فصل في منازل إياك نعبد
فصل العطش
فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا
পৃষ্ঠা - ১০৩৭
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا وَلَا يُبْقِي أَحَدًا]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا. وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا، وَلَا يُبْقِي أَحَدًا.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْقَلَقَ لَهُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ. لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَنْ شُهُودٍ. فَإِذَا عَلِقَ بِالْقَلْبِ لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي فَنَاءِ الشُّهُودِ.
" وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا " أَيْ لَا يَقْبَلُ حَدًّا وَمِقْدَارًا يَقِفُ عِنْدَهُ. وَيَنْقَضِي بِهِ، كَمَا يَنْقَضِي ذُو الْأَمَدِ. فَإِنَّهُ حَاكِمٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، مَالِكٌ لِلْقَلْبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ.
" وَلَا يُبْقِي أَحَدًا " أَيْ يُلْقِي صَاحِبَهُ فِي الشُّهُودِ الَّذِي تَفْنَى فِيهِ الرُّسُومُ وَتَضْمَحِلُّ. فَلَا يُبْقِي مَعَهُ عَلَى أَحَدٍ رَسْمَهُ حَتَّى يُفْنِيَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ت
[فَصْلٌ الْعَطَشُ]
[حَقِيقَةُ الْعَطَشِ]
فَصْلٌ الْعَطَشُ
ثُمَّ يَقْوَى هَذَا الْقَلَقُ وَيَتَزَايَدُ حَتَّى يُورِثَ الْقَلْبَ حَالَةً شَبِيهَةً بِشِدَّةِ ظَمَإِ الصَّادِي الْحَرَّانِ إِلَى الْمَاءِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الْعَطَشَ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْخَلِيلِ {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لِشِدَّةِ عَطَشِهِ إِلَى لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ - لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ - قَالَ: هَذَا رَبِّي. فَإِنَّ الْعَطْشَانَ إِذَا رَأَى السَّرَابَ ذَكَرَ بِهِ الْمَاءَ. فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ إِلَيْهِ.
وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ قَطْعًا. وَإِنَّمَا الْقَوْمُ مُولَعُونَ بِالْإِشَارَاتِ. وَإِلَّا فَالْآيَةُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ. أَيْ أَهَذَا رَبِّي؟ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
পৃষ্ঠা - ১০৩৮
وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى وَجْهِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ. فَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْمُوَافِقِ، لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ. ثُمَّ تَوَسَّلَ بِصُورَةِ الْمُوَافَقَةِ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ نَاقِصًا آفِلًا. فَإِنَّ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَابِدِيهِ وَخَلْقِهِ وَيَأْفُلُ عَنْهُمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ. أَوْ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَرَاتِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعْبُودِ حَتَّى أَوْصَلَهُ الدَّلِيلُ إِلَى الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَجْهَهُ حَنِيفًا مُوَحِّدًا، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْعَطَشِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الْعَطَشُ: كِنَايَةٌ عَنْ غَلَبَةِ وَلُوعٍ بِمَأْمُولٍ.
الْوَلُوعُ بِالشَّيْءِ: هُوَ التَّعَلُّقُ بِهِ بِصِفَةِ الْمَحَبَّةِ، مَعَ أَمَلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ فِي حَدِّ الْوَلُوعِ: إِنَّهُ كَثْرَةُ تَرْدَادِ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُولَعٌ بِكَذَا، وَقَدْ أُولِعَ بِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ لُزُومُ الْقَلْبِ لِلشَّيْءِ. فَكَأَنَّهُ مِثْلُ: أُغْرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُغْرًى.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ. أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ. أَوْ عَطْفَةٍ تُؤْوِيهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُرِيدُ مَنْ أَهْلِ طَلَبِ الشَّوَاهِدِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَمُثِيرِ الْعَزَمَاتِ، وَتَعَلُّقِ الْعُبَّادِ بِالْأَعْمَالِ.
وَقَوْلُهُ " شَاهَدٌ يَرْوِيهِ " يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ. أَيْ يَرْوِيهِ عَمَّنْ أَقَامَهُ لَهُ. فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى شَوَاهِدِ الْعِلْمِ. فَهُوَ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى شَوَاهِدَ يَرْوِيهَا عَنِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ، يَزْدَادُ بِهَا تَثْبِيتًا وَقُوَّةَ بَصِيرَةٍ. فَإِنَّ الْمُرِيدَ إِذَا تَجَدَّدَتْ لَهُ حَالَةٌ، أَوْ حَصَلَ لَهُ
পৃষ্ঠা - ১০৩৯
وَارِدٌ: اسْتَوْحَشَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا. فَإِذَا قَامَ عِنْدَهُ بِمِثْلِهَا شَاهِدُ حَالٍ لِمُرِيدٍ آخَرَ صَادِقٍ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا: اسْتَأْنَسَ بِهَا أَعْظَمَ اسْتِئْنَاسٍ. وَاسْتَدَلَّ بِشَاهِدِ ذَلِكَ الْمُرِيدِ عَلَى صِحَّةِ شَاهِدِهِ. فَلِذَلِكَ يَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ عَنِ الصَّادِقِينَ.
وَيَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّيِّ - فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْيَاءِ - يَعْنِي: إِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ. وَنَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ الظَّمْآنِ. فَقَرَّرَ عِنْدَهُ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ شَاهِدُ حَقٍّ.
وَيُرَجِّحُ هَذَا: ذِكْرُ الرَّيِّ مَعَ الْعَطَشِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ: ذِكْرُهُ لَفْظَةَ الرِّيِّ فِي قَوْلِهِ " أَوْ عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ " وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ.
قَوْلُهُ " أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ " أَيْ تَشْفِي قَلْبَهُ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ. فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ - إِمَّا مِنْ صَادِقٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ عَالِمٍ، أَوْ مِنْ شَيْخِ مَسْلَكٍ، أَوْ مِنْ آيَةٍ فَهِمَهَا، أَوْ عِبْرَةٍ ظَفِرَ بِهَا -: اشْتَفَى بِهَا قَلْبُهُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ.
قَوْلُهُ " أَوْ إِلَى عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ " أَيْ عَطْفَةٍ مِنْ جَانِبِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، تَرْوِي لَهِيبَ عَطَشِهِ وَتُبَرِّدُهُ. وَلَا شَيْءَ أَرَوَى لِقَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ. وَلَا شَيْءَ أَشَدَّ لِلَهِيبِهِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إِعْرَاضِ مَحْبُوبِهِ عَنْهُ. وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ عَنْهُمْ: أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ. كَمَا أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ - بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ - أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ. وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ. وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ.
إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجَلِ الَّذِي يَطْوِيهِ: انْقِضَاءَ مُدَّةِ سِجْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى رَبِّهَا وَتَلْقَاهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ: عَطَشَهُ إِلَى مَقْصُودِ السُّلُوكِ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَقُرَّةِ عَيْنِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ. فَهُوَ يَطْوِي مَرَاحِلَ سَيْرِهِ حَثِيثًا، لِيَصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إِلَيْهِ سَيْرٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا السَّيْرِ، مَعَ عَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ بِهِ إِلَيْهِ. فَلَوْ فَارَقَهُ لَانْقَطَعَ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا. وَلَكِنْ يَبْقَى لَهُ سَيْرٌ، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، يَسْبِقُ بِهِ السُّعَاةَ.
পৃষ্ঠা - ১০৪০
وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ لَا يُحِبُّ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا، حَتَّى يَقْضِيَ نَحْبَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى انْقِضَائِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الدَّارِ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ: أَحَبَّ حِينَئِذٍ الْخُرُوجَ مِنْهَا. وَلَكِنْ لَا يَقْضِي نَحْبَهُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ.
وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: مُوفٍ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمُنْتَظِرٌ لِلْوَفَاءِ سَاعٍ فِيهِ حَرِيصٌ عَلَيْهِ، وَمُفَرِّطٌ فِي وَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ " وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ " أَيْ يَوْمٍ يَرَى فِيهِ مَا يُغْنِي قَلْبَهُ، وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ مِنْ قُرَّةِ عَيْنِهِ بِمَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ.
قَوْلُهُ " وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ " أَيْ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الصَّادِقِينَ، يَسْتَرِيحُ فِيهِ قَلْبُهُ، وَيَسْكُنُ فِيهِ. وَيَخْلُصُ مِنْ تَلَوُّنِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ مَنَازِلُ وَالْأَحْوَالَ مَرَاحِلُ. فَصَاحِبُ الْحَالِ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى مَقَامٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ وَيَنْزِلُهُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ. وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ. وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ.
عَطَشُ الْمُحِبِّ فَوْقَ عَطَشِ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ. وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُحِبٍّ سَالِكًا وَكُلُّ مُرِيدٍ سَالِكًا. وَكُلُّ سَالِكٍ وَمُرِيدٍ مُحِبٌّ. لَكِنَّ خُصَّ الْمُحِبُّ بِهَذَا الِاسْمِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَرُسُوخِ قَلْبِهِ فِيهَا.
وَالْمُرِيدُ وَالسَّالِكُ: يُشَمِّرَانِ إِلَى عِلْمِهِ الَّذِي رُفِعَ لَهُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأُولَى: لِأَهْلِ الْبِدَايَاتِ. وَالثَّانِيَةَ: لِلْمُتَوَسِّطِينَ. وَالثَّالِثَةَ: لِأَهْلِ النِّهَايَاتِ.
وَقَوْلُهُ: عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابٌ.
يُرِيدُ بِالْجَلْوَةِ: اسْتِجْلَاءُ الْقَلْبِ لِصِفَاتِ الْمَحْبُوبِ وَمَحَاسِنِهِ، وَانْكِشَافُهَا لَهُ.
وَقَوْلُهُ " مَا دُونَهَا سَحَابٌ " أَيْ لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ مِنْ سُحُبِ النَّفْسِ. وَهِيَ سُحُبُ الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ بَقَايَا فِي الْعَبْدِ، تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِجْلَائِهِ صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ، وَتَعُوقُهُ عَنْهُ. فَمَهْمَا بَقِيَ فِي الْعَبْدِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَهِيَ سَحَابٌ وَغَيْمٌ سَاتِرٌ عَلَى قَدْرِهِ. فَكَثِيفٌ وَرَقِيقٌ، وَبَيْنَ بَيْنَ.
পৃষ্ঠা - ১০৪১
قَوْلُهُ: " وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابٌ " الْحِجَابُ فِي لِسَانِ الطَّائِفَةِ: النَّفْسُ وَصِفَاتُهَا وَأَحْكَامُهَا. وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ. بَلْ هِيَ الْحِجَابُ الْأَكْبَرُ، فَإِنَّ حِجَابَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَاتِهِ هُوَ " النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " وَحِجَابُهُ مِنْ عَبْدِهِ: هُوَ نَفْسُهُ وَظُلْمَتُهُ، فَلَوْ كَشَفَ عَنْهُ هَذَا الْحِجَابَ لَوَصَلَ إِلَى رَبِّهِ.
وَالْوُصُولُ عِنْدَ الْقَوْمِ: عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِ هَذَا الْحِجَابِ وَزَوَالِهِ. فَالْحِجَابُ الَّذِي يَشْتَدُّ عَلَى الْمُحِبِّ، وَيَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى زَوَالِهِ: هُوَ حِجَابُ الظُّلْمَةِ وَالنَّفْسِ. وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ - وَهُوَ حِجَابُ النُّورِ - فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَشْفِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَلْبَتَّةَ. وَلَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ بَشَرٌ. وَلَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ بَشَرًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَهَذَا الْحِجَابُ كَاشِفٌ لِلْعَبْدِ، مُوصِلٌ لَهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقَوْمُ بِمَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْأَوَّلُ سَاتِرٌ لِلْعَبْدِ، قَاطِعٌ لَهُ، حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِحْسَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ.
وَالتَّفْرِقَةُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ حُجُبٌ، إِلَّا تَفْرِقَةً فِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلِلَّهِ. فَإِنَّهَا لَا تَحْجُبُ الْعَبْدَ عَنْهُ. بَلْ تُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ، فَإِنَّ التَّفْرِقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ حِجَابًا إِذَا كَانَتْ بِالنَّفْسِ وَلَهَا.
قَوْلُهُ: وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ، يَعْنِي: لَا يُعَرِّجُ الْمُشَاهِدُ لِمَا يُشَاهِدُهُ عَلَى انْتِظَارِ أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَهَا. كَمَا يُعَرِّجُ الْمُحِبُّ الْمَحْجُوبَ عَلَى انْتِظَارِ زَوَالِ حِجَابِهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مَشْهَدٌ تَامٌّ. لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَهُ مَا يَنْتَظِرُهُ.
পৃষ্ঠা - ১০৪২
وَهَذَا عِنْدِي وَهْمٌ بَيِّنٌ. فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ. بِحَيْثُ يَصِلُ الْمُشَاهِدُ لَهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَنْتَظِرُ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ.
هَذَا. وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ أَبَدًا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْقَوْمِ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ: الشَّوَاهِدُ. وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ قَطُّ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا وُصُولُهُ إِلَى شَوَاهِدِ الْحَقِّ. وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَلِغَلَبَةِ الْوَهْمِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ.
وَلِلَّهِ دَرُّ الشِّبْلِيِّ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَنَا مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ؟ لَنَا شَاهِدُ الْحَقِّ. هَذَا، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ كَلَامِهِ وَأَبْيَنِهِ.
وَأَرَادَ بِشَاهِدِ الْحَقِّ: مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ الْعَارِفَةِ الصَّافِيَةِ: مِنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ حَاضِرًا فِيهَا، مَشْهُودًا لَهَا، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهَا. وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ. وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ، وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ وَعِلْمِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُلُوبَ تُشَاهِدُ أَنْوَارًا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا. تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى. وَلَكِنَّ تِلْكَ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَصَفَاءُ الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ. لَا أَنَّهَا أَنْوَارُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ. فَإِنَّ الْجَبَلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ حَتَّى تَدَكْدَكَ وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا، مَعَ عَدَمِ تَجَلِّيهِ لَهُ. فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟
فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ وَأَوْهَامَهُمْ. فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَعْظَمُ مِنْ حِجَابِ النَّفْسِ وَأَحْكَامِهَا. فَإِنَّ الْمَحْجُوبَ بِنَفْسِهِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْحِجَابِ.
وَصَاحِبُ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ وَالْأَوْهَامِ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُهَا. وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ. فَحِجَابُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظُ بِلَا شَكٍّ مِنْ حِجَابِ أُولَئِكَ. وَلَا يُقِرُّ لَنَا بِهَذَا إِلَّا عَارِفٌ قَدْ أَشْرَقَ فِي بَاطِنِهِ نُورُ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. فَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ. وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَمَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَالصَّادِقُونَ فِي أَنْوَارِ مَعَارِفِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَيْسَ إِلَّا. وَأَنْوَارُ ذَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَلِلَّهِ كَمْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ! وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ! وَحَارَتْ فِيهِ أَوْهَامٌ! وَنَجَا مِنْهُ صَادِقُ الْبَصِيرَةِ، تَامُّ الْمَعْرِفَةِ، عِلْمُهُ مُتَّصِلٌ بِمِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.