঠা - ১০৮৭
مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ. وَاسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّهَا. فَإِنَّ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ: أَنْفَعُ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَمَعَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ كُلَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَزَالَ كُلُّ مُفَرِّقٍ وَمُشَتِّتٍ: كَانَتْ هَذِهِ هِيَ سَاعَاتُ عُمْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَتَعَوَّضَ بِهَا عَمَّا كَانَ يُقَاسِيهِ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَعَبِهَا.
وَهَذَا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ.
إِحْدَاهُمَا: غَلَتْ فِيهِ، حَتَّى قَدَّمَتْهُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. وَرَأَتْ نُزُولَهَا عَنْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ انْحِطَاطًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى. حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ذَاقَ ذَلِكَ: قُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ:
يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ... فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ
وَقَالَ آخَرُ: لَا تُسَيِّبْ وَارِدَكَ لِوِرْدِكَ.
وَهَؤُلَاءِ بَيْنَ كَافِرٍ وَنَاقِصٍ.
فَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَامَ بِالْفَرَائِضِ - إِذَا حَصَلَتْ لَهُ الْجَمْعِيَّةُ - فَهُوَ كَافِرٌ، مُنْسَلِخٌ مِنَ الدِّينِ. وَمِنْ عَطَّلَ لَهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً - كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَدِّي - فَهُوَ نَاقِصٌ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَعْبَأُ بِالْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تَعْمَلُ عَلَيْهَا. وَلَعَلَّهَا لَا تَدْرِي مَا مُسَمَّاهَا وَلَا حَقِيقَتُهَا.
وَطَرِيقَةُ الْأَقْوِيَاءِ، أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: الْقِيَامُ بِالْجَمْعِيَّةِ فِي التَّفْرِقَةِ مَا أَمْكَنَ. فَيَقُومُ أَحَدُهُمْ بِالْعِبَادَاتِ، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، مَعَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَإِنْ ضَعُفَ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَضَاقَ عَنْ ذَلِكَ: قَامَ بِالْفَرَائِضِ. وَنَزَلَ عَنِ الْجَمْعِيَّةِ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا إِلَّا بِتَعْطِيلِ الْفَرْضِ. فَإِنَّ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ مِنْهُ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ. وَنَفْسَهُ تُرِيدُ الْجَمْعِيَّةَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَلَمِ التَّفْرِقَةِ وَشَعْثِهَا. فَالْفَرَائِضُ حَقُّ رَبِّهِ. وَالْجَمْعِيَّةُ حَظُّهُ هُوَ.
فَالْعُبُودِيَّةُ الصَّحِيحَةُ: تُوجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا جَاءَ إِلَى النَّوَافِلِ، وَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ الْجَمْعِيَّةَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ النَّوَافِلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ.
وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ تِلْكَ النَّوَافِلَ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهَا أَرْجَحَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ،
পৃষ্ঠা - ১০৮৮
وَلَا تُعَوِّضُهُ الْجَمْعِيَّةُ عَنْهَا: اشْتَغَلَ بِهَا، وَلَوْ فَاتَتِ الْجَمْعِيَّةُ، كَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَقِيَامِ وَسَطِ اللَّيْلِ، وَالذِّكْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ. وَنَفْلِ الْجِهَادِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُضْطَرِّ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ دُونَ الْجَمْعِيَّةِ - كَصَلَاةِ الضُّحَى، وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْغُسْلِ لِحُضُورِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَزِيَارَةِ الْقُدْسِ، وَضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ.
فَإِنْ قَوِيَتْ جَمْعِيَّتُهُ فَظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِيهِ: فَهِيَ أَوْلَى لَهُ، وَأَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ ضَعُفَتِ الْجَمْعِيَّةُ، وَقَوِيَ إِخْلَاصُهُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ: فَهِيَ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَفْضَلُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ.
وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: إِيثَارُ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى.
وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِنَفْعِ الْعَمَلِ وَثَمَرَتِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرَتُّبِ الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ مُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَإِخْبَارِهِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فَاعِلَهُ. وَيُبَاهِي بِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ وَحَرْفُهَا: أَنَّ الصَّادِقَ فِي طَلَبِهِ يُؤْثِرُ مَرْضَاةَ رَبِّهِ عَلَى حَظِّهِ. فَإِنْ كَانَ رِضَا اللَّهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَظُّهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ: خَلَّى الْجَمْعِيَّةَ تَذْهَبُ. وَقَامَ بِمَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ.
وَمَتَّى عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ: أَنَّ تَرَدُّدَهُ وَتَوَقُّفَهُ - لِيَعْلَمَ: أَيَّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ - أَنْشَأَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفِ وَالتَّرَدُّدِ حَالَةً شَرِيفَةً فَاضِلَةً، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْمَفْضُولَ - لِظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -: رَدَّتْ تِلْكَ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ وَفَاتَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْآخَرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَفِي كَلَامِهِ مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُجَاهَدَاتِ مُسَافِرٌ بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى اللَّهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ - الَّتِي شُهُودُ عَيْنِهَا: هُوَ انْكِشَافُ حَقِيقَتِهَا لِلْقَلْبِ - كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ جَادٍّ فِي سَيْرِهِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ. وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْوُصُولِ. وَسَكَنَتْ نَفْسُهُ، كَمَا قِيلَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ: مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ الْمُوَحِّدِ. وَالزِّنْدِيقِ الْمُلْحِدِ.
فَالزِّنْدِيقُ يَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِالسَّيْرِ بَعْدَ الْوُصُولِ عَيْبٌ. لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوُصُولُ عِنْدَهُ: هُوَ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَفَنِيَ بِهِ عَنْ كُلِّ
পৃষ্ঠা - ১০৮৯
مَا سِوَاهُ: ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْغَايَةُ. فَرَأَى قِيَامَهُ بِهَا أَوْلَى بِهِ. وَأَنْفَعَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ. فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ عِنْدَهُ: وَسِيلَةٌ لِغَايَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ. فَإِذَا اشْتَغَلْتَ بِالْغَايَةِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الْوَسِيلَةِ.
وَقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ - مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الشُّيُوخِ - عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ. وَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ وَأَصْحَابَ الشَّهَوَاتِ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَرْجَى عَاقِبَةً.
وَأَمَّا الصِّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ: فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هُنَاكَ، صَارَتْ أَعْمَالُهُ الْقَلْبِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ أَعْظَمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يُسْقِطْ مِنْ أَعْمَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ بِمُلَاحَظَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ.
وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ طَلَبَ مَلِكًا عَظِيمًا رَحِيمًا جَوَادًا، فَجَدَّ فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَقْتَطِعَ دُونَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ: بَقِيَ لَهُ سَيْرٌ آخَرُ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَالْأَوَّلُ: كَانَ سَيْرًا إِلَيْهِ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ.
وَبَعْدُ، فَالْعَبْدُ - وَإِنْ لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا - فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مَا دَامَ حَيًّا إِلَى اللَّهِ وُصُولًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السَّيْرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ.
بَلْ يَشْتَدُّ سَيْرُهُ إِلَى اللَّهِ كُلَّمَا زَادَتْ مُلَاحَظَتُهُ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمَ الْخَلْقِ اجْتِهَادًا، وَقِيَامًا بِالْأَعْمَالِ، وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ. وَهُوَ أَعْظَمُ مَا كَانَ اجْتِهَادًا وَقِيَامًا بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْمَالِ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ حَقِيقَةُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ بَعْدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ.
وَتَقْسِيمُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ: إِلَى طَالِبٍ، وَسَائِرٍ، وَوَاصِلٍ. أَوْ إِلَى مُرِيدٍ، وَمُرَادٍ: تَقْسِيمٌ فِيهِ مُسَاهَلَةٌ لَا تَقْسِيمٌ حَقِيقِيٌّ، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالسُّلُوكَ وَالْإِرَادَةَ لَوْ فَارَقَ الْعَبْدَ: لَانْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ تَنَقُّلِ الْعَبْدِ فِي أَحْوَالِ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِرَادَةُ الْعَبْدِ الْمُرَادَ، وَطَلَبُهُ وَسَيْرُهُ: أَشَدُّ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَطَلَبِهِ وَسَيْرِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُرَادٌ أَوَّلًا، حَيْثُ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الطَّلَبِ، وَجُذِبَ إِلَى السَّيْرِ. فَكُلِّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. وَكُلٌّ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ وَطَالِبٌ لَا يُفَارِقُهُ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ السَّيْرِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْعَبْدِ.
পৃষ্ঠা - ১০৯০
فَمِنَ السَّالِكِينَ: مَنْ يَكُونُ سَيْرُهُ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ سَيْرِهِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ سَيْرُهُ بِقَلْبِهِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ، أَعْنِي قُوَّةَ سَيْرِهِ وَحِدَّتَهُ.
وَمِنْهُمْ - وَهُمُ الْكُمَّلُ الْأَقْوِيَاءُ - مَنْ يُعْطِي كُلَّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا. فَيَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ صَفْوَةِ أَوْلِيَائِهِ بِأَنَّهُمْ دَائِمًا فِي مَقَامِ الْإِرَادَةِ لَهُ. فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19] فَالْعَبْدُ أَخَصُّ أَوْصَافِهِ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِهِ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا صَادِقَ الْإِرَادَةِ، عَبْدًا فِي إِرَادَتِهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ مُرَادُهُ تَبَعًا لِمُرَادِ رَبِّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ. لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ فِي سِوَاهُ.
وَقَدْ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ " إِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُوقِظُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْمُجَاهَدَاتِ " أَنَّهُ يُوقِظُهُ مِنْ نَوْمِ الِاسْتِهَانَةِ بِالْمُجَاهَدَاتِ، وَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. أَيْ يُوقِظُهُ مِنْ سِنَةِ التَّقْصِيرِ. لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ إِلَى اللَّهِ أَقْرَبَ كَانَ جِهَادُهُ فِي اللَّهِ أَعْظَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] .
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا تَرَقَّوْا مِنَ الْقُرْبِ فِي مَقَامٍ: عَظُمَ جِهَادُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ: لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطَّرِيقِ، حَيْثُ قَالَ: الْقُرْبُ الْحَقِيقِيُّ تَنَقُّلُ الْعَبْدِ مِنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَيُرِيحُ الْجَسَدَ وَالْجَوَارِحَ مِنْ كَدِّ الْعَمَلِ.
وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا وَإِلْحَادًا. حَيْثُ عَطَّلُوا الْعُبُودِيَّةَ. وَظَنُّوا أَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَخِدَعِ الشَّيْطَانِ. وَكَأَنَّ قَائِلَهُمْ إِنَّمَا عَنَى نَفْسَهُ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ:
رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ وَابْتَلُوا بِحُظُوظِهِمْ ... وَخَاضُوا بِحَارَ الْحُبِّ دَعْوَى فَمَا ابْتَلُّوا
فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ... وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا
পৃষ্ঠা - ১০৯১
وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَئِمَّةُ الطَّرِيقِ: بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ. فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَالُوا: لَوْ وَصَلَ الْعَبْدُ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى أَعْلَى مَقَامٍ يَنَالُهُ الْعَبْدُ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. أَيْ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ.
وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ: أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا شَرِيعَةٌ فَهِيَ كُفْرٌ.
قَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: مَنِ ادَّعَى بَاطِنَ الْحَقِيقَةِ يَنْقُضُهَا ظَاهِرُ حُكْمٍ: فَهُوَ غَالِطٌ. وَقَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنَا هَذَا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَادِيُّ: أَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَئِمَّةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْآخِرُونَ، وَالْمُقَامُ عَلَى مَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ. .
وَسُئِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: مُلَازَمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى السُّنَّةِ، وَدَوَامُ الْمُرَاقَبَةِ. وَسُئِلَ: مَا التَّصَوُّفُ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: مَنْ عَمِلَ بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ يَوْمًا - وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى ثَوْبِهِ - لَوْلَا أَنَّهُ عَارِيَةٌ لَمَزَّقْتُهُ. فَقِيلَ لَهُ: رُؤْيَتُكَ فِي تِلْكَ الْغَلَبَةِ ثِيَابَكَ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَرْبَابُ الْحَقَائِقِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيعَةُ. .
وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتَّى تَنْظُرُوا: كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَالشَّرِيعَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْخَيَّاطُ: النَّاسُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مَعَ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ. فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَدَّهُمْ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ الْوَفَاةُ: مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصَهُ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ رِيَاءِ الْبَاطِنِ فِي الْقَلْبِ.
وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ عُثْمَانَ هَذَا: أَسْلَمُ الطُّرُقِ مِنَ الِاغْتِرَارِ: طَرِيقُ السَّلَفِ، وَلُزُومُ الشَّرِيعَةِ. .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَارَكٍ: لَا يَظْهَرُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ. وَكُلُّ
পৃষ্ঠা - ১০৯২
مَوْضِعٍ تَرَى فِيهِ اجْتِهَادًا ظَاهِرًا بِلَا نُورٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَّ بِدْعَةً خَفِيَّةً. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْزَمِ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ - حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا - إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْلَحَ.
وَلَقَدْ كَانَ سَادَاتُ الطَّائِفَةِ أَشَدَّ مَا كَانُوا اجْتِهَادًا فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يَقُولُ: رُئِيَ فِي يَدِ الْجُنَيْدِ سُبْحَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَأْخُذُ بِيَدِكَ سُبْحَةً؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا. .
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: كَانَ الْجُنَيْدُ يَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَفْتَحُ بَابَ حَانُوتِهِ. فَيَدْخُلُهُ وَيُسْبِلُ السِّتْرَ، وَيُصَلِّي أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطَاءٍ - وَهُوَ فِي النَّزْعِ - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ. فَقَالَ: اعْذِرْنِي. فَإِنِّي كُنْتُ فِي وِرْدِي. ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَكَبَّرَ، وَمَاتَ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ يَقُولُ: حَضَرْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ - أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - فَكَانَ قَاعِدًا يُصَلِّي، وَيَثْنِي رِجْلَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ رِجْلَيْهِ. فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَرَكَتُهَا، وَكَانَتَا قَدْ تَوَرَّمَتَا.
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا هَذَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ نِعَمُ اللَّهِ. اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَوِ اضْطَجَعْتَ. فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَذَا وَقْتٌ يُؤْخَذُ فِيهِ؟ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ حَتَّى مَاتَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ - وَهُوَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. وَقَدْ تَوَرَّمَ وَجْهُهُ. وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِخَدَّةٌ يُصَلِّي إِلَيْهَا - فَقَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ؟ فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَاهُ، وَقَالَ: شَيْءٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا أَدَعُهُ. وَمَاتَ بَعْدَ سَاعَةٍ. رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْجُنَيْدِ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ. وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَيَوْمَ نَيْرُوزٍ. وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ أَحَدًا أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنِّي، فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ ذَا تُطْوَى صَحِيفَتِي؟ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطَوِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِينَ مَاتَ. فَخَتَمَ الْقُرْآنَ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فِي خَتْمَةٍ أُخْرَى. فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ سَبْعِينَ آيَةً. ثُمَّ مَاتَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي النَّوْمِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَغَابَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ، وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ، وَنَفِدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رَكَعَاتٌ كُنَّا نَرْكَعُهَا فِي الْأَسْحَارِ.
وَتَذَاكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَهْلَ
পৃষ্ঠা - ১০৯৩
الْمَعْرِفَةِ، وَمَا اسْتَهَانُوا بِهِ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ بَعْدَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَارِفِينَ أَحْسَنُ مِنَ التِّيجَانِ عَلَى رُءُوسِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ: الطُّرقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ. فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ الْجُنَيْدَ، مَا عَلَامَةُ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ طَاعَةُ مَنْ آمَنَتْ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَرْكُ التَّشَاغُلِ عَنْهُ بِمَا يَنْقَضِي وَيَزُولُ.
فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَا أَتْبَعُهُ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا أَقْفَاهُ لِطَرِيقَةِ أَصْحَابِهِ.
وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ جِدًّا. يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ فِي نِهَايَاتِهِمْ: أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ فِي بِدَايَاتِهِمْ، بَلْ كَانَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْبِدَايَةِ فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. فَصَارَ اجْتِهَادُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ. وَصَارَتْ إِرَادَتُهُمْ دَائِرَةً مَعَهَا. فَتُضْعِفُ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ. لِأَنَّهُ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَلَا تَضَعُ إِلَى قَوْلِ مُلْحِدٍ قَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ فِي قَالَبِ عَارِفٍ، يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ تَنْقِلُ الْعَبْدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَتَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَتُرِيحُهُ مِنْ كَدِّ الْقِيَامِ بِهَا.
فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ رُعُونَةِ مُعَارَضَةِ حُكْمِ اللَّهِ الدِّينِيِّ وَالْكَوْنِيِّ، الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِمُعَارَضَتِهِ. فَيَسْتَسْلِمُ لِلْحُكْمَيْنِ. فَإِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُشْهِدُهُ: أَنَّ الْحُكْمَيْنِ صَدَرَا عَنْ عَزِيزٍ حَكِيمٍ. فَلَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ بِرَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا ذَوْقٍ وَلَا خَاطِرٍ.
وَأَيْضًا فَتُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى لِلْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ يُعَارَضُ بِالشَّهْوَةِ. وَالْخَبَرَ يُعَارَضُ بِالشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. فَمُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ هَاتَيْنِ
পৃষ্ঠা - ১০৯৪
الْمُعَارَضَتَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِهِ. هَذَا تَفْسِيرُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْإِلْحَادِ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَاتِ هَاهُنَا: الْإِنْكَارُ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا يَبْدُو مِنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ. لِأَنَّ الْمُشَاهِدَ لِعَيْنِ الْجَمْعِ يَعْلَمُ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الشُّهُودِ: كَانَتِ الْمُعَارَضَاتُ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ رَعُونَاتِ الْأَنْفُسِ الْمَحْجُوبَةِ.
وَقَالَ قُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ.
وَهَذَا عَيْنُ الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْمُلْحِدُ يُحَمِّلُ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. فَمَا الظَّنُّ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؟
فَيُقَالُ: إِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا. فَبِهَذَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَانْقَسَمَتِ الدَّارُ إِلَى دَارِ سَعَادَةٍ لِلْمُنْكِرِينَ، وَدَارِ شَقَاوَةٍ لِلْمُنْكَرِ عَلَيْهِمْ. فَالطَّعْنُ فِي ذَلِكَ: طَعْنٌ فِي الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ: انْحِلَالٌ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ: وَجَدَهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْقِيَامِ. حَتَّى لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَوْصَوْا مَنْ آمَنَ بِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ الْمُتَخَلِّصَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.
وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَشَدَّ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى قَالَ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوهُ: أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» .
وَأَخْبَرَ أَنَّ تَرْكَهُ: يُوقِعُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْوُجُوهِ. وَيُحِلُّ لَعْنَةَ اللَّهِ. كَمَا لَعَنَ
পৃষ্ঠা - ১০৯৫
اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَرْكِهِ.
فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ مِنْ رَعُونَاتِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الشَّرِيعَةِ؟
وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عَلَى أَنْوَاعِ الْإِنْكَارِ. وَهُوَ جِهَادٌ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْكَارٌ بِاللِّسَانِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُشَاهِدَ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلَائِقِ: مَا هُمْ عَلَيْهِ.
فَيُقَالُ لَهُ: الرَّبُّ تَعَالَى لَهُ مَرَادَانِ: كَوْنِيٌّ، وَدِينِيٌّ. فَهَبْ أَنَّ مُرَادَهُ الْكَوْنِيَّ مِنْهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَمُرَادُهُ الدِّينِيُّ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى أَصْحَابِ الْمُرَادِ الْكَوْنِيِّ. فَإِذَا عَطَّلْتَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ: لَمْ تَكُنْ وَاقِفًا مَعَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَلَا يَنْفَعُكَ وُقُوفُكَ مَعَ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. إِذْ لَوْ نَفَعَكَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرَائِعِ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ. وَلَا لِلْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ، وَلَا لِلْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا لِلْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ وَالْفُجَّارِ، وَكَفِّ عُدْوَانِهِمْ وَفُجُورِهِمْ. فَإِنَّ الْعَارِفَ عِنْدَكَ: يَشْهَدُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ: هُوَ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا فَسَادُ الدُّنْيَا قَبْلَ الْأَدْيَانِ.
فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْخَبِيثُ لَا يُصْلُحُ عَلَيْهِ دُنْيَا وَلَا دِينٌ، وَلَكِنَّهُ رُعُونَةُ نَفْسٍ قَدْ أَخْلَدَتْ إِلَى الْإِلْحَادِ، وَكَفَرَتْ بِدِينِ رَبِّ الْعِبَادِ. وَاتَّخَذَتْ تَعْطِيلَ الشَّرَائِعِ دِينًا وَمَقَامًا، وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ مُسَامَرَةً وَإِلْهَامًا. وَجَعَلَتْ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى مُبْطِلَةً لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ. وَمُعَطِّلَةً لِمَا أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَجَعَلُوا هَذَا الْإِلْحَادَ غَايَةَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَفَ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ. وَدَعَوْا إِلَى ذَلِكَ النُّفُوسَ الْمُبَطِلَةِ الْجَاهِلَةِ بِاللَّهِ وَدِينِهِ. فَلَبَّوْا دَعْوَتَهُمْ مُسْرِعِينَ، وَاسْتَخَفَّ الدَّاعِي مِنْهُمْ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ. إِنَّهُمْ كَانُوا قُوْمًا فَاسِقِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْكَارَ: مِنْ مُعَارَضَاتِ النُّفُوسِ الْمَحْجُوبَةِ.
فَلَعَمْرُ اللَّهِ: إِنَّهُمْ لَفِي حِجَابٍ مَنِيعٍ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِفُونَ عَلَى أَهْلِهِ وَهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ يُحَارِبُونَ، وَإِلَى خِلَافِ طَرِيقِهِمْ يَدْعُونَ. وَبِغَيْرِ هُدَاهُمْ يَهْتَدُونَ. وَعَنْ صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ نَاكِبُونَ. وَلِمَا جَاءَا بِهِ يُعَارِضُونَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ - أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ - اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 9 - 16] .
فَصْلٌ
পৃষ্ঠা - ১০৯৬
قَوْلُهُ: " وَتُفِيدُ مُطَالَعَةُ الْبِدَايَاتِ " يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُفِيدُ صَاحِبَهَا مُطَالَعَةَ السَّوَابِقِ الَّتِي ابْتَدَأَهُ اللَّهُ بِهَا. فَتُفِيدُهُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ نَظْرَةً إِلَى أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبِدَايَاتِ: بِدَايَاتِ سُلُوكِهِ، وَحِدَّةَ طَلَبِهِ. فَإِنَّهُ فِي حَالِ سُلُوكِهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، لِشِدَّةِ شُغْلِهِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَغَلَبَةِ أَحْكَامِ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتَفَرَّغُ لِمُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ: قَطَعَ السُّلُوكَ الْأَوَّلَ. وَبَقِيَ لَهُ سُلُوكٌ ثَانٍ. فَتَفَرَّغَ حِينَئِذٍ إِلَى مُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. وَوَجَدَ اشْتِيَاقًا مِنْهُ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ الْجُنَيْدُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ.
يَعْنِي: لَذَّةَ أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ، وَجَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ كَانَ مَجْمُوعَ الْهِمَّةِ عَلَى السَّيْرِ وَالطَّلَبِ. فَلَمَّا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ فَنِيَتْ رُسُومُهُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَنَاءُ عَنْ بَشَرِيَّتِهِ، وَأَحْكَامِ طَبِيعَتِهِ. فَتَقَاضَتْ طِبَاعُهُ مَا فِيهَا. فَلَزِمَتْهُ الْكُلَفُ. فَارْتَاحَ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَاتِ، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعِ الْهِمَّةِ.
وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً. وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ» .
فَالطَّالِبُ الْجَادُّ: لَا بُدَّ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ فَتْرَةٌ. فَيَشْتَاقُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِلَى حَالِهِ وَقْتَ الطَّلَبِ وَالِاجْتِهَادِ.
«وَلَمَّا فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْدُو إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ. فَيَبْدُوَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ» .