মাদারিজ আস-সালেকিন

فصل في منازل إياك نعبد

فصل منزلة الشوق

পৃষ্ঠা - ১০২৭
وَالْحِجَابِ. وَهُوَ غِطَاءٌ رَقِيقٌ جِدًّا. وَفَوْقَهُ الْغَيْمُ وَهُوَ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفَوْقَهُ الرَّيْنُ وَالرَّانُ وَهُوَ لِلْكُفَّارِ. وَقَوْلُهُ " وَسِرٍّ غَشِيَهُ رَيْنٌ " أَيْ حِجَابٌ أَغْلَظُ مِنَ الْغَيْمِ الْأَوَّلِ. وَالسِّرُّ هَاهُنَا: إِمَّا اللَّطِيفَةُ الْمُدْرَكَةُ مِنَ الرُّوحِ، وَإِمَّا الْحَالُ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا غَشِيَهُ رَيْنُ النَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ اسْتَغَاثَ صَاحِبُهُ، كَمَا يَسْتَغِيثُ الْمُعَذَّبُ فِي عَذَابِهِ، غَيْرَةً عَلَى سِرِّهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَنَفَسٌ عَلِقَ بِرَجَاءٍ، وَالْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ. يَعْنِي: أَنَّ صَاحِبَ النَّفَسِ يَغَارُ عَلَى نَفَسِهِ إِذَا تَعَلَّقَ بِرَجَاءٍ مِنْ ثَوَابٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَإِنَّ بَيْنَ النَّفَسَيْنِ كَمَا بَيْنَ مُتَعَلَّقِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " أَوِ الْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ " يَعْنِي: أَنَّهُ يَلْتَفِتُ إِلَى عَطَاءِ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَيَرْضَى بِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَّا إِلَى الْمُعْطِي الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ. وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ] [حَقِيقَةُ الشَّوْقِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] . قِيلَ: هَذَا تَعْزِيَةٌ لِلْمُشْتَاقِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ. أَيْ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَائِي فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَيَّ. فَقَدْ أَجَّلْتُ لَهُ أَجَلًا يَكُونُ عَنْ قَرِيبٍ. فَإِنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى. وَهِيَ تَعْلِيلُ الْمُشْتَاقِينَ بِرَجَاءِ اللِّقَاءِ.
পৃষ্ঠা - ১০২৮
لَوْلَا التَّعَلُّلُ بِالرَّجَاءِ لَقُطِّعَتْ ... نَفْسُ الْمُحِبِّ صَبَابَةً وَتَشَوُّقًا وَلَقَدْ يَكَادُ يَذُوبُ مِنْهُ قَلْبُهُ ... مِمَّا يُقَاسِي حَسْرَةً وَتَحَرُّقَا حَتَّى إِذَا رَوْحُ الرَّجَاءِ أَصَابَهُ ... سَكَنَ الْحَرِيقُ إِذَا تَعَلَّلَ بِاللِّقَا وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ «أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ» . قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ. لَمْ يَسْكُنْ شَوْقُهُ إِلَى لِقَائِهِ قَطُّ. وَلَكِنَّ الشَّوْقَ مَائَةُ جُزْءٍ. تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لَهُ. وَجُزْءٌ مَقْسُومٌ عَلَى الْأُمَّةِ. فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مُضَافًا إِلَى مَا لَهُ مِنَ الشَّوْقِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الشَّوْقُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ] فَصْلٌ وَالشَّوْقُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهَا. فَإِنَّهُ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ: هُوَ اهْتِيَاجُ الْقُلُوبِ إِلَى لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَقِيلَ: هُوَ احْتِرَاقُ الْأَحْشَاءِ. وَمِنْهَا يَتَهَيَّجُ وَيَتَوَلَّدُ، وَيُلْهِبُ الْقُلُوبَ وَيُقَطِّعُ الْأَكْبَادَ. وَالْمَحَبَّةُ أَعْلَى مِنْهُ. لِأَنَّ الشَّوْقَ عَنْهَا يَتَوَلَّدُ، وَعَلَى قَدْرِهَا يَقْوَى وَيَضْعُفُ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: عَلَامَةُ الشَّوْقِ فِطَامُ الْجَوَارِحِ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: عَلَامَتُهُ حُبُّ الْمَوْتِ مَعَ الرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ، كَحَالِ يُوسُفَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا أُدْخِلَ السِّجْنَ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا تَمَّ لَهُ الْأَمْرُ وَالْأَمْنُ وَالنِّعْمَةُ، قَالَ: " تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ". قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الشَّوْقُ ارْتِيَاحُ الْقُلُوبِ بِالْوَجْدِ، وَمَحَبَّةُ اللِّقَاءِ بِالْقُرْبِ. وَقِيلَ: هُوَ لَهَبٌ يَنْشَأُ بَيْنَ أَثْنَاءِ الْحَشَا، يَسْنَحُ عَنِ الْفُرْقَةِ. فَإِذَا وَقَعَ اللِّقَاءُ طُفِئَ.
পৃষ্ঠা - ১০২৯
قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ. وَهِيَ: أَنَّ الشَّوْقَ هَلْ يَزُولُ بِاللِّقَاءِ أَمْ لَا؟ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَزُولُ بِاللِّقَاءِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. لِأَنَّ الشَّوْقَ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ، صَارَ مَكَانَ الشَّوْقِ قُرَّةُ عَيْنِهِ بِهِ. وَهَذِهِ الْقُرَّةُ تُجَامِعُ الْمَحَبَّةَ وَلَا تُنَافِيهَا. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْقَلْبِ مُشَاهَدَةَ الْمَحْبُوبِ، لَمْ يَطْرُقْهُ الشَّوْقُ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. إِنَّمَا الشَّوْقُ إِلَى غَائِبٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ، وَلَا يَزُولُ. لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوُصُولِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَبَعْدَهُ: قَدْ صَارَ عَلَى الْعِيَانِ وَالشُّهُودِ. وَلِهَذَا قِيلَ: وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ. قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ السَّرِيَّ يَقُولُ: الشَّوْقُ أَجَلُّ مَقَامٍ لِلْعَارِفِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ. وَإِذَا تَحَقَّقَ فِي الشَّوْقِ لَهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَمَّنْ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا: فَأَهْلُ الْجَنَّةِ دَائِمًا فِي شَوْقٍ إِلَى اللَّهِ، مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ. قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشَّوْقَ يَكُونُ حَالَ اللِّقَاءِ أَعْظَمَ: أَنَّا نَرَى الْمُحِبَّ يَبْكِي عِنْدَ لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ. وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَوَجْدِهِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَجِدُ عِنْدَ لِقَائِهِ نَوْعًا مِنَ الشَّوْقِ لَمْ يَجِدْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ. [فَصْلٌ الشَّوْقُ يُرَادُ بِهِ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُه لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ] فَصْلٌ النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الشَّوْقَ يُرَادُ بِهِ: حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُهُ لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ شَوْقٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ، تُثِيرُهُ حَلَاوَةُ الْوَصْلِ وَمُشَاهَدَةُ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا يَزِيدُ بِاللِّقَاءِ وَالْقُرْبِ وَلَا يَزُولُ. وَالْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا: وُجُودُهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: حُصُولُهُ. وَبَعْضُهُمْ سَمَّى النَّوْعَ الْأَوَّلَ: شَوْقًا. وَالثَّانِيَ: اشْتِيَاقًا.
পৃষ্ঠা - ১০৩০
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْقِ وَالِاشْتِيَاقِ. وَيَقُولُ: الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاءِ. وَالِاشْتِيَاقُ لَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. قَالَ: وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا: مَا يَرْجِعُالطَّرْفُ عَنْهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِالطَّرْفُ مُشْتَاقَا وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: لِلْخَلْقِكُلِّهِمْ مَقَامُ الشَّوْقِ. وَلَيْسَ لَهُمْ مَقَامُ الِاشْتِيَاقِ. وَمَنْ دَخَلَ فِي حَالِ الِاشْتِيَاقِ هَامَ فِيهِ حَتَّى لَا يُرَى لَهُ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا قَرَارٌ. قَالَ الدَّقَّاقُ - فِي قَوْلِ مُوسَى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] قَالَ: مَعْنَاهُ شَوْقًا إِلَيْكَ. فَسَتَرَهُ بِلَفْظِ الرِّضَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ يَتَحَسَّوْنَ حَلَاوَةَ الْقُرْبِ عِنْدَ وُرُودِهِ - لِمَا قَدْ كُشِفَ لَهُمْ مِنْ رُوحِ الْوُصُولِ - أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ. فَهُمْ فِي سَكَرَاتِهِ فِي أَعْظَمِ لَذَّةٍ وَحَلَاوَةٍ. وَقِيلَ: مَنِ اشْتَاقَ إِلَى اللَّهِ اشْتَاقَ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَدْخُلُ فِي الشَّوْقِ وَالْأَشْيَاءُ تَشْتَاقُ إِلَيَّ. وَأَتَأَخَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ: إِذَا اشْتَاقَتِ الْخَيْلُ الْمَنَاهِلَ أَعْرَضَتْ ... عَنِ الْمَاءِ فَاشْتَاقَتْ إِلَيْهَا الْمَنَاهِلُ وَكَانَتْ عَجُوزٌ مُغَيَّبَةٌ. فَقَدِمَ غَائِبُهَا مِنَ السَّفَرِ. فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَقَعَدَتْ هِيَ تَبْكِي. فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَتْ: ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. يَا مَنْ شَكَا شَوْقُهُ مِنْ طُولِ فُرْقَتِهِ ... اصْبِرْ لَعَلَّكَ تَلْقَى مَنْ تُحِبُّ غَدَا وَقِيلَ: خَرَجَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ مُنْفَرِدًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: مَا لِي أَرَاكَ مُنْفَرِدًا؟ فَقَالَ: إِلَهِي اسْتَأْثَرَ شَوْقِي إِلَى لِقَائِكَ عَلَى قَلْبِي. فَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ
পৃষ্ঠা - ১০৩১
صُحْبَةِ الْخَلْقِ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ. فَإِنَّكَ إِنْ أَتَيْتَنِي بِعَبْدٍ آبِقٍأُثْبِتْكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جَهْبَذًا. [فَصْلٌ الشَّوْقُ هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشَّوْقُ: هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ. وَفِي مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: عِلَّةُ الشَّوْقِ عَظِيمَةٌ. فَإِنَّ الشَّوْقَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى الْغَائِبِ. وَمَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ. وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَنْطِقِ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ. قُلْتُ: هُوَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الرَّجَاءَ شَوْقًا بِلِسَانِ الِاعْتِبَارِ لَا بِلِسَانِ التَّفْسِيرِ. أَوْ أَنَّ دَلَالَةَ الرَّجَاءِ عَلَى الشَّوْقِ بِاللُّزُومِ، لَا بِالتَّضَمُّنِ وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ. قَوْلُهُ " هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ " يَعْنِي: سَفَرَهُ إِلَيْهِ، وَهُوِيَّهُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الشَّوْقِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الشَّوْقَ فِي حَالِ اللِّقَاءِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الْمَغِيبِ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: لَا عِلَّةَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ سَفَرَ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَعَلَى قَوْلِهِ: يَجِيءُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. وَوَجْهُهُ مَفْهُومٌ. وَقَوْلُهُ " فَإِنَّ مَذْهَبَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ " - الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ - يُرِيدُ: أَنَّ الْفَنَاءَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ. فَإِنَّ بِدَايَتَهُ - كَمَا قَرَّرَهُ هُوَ - الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ. وَالْفَنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. وَمَعَ الْمُشَاهَدَةِ لَا عَمَلَ لِلشَّوْقِ. فَيُقَالُ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ لَا تُزِيلُ الشَّوْقَ بَلْ تَزِيدُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مُشَاهَدَةَ أَكْمَلُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - أَشْوَقُ شَيْءٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ هُمْ أَشْوَقُ شَيْءٍ إِلَى رُؤْيَةِ
পৃষ্ঠা - ১০৩২
رَبِّهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ تَعَالَى وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ «إِنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً: مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّ شَوْقَ هَذَا إِلَى الرُّؤْيَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا أَعْظَمُ شَوْقٍ يُقَدَّرُ، وَحُصُولُ الْمُشَاهَدَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَتَمُّ مِنْهَا لِأَهْلِ الدُّنْيَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةٍ تُزِيلُ الشَّوْقَ أَلْبَتَّةَ. وَمَنِ ادَّعَى هَذَا فَقَدَ كَذَبَ وَافْتَرَى. فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. كَلِيمِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ. فَمَا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الَّتِي مَبْنَى مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَيْهَا. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَعَهَا شَوْقٌ؟ أَهِيَ كَمَالُ الْمُشَاهَدَةِ عِيَانًا وَجَهْرَةً؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. أَمْ نَوْعٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَلْبِ لِمَعْرُوفِهِ، مَعَ اقْتِرَانِهَا بِالْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ تَمْنَعُ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الشَّوْقَ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا؟ وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا بِالْعَكْسِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَالْحَقِيقَةِ. لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ مَحْبُوبَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. كَانَ شَوْقُهُ إِلَى كَمَالِ مُشَاهَدَتِهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ. وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ الْجُزْئِيَّةُ سَبَبًا لِاشْتِيَاقِهِ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا. فَأَيْنَ الْعِلَّةُ فِي الشَّوْقِ؟ وَأَيْنَ الْمُشَاهَدَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الشَّوْقِ؟ وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ ظَاهِرٌ. وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ كَانَ مُكَابِرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
পৃষ্ঠা - ১০৩৩
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشَّوْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ، لِيَأْمَنَ الْخَائِفُ وَيَفْرَحَ الْحَزِينُ. وَيَظْفَرَ الْآمِلُ. يَعْنِي: شَوْقَ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيهِ هَذِهِ الْحِكَمُ الثَّلَاثُ. أَحَدُهَا: حُصُولُ الْأَمْنِ الْبَاعِثِ عَلَى الْأَمَلِ. فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَنْبَعِثُ صَاحِبُهُ لِعَمَلٍ أَلْبَتَّةَ إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ أَمَلٌ. فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُ قُطِعَ وَصَارَ قَنُوطًا. الثَّانِي: فَرَحُ الْحَزِينِ. فَإِنَّ الْحُزْنَ الْمُجَرَّدَ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْفَرَحُ قَتَلَ صَاحِبَهُ. فَلَوْلَا رُوحُ الْفَرَحِ لَتَعَطَّلَتْ قُوَى الْحَزِينِ وَقَعَدَ حُزْنُهُ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا قَعَدَ بِهِ الْحُزْنُ قَامَ بِهِ رُوحُ الْفَرَحِ. الثَّالِثُ: رُوحُ الظَّفَرِ. فَإِنَّ الْآمِلَ إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ رُوحُ الظَّفَرِ مَاتَ أَمَلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَاشْتَاقَ إِلَى مُعَايَنَةِ لِطَائِفِ كَرَمِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ وَأَعْلَامِ فَضْلِهِ. وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ، وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ، وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ. الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الشَّوْقَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَإِنَّ أَطْيَبَ مَا فِي الْجَنَّةِ: قُرْبُهُ تَعَالَى، وَرُؤْيَتُهُ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ. نَعَمْ. الشَّوْقُ إِلَى مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ نَاقِصٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَوْقِ الْمُحِبِّينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا الشَّوْقُ دَرَجَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: شَوْقٌ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي سَبَبُهُ الْإِحْسَانُ وَالْمِنَّةُ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ. فَسَبَبُهُ مُطَالَعَةُ مِنَّةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
পৃষ্ঠা - ১০৩৪
أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الْإِحْسَانِ وَالْآلَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ " تَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ " أَيْ جَوَانِبِهِ: إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَنَّهَا مِنْ نَبَاتِ الْحَافَّاتِ الَّتِي هِيَ جَوَانِبُ الْمِنَنِ. لَا مِنْ نَبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَوْلُهُ " فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ " يَعْنِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمِنَنِ وَالْإِحْسَانِ. كَالْبَرِّ وَالْمَنَّانِ، وَالْمُحْسِنِ، وَالْجَوَادِ، وَالْمُعْطِي، وَالْغَفُورِ، وَنَحْوِهَا. وَقَوْلُهُ " الْمُقَدَّسَةُ " يَعْنِي الْمُطَهَّرَةَ الْمُنَزَّهَةَ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَشْبِيهِ الْمُمَثِّلِينَ وَتَعَطُّلِ الْمُعَطِّلِينَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مُرَادَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْخَاصَّةُ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالصِّفَاتِ الْعَامَّةِ: إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ثَمَرَةَ هَذَا التَّعَلُّقِ شَوْقَ الْعَبْدِ إِلَى مُعَايَنَةِ لَطَائِفِ كَرَمِ الرَّبِّ وَمِنَنِهِ وَإِحْسَانِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ. وَهِيَ عَلَامَاتُ بِرِّهِ بِالْعَبْدِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ (أَعْلَامُ فَضْلِهِ) وَهُوَ مَا يُفْضِلُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيُفَضِّلُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ " وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ " يَعْنِي: أَنَّهُ شَوْقٌ مَعْلُولٌ. لَيْسَ خَالِصًا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ. بَلْ لِمَا يَنَالُ مِنْهُ مِنَ الْمَبَارِّ " فَقَدْ غَشِيَتْهُ " أَيْ أَدْرَكَتْهُ الْمَبَارُّ. قَوْلُهُ " وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ " أَيْ تَجَاذَبُهُ. فَإِنَّ الْمُخَالَجَةَ هِيَ الْمُجَاذَبَةُ. فَإِذَا خَالَطَ هَذَا الشَّوْقَ الْفَرَحُ: كَانَ مَمْزُوجًا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَظِّ. وَقَوْلُهُ " وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ " أَيْ أَنَّ صَاحِبَهُ يَقْوَى عَلَى الصَّبْرِ، فَيُقَاوِمُ صَبْرُهُ شَوْقَهُ وَلَا يَغْلِبُهُ، بِخِلَافِ الشَّوْقِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الشَّوْقُ الْخَالِصُ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: نَارٌ أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ. وَسَلَبَتِ السَّلْوَةُ. وَلَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ. يُرِيدُ: أَنَّ الشَّوْقَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: شَبِيهٌ بِالنَّارِ الَّتِي أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ. وَهُوَ خَالِصُهَا. وَشَبَّهَهُ بِالنَّارِ لِالْتِهَابِهِ فِي الْأَحْشَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ " صَفْوُ الْمَحَبَّةِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ الْمِنَّةِ وَالنِّعَمِ. وَلَكِنْ مَحَبَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.
পৃষ্ঠা - ১০৩৫
قَوْلُهُ " فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ " أَيْ مَنَعَتْ صَاحِبَهَا السُّكُونَ إِلَى لَذِيذِ الْعَيْشِ. وَ " التَّنْغِيصُ " قَرِيبٌ مِنَ التَّكْدِيرِ. قَوْلُهُ " وَسَلَبَتِ السَّلْوَةَ " أَيْ نَهَبَتِ السُّلُوَّ وَأَخَذَتْهُ قَهْرًا. وَ " السَّلْوَةُ " هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ كَرْبِ الْمَحَبَّةِ وَإِلْقَاءُ حِمْلِهَا عَنِ الظَّهْرِ. وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَحْبُوبِ تَنَاسِيًا. وَقَوْلُهُ " لَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ " أَيْ لَمْ يَكْفِهَا وَيَرُدَّهَا قَرَارٌ دُونَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَهَذِهِ لَا يُقَاوِمُهَا الِاصْطِبَارُ. لِأَنَّهُ لَا يَكُفُّهَا دُونَ لِقَاءِ مَنْ يُحِبُّ قَرَارٌ. [فَصْلٌ الْقَلَقُ] [حَقِيقَةُ الْقَلَقِ] فَصْلٌ الْقَلَقُ وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الشَّوْقُ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الصَّبْرِ. فَيُسَمَّى قَلَقًا وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - حَاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] فَكَأَنَّهُ فَهِمَ: أَنَّ عَجَلَتَهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا الْقَلَقُ. وَهُوَ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ لِلِقَائِهِ وَمِيعَادِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْحَامِلَ لِمُوسَى عَلَى الْعَجَلَةِ: هُوَ طَلَبُ رِضَا رَبِّهِ، وَأَنَّ رِضَاهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَالْعَجَلَةِ إِلَيْهَا. وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَذْكُرُ ذَلِكَ. قَالَ: إِنَّ رِضَا الرَّبِّ فِي الْعَجَلَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ. ثُمَّ حَدَّهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ بِإِسْقَاطِ الصَّبْرِ أَيْ تَخَلُّصِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ مَعَهُ الصَّبْرُ، فَإِنْ قَارَنَهُ اصْطِبَارٌ فَهُوَ شَوْقٌ. [دَرَجَاتُ الْقَلَقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ] ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ، وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ. وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ. يَعْنِي: يَضِيقُ خُلُقُ صَاحِبِهِ عَنِ احْتِمَالِ الْأَغْيَارِ. فَلَا يُبْقِي فِيهِ اتِّسَاعًا لِحَمْلِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَقْيِيدِهِمْ لَهُ، وَتَعُوقَهُ بِأَنْفَاسِهِمْ. وَ " يُبْغِضُ الْخَلْقَ " يَعْنِي: لَا شَيْءَ أَبْغَضَ إِلَى صَاحِبِهِ مِنِ اجْتِمَاعِهِ بِالْخَلْقِ. لِمَا
পৃষ্ঠা - ১০৩৬
فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ حَالِهِ وَبَيْنَ خُلْطَتِهِمْ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَقَارِبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كَانَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَخْرُجُ أَحْيَانًا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَخْلُو عَنِ النَّاسِ، لِقُوَّةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ. فَتَبِعْتُهُ يَوْمًا فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ. ثُمَّ جَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ - وَهُوَ لِمَجْنُونِ لَيْلَى مِنْ قَصِيدَتِهِ الطَّوِيلَةِ -: وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ بِالسِّرِّ خَالِيًا وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ: إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْخَلْقِ بِتَثْبِيتٍ وَقُوَّةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ. قَوْلُهُ " وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ " فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرْجُو فِيهِ لِقَاءَ مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ الْتَذَّ بِهِ، كَمَا يَلْتَذُّ الْمُسَافِرُ بِتَذَكُّرِ قُدُومِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ وَيُخَلِّي السَّمْعَ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ، وَيُخَلِّي السَّمْعَ، وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ. أَيْ يَكَادُ يَقْهَرُ الْعَقْلَ وَيَغْلِبُهُ. فَهُوَ وَالْعَقْلُ تَارَةً وَتَارَةً. وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الشُّهُودِ لَمْ يَصْطَلِمْهُ. فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَصْطَلِمُهُ إِلَّا الشُّهُودُ. وَلِذَلِكَ قَالَ: يُغَالِبُ، وَلَمْ يَقُلْ يَغْلِبُ. وَأَمَّا " إِخْلَاؤُهُ السَّمْعَ " فَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِخْلَاءَهُ مِنْ شَيْءٍ، وَإِخْلَاءَهُ لِشَيْءٍ. فَيُخْلِّيهِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ ذِكْرَ الْغَيْرِ، وَيُخَلِّيهِ لِاسْتِمَاعِهِ أَوْصَافَ الْمَحْبُوبِ وَذِكْرَهُ وَحَدِيثَهُ. وَقَدْ يَقْوَى إِلَى أَنْ يُبْعِدَ بَيْنَ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ؛ لِانْقِهَارِ الْحِسِّ لِسُلْطَانِ الْقَلَقِ. قَوْلُهُ " وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ " يَعْنِي: يُصَابِرُهَا وَيُقَاوِمُهَا. فَلَا تَقْدِرُ طَاقَةُ الِاصْطِبَارِ عَلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.