গুনিয়াত আত-তালেবিন

القسم الخامس في التصوف

পৃষ্ঠা - ৬০৫
القسم الخامس في التصوف
পৃষ্ঠা - ৬০৭
كتاب آداب المريدين من الفقراء الصادقين سالكي طريق الصوفية الذين صفوا عن الأهوية المضلة، وأمسكوا عن الأخلاق الردية فأدخلوا في زمرة الأبدال وأهل الولاية واتصفوا بالعينية، على وجه الاختصار والإقلال، خشية السآمة والملال (فصل: في الإرادة والمريد والمراد) أما الإرادة: فترك ما عليه العادة، وتحقيقها نهوض القلب في طلب الحق سبحانه وترك ما سواه، فإذا ترك العبد العبادة التي هي حظوظ الدنيا والأخرى فتجردت حينئذ إرادته، فالإرادة مقدمة على كل أمر، ثم يعقبها القصد، ثم الفعل، فهي بدء طريق كل سالك واسم أول منزلة كل قاصد، قال الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام:52] فنهى نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن طردهم وإبعادهم، وقال تعالى في آية أخرى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} [الكهف:28] فأمره -صلى الله عليه وسلم- بالصبر معهم وملازمتهم وتصبر النفس في صحبتهم، ووصفهم بأنهم يريدون وجهه، ثم قال: {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} فبان بذلك أن حقيقة الإرادة إرادة وجه الله فحسب، دون زينة الحياة الدنيا والأخرى. فأما المريد والمراد، فالمريد: من كانت فيه هذه الجملة واتصف بهذه الصفة، فهو أبدًا مقبل على الله عز وجل وطاعته، مُوَلٍّ عن غيره وأجابت، يسمع من ربه عز وجل فيعمل بما في الكتاب والسنة، ويصم عما سوى ذلك، ويبصر بنور الله عز وجل فلا يرى إلا فعله فيه، وفي غيره من سائر الخلائق، ويعمى غيره فلا يرى فاعلاً على الحقيقة غيره عز وجل، بل يرى آلة وسببًا محركًا مدبرًا مسخرًا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حبك الشيء يعمى ويصم" أي يعميك عن غير محبوبك، ويصمك عنه لاشتغالك بمحبوبك، فما أحب حتى أراد، وما أراد حتى تجردت إرادته، وما تجردت إرادته حتى قذفت في قلبه
পৃষ্ঠা - ৬০৮
جمرة الخشية فأحرقت كل ما هنالك. قال الله عز جل: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} [النمل: 34] كما قيل: إنها لوعة تهون كل روعة فنومه غلبه وأكله فاقة، وكلامه ضرورة، ينصح نفسه أبدًا فلا يجيبها إلى محبوبها ولذاتها، وينصح عباد الله ويأنس بالخلوة مع الله، ويصبر عن معاصي الله تعالى ويرضى بقضاء الله ويختار أمر الله، ويستحي من نظر الله، ويبذل مجهوده في محاب الله تعالى، ويتعرض أبدًا لكل سبب يوصله إلى الله عز وجل، ويقنع بالخمول والاختفاء، فلا يختار حمد عباد الله، ويتحبب إلى ربه بكثرة النوافل، مخلصًا لله حتى يصل إلى الله عز وجل، ويحصل في زمرة أحباب الله تعالى ومراديه، فحينئذ يسمى مرادًا، فتحط عنه أثقال سالكي طريق الله، ويغسل بماء رحمة الله ورأفته ولطفه، فيبنى له بيت في جوار الله، وتخلع عليه أنواع الخلع، وهي المعرفة بالله والأنس به، والسكون والطمأنينة إليه، وينطق بحكمة الله وأسرار الله بعد الإذن الصريح، بل الخبر من الله عز وجل، ويلقب بألقاب يتميز بها بين أحباب الله تعالى، فيدخل في خواص الله، ويسمى بأسماء لا يعلمها إلا الله، ويطلع على أسرار تخصه، فلا يبوح بها عند غير الله عز وجل، فيسمع من الله، ويبصر بالله وينطق بالله ويبطش بقوة الله، ويسمى في طاعة الله، ويسكن إلى الله، وينام مع طاعة الله، وذكر الله في كلاءة الله وحرز الله، فيكون من أمناء الله وشهدائه، وأوتاد أرضه ومنجى عباده وبلاده وأحبائه وأخلائه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حاكيًا عن الله تعالى: "لا يزال عبدي المؤمن يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطس" الحديث. فهذا عبد حمل عقله العقل الأكبر، وسكنت حركاته الشهوانية لقبضة الحق عز وجل، فصار قلبه خزانة الله عز وجل، فهذا هو مراد الله تعالى إن أردت أن تعرفه يا عبد الله. وقد قال من تقدم من عباد الله: إن المريد والمراد واحد، إذ لو لم يكن مراد الله عز وجل بأن يريده لم يكن مريدًا، إذ لا يكون إلا ما أراد، لأنه إذا أراده الحق بالخصوصية وفقه بالإرادة، كما قال الله تعالى: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله} [الإنسان:30].
পৃষ্ঠা - ৬০৯
وقال آخرون: المريد: المبتدى، والمراد: المنتهى، المريد: الذي نصب بعين التعب وألقى في مقاساة المشاق، والمراد: الذي لقى الأمر من غير مشقة، المريد: متعب، والمراد: مرفوق به مرفه، فالأغلب في حق القاصدين المبتدئين في سنة الله تعالى ما قد تم وجرى من توفيق الله تعالى للمجاهدات، ثم إيصالهم إليه وحط الأثقال عنهم، والتخفيف عنهم في كثير من النوافل وترك الشهوات، والاقتصار على القيام بالفرائض والسنن من جميع العبادات، وحفظ القلوب ومحافظة الحدود والمقام، والانقطاع عما سوى الحق عز وجل بالقلوب، فيكون ظواهرهم مع خلق الله تعالى، وبواطنهم مع الله عز وجل، ألسنتهم بحكم الله، وقلوبهم بعلم الله، فألسنتهم لنصح عباد الله، وأسرارهم لحفظ ودائع الله، فعليهم سلام الله وتحياته وبركاته ورحمته وتحيته مادامت أرضه وسماؤه، وقام العباد بطاعته وحقه، وحفظ حدوده. وسئل الجنيد رحمه الله عن المريد والمراد، فقال: المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: تتولاه رعاية الحق، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر؟ وينكشف ذلك بموسى ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، كان موسى عليه السلام مريدًا، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مرادًا، انتهى سير موسى عليه السلام إلى جبل طور سيناء، وطيران نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى العرش واللوح المسطور. فالمريد طالب، والمراد مطلوب، عبادة المريد مجاهدة، وعبادة المراد موهبة، المريد موجود، والمراد فان، المريد يعمل للعوض، والمراد لا يرى العمل بل يرى التوفيق والمنن، المريد يعمل في سلوك السبيل، والمراد قائم على مجمع كل سبيل، المريد ينظر بنور الله والمراد ينظر بالله، المريد قائم بأمر الله، والمراد قائم بفعل الله، المريد يخالف هواه، والمراد يتبرأ من إرادته ومناه، المريد يتقرب، والمراد يقرب به، والمريد يحمي، والمراد يدلل وينعم ويغذي ويشهي، المريد محفوظ، والمراد يحفظ به المريد في الترقى، والمراد قد أوصل وبلغ إلى الرب الذي هو المرقى، ونال عنده كل طريف ونفيس ولطيف، ونقى، فجاز على كل طائع عابد متقرب بار تقي. * * *
পৃষ্ঠা - ৬১০
(فصل: ما المتصوف ومن الصوفي؟) أما المتصوف: فهو الذي يتكلف أن يكون صوفيًا ويتوصل بجهده إلى أن يكون صوفيًا، فإذا تكلف وتقمص بطريق القوم وأخذ به يسمى متصوفًا كما يقال لمن لبس القميص تقمص، ولمن لبس الدراعة تدرع، ويقال: متقمص ومتدرع، وكذلك يقال لمن دخل في الزهد: متزهد، فإذا انتهى في زهده وبلغ وبغضت الأشياء إليه وفنى عنها، فترك كل واحد منهما صاحبه، سمى حينئذ زاهدًا، ثم تأتيه الأشياء وهو لا يريدها ولا يبغضها، بل يمتثل أمر الله فيها، وينتظر فعل الله فيها، فيقال لهذا متصوف وصوفى إذا اتصف بهذا المعنى، فهو في الأصل صوفى على وزن فوعل، مأخوذ من المصافاة، يعني عبدًا صافاه الحق عز وجل، ولهذا قيل: الصوفى من كان صافيًا من آفات النفس، خاليًا من مذموماتها، سالكًا لحميد مذاهبه، ملازمًا للحقائق غير ساكن بقلبه إلى أحد من الخلائق. وقيل: إن التصوف: الصدق مع الحق، وحسن الخلق مع الخلق. وأما الفرق بين المتصوف والصوفى: فالمتصوف المبتدى، والصوفي المنتهى، المتصوف الشارع في طريق الوصل، والصوفى من قطع الطريق ووصل إلى من إليه القطع والوصل، المتصوف محمل، والصوفى محمول، حمل المتصوف كل ثقيل وخفيف، فحمل حتى ذابت نفسه، وزال هواه، وتلاشت إرادته وأمانيه فصار صافيًا فسمى صوفيًا، فحمل فصار محمول القدر كرة المشيئة، مربى النفس، منبع العلوم والحكم، بيت الأمن والنور، كهف الأولياء والأبدال وموئلهم ومرجعهم ومتنفسهم ومستراحهم ومسرتهم، إذ هو عين القلادة درة التاج منظر الرب. والمريد المتصوف مكابد لنفسه وهواه وشيطانه وخلق ربه ودنياه وأخراه، متعبد لربه عز وجل بمفارقة الجهات الست والأشياء وترك العمل لها وموافقتها، والقبول منها وتصفية باطنه من الميل إليها والاشتغال بها، فيخالف شيطانه، ويترك دنياه، ويفارق أقرانه وسائر خلق ربه بحكمه عز وجل لطلب أخراه، ثم يجاهد نفسه وهواه بأمر الله عز وجل فيفارق أخراه، وما أعد عز وجل لأوليائه فيها من جنة لرغبته في مولاه، فيخرج من الأكوان فيصفى من الأحداث ويتجوهر لرب الأنام، فتنقطع منه العلائق
পৃষ্ঠা - ৬১১
والأسباب والأهل والأولاد، فتنسد عنه الجهات، وتنفتح في وجهه جهة الجهات، وباب الأبواب، وهو الرضا بقضاء رب الأنام، ورب الأرباب، ويفعل فيه فعل العالم بما كان وما هو آت، والخبير بالسرائر والخفيات، وما تتحرك به الجوارح، وما تضمره القلوب والنيات، ثم يفتح تجاه هذا الباب باب يسمى باب القربة إلى المليك الديان، ثم يرفع منه إلى مجالس الأنس، ثم يجلس على كرسي التوحيد، ثم يرفع عنه الحجب ويدخل دار الفردانية، ويكشف عنه الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقى بلا هو، فانيًا عن نفسه وصفاته، عن حوله وقوته وحركته وإرادته ومناه ودنياه وأخراه، فيصير كإناء بلور مملوء ماء صافيًا، تتبين فيه الأشباح، فلا يحكم عليه غير القدر، ولا يوجده غير الأمر فهو فانٍ عنه وعن حظه، موجود لمولاه وأمره، لا يطلب خلوة لأن الخلود للموجود، فهو كالطفل لا يأكل حتى يطعم، ولا يلبس حتى يلبس، فهو مسترسل مفوض {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} [الكهف: 18]. هو كائن بين الخليقة بالجسمان، بائن عنهم بالأفعال والأعمال والسرائر والضمائر والنيات، فحينئذ يسمى صوفيًا، على معنى أنه يصفى من التكدر بالخيقة والبريات، وإن شئت سميته بدلاً من الأبدال، وعينًا من الأعيان، عارفًا بنفسه وربه، الذي هو محيى الأموات، المخرج أولياءه من ظلمات النفوس والطباع والأهوية والضلالات إلى ساحة الذكر والمعارف والعلوم والأسرار ونور القربة، ثم إلى نوره عز وجل: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة} [النور:35] {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257] فالله تعالى تولى إخراجهم من الظلمات، وهو عز وجل أطلعهم على ما أضمرت قلوب العباد، وانطوت عليه النيات، إذ جعلهم ربي جواسيس القلوب والأمناء على السرائر والخفيات، وحرسهم من الأعداء في الخلوات والجلوات، لا شيطان مضل ولا هوى متبع يميل بهم إلى الضلالات، قال الله عز وجل: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42، والإسراء: 65] ولا في نفس أمارة بالسوء، ولا شهوة غالبة متبعة تدعوه إلى اللذات المردية في الدركات المخرجة من أهل السنة والجماعات. قال الله عز من قائل: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف:24] فحرسهم ربي، وقمع رعونات نفوسهم وضراوتها بسلطان الجبروت، فثبتهم في مراتبهم ووفقهم للوفاء بشرطه، بعد أن وفقهم للوفاء بالصدق في سيرهم، وبالصبر في محل انقطاعهم واضطرارهم، فأدوا الفرائض وحفظوا الحدود
পৃষ্ঠা - ৬১২
والأوامر، وألزموا المراتب حتى قوموا وهذبوا ونقوا وأدبوا وطهروا وطيبوا ووسعوا وزكوا وشجعوا وعوذوا، فتمت لهم ولاية الله وتوليته {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة:257]، وقوله تعالى: {وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] فنقلوا من مراتبهم إلى مالك الملك، فرتب لهم ذلك بين يديه، فصار نجواهم كفاحًا يناجونه بقلوبهم وأسرارهم، فاشتغلوا به عمن سواه، ونهوا عن نفوسهم وعن كل شيء، هو رب كل شيء ومولاه، فصيرهم في قبضته، وقيدهم بعقولهم وجعلهم أمناء، فهم في قبضته وحصنه وحراسته، يتشممون روح القرب، ويعيشون في فسخة التوحيد والرحمة، فلا يشتغلون بشيء إلا بما أذن لهم من الأعمال، فإذا جاء وقت عمل أبدانهم دون قلوبهم، مضوا مع الحرس في تلك الأعمال، كيلا تضرهم شياطينهم ونفوسهم وأهويتهم، فتسلم أعمالهم من خط الشياطين، وهنات النفوس من الرياء والنفاق والعجب وطلب الأعراض، والشرك بشيء من الأشياء، والحول والقوة، بل يرون جميع ذلك فضلاً من الله وتوفيقًا من الله خلقًا، ومنهم بتوفيقه كسبًا، كيلا يخرجوا بهذه العقيدة من سنن الهدى، ثم يردون بعد أداء تلك الأوامر، وفراغ تلك الأعمال إلى مراتبهم التي ألزموها، فوقفوا معها وحفظوها بالقلوب والضمائر، وقد ينقلون إلى حاة بعد أن جعلوا الأمناء، وخوطب كل واحد منهم بالانفراد في حالته {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف: 54] فلا يحتاجون فيها إلى إذن، لأنهم صاروا كالمفوض إليهم أمرهم، فهم في قبضته حيثما ذهبوا في شيء من أمورهم يحققه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكيه عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل أنه قال: "ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطش" فهذا الخبر قد ذكرناه في مواضع من هذا الكتاب، لأنه أصل في هذا المقام، فيمتلئ قلب هذا العبد بحب ربه عز وجل ونوره وعلمه والمعرفة به، فلا يصح غير ذلك. ألا ترى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنه-" فظاهره متحرك متصرف بفعل الله تعالى، وباطنه مملوء بالله عز وجل.
পৃষ্ঠা - ৬১৩
وقد قال موسى عليه السالم: "يا رب أين أبغيك قال: يا موسى في أي بيت يسعني، وأي مكان يحملني؟ فإن أردت أن تعلم أين أنا فإني في قلب التارك الوادع العفيف". فالتارك هو الذي يترك بجهد وفيه بقية، ثم من عليه ربه فودعه موتًا عنه ثم عفا، فلا يلتفت إلى شيء سوى مولاه، فما تلك المنة التي من بها ربه عليه؟ وذلك أنه عز وجل أقامه المرتبة على شرطية اللزوم لها ليقوم بها، فلما وفى له بالشرط ولم يبغ عملاً وحركة غير ذلك وحفظه ولم يتجاوز نقله منها إلى ملك الجبروت ليقوم، فجبر نفسه ثم قمعها بسلطان الجبروت حتى ذلت وخشعت، ثم نقله منها إلى الملك السلطان ليهذب، فذابت تلك الغدد التي في نفسه، وهي أصول تلك الشهوات التي قد صارت غدة ثابتة فيها، ثم نقله منها إلى ملك الجلال فأدب، ثم نقله منها إلى ملك الجمال فنقى، ثم نقله إلى ملك العظمة فظهر، ثم إلى ملك البهاء فطيب، ثم إلى ملك البهجة فوسع، ثم إلى ملك الهيبة فربى، ثم إلى ملك الرحمة فرطب وقوى وشجع، ثم إلى ملك الفردية فعود. فاللطف يعذبه، والرأفة تجمعه وتكتنفه، والمحبة تقويه، والشوق يدنيه، والمشيئة تؤديه إليه، والجواد العزيز يقلبه فيقربه، ثم يدنيه ثم يمهله ثم يؤدبه ثم يناجيه ثم يبسطه ثم يقبض عليه. فأينما صار وفي كل مكان خال وفي كل حال لربه دان فهو في قبضته، وأمين من أمنائه على أسراره، وما يؤديه من ربه إلى خلقه، فإذا صار إلى هذا المحل فقد انقطعت الصفات وانقطع الكلام والعبارات، فهذا هو منتهى العقول والقلوب، وغاية ما تبلغ حالات الأولياء إليه وتؤول، وما وراء ذلك مختص بالأنبياء والرسل عليهم السلام، لأن نهاية الولي بداية النبي على الجميع صلوات الله وتحياته ورأفته ورحمته. والفرق بين النبوة والولاية أن النبوية كلام ينفصل من الله تعالى ووحي، معه روح من الله يقضي الوحي، ويختمه بالروح، منه تعالى قبوله فيقبله، هذا هو الذي يلزم تصديقه، ومن رده فهو كافر، لأنه رد لكلام الله عز وجل. وأما الولاية فهي لمن تولى الله عز وجل حديثه على طريق الإلهام فأوصله إليه فله الحديث، فينفصل ذلك الحديث من الله على لسان الحق معه السكينة، فتلقاه السكينة
পৃষ্ঠা - ৬১৪
التي في قلب المجذوب فيقبله ويسكن إليه. فالكلام للأنبياء، والحديث للأولياء، فمن رد الكلام كفر، لأنه رد على الله كلامه ووحيه، ومن رد الحديث لم يكفر، بل يخيب ويصير وبالاً عليه ويبهت قلبه لأنه رد على الحق ما جاء به محبة الله تعالى ممن علم الله في نفسه فأودعه الحق، وجعله مؤديًا إلى القلب، لأن الحديث ما ظهر من علمه الذي برز في وقت المشيئة، فيصير حديثًا في النفس كالسر، إنما يقع ذلك الحديث بمحبة امن الله لهذا العبد، فيمضي مع الحق إلى قلبه فيقبله القلب بالسكينة. * * *
পৃষ্ঠা - ৬১৫
باب فيما يجب على المبتدي في هذه الطريقة أولاً وما يجب عليه من الأدب مع الشيخ ثانيًا وما يجب على الشيخ في تأديب المريد فالذي يجب على المريد المبتدي في هذه الطريقة: الاعتقاد الصحيح الذي هو الأساس، فيكون على عقيدة السلف الصالح أهل السنة القديمة سنة الأنبياء والمرسلين، الصحابة والتابعين، والأولياء والصديقين على ما تقدم ذكره وشرحه في أثناء الكتاب. فعليه بالتمسك بالكتاب والسنة والعمل بها أمرًا ونهيًا، أصلاً وفرعًا، فيجعلهما جناحيه يطير بهما في الطريق الواصل إلى الله عز وجل، ثم الصدق في الاجتهاد، حتى يجد الهداية، والإرشاد إليه والدليل، وقائدًا يقوده، ثم مؤنسًا يؤنسه، ومستراحًا يستريح إليه في حالة إعيائه ونصبه وظلمته عند ثوران شهواته ولذاته وهنات نفسه وهواه المضل، وطبعه المجبول على التثبط والتوقف عن السير في الطريق قال الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] وقال الحكيم: من طلب وجدَّ وَجَدَ. فبالاعتقاد يحصل له علم الحقيقة، وبالاجتهاد يتفق له سلوك الطريقة. ثم يجب عليه أن يخلص مع الله عز وجل عهدًا بأن لا يرفع قدمًا في طريقه إليه، ولا يضعها إلا بالله ما لم يصل إلى الله، فلا ينصرف عن قصده بملامة مليم لأن الصادق لا يرجع، ولا يوجد كرامة فلا يقف معها ويرضى بها عن الله عز وجل عوضًا، إذ هي حجابه عن ربه ما لم يصل إليه عز وجل، فإذا حصل الوصول لا تضره الكرامات، إذ هي من باب القدرة وثمراتها وعلاماتها، ووصوله إلى الحق عز وجل من القدرة، فلا ينقض الشيء نفسه، وكيف وقد يصير هو حينئذ قدوة في الأرض وخرق عادة، وكلامه حكمة بالغة من بعد جهل وعجمة وبلادة وقصور، وحركاته وسكناته وتصاريفه عبرة لمن اعتبرها، وأفعال الله تجري فيه وعليه مما يبهر العقول، ثم قد يؤمر حسنئذ بطلب الكرامة ويجبر عليه، وتحقق عنده أن دماره وهلاكه في ترك الطلب
পৃষ্ঠা - ৬১৬
ومخالفة هذا الأمر، وثباته وبقاءه وعبادته وقربته ومرضاة ربه ودنوه منه وزيادة محبة ربه له في طلبها وامتثال أمره فيها، فكيف تضره الكرامة حينئذ غير أن يكون ذلك بينه وبين ربه عز وجل ولا يظهره لأحد من العوام إلا أن يغلب ليه ظهوره، لأن من شرط الولاية كتمان الكرامات، ومن شروط النبوة والرسالة إظهار المعجزات، ليقع بذلك الفرق بين النبوة والولاية. ولا ينبغي أن يعرج في أوطان التقصير، ولا يخالط المقصرين والبطالين أبناء قيل وقال، أعداء الأعمال والتكاليف، المدعين للإسلام والإيمان، الذين قال الله عز وجل في حقهم: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 2 - 3] وقال في أختها: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة:44]. وينبغي له ألا يظن ببذل الميسور، ولا يبخل بالموجود خوفًا ألا ينال مثله للإفطار والسحور، ويقطع في نفسه وبقلبه علمًا بأن الله لم يخلق وليًا له في سالف الدهور بخيلاً ببذل الميسور. وينبغي له أن يرضى بالذل الدائم وحرمان النصيب، والجوع الدائم والخمول، وذم الناس له، وتقديم أضرابه وأشكاله وأقرانه عليه في الإكرام والعطاء، والتقريب عند الشيوخ ومجالس العلماء، فيجوع هو والجماعة يشبعون، والكل أعزاء، ونصيبه الذل، ومن لم يرض بهذا ويوطن نفسه عليه فلا يكاد أن يفلح ويجيء منه شيء، فالنجاح الكلي والفلاح فيما ذكرنا. وينبغي له ألا ينتظر من الله مطلوبًا سوى المغرفة لما سلف من الذنوب، والعصمة فيما يأتي من الدهور، والتوفيق لما يحبه من الطاعات، ويوصله إليه من القربات، والرضا عنه في الحركات والسكنات والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال إذ ذاك سبب لدخول في مرة الأحباب ذوي العقول والألباب، الذي عقلوا من رب الأرباب، واطلعوا على العبر والآيات، فصفت حينئذ القلوب والضمائر والنيات، فهذا الذي ذكرته صفة المريد، وما لم يتجرد قلبه عن جميع الطلبات والمآرب، وينتفي عن غيرها ما ذكرنا من الحوائج والمطالب، لا يكون مريدًا على نعت الاستحقاق. * * *
পৃষ্ঠা - ৬১৭
(فصل) وأما آدابه مع الشيخ: فالواجب عليه ترك مخالفة شيخه في صحبته في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن، فصاحب العصيان بظاهره تارك لأدبه، وصاحب الاعتراض بسره متعرض لعطبه، بل يكون خصمًا على نفسه لشيخه أبدًا، يكف نفسه ويزجرها عن مخالفته ظاهرًا وباطنًا، ويكثر قراءة قوله عز وجل: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10]. وإذا ظهر له من الشيخ ما يكره في الشرع استخير عن ذلك بضرب المثل والإشارة، ولا يصرح به لئلا ينفر به عليه، وإن رأى فيه عيبًا من العيوب ستره عليه، ويعود بالتهمة على نفسه، ويتأول للشيخ في الشرع، فإن لم يجد له عذرًا في الشرع استغفر للشيخ ودعا له بالتوفيق والعلم والتيقظ والعصمة والحمية، ولا يعتقد فيه العصمة، ولا يخبر أحدًا به، وإذا رجع إليه يومًا آخر أو ساعة أخرى يعتقد أن ذلك قد زال، وأن الشيخ قد نقل إلى ما هو أعلى رتبة ولم يقر عليه، وإنما كان ذلك غفلة وحدثًا وفضلاً بين الحالين، لأن لكل حالين فصلاً ورجوعًا إلى رخص الشرع وإباحته وترك العزيمة والأشد، كالدهليز بين الدارين، والمنزلة بين المنزلتين، انتهاء للحالة الأولى، وقيامًا على عتبة الحالة الثانية، وانتقالاً من ولاية إلى أخرى، وخلع خلعه ولاية، ولبس خلعة ولاية أخرى، التي هي الأعلى والأشرف لأنهم كل يوم في مزيد قرب من الله عز وجل. وإذا غضب الشيخ وعبس في وجهه أو ظهر منه نوع إعراض عنه لم ينقطع عنه، بل يفتش باطنه وما يجري منه من سوء الأدب في حق الشيخ أو التفريط فيما يعود إلى أمر الله عز وجل، من ترك امتثال الأمر وارتكاب النهي، فليستغفر ربه عز وجل وليبت إليه، ويعزم على ترك المعاودة إليه، ثم يعتذر إلى الشيخ ويتذلل له ويتملقه، ويتحبب إليه بترك المخالفة له في المستقبل، ويداوم على المرافقة له، ويواظب عليها، فيجعله وسيلة وواسطة وبين وبين ربه عز وجل، وطريقًا وسببًا يتوصل به إليه، كمن يريد الدخول على ملك ولا معرفة له به، فإنه لابد له من أن يصادف حاجبًا من حجابه، أو واحدًا من حواشيه وخواصه، ليبصره بسياسة الملك ودأبه وعادته، ويتعلم الأدب بين يديه والمخاطبة له، وما يصلح له من الهدايا والطرائف مما ليس مثلها في خزانته، ومما يؤثر الاستكثار، فليأت البيت من بابه ولا يتسلق من ورائه من غير بابه، فيلام ويهان،
পৃষ্ঠা - ৬১৮
ولا يبغ الغرض من الملك ولا المقصود منه، ولكل داخل دهشة لابد له من مذكر ومنه، ومن يأخذ بيده فيقعده موضع مثله، أو يشير إليه بذلك لئلا تتطرق إليه المهانة، ولا يشار إليه بسوء الأدب والحماقة، وليتحقق بأن الله عز وجل أجرى العادة بأن يكون في الأرض شيخ ومريد صاحب ومصحوب، تابع ومتبوع من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. ألا ترى إلى آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى علمه الأسماء كلها، وافتتح الأمر به، فجعله كالتلميذ مع الأستاذ، والمريد مع الشيخ، وقال له: يا آدم هذا فرس وهذا بغل وهذا حمار، حتى علمه قصعة وقصيعة، ثم لما فرغ من تعليمه وتهذيبه جعله أستاذًا معلمًا شيخًا حكيمًا، وكساه بأنواع الحلل والحلى، وتوجه منطقة وأجلسه على كرسي في اللجنة، وأقام الملائكة حوله صفوفًا فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة: 33] بعد أن ظهر عجزهم وعدم علمهم بذلك، وقولهم: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} [البقرة:32] فصارت الملائكة تلاميذ لآدم وآدم شيخهم، فأنبأهم بأسماء الأشياء كلها على ما شهد به القرآن، فظهر فضله عليه السلام عليهم، فصار أفضلهم وأعلمهم وأشرفهم عند الله وعندهم، فصار متبوعهم وهم تابعون مقتدون صلوات الله عليهم. فلما جرى ما جرى من أكل الشجرة والخروج من الجنة، والانتقال إلى حالة أخرى ومنزل غيره، لم يعط علمه ولم يستوطنه بعد، ولا جرى ذلك في خلده، ولا ظن أنه سيسار به إليه، فلما وصل إلى المنزل وجال في الأرض، استوحش منها ورأى فيها ما لم يكن رآه من قبل، فألقى عليه الجوع والعطش والحرقة والقبض ما لم يعهده من قبل، احتاج إلى معلم ومرشد وأستاذ ودليل ومؤدب ومنبه، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فآنسه، وعرفه ما أشكل عليه من أمر المنزل، وأعطاه الحنطة فأمره فبذرها ثم أمره فحصدها، ثم أمره فذراها، فطحنها وهيأ له أسبابها، ثم أمره بالخبز فخبز، ثم أمره بالأكل فأكل، ثم لما طلب الطعام الخروج من المعدة تحير ولم يعلم بالصنع احتاج إلى معلم أيضًا، فعلمه كيف يتغوط وكيف يتطهر، وكيف يعبد الله تعالى في المنزل، وعلمه كيف يتوصل إلى بياض جسده الذي قد حال لونه من البياض والإشراق إلى السواد والظلمة، فأمره بصيام أيام البيض من الشهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر، فعاد لونه إلى البياض، وعلمه غير ذلك من العلوم والآداب، فصار آدم عليه السلام تلميذًا لجبريل، وجبريل عليه السلام أستاذه وشيخه، بعد أن كان آدم شيخه والملائكة أجمع ومتبوعهم، وأعلمهم كل ذلك لتغير الحال به، والانتقال من منزل إلى آخر، ثم هلم
পৃষ্ঠা - ৬১৯
جرًا، تعلم شيث بن آدم من أبيه آدم، ثم أولاده منه، وكذلك نوح النبي عليه السلام علم أولاده، وإبراهيم عليه السلام علم أولاده، قال الله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] أي أمرهم وعلمهم، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام علما أولادهما وبني إسرائيل، وعيسى عليه السلام علم الحواريين، ثم إن جبريل عليه السلام علم نبينا -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة ووصاه بالسواك وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وصاني جبريل بالسواك حتى كاد أن يفرضه، وصلى بي جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حتى زالت الشمس .... " الحديث إلى آخره وقد تقدم ذكره ثم تعلمت الصحابة رضي الله عنهم منه -صلى الله عليه وسلم- ثم التابعون منهم، ثم تابعو التابعين منهم قرنًا بعد قرن وعصرًا بعد عصر، فما من نبي إلا وله صاحب يهتدي بهداه ويقفو أثره وينتحل مذهبه ويهدى هديه، ثم يخلفه مكانه ويقوم مقامه، كموسى بن عمران وغلامه وابن أخته يوشع بن نون عليهم السلام، والحواريون مع عيسى عليه السلام، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك عثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وما زالت الأولياء والصديقون والأبدال كذلك من بين أستاذ وتلميذ كالحسن البصري وتلميذه عتبه الغلام وسرى السقطي وغلامه وابن أخته أبي القاسم الجنيد وغيرهم مما يطول شرحه. فالمشايخ هم الطريق إلى الله عز وجل والأدلاء عليه والباب الذي يدخل منه عليه، فلابد لكل مريد لله عز وجل من شيخ على ما بينا، إلا على النذور والشذوذ، فيجوز أن يصطفى الله عبدًا من عباده، فيتولى تربيته وحراسته عن الشيطان وهنات النفس والهوى، كإبراهيم النبي ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وأويس القرني من الأولياء وغيرهم رحمهم الله فلا ينكر، إلا أنا بينا ما هو الأغلب والأكثر والأسلم والأحسن. فلا ينبغي له أن ينقطع عن الشيخ حتى يستغنى عنه بالوصول إلى ربه عز وجل، فيتولى تبارك وتعالى تربيته وتهذيبه، ويوقفه على معاني أشياء خفيت على الشيخ، ويستعمله مما يشاء من الأعمال ويأمره وينهاه ويبسطه ويقبضه ويغنيه ويفقره ويلقنه ويطلعه على أقسامه وما سيؤول أمره إليه، فيستغنى بربه عن غيره، بل لا يتفرغ لغيره
পৃষ্ঠা - ৬২০
ولا يسعه مراعاة الأدب لغيره، ومحافظة خدمته وحرمته وتوقيره، فحينئذ يقطع عن الشيخ قطعًا وربما حرم عليه المرور إلى الشيخ، إلا عن أمر صريح وخبر بين، إلا ما يتفق مجيء الشيخ إليه، أو الملاقاة له في طريق أو جامع قدرًا لا قصدًا، كل ذلك حفظًا للحال، واستغناء بالرب وغيره على الحال وملازمة لها وخيفة من الزلة والمفارقة لها والعقوبة بذلك، وذلك أن الحكم يجمع المريد والشيخ ويسعهما والأحوال تفرق بينهما لأنها قدر والقدر غيب، فهي فعل الرب عز وجل، والله تعالى في كل يوم هو في شأن في تقديم وتأخير، وتبديل وتغيير، وولاية وعزل، وإغناء وإفقار، وإعزاز وإذلال، يسوق المقادير إلى المواقيت، لا يدرك ذلك ولا ينضبط لأحد من الخلق، ليل مظلم وبحر لجي، وبر شاسع لا يحيط بشيء من ذلك إلا الله عز وجل، ومن يطلعه الله تعالى عليه من رسله وأنبيائه وخواص أوليائه، فالاثنان من الأولياء لا يتفقان في طريق بعد دخولهم في الحالات التي هي القدر والفعل. فما يصنع المريد بالشيخ وطريقهما مختلفة، فالشيخ يسير به إلى جهة، والمريد إلى أخرى، فقد خولف بين ظهورهما ووجوههما، فأنى لهما والصحبة والاجتماع والاتباع يبعد ذلك جدًا، فإن اتفق فهو نادر شاذ لا التفاف إليه ولا معول عليه، إذ الأغلب ما قد انكشف وظهر وبان، فصلوات الله على الشيخ، وعلى المريد الصادق الذي إذا بلغ به إلى حالة استغنى فيها بربه تبارك وتعالى عن الشيخ. ومن آداب المريد: ألا يتكلم بين يدي شيخه إلا في حالة الضرورة، وألا يظهر شيئًا من مناقب نفسه بين يديه. ولا ينبغي له أن يبسط سجادته بين يدي الشيخ إلا في وقت أداء الصلاة، فإذا فرغ من صلاته طوى سجادته في الحال، ويكون متهيئًا لخدمة شيخه ومن هو قاعد على بساطه، مبسوطًا مستوطنًا مستريحًا، لا كلفة عليه لغيره، وهذه حالة الشيوخ لا حالة المريدين. ويجتهد في اجتناب بسط سجادته وفوق سجادته من هو فوقه في الرتبة، وإدناء سجادته من سجادته إلا بأمره، فإن ذلك عندهم سوء أدب. وينبغي للمريد إذا جرت مسألة بين يدي الشيخ أن يسكت، وإن كان عنده فضل
পৃষ্ঠা - ৬২১
وإشباع جواب فيها، بل يغتنم ما يفتح الله على لسان شيخه فيقبله ويعمل به، وإن رأى في جوابه نقصانًا وقصورًا فلا يرد عليه، بل يشكر الله تعالى على ما خصه من فضل وعلم ونور، ويخفى جميع ذلك في نفسه، ولا يكثر حديثه فيقول أخطأ الشيخ في المسألة، ولا يناقض كلامه إلا أن يغلب عليه ذلك، فيبتدر منه الكلمة فليتداركه بالسكوت والتوبة، والعزم على ترك المعاودة على ما قدمنا ذكره في أثناء الكتاب، من فعله في توبته عن معاصي الله عز وجل، فالخير كله في حق المريد في سكوته فيما هذا سبيله. وينبغي للمريد ألا يتحرك في حال السماع بين يدي الشيخ إلا بإشارة منه عليه، ولا يرى من نفسه البتة حالاً إلا أن ترد غلبة تأخذه عن التمييز والاختيار، فإذا سكنت فورته فليعد إلى حال سكونه وأدبه ووقاره وكتمان ما أولاه الله عز وجل من سره، وقد ذكرنا هذا وإن كنا لا نرى بالسماع والقول والقصب والرقص، وقد قدمنا كراهته فيما تقدم، إلا أنا قد ذكرنا ذلك على ما قد لهج به أهل زماننا في أربطتهم ومجامعهم، ولا ينكر أن يكون فيمن يفعل ذلك صادق، فيكون معنى ما قد سمع مهيجًا لنائرة صدقه ومثيرًا لها، فيشتغل بنائرته ويغيب فيها، فتتحرك أعضاؤه وجوارحه بين القوم وهو في معزل عما القول فيه من لذة الطباع والأهوية، وتذكار كل واحد قرب معشوقه ممن قد مات وطال به عهده، ومن هو حي غائب عنه فاشتد شوقه. والمريد الصادق نائرته غير خامدة، وشعلته غير هامدة، ومحبوبه غير غائب، وأنيسه غير مستوحش، فهو أبدًا في زيادة دنو وقرب، ولذة ونعيم، فلا يغيره ويهيجه عن حالته غير كلام مراده، وحديثه الذي هو ربه عز وجل. ففي ذلك عنده مندوحة عن الأشعار والقيانة والأصوات وصراخ المدعين شركاء الشياطين، ركاب الأهوية مطايا النفوس والطباع، أتباع كل ناعق وزاعق. وينبغي للمريد أن لا يعارض أحدًا في حال سماعه، ولا يزاحم أحدًا في وقته في التقاضي على الذي ينشد الزهديات المرققات المشوقات إلى الجنان والحور، ورؤية الحق تعالى في الآخرة، المزهدات في الدنيا ولذاتها وشهواتها وأبنائها ونسوانها، المشجعات على الصبر على آفاتها ومحنها وبلائها، وأدبارها على أبناء الآخرة، وإقبالها على أبنائها وغير ذلك، فليكل جميع ذلك إلى الشيخ الحاضر، فإن القوم في ولاية الشيخ، اللهم
পৃষ্ঠা - ৬২২
إلا أن يكون المستمع حينئذ من المحققين الصادقين، فيحفظ الأدب في الظاهر، ويسكن عن تكلفه في الباطن، فلا شك أن الله عز وجل يقيض من يتقاضى عنه، أو يلهم القائل بذلك التكرار والترداد، ليقضى الصادق المستمع نهمته ووطره من ذلك. (فصل آخر: في أدبه مع شيخه): وينبغي له إذا أراد أن يتأدب بشيخ أن يكون له إيمان وتصديق واعتقاد أن ليس في تلك الديار أولى منه، حتى ينتفع به فيما هو مرامه، وأن يقبله الله عز وجل ويحفظ سره في خدمته مع الله تعالى فإن صدق فيما بينه وبين الله تعالى في عقد إرادته، بحفظه حتى لا يجرى على لسان شيخه إلا ما هو الأولى بشأنه، ويحذر مخالفته جدًا، لأن مخالفة الشيوخ سم قاتل فيها مضرة عامة، فلا يخالفه بتصريح ولا بتأويل، ويجتهد ألا يكتم من شيخه شيئًا من أحواله وأسراره، ولا يطلع أحدًا سواه على ما يأمره شيخه. ولا ينبغي له أن يحتج إلى طلب الرخصة أو يرجع إلى شيء تركه لله عز وجل، فإنه من الكبائر وفسخ الإرادة عند أهل الطريقة. وقد جاء في الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود فيه". وعليه الانقياد لالتزام ما يأمر به شيخه من التأديب على مقتضى سوء أدبه، فإن وقع منه تقصير في القيام بما أشار إليه شيخه، فالواجب عليه تعريف ذلك لشيخه ليرى فيه رأيه، ويدعو له بالتوفيق والتيسير والفلاح. * * * (فصل) وأما الذي يجب على الشيخ في تأديب المريد: فهو أن يقبله لله عز وجل لا لنفسه فيعاشره بحكم النصيحة، ويلاحظه بعين الشفقة، ويلاينه بالرفق عند عجزه عن احتمال الرياضة فيربيه تربية الوالدة لولدها، والوالد الشفيق الحكيم اللبيب لولده وغلامه، فيأخذه بالأسهل ولا يحمله ما لا طاقة له به، ثم بالأشد فيأمره أولاً بترك متابعة الطبع في جميع أموره، واتباع رخص الشرع حتى يخرج
পৃষ্ঠা - ৬২৩
بذلك عن قيد الطبع وحكمه، ويحصل في قيد الشرع ورقه، ثم ينقله من الرخص إلى العزيمة شيئًا بعد شيء، فيمحو خصلة من الرخص، ويثبت مكانها خصلة من العزيمة، فإن وجد في ابتداء أمره فيه صدق المجاهدة والعزيمة وتفرس فيه ذلك بنور الله عز وجل ومكاشفته، وعلم من قبل الله عز وجل على ما قد مضت سنة الله في عباده المؤمنين من الأولياء والأحباب الأمناء العلماء به، فحينئذ لا يسامحه في شيء من ذلك، بل يأخذه بالأشد من الرياضيات التي يعلم أنه لا تتقاصر قوة إرادته عنها، إذ ثبت عنده أنه مخلوق لذلك وجدير به، وهو من شأنه فلا يخونه في التهوين عليه. ولا ينبغي له أن يرتفق من المريد بحال لا بالانتفاع بماله ولا بخدمته، ولا يأمل من الله عز وجل عوضًا في تأديبه، ولا شيئًا، بل يؤدبه ويربيه موافقة لله عز وجل أداء لأمره وقبولاً لهديته وطرفته، فإن المريد الذي جاء من غير تخيير من الشيخ ولا استجلاب، بل قدر محض بإرشاد الله تعالى له وهدايته وإنقاذه إليه، فإنه هدية من الله، فعليه قبوله والإحسان إليه بحسن تأديبه وتربيته، فلا يرتفق به ولا بماله إلا بأمر من الله تعالى، وخير في استعماله وقبول ما يأتي به من ماله الذي قد جعل الله تعالى صلاح المريد ونجاته به، وقسم للشيخ فيه، فحينئذ لا سبيل إلى الإعراض عنه ورده. ويحذر جدًا أن يختار من المريد من يقع له، بل ينتظر في ذلك فعل الله وقدره، فمن جاء الله تعالى به من غير تكلف منه وتخيير قبله ورباه، فحينئذ يوفق في تربيته ويسرع فلاح المريد ونجحه، فليحذر أن يكون هو فيه فيعدم التوفيق والحفظ في حق المريد. وعليه أن يربيه بهمته وينوب عنه في سره إذا وجد منه خللاً أو فترة. وعليه أن يحفظ سر المريدين فلا يطلع غير على ما يحصل له من الإشراف على أحواله، إما بطريق علم لدني من مواهب الله عز وجل، أو بإفشاء المريد له، واستكتامه إياه، فلا ينبغي له أن يفشيه لغيره، لأنه أمانة عنده وقد قيل: صدور الأحرار قبول الأسرار، فينبغي له أن يكون مستراحًا للمريدين، وخزانة لهم وحرزًا لأسرارهم، وملجأ لهم وكهفًا ومشجعًا ومقويًا ومعينًا لهم، ومثبتًا لهم في الطريق، ولا ينفرهم عن الطريق ومصاحبتهم والقصد إلى الله عز وجل. وإذا رأى شيئًا مما يكره في الشرع من المريد وعظه في السر وأدبه، ونهاه عن المعاودة
পৃষ্ঠা - ৬২৪
إلى ذلك إن كان ذلك في الأصول أو الفروع أو ادعاء حالة ليست له أو إعجاب بعمله ورؤيته، فيصونه عن محل الإعجاب، ويصغر في عينه أحواله وأعماله، لئلا يهلك، فإن العجب يسقط العبد من عين الله عز وجل، وإن أراد أن يعم الجماعة بالنصح فليجمهم وليتكلم عليهم فيقول: بلغني أن فيكم من يدعى كذا ويقول كذا ويرتكب كذا، ويذكر ما يتعلق بذلك من المفاسد والمصالح، ويذكرهم ويحذرهم، ولا يعين أحدًا منهم على ذلك لما في ذلك من التنفير، فإن أخشن الخلق والقول معه، وأفشى أسرارهم واغتابهم وثلبهم وذكر مساويهم، نفرت قلوبهم عن قصده ومصاحبته، وصار ذلك تهمة عندهم في أهل الطريقة، وفيما قد غرس في قلوبهم من حب أولياء الله تعالى، فليحذر من ذلك جدًا، فإن غلب هذا عليه ولا يمكنه تداركه فليعزل نفسه عن هذه النصبة والولاية، ولينفرد عن المريدين، ويشتغل بمجاهدة نفسه ورياضتها، وطلب شيخ يؤدبه ويقومه ويهذبه، فلا يصلح أن يكون شيخًا مع هذه الدواهي، فلا يقطع على المريدين طريقتهم إلى الله عز وجل. * * *
পৃষ্ঠা - ৬২৫
باب في صحبة الإخوان والصحبة مع الأجانب وكيف الصحبة مع الأغنياء والفقراء أما الصحبة مع الإخوان: فبالإيثار والفتوة والصفح عنهم والقيام معهم بشرط الخدمة، لا يرى لنفسه على أحد حقًا، ولا يطالب أحدًا بحق، ويرى لكل أحد عليه حقًا، ولا يقصر في القيام بحقهم. ومن الصحبة معهم إظهار الموافقة لهم في جميع ما يقولون أو يفعلون، ويكون أبدًا معهم على نفسه ويتأول لهم ويعتذر عنهم، ويترك مخالفتهم ومنافرتهم ومجادلتهم ومماراتهم ومشاددتهم، ويتعامى عن عيوبهم، فإن خالفه أحد منهم في شيء سلم له ما يقول في الظاهر، وإن كان الأمر عنده بخلاف ما يقوله. وينبغي أن يحفظ أبدًا قلوب الإخوان، ويجتنب فعل ما يكرهونه وإ، علم فيه صلاحهم، فلا ينطوى لأحد منهم على حقد وإن خامر قلب واحد منهم كراهة له تخلق معه بشيء حتى يزول ذلك، فإن لم يزل زاد في الإحسان والتخلق حتى يزول، وإن وجد هو في قلبه من أحد منهم استيحاشًا وأذية بغيبة أو غيرها فلا يظهر ذلك من نفسه ويرى من نفسه خلاف ذلك له. * * * (فصل) وأما الصحبة مع الأجانب: فيحفظ السر عنهم، وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة، وأن يسلم أحوالهم إليهم، ويستر عليهم أحكام الطريقة، ويصبر على سوء أخلاقهم وترك معاشرتهم ما أمكنه، وألا يعتقد لنفسه عليهم فضيلة ويقول: إنهم من أهل السلامة فيتجاوز الله عنهم، ويقول لنفسه: أنت من أهل المضايقة، فتطالبين بالنقير والقطمير والحقير والكبير، وتحاسبين على الكبير والصغير، وأن الله تعالى يتجاوز للجاهل مالا يتجاوز بمثله من العالم، والعوام لا يبالى بهم والخواص على الخطر. * * *
পৃষ্ঠা - ৬২৬
(فصل) وأما الصحبة مع الأغنياء: فالتعزز عليهم، وترك الطمع فيهم، وقطع الأمل مما في أيديهم، وإخراج جميعهم من قلبك، وحفظ دينك من التضعضع لهم لنوالهم، كما جاء في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من تضعضع لعنى لأجل ما في يديه ذهب ثلثا دينه" فتعوذ بالله من فعل ينقص به الدين، وصحبة أقوام ينثلهم بهم الدين، وتنقطع عراه، ويطفئ نور الإيمان شعاع أموالهم وبريق دنياهم كما جاء في الحديث. غير أنك إذا ابتليت بصحبتهم في سير أو سفر أو مسجد أو رباط أو مجمع فحسن الخلق أولى ما يستعمل، وهو حكم عام شامل في صحبة الأغنياء والفقراء فلا ينبغي لك أن تعتقد لنفسك فضيلة عليهم، بل تعتقد أن جميع الخلق خير منك لتتخلص من الكبر، ولا تطلب لنفسك فضيلة الفقر ولا تعتقد لها خطرًا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ترى لها قدرًا ولا وزنًا كما قيل: من جعل لنفسه قدرًا فلا قدر له ومن جعل له وزنًا فلا وزن له، فأدب الغني بالإحسان إلى الفقير، وهو إخراج المال من كيسه إليه، ويكون فراغًا من ماله مستخلفًا فيه غير متملك له. وأدب الفقير إخراج الغني من قلبه، ويكون قلبه فارغًا من الغني وماله، بل من الدنيا والآخرة أجمع، ولا يجعل لشيء من الأشياء في قلبه موطنًا ومحلاً ومدخلاً، بل يتصفى من ذلك كله ويخلو منه، ثم يترقب امتلاءه بربه عز وجل، فلا يكون لغيره وجود ولا له حول ولا قوة، فيأتيه عند ذلك فضل الله عز وجل فحينئذ يحصل الغني به عز وجل من غير تعب ولا هم. * * * (فصل) وأما الصحبة مع الفقراء: فبإيثارهم وتقديمهم على نفسك في المأكول والمشروب والملبوس والمذوذ والمجالس وكل شيء نفيس، وترى نفسك دونهم، ولا ترى لها عليهم فضلاً في شيء من الأشياء البتة. عن أبي سعيد بن أحمد بن عيسى قال: صحبت الفقراء ثلاثين سنة ولم يجر بيني وبينهم كلام قط تأذوا به، ولا جرى بيني وبينهم منافرة استوحشوا منها، قيل له: كيف
পৃষ্ঠা - ৬২৭
ذلك؟ قال: لأني كنت معهم على نفس أبدًا، وإذا دخلت عليهم أدخلت عليهم سرورًا ورفقًا، واستعملت معهم خلقًا هدية وأدبًا وسببًا من الأسباب، فلا ترى بذلك لك عليهم فضلاً، بل تتقلد منهم منة في قبولهم ذلك منك. واحذر أن تمن عليهم بذلك أو تراه منك بل اشكر الله عز وجل على ما أولاك من توفيقه على تيسير ذلك، جعله لك أهلاً لخدمة أهله وخاصته وأحبابه، فإن الفقراء الصالحين هم أهل الله وخاصته كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فأهل القرآن من يعمل بالقرآن، وأما من يقرأ بلا عمل فليس من أهله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه". فالمنة لمن يقبل منك العطية لا لك. * * * (فصل) ومن آداب الصحبة مع الفقراء: ألا تحوجهم إلى مسألتك، وإن اتفق فاستقرض الفقير منك شيئًا فتقرضه في الظاهر، ثم تبرئه منه في الباطن، وتخبره عن قريب بذلك، ولا تبدأه بالعطاء على وجه الصلة لئلا يتحشم بحمل المنة منك بذلك. ومن الأدب معهم: مراعاة قلبه بتعجيل مراده دون تنغيص الوقت عليه بطول الانتظار، لأن الفقير ابن وقته كما ورد: ابن آدم ابن يومه وليس له وقت لانتظار المستقبل. ومن الأدب معهم: أنك إذا علمت أنه ذو عيال وصبيان فلا تفرده بالإرفاق فحسب، بل تتخلق معه بقدر ما يتسع له ولمن يشتغل به قلبه. ومن الأدب معهم: الصبر على ما يذكر الفقير من حاله، وأن تتلقاه في حال ما يخاطبك بوجه طلق مستبشر، ولا تلقاه بالعبوس ولا بالنظر الشزر ولا بالكلام النزر، وإذا طالبك بما لا يحضر في الوقت فاصرفه بالوجه الجميل إلى عند مساعدة الإمكان، ولا توحشه بيأس الرد على الجزم لئلا يعود بحشمة الإخفاق وعدم الإصابة بحاجته عندك، والندم على إفشاء سره إليك حسيرًا، وربما يغلب عليه طبعه، وتستولي عليه
পৃষ্ঠা - ৬২৮
نفسه، فيظهر عليه الجهل بحاله والسخط عليك والاعتراض على الرب عز وجل فيما قسم له من الفاقة إلى الخلق والتبذل عنهم، فيعمى قلبه وينطفئ نور إيمانه، فكنت أنت مؤاخذًا بذلك كله، إذا كنت سببًا لثوران ذلك من قلبه، بتركك الأدب في رده، وربما حجب أيضًا عن الصواب، والمعارف والعلوم والمصالح المدفونة في سؤاله للخلق، التي لو صبر وأحسن الأدب ظهرت وارتحل السؤال للخلق وحصل غنى اليد والقلب والبيت، وجاءته عساكر فضل الله وآلائه ونعمائه ودللته يد الرأفة والرحمة والراحة والرعاية، وتحقق فيه قوله عز وجل: {وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] وجعل مصانًا مغارًا عليه، وله غنى عن الأشياء بخالقها وتأتيه الأشياء وهو لا يأتيها، يقصده القاصدون فينالون من أنواره وسره، ويطيبون بطيبه وهو لا يشعر بهم في غيب عنهم، مشغول بمولاه وجاذبه الذي جذبه إليه، وأنقذه من ظلمات مخالطة الخلق، وموافقة النفس ومتابعة الهوى، والتقيد بإرادة الأشياء دنيا وأخرى {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: 55] أهل الجنة لما باعوا في الدنيا أنفسهم وأموالهم لربهم عز وجل بالجنة، كما قال جل وعلا: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة:111] وصبروا على الإفلاس في الدنيا وردوا التصرف في الأنفس والأموال والأولاد إلى ربهم عز وجل، وسلموا الكل إليه جل جلاله سوى الأوامر والنواهي، وامتثلوا الأوامر وانتهوا عن النواهي وسلموا في المقدور، وتحرزوا من الخليقة، وتجوهروا عن الإرادات والأماني، والهمم في الجملة أدخلهم الجنة فشغلهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال جل وعلا: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} فهكذا الفقير إذا فعل ذلك في الدنيا وتحقق بظاهر القرآن حصول الجنة له، باع حينئذ الجنة بربه عز وجل، وطلب الجار قبل الدار كما قالت رابعة رحمها الله: الجار قبل الدار، وكما قال عز وجل: {يريدون وجهه} [الأنعام: 52، والكهف: 28] وكما قال الله عز وجل في بعض كتبه السالفة: أود الأوداء إلى عبد عبدني بغير نوال ليعطي الربوبية حقها، وقول على رضي الله عنه: لو لم يخلق الله الجنة والنار ما كان أهلاً أن يعبد، قال عز وجل: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} [المدثر: 56] فإذا اتصف الفقير بهذه الصفة، وتحقق إفلاسه عن سوى مولاه، وتنظف قلبه عن التعلق بالأشياء وفنى عنها، وصار مريدًا حقًا، وغاب عما سوى ربه عز وجل، كان حقيقًا على كرم الله أن يتولاه ويدلله وينعمه في الدنيا إلى حين اللقاء، ثم يزيده على ذلك، ويجدد
পৃষ্ঠা - ৬২৯
عليه الخلع والأنوار والنعيم والحياة الطيبة، والقرب على ما أعد وأخبر لأوليائه وأحبابه، بقوله عز وجل: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 11]. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، اقرأوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}. فإن رددت الفقير اليد الغني القلب المتمثل لأمر مولاه في إخباره لك عن حاله لأجل عياله أو نفسه طائعًا لربه عز وجل في ذلك خائفًا له، أن لو ترك سؤالك إذ كلفه الله ذلك وابتلاه به، قال الله عز وجل: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان: 20] وهي حالة له لا تدوم، بل تنقضي عن قريب وينقل إلى ما قسم له من الغنى والعز الدائم بقرب مولاه وإعطائه، عاقبك الله يا غني اليد فقير القلب، الجاهل بنفسه وبربه، ومنشئه ومنتهاه، بأن يسلب الغنى عن يدك، فتصير فقير اليد كما كنت فقير القلب، فتكون أبدًا فقيرًا إلى الأشياء، فلا تشبع منها حريصًا عليها، طالبًا لها معذبًا في إرادتها وتحصيلها، وهي غير مقسومة لك، كما قيل: إن من أشد العقوبات طلب ما لا يقسم إلا أن يتغمدك الله برحمته، فينبهك لذنبك فتستغفره، وتتوب إليه من ذلك وتعترف بتفريطك ويتوب عليك ويغفر لك، فذلك إليه وهو أرحم الراحمين غفور رحيم. * * * (فصل: في آداب الفقير في فقره) فينبغي للفقير أن تكون شفقته على فقره كشفقة الغني على غناه، فكما أن الغني يفعل كل شيء ويجتهد حتى لا يزول غناه، فكذلك ينبغي للفقير أن يفعل مثل ذلك حتى لا يزول فقره، فيسأل الله عز وجل زوال غناه إلى فقره، أو يتعرض بالمعايش والاكتساب والأسباب للاستغناء، والتكثر بالدنيا للعيال، وعفة النفس عند الضيقة. ومن شرط الفقير أن يقف مع كفايته، ولا يأخذ فوقها بحال، ويكون أخذه لذلك القدر امتثالاً لأمر الله تعالى، وخوفًا من الوقوع في إثم قتل النفس، قال الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29] لأن منعه لنفسه حقها حرام،
পৃষ্ঠা - ৬৩০
وهو القوت من الطعام والشراب والكسوة والقدر الذي تقوم به البنية، ولا يضعف عن أداء الأوامر من الاتيان بشرائط الصلاة وأركانها وواجباتها عليه، ويترك ما هو حظها، فإن كانت قسمته إليه من غير أن يكون هو فيه بفعل الله عز وجل، فلا يتعرض للحظ أبدًا إلا أن يكون مريضًا فيوصف له شيء من الحظوظ، فيتناوله على وجه التداوي، فيصير الحظ حينئذ حقًا في حال مرضه، كالقوت في حال صحته. وينبغي أن يكون استلذاذه بفقره أكثر من استلذاذ الغني بوجود غناه. وينبغي له أن يؤثر ذله وخموله وعدم قبول الناس له وقصدهم إليه وازدحامهم لديه. ومن شرطه أن يكون قلبه أقوى بصفاء الحال عند خلو يده من المال، فكلما قل الفتوح كثر طيب قلبه وقوته ونوره، وازداد فرحه بشعار الصالحين، وأما إذا أظلم ذلك قلبه وأوحشه وأسخطه على ربه، فليعلم أنه مفتون قد أحدث في فقره ذنبًا عظيمًا، فليتب إلى الله عز وجل ويستغفره، ويخلد إلى التفتيش والتنقير ولوم النفس، ومن حق الفقير أن يكون كلما كثر عياله كان قلبه في باب أمر الرزق أسكن وبربه أوثق، يتمثل أمر ربه في الكسب لهم في الظاهر، ويسكن إلى وعد ربه في الباطن، ويقطع بأن لهم رزقًا عند الله قد وعد به وقدره، وهو سائقه إليهم على يده أو يد غيره، فليتنح من الوسط ولا يكون فضوليًا، فيدخل بين الخلق وخالقهم، بل يمتثل الأمر فيهم، ولا يعترض ولا يسخط ولا يتهم الرب، ولا يشك في وعده، ولا يشكو إلى أحد، بل يكون شكواه إلى ربه وإنزال حاجته به عز وجل، وكلامه وسؤاله له عز وجل في توفيقه بالصبر وأداء الأمر في حقهم، والرضا بما قضى عليهم بإضافتهم، وإلزامه له مؤنتهم، ويسأله تسهيل رزقهم وتيسيره، فهو قريب مجيب، إنما يبتلى عبده ليرده بالبلية إليه عز وجل، لأنه يحب الملحين له بالسؤال، لأن بالسؤال يتميز الرب من المربوب والسيد من العبد والغنى من الفقير، ويخرج العبد من الكبر والاستنكاف والتعظيم والنخوة إلى التواضع والذلة والافتقار، فإن تحقق ذلك من العبد تحققت الإجابة سريعًا عاجلاً مع ما يدخر له من الثواب في العقبى. ومن آدابه: ألا يكون له هم الوقت المستقبل، بل يكون بحكم وقته لا يتطلع للوقت الثاني، بل يحفظ الحال وحددها وشرائطها وآدابها مطرقًا غاضًا عما سواها، لا أعلى منها ولا دونها، ولا يشده إلى حال غيره، ربما كان هلاكه فيها وهي لأهلها سلامة
পৃষ্ঠা - ৬৩১
ونعمة، كالأغذية فمن الأغذية ما يزيد الشخص عافية ولآخر سقمًا وبلاء، فلا ينبغي للمريض أن يتناول شيئًا منها إلا بأمر الطبيب، فكذلك ينبغي للفقير ألا يختار حالة لنفسه حتى يدخل فيها من غير أن يكون هو فيها، بفعل المولى عز وجل قدرًا محضًا وإرادة مجردة، لا يحل نفسه في شيء من الحالات والمقامات وينزلها به فيضل ويردى، حتى يأتيه أمر الذي أمات وأحيا، وينقله منها فعل الذي منع وأعطى، وأفقر وأغنى، وأضحك وأبكى، لأن ذلك أليق به وإلى ربه أقرب وأدنى، هكذا تقدم ومضى أمر من سلف من أولى العلم من أهل الطريقة، فيما خلا فيهم الاقتداء، وإلى رب الخليقة المنتهى. ومن أدب الفقير: أن يكون مستعدًا لورود الموت متهيئًا له منتظرًا مترقبًا في الساعات كلها ليكون ذلك عونًا له على الرضا بفقره وحمل ما حل به من الأذى، لأن به يقصر الأمل وتنكسر النفس ويزول منها وهج الشهوات الدنيا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هادم اللذات، أعني الموت". ومن آدابه: أن يخرج من قلبه ذكر المخلوقين. ومن آدابه: أن يتخلق مع الغني إذا دخل عليه بما تصل يداه إليه من القوت أو فاكهة وإن كان شيئًا يسيرًا، لأنه بقلبه محترز عن الأسباب فهو بالإيثار أولى من الغنى الذي هو في أسر غناه إلا أن يكون ذا عيال في ضيقة، فلا يضيق على عياله بإيثاره ذلك للغنى، إلا أن يكون يعلم من عياله الإيثار وطيب النفس بذلك والموافقة والصبر والرضا والمعرفة واليقين، والأنوار تظهر من قلوبهم على ألسنتهم وجوارحهم وأنفسهم فحينئذ لا يبالي في البذل والمنع والإيثار والإمساك. ومن أدب الفقير: ألا يترك الاحتياط في الورع في حال ضيق اليد، فلا يخرج إلى ما لا يحل في الشرع لفقره، فيخرج من العزيمة إلى الرخص، لأن الورع ملاك الدين، والطمع هلاكه، وتناول الشبهات فساده، كما قال بعض الصالحين: من لم يصحبه الورع في فقره أكل الحرام وهو لا يدري، فعليه ألا يخلد إلى التأويلات في دينه في حالة فقره، بل يرتكب الأشق والأحوط الذي هو العزيمة. * * *
পৃষ্ঠা - ৬৩২
(فصل: في سؤال الفقير) فمن أدب الفقير ترك السؤال للخلق ما دام يجد عنه مندوحة، فإن ألجأته الضرورة والحاجة المحقرة، فيسأل بقدر الحاجة فتكون حاجته كفارته، فحينئذ يسلم له السؤال. وينبغي ألا يسأل لأجل نفسه ما أمكنه بل لعياله على ما قدمناه، فإن كان بيده دانق وهو محتاج إلى درهم لم يسلم له السؤال حتى يصرف الدانق ويخلو عن المعلوم جدًا كما قيل: لا يظهر من الغيب شيء مادام في الجيب شيء. ومن شروط سؤاله للخلق ألا يراهم بل تكون إشارته إلى الله عز وجل، ويرى الخلق كالولاء والأمناء المتصرف فيهم المفعول فيهم فلا يتخذهم أربابًا من دون الله عز وجل، فيكون معنى سؤاله لهم إخبارًا أو استخبارًا، إخبارًا بحاله وعياله لا شكوى من ربه، واستخبارًا هل وقع لنا إليك شيء هل أجل عليك شيء هل أذن لك يا وكيل يا خازن، يا أمين يا مملوك يا فقير يا من أنا وهو سواء فيما في يديه المالك له غيرنا كلنا في عياله، فإذا سأل على هذا الوجه يسلم له السؤال وإلا فلا، ولا كرامة لكل مشرك دجال مراء عابد الأصنام، خارج عن أهل الطريقة مدع كذاب منافق زنديق، ثم إن أعطى شكر وإن منع صبر، هكذا تكون صفات الفقير الصادق، ولا يستوحش بالرد ولا يتغير فيسخط ويعترض ويذم الراد له فيظلمه، لأنه مأمور ووكيل، والوكيل هو الذي يتصرف فيما في يده بإذن آمره وموكله المعطى، وهو الله عز وجل، بل يرجع إليه عز وجل، فيسأله التيسير والتسهيل، ليسخر له القلوب ويذل له الصعاب، يدر له الأرزاق ويسوق إليه الأقسام، ويرفع عنه الجوع والعذاب والتبذل إلى العبيد والأرباب، ولعله قبض أيدي الخلق عنه بالعطاء ليرده إليه، فيلازم الباب ويرفع بدعائه وتضرعه الحجاب، فيكون هو المعطى له دون العباد. * * * (فصل: في آداب العشرة) وينبغي له أن يحسن العشرة مع إخوانه، فيكون منبسط الوجه غير عبوس، ولا مخالفًا لهم فيما يريدون عنه بشرط ألا يكون فيه خرق للشرع ومجاوزة للحد وارتكاب للإثم، بل يكون مما أباحه الشرع وأذن فيه الرب، ولا يكون مماريًا ولا لجوجًا، ويكون أبدًا مساعدًا للإخوان على الشرط الذي ذركنا ومتحملاً عنهم ما يخالفونه فيه، ويكون
পৃষ্ঠা - ৬৩৩
صبورًا على أذاهم غير حقود، لا ينطوي لأحد منهم على دخلة وغش ومكر، غير مغتاب لهم في حال غيبته، ولا يكون سيء المحضر، ويذب عن أخيه في حال غيبته، ويستر العيوب على إخوانه ما أمكنه، وإن مرض أحد منهم عادة، فإن شغله عن ذلك شاغل مضى إليه فهنأه بالعافية، وإن مرض هو ولم يعده بعض إخوانه اعتذر عنه، فإذا مرض لم يقابله بذلك، بل يعوده ويصل من قطعة، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه. وإذا أساء أحدهم إليه اعتذر عنه عند نفسه ويرجع بالملامة على نفسه، ولا يرى ملكه ممنوعًا عن غيره من الإخوان، ولا يتحكم في ملكهم بغير إذنهم، ولا ينسى الورع في جميع حركاته وسكناته، وإن انبسط معه أحد من إخوانه في شيء من ماله أجابه إلى ذلك مسرعًا مستبشرًا فرحًا مسرورًا متقلدًا منه في ذلك منة، حيث جعله أهلاً لمباسطته معه وإنزال حاجته به، ولا يستعير من أحد شيئًا إن أمكنه، وإن استعار أجد منه شيئًا لا يسترده ما أمكنه لأنه ما استعار منه إلا لحاجته، ولا يليق بالفتوة استرداد المعار، كما لا يحسن في الشرع استرجاع الهدية والهبة، فإن لم يقدر على ذلك فليسرع إعارته، ولا يمنعه من ذلك ولو كل يوم، إذ لا يليق بحاله أن ينفرد عن أحد من الناس بما له، لأنه ليس في رق شيء من الأشياء فلا يملكه شيء، فكل من ملك شيئًا فذلك الشيء يملكه، لأن المرء عبد لمن زمامه بيده، بل يرى الأشياء التي في يده ملكًا لله عز وجل وهو وبقية الناس عبيدًا لله عز وجل، والكل متساو في ملكه عز وجل، وأما ما كان في يد الغير فيستعمل فيه حكم الشرع والورع وحفظ الحدود، لئلا يصير في زمرة المباحية الزنادقة. وينبغي له إذا مسته محنة أو فاقة أن يستر حاله عن إخوانه ما أمكنه، لئلا يشغل قلوبهم بسببه، فيتكلفوا له، وكذلك إن مسه هم أو أصابه حزن لا يظهر ذلك لإخوانه، ولا يشوش عليهم ما هم فيه من الفرح والسرور، والراحة ولذة العيش، وإن رأى إخوانه منزولاً بهم هم وغم وقد أظهروا فرحًا وسرورًا، ساعدهم في الظاهر من إظهار النشاط والاستبشار، ويكتم عنهم ما هم فيه من الاستيحاش والحزن والهم، فلا يقابلهم بما يكرهون، ولا يختلف عنهم في شء من ذلك. وينبغي له في أدب حسن العشرة إذا استوحش من شيء أن يتكلم في حسن الخلق،
পৃষ্ঠা - ৬৩৪
ويرد قلبه إليه لتزول وحشته. وينبغي له أن يعاشر كل أحد من حيث هو لا يكلفه مجاوزة حده وموافقته، بل يتابعه هو فيما عليه ذلك الإنسان ما لم يكن فيه خرق للشرع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم". وينبغي له أن يعاشر من دونه بالشفقة عليه، ومن فوقه بالإجلال، ومن هو مثله بالإفضال والإيثار والإحسان. * * * (فصل: في آداب الفقراء عند الأكل) من ذلك ألا يأكلوا بالشره ولا على الغفلة، بل يذكروا الله عز وجل بقلوبهم عند الأكل ولا ينسونه. ومن ذلك ألا يمدوا أيديهم عند الطعام قبل من هو فوقهم. ومن ذلك ألا يقولوا لغيرهم كل، ولا يضعوا مما بين أيديهم شيئًا بين يدي غيرهم، لا على طريق الخدمة ولا على طريق الانبساط إلا صاحب الطعام، فإنه مسلم له ذلك لأنه نوع خدمة منه، ولا يقولوا لصاحب الطعام كل معنا، وإذا أُقعد موضعًا فلا يختار غيره ويقعد حيث يؤمر، ولا يرفع يده من الطعام ما دام يأكل من معه لئلا يحتشم صاحبه فيحمله على الامتناع. ولاغ ينبغي أن يرفع الطعام من بين يدي الفقير ما دام يأكل وما دام عينه عليه، ويساعد الأصحاب على الأكل بقدر ما لا يكون مخالفة وإن لم يكن به شهوة. ولا ينبغي أن يلقم على المائدة أحدًا، وإن عرض عليه الماء لا يرد الساقي ولو بقطرة واحدة، ولو قام صاحب الطعام بالخدمة لا يمنع، ولو أراد صب الماء على يده فلا يمنعه. وينبغي أن يأكل مع الأغنياء بالتعزز، ومع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ولا لخطر الأكل بباله إلا إذا حضر، فحينئذ يأكل ولا يساعد نفسه في اشتهاء شهوة، ولعلها لم تكن مقسومة، فلا ينالها فيبقى محجوبًا بها عن الله تعالى، ويشتغل بها عن
পৃষ্ঠা - ৬৩৫
طاعته ومراقبة حاله، فإذا عرض عن ذلك واشتغل بحاله كان سليمًا، فإن كانت مقسومة ثم حضرت اشتهاها وتناولها وشكر الله تعالى ولا يجعل الأكل همه ويعلق قلبه به ويجعله حديثه، بل يمهد مع نفسه بأنها مريضة، ومن حالها الاحتماء عن الطعام والشراب والشهوات حتى يبرأ المرض فالمرض هواها وإرادتها ومناها، والرب عز وجل طبيبها ومداويها، فإذا بعث الطعام والشراب على يد مملوكه تناولهما وعلم أن دواءها وعافيتها في ذلك دون غيره، واشتغل بحفظ الحال والمراقبة وإخراج الأشياء من القلب والارتكان إلى شيء من الأشياء والطمأنينة إليه أبدًا في جميع حركاته وسكناته. * * * (فصل: في آدابهم فيما بينهم) من ذلك ألا يمنع شيئًا يكون له من أصحابهم من ثيابهم وسجاداتهم وركوبهم وما يجري مجراه، ولو وطئ أحد منهم سجادته بقدمه لا يستوحش منه، ولا يضع قدمه على سجادة غيره، ولا يبسط سجادته على سجادة من هو فوقه في الرتبة، ولو مد أحد يده إلى كتفه لا يمنعه، ولا يمد هو يده إلى كتف غيره، ولا يستخدم أحدًا من الفقراء، ويخدم هو بنفسه كل أحد، ويغمز أرجل الفقراء، ولو أراد أحد أن يغمز رجله لا يمنعه، وإن دخلوا الحمام فليس في آداب الفقراء أن يمكنوا القيم من دلكهم، ولو أراد بعضهم ذلك بعض أمكنه منه ولا يمنعه، وإذا نظر فقير إلى شيء من خرقته أو سجادته أو غير ذلك فليدفعه إليه في الوقت وليؤثره به. ولا ينبغي أن يجعل الفقراء في انتظاره عند الأكل، وكذلك في كل شيء لا يؤذي قلب أحد بأن ينتظره ما أمكنه، فإن المنتظر مستثقل، وإذا أراد أن يقدم إلى فقير طعامًا، فيجب ألا يحبسه في الانتظار، لأن الانتظار الرقة ذل. ولا ينبغي أن يدخر شيئًا مما يمكنه، وإذا لم يكن الطعام كثيرًا فلا يأكل إلا بعد أن يفضل منهم، ويجتهد في تقديم الطعام إلى الفقراء، أن يكون أنظف ما يمكنه وأوفق لهم، وإن كان في قوم فلا ينبغي أن ينفرد عنهم بأكل شيء ولا يأخذ شيء، فإن فتح له بشيء ينبغي أن يطرحه في الوسط، وإن مرض وهو بين قوم فاحتاج إلى تخصيصه بدواء، فينبغي له أن يستأذن الجماعة في ذلك، وإذا نزل برباطه أو مدرسة وفيها شيخ أو خادم فينبغي أن يكون بحكم ذلك الشيخ، ولا يفعل شيئًا إلا باستطلاع رأيه، وإذا ورد
পৃষ্ঠা - ৬৩৬
على قوم وهو بحكم فينبغي أني وافقهم على ما هم عليه. ولا ينبغي أن يرفع صوته بين الفقراء بتسبيحه وقراءته بل يخفي ذلك عنهم ويستتر به أو ينقل ذلك إلى تفكر واعتبار عبادة باطنة، وإن كان من الخواص ذوي الأسرار فلا كلفة عليه في ذلك، لأن ربه يتولاه ويهيئ له ويأمره وينهاه في ذلك، ويسخر له قلوب الجماعة ويعطفها عليه ويملؤها من حبه تارة وهيبته واحترامه أخرى. وكذلك لا ينبغي أن يرفع صوته بغير ذلك من الكلام بينهم، وإذا كان بين قوم فينبغي ألا يسار أحدًا دونهم، ولا يتكلم بين الفقراء بشيء من حديث الدنيا والمأكولات ما أمكنه. ومن شرطه أيضًا ألا يكتب بين الفقراء شيئًا ما أمكنه ووجد من ذلك بدًا، بل يشتغل بالعمل المكتوب ومراقبة قلبه وحفظ حاله والتفكر فيهما، ولا يكثر من النوافل بين أيديهم، وإذا صام الجماعة وافقهم في ذلك، وكذلك إذا أفطر وافقهم في ذلك، ولا ينفرد عنهم بالصوم، ولا ينام بين الفقراء وهم أيقاظ، إلا أن يغلب عليه النوم، فيتفرد عنهم ويضطجع بقدر ما تنكسر فورته. ولا ينبغي له أن يتقدم بمشيئة شيء واختياره على الفقراء إذا أمكنه، وإن طالبه الفقير بشيء فلا يرده ولو بقليل، ولا يؤذي قلبه بطول الانتظار، وإذا شاوره أحد فلا يعجل عليه بالجواب فيقطع عليه كلامه، بل يمهله حتى ينهي جميع ما في قلبه، ولا يجيبه بالرد والإنكار، فإذا فرغ من ذلك ورآه غير صواب قابله أولاً بالموافقة، وقال: هذا وجه، ثم يبين له ما هو أصوب منه عنده برفق لا بمخاشنة ووحشة. ومن آدابهم ألا يمدحوا الطعام حال الأكل ولا يذموه. * * * (فصل: في آدابهم مع الأهل والولد) من ذلك حسن الخلق والإنفاق عليهم بالمعروف بما أمكنه، وإذا ملك في اليوم ما يكفيه ليومه فلا يحبس شيئًا لغد، وله إلى ذلك القدر حاجة في الحال، فإن فضل من ذلك شيء فليدخره لغد للعيال لا لنفسه، فلا يأكل إلا تبعًا لهم، بل يكون كالوكيل والخادم لعياله والمملوك مع سيده، ويعتقد بخدمته عياله والكد عليهم والقيام بمصالحهم أداء أمر الله وطاعته، وليعزل خدمة نفسه من الوسط، ويؤثر عياله على نفسه، وإذا أكل
পৃষ্ঠা - ৬৩৭
أكل بشهوتهم، ولا يحملهم على متابعة شهوة نفسه، وإذا كان في ذات يده شيء يصلح لشتائه وهو في الصيف محتاج لثمنه صرفه في وجه حاجته في الصيف، وإن وجد كفاية يومه وكان فيه فضل للكسب في يومه لكفاية غد لعياله لم يشتغل بذلك، بل يقف مع الكفاية في يومه، لأن الوقوف مع الكفايات واجب، وأخر تدبير غد إلى غد، فإن كان له قوة في التوكل وصبر على مقاساة الشدائد والقلة والجوع والضر، وتقصر قوة عياله عن ذلك، فلا يجوز له أن يدعوهم إلى حالة نفسه، بل يتحرك ويكتسب لأجلهم، وإن رأى من أهله الطاعة لله عز وجل وحسن السيرة والعبادة، فعليه بكسب الحلال وإطعامهم الحلال المباح حتى يثمر ذلك الطاعة والصلاع، ولا يطعمهم الحرام فإنه يثمر العصيان والجناح، وليجتهد في ذات نفسه بإصلاح العمل والصدق وطهارة الباطن حتى يصلح الله أمره بينه وبين عياله في حسن الصبر وحسن الطاعة له ولله عز وجل والموافقة له، وتعود بركة صلاحه على عياله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصلح ما بينه وبين الله عز وجل، أصلح الله تعالى ما بينه وبين الناس" وأهله وعياله من جملة الناس. وإذا نزل به ضيف فيجب أن يطعم عياله مما يطعم الضيف إذا كان بذات يده سعة ومكنة فليوفر ذلك بحيث يعم الجميع ويكفيهم ويفضل عنهم، فإن كان هناك فقر وقلة وضيق يد وعلم من عياله الإيثار والرضا بذلك، فحينئذ يؤثر الضيفان، فإن فضل عنهم شيء تناولوه على وجه التبرك، فإن الله تعالى سيخلف عليهم ويوسع ما لديهم، فإن الضيف ينزل برزقه ويرحل بذنوب أهل البيت، كما جاء في الحديث. وإذا دعا الفقير إلى دعوة وله عيال وليس له ما يصلح شأنهم فليس من الفتوة أن يضيع عياله ويمضي إلى الدعوة ويؤثر شهوته على فاقة عياله، ولا يستقيم في الطريقة والشريعة أخذ الزلة والخيبة لأجل العيال من الدعوة، فليمتنع من الحضور وليصبر مع أهله، فإن كان في صاحب الدعوة فتوة وعلم بأن للضيف عيالاً، فينبغي له ألا يفرده بالاستحضار، بل يفرغ قلب الضيف عن شغل عياله بأن يكفيه ذلك، ويحمل إليهم ما يحتاجون إليه، ويعلم ضيفه بذلك.
পৃষ্ঠা - ৬৩৮
والواجب على الفقير أن يؤدب أهله بملازمة ظاهر العلم والشريعة، ولا يمكنهم من مخالفة العلم في القليل والكثير. ولا ينبغي له أن يسلم أولاده إلى السوق وتعلم الحرف، بل يعلمهم أحكام الدين ويحملهم على ترك طلب الدنيا، إلا أن يغلب عليه الفقر وقلة الصبر وانكشاف الحال والفضيحة والرجوع إلى الخلق في القوت وما يسد به الخلة، فليشغل أهله وولده ونفسه بالكسب وتحصيل ما يحصل به الغنى عن الناس، فهو أفضل من غيره مع حفظ الحدود، ويعرف أولاده وجوب مراعاة حق الوالدين ومجانبة العقوق، ويعرف أهله مراعاة حقه، وفضيلة الصبر مع وطاعته وغير ذلك على ما بينا في باب آداب النكاح. * * * (فصل: في آدابهم في السفر) وقد ذكرنا في كتاب الأدب في أثناء الكتاب أنه يجب أن يكون سفر المؤمن الخروج من أوصافه المذمومة إلى صفاته المحمودة، فيخرج من هواه إلى طلب رضا مولاه بتصحيح تقواه، فإذا أراد الفقير أن يسافر من بلده، فأول شيء يجب عليه أن يرضي خصومه ويستأذن والديه أو من هو في حكمهما في وجوب الحق عليه من العم والخال والجد والجدة، فإذا رضوا بذلك خرج، فإن كان ذا عيال وفي سفره عنهم مضرة عليهم وضيقة، فلا يسلم له السفر إلا بعد إصلاح أمورهم أو يستصحبهم معه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت". ومن شرط الفقير إذا سافر أن يكون قلبه معه، لا يكون قلبه ملتفتًا إلى علاقة وراءه، ولا يكون قلبه متعلقًا بمطالبة أمامه، فحيثما نزل يكون قلبه معه ويكون قلبه خاليًا عن الأشياء كما قيل عن إبراهيم بن دوحة أنه قال: دخلت مع إبراهيم بن شيبة البادية فقال لي: اطرح ما معك من العلائق، فطرحت كل شيء إلى دينارًا، فقال: لا تشغل سري، اطرح ما معك، فطرحت الدينار، فقال: لا تشغل سري، طرح ما معك من العلائق، فذكرت أن معي شسوعًا للنعل فطرحتها، فوالله ما احتجت في الطريق إلى شسع إلى وجدته بين يدي فقال ابن شيبة: هكذا من عامل الله تعالى بالصدق.
পৃষ্ঠা - ৬৩৯
ولا ينبغي أن يقصر في سفره من أوراده التي كان يفعلها في حضره، لأن السفر لهم زيادة في أحوالهم، فلا ينبغي أن يحصل له خلل في أعمالهم وأحوالهم بسفره، وإنما الرخص للضعفاء والعوام، وما للأقوياء والخواص بالرخص، بل العزيمة شأنهم أبدًا في جميع أحوالهم، والتوفيق شامل لهم، والرحمة نازلة عليهم، والحرس قائم معهم والحفظ دائم لهم، والحبيب جالس معهم، والأنس به زائد، والغنى بهم قائم، والأمداد متداركة ومتواترة، والنظر لهم لازم، والجنود لهم متكاثفة متتابعة ومشتبكة لديهم، فالسفر أقوى لهم وألين وأحسن بما هم بصدده، إذ فيه البعد من الأسباب التي هي الأرباب، والخلق الذين هم الأصنام، وأضل من الصلبان وأشد من الشيطان. وينبغي للفقير أن يراعي قلبه في أول سفره، ولا يخرج عن الغفلة، ويجتهد في سفره حتى لا ينسى بقلبه ربه في سفره. ولا ينبغي له أن يكون سفره لغرض من أغراض الدنيا بوجه من الوجوه، بل يكون سفره لطاعة من الطاعات، إما للحج أو للقاء شيخ أو زيادة موضع من المواضع المقدسة الشريفة، وإذا سافر الفقير فوجد قلبه بموضع من المواضع ورآه فيه أصفى من الكدرات، وعيشه أوفى، فيلزم ذلك الموضع، ولا يزول عنه إلا بأمر جزم أو فعل محضر وقدر، فينتج حينئذ إلى ما يؤمر به، أو يحمله القدر إذا كان من المفعولين فيهم الزائل الهوى والإرادات والأماني، الفانين عنهم المرادين المحبوبين. وإذا ظهر لفقير جاه وقبول ببعض المواضع، فينبغي له أن يخرج منه ويشوش على نفسه ذلك القبول، لئلا ينفى به عن الله ويحجب عنه، فيكون الخلق نصيبه، وهذا إنما يكون مع وجود الهوى، وأما مع زواله فلا وجود للخلق ولا لقبولهم أثر، فهم خارجون عن القلب وبينهما حجب وحرس يحفظون القلب عن دخول الخلق إليه، لئلا يحصل الشرك فيتشعث التوحيد. وينبغي للفقير أن يعاشر اصحابه في سفره بحسن الخلق وجميل المداراة، وترك المخالفة واللحاح في جميع الأشياء، ويشتغل بخدمتهم، ولا يستخدم منهم أحدًا. وينبغي أن يكون أبدًا في سفره على الطهارة وإن لم يجد الماء يتيمم ما أمكنه ذلك، كما يستحب له في حضره أن يكون على الطهارة، لأن الوضوء سلاح المؤمن، كما جاء في الخبر، وهو أمان له من الشياطين وكل مؤذ.
পৃষ্ঠা - ৬৪০
وينبغي ألا يصحب الأحداث المردان في السفر على الخصوص، فإنهم أقرب إلى مصافاة الشياطين والقبول منها وإلى الشر والفتن والغش ومتابعة الهوى وهنات النفس والتهمة وفي صحبتهم خطر عظيم، إلا أن يكون الفقير ممن يقتدى به من الشيوخ والعلماء الله وأبدال أنبيائه المحفوظين الأئمة الهداة الربانيين معلمي الخير المؤدبين المنذرين للخلق والمهذبين لهم، السفراء بين الحق والخلق، والجهابذة، فحينئذ لا يبالي بمن يصحبه من الأحداث والشيوخ. وإذا دخل بلدًا وفيه شيخ، فينبغي أن يبدأ بسلامه عليه وخدمته له، وينظر إليه بعين الإكبار والحشمة والتعظيم، لئلا يحرم فائدته، وإذا فتح له بشيء فلا يستأثر به دون أصحابه، وإذا وقع أحدهم عذر وقف معه ولا يضيعه، والله الموفق للصواب. * * * (فصل: في آدابهم في السماع) من ذلك الا يتكلفوا السماع ولا يستقبلوه بالاختيار، فإذا اتفق السماع فمن حق المستمع أن يقعد بشرط الأدب ذاكرًا لربه بقلبه مشتغلاً بحفظ قلبه من طوارق الغفلة والنسيان، فإذا قرع سمعه شيء يرى القارئ للقرآن كأنه مستنطق من قبل الحق عز وجل فيما يرد عليه من تعريفات الغيب إياه، مما يوجب ترغيبًا أو ترهيبًا أو إيناسًا أو عتابًا أو زيادة في القيام بعبادته عز وجل أو غيره، بادر إلى ما يرد عليه، وقابل الإشارة عليه بالبدار، وإن كان السماع بحيث يصير كأن لسان القارئ لسانه، وصار كأنه يخاطب هو الحق بما يقرأ القارئ، فما يحصل مما يجده في قلبه من ذلك يكون موافقًا لحق العبودية وآداب الشريعة، وفي الجملة لا يكون في الطريقة ولا في علم الحقيقة شيء يخالف آداب الشريعة، وإذا كان في القوم شيخ حاضر في السماع، فالواجب على الفقير السكون ما أمكنه ومراعاة حشمة ذلك الشيخ، فإن ورد عليه أمر غالب فبقدر الغلبة يسلم إليه الحركة، فإذا سكنت الغلبة فالأولى له السكون مراعاة لحشمة الشيخ. ولا ينبغي للفقير أن يتقاضى القارئ ولا القوال، إن استبدل القول الذي هو أدنى بالذي هو خير، يعني الأبيات بالقرآن على ما هو عادة أهل الزمان اليوم، فلو صدقوا في قصدهم وتجردهم وتصرفهم لما انزعجوا في قلوبهم وجوارحهم بغير سماع كلام الله عز وجل، إذ هو كلام محبوبهم وصفته، وفيه ذكره ذكر الأولين والآخرين، والماضين
পৃষ্ঠা - ৬৪১
والغابرين والمحب والمحبوب والمريد والمراد، وعتاب المدعين لمحبته ولومهم وغير ذلك، فلما اختل صدقهم وقصدهم وظهرت دعواهم من غير بينة، وزورهم وقيامهم مع الرسم والعادة من غير غريزة باطنة وصدق السريرة والمعرفة والمكاشفة والعلوم الغريبة، والاطلاع على الأسرار والقرب والأنس، والوصول إلى المحبوب، والسماع الحقيقي وهو الحديث، والكلام الذي هو سنة الله عز وجل مع العلماء به والخواص من الأولياء والأبدال والأعيان، وخلت بواطنهم من ذلك كله، وقفوا مع القول والأبيات والأشعار التي تثير الطباع وتهيج ثائرة العشاق وبالطباع لا بالقلوب والأرواح. فينبغي للفقير في الجملة: أعني فقير الحق عز وجل، وفقير الخلق: أعني فقير المعنى، وفقير الصورة: أعني فقيرًا من الدنيا وفقيرًا من العقبى والأكوان، ألا يتقاضى القارئ وا لقول بالتكرار والإعادة، بل يكل ذلك إلى الحق سبحانه إن شاء قبض من ينوب عنه في التقاضي، أو يلهم القوال بالتكرار إذا كان الفقير المستمع صادقًا وله في التكرار دواء ومصلحة. ولا ينبغي للفقير أن يستعين بغيره في حال السماع، فإن سأل الفقراء منه المساعدة في الحركة فليساعدهم، وذلك ضعف في الحال، وإذا سمع الفقير آية أو بيتًا فلا يجب أن يزاحمه أحد، ويجب أن يسلم له وقته، وإن خولف فزوحم فالأولى للمزاحم له التسليم، وإذا تحرك الفقير على آية أو بيت، فيجب أن يسلم له وقته، وإن وقع للحاضرين عليه إشراف ورأوا فيه تقصيرًا أو نقصانًا فالواجب عليهم الستر عليه والحمل عنه، فإن اقتضى الوقت تنبيه فلينبه بالرفق أو بالقلب لا باللسان، وهاهنا يحتاج إلى قوة حال وصفاء باطن وعلم دقيق واطلاع وآداب كاملة ومحافظة شديدة حميدة، وإذا خرج في حال سماعه من خرقة أو من شيء من ثيابه، فلا يخلو إما أن يكون قد تخلق به مع القارئ فهو للقارئ على الخصوص أو يطرحه في الوسط فيكون حكمه إليه، فيقال له: ما الذي أدرت به؟ فإن قال: قصدت به أن يكون بحكم الفقراء كان ذلك خلقًا منه معهم فهو لهم بحكم الفتوح، وذلك إليهم يرون فيه رأيهم، وإن قال: أردت به موافقة شيخ طرح خرقته، فهذا ضعيف الحال جدًا ركيك الأمر حقًا، لأنه إنما ينبغي أن يوافق الشيخ في حكم خروجه عن خرقة من قد وافق الشيخ في وجده وحالته، وذلك بعيد جدًا أن يتفق اثنان منهم في حال، والذي جرت به العادة بين الفقراء واستمر به الرسم بينهم اليوم في المرافقة في طرح الخرقة، فليس له أصل، ثم إذا جرى منه ذلك
পৃষ্ঠা - ৬৪২
مع ضعفه فحكم خرقته المطروحة إلى ذلك الشيخ في رسم العادة لا في العلم والشريعة، أو في مقتضى الطريقة والحقيقة، وإن قال صاحب الخرقة،: أردت موافقة القوم الحاضرين فهذا أيضًا أضعف من الأول، لأنه إنما ينبغي أن يكون الاشتراك في الفعل عند الاتفاق في الحال والوجد، وقلما يتفق ذلك للقوم حتى يستووا في الشرب والحال، فيرجع في ذلك إلى القوم، فما يكون حكم خرقهم فله أسوتهم في ذلك، فإن قال لم يكن لي في الوقت قصد ولا نية، يقال: فالآن هو بحكمك فاحكم فيه بما شئت، وليس لأحد من الحاضرين ولا للشيخ إن كان حاضرًا في ذلك حكم البتة، إذ ليس صاحبه فيه محقًا، ولا له قصد ولا لذلك أصل في الطريقة، فإن قال: وردت عليَّ في الوقت الإشارة بالخروج من الخرقة من غير قصد إلى شيء على التعيين، فقد يكون لهذا في الطريقة أصل لأن من خلع عليه السلطان خلعة، فالواجب على المخلوع عليه أن ينزع ملبوسه ثم يلبس الخلعة، فهذا حكم هذا الفقير أن يخرج من خرقته ويلبس ما خلع عليه الباري عز وجل من الأنوار والقرب والألطاف، ثم إن حكم خرقته إلى الشيخ الحاضر إن كان هناك، وإلا فللحاضرين من الفقراء أن يفردوا القارئ أو القول بها، وقد قيل: إن ذلك إلى الفقير، وهو أولى بحكم خرقته من غيره، فأما معارضة الحاضرين من أرباب الدنيا ليشتروا الخرقة ثم ترد إلى صاحبها فذلك غير محمود في الطريق وغير مرضي، اللهم إلا أن يكون المشتري فيه فتوة وإيمان بالقوم يريد أن يتخلق معهم، وه 9 ونوع من المعاوضة والسؤال بالتلطف، ولكنه مذموم جدًا، لأنه في حال خروجه عن الخرقة أظهر صدق من نفسه في الحال، وبرجوعه إلى الخرقة فاضح لنفسه ومكذب لها، وذلك غير مرضي. ولا ينبغي لمن خرج من خرقته أن يعود إليها ويقبلها، فإن كان ذلك بإشارة شيخ بأن أمره بأخذها فإنه يأخذها فإنه يأخذها جهرًا امتثالاً لأمر الشيخ، ثم يخرج منها بعد ذلك فيتخلق بها مع غيره، وإذا وقع شيء في الوسط للجماعة فالواجب التسوية بينهم، فإن كان فيهم شيخ ورأى تخصيص قوم أو واحد من الحاضرين، فحكم ذلك إلى الشيخ يتبع رأيه فيه، فلو طرح خرقته فردت عليه فكانت طريقته ألا يرجع إلى شيء خرج منه، وعاد الفقراء إلى خرقتهم، فإن كان له شيخ كان له ألا يرجع إلى خرقته ويلزم طريقته، فلا يرجع إلى ما خرج منه، ولا ينقض حالته اتباعًا لأحوال الجماعة، وإن كان واحدًا من الفقراء فالأظرف من حاله والأليق بها أن يوافق الجماعة في الحال، فيعود إلى خرقته
পৃষ্ঠা - ৬৪৩
لئلا يخجل القوم ويستحيوا ويمقتوه، ثم بعد ذلك يخرج منها إلى الحاضرين وهو الأولى، وإن دفعها إلى غائب عن المجلس جاز. وهذا آخر ما ألفنا من آداب القوم على وجه الاختصار والإقلال والإمكان في الوقت، وأما ما يتعلق بدخول الرباط والسقايات والبس الحذاء وأشياء أحدثوها ووصفوها وسموها بينهم، فذلك يستفاد من ممارستهم ومخالطتهم والاستخبار والإشارة منهم، فلم نسطره في الكتاب، وقد ذكرنا معظم ذلك في كتاب الأدب في الشرع في أثناء الكتاب. * * *
পৃষ্ঠা - ৬৪৪
ثم نختم الكتاب بذكر باب يشتمل على: باب المجاهدة والتوكل وحسن الخلق والشكر والصبر والرضا والصدق إذ هذه الأشياء السبعة أساس لهذه الطريقة والكل خير (فصل) أما المجاهدة: فالأصل فيها قول الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]. وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الجهاد قال: كلمة حق عند سلطان جائر" ودمعت عينا أبي سعيد رضي الله عنه. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله: من زين ظاهره بالمجاهدة، حسن الله سرائره بالمشاهدة، قال الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] وكل من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من الطريقة شمة. وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله: من ظنَّ أنه يفتح عليه بشيء من هذه الطريقة أو يكشف له شيء منها بغير لزوم المجاهدة فهو في غلط. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله: من لم تكن له في بدايته قومة لم يكن له في نهايته جلسة. وقال أيضًا رحمه الله: الحركة بركة، حركات الظواهر توجب بركات السرائر. وقال الحسن بن علوية: قال أبو يزيد رحمه الله: كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينها فإذا في وسطي زنار ظاهر فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطع، فكشف لي، فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى، فكبّرت عليهم أربع تكبيرات.
পৃষ্ঠা - ৬৪৫
وعن الجنيد رحمه الله قال: "سمعت السري رحمه الله يقول: يا معشر الشباب جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما قصرت، وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة". وقال الحسن القزاز رحمه الله: بني هذا الأمر على ثلاثة أشياء: ألا يأكل إلا عند الفاقة، ولا ينام إلى عند الغلبة، ولا يتكلم إلا عند الضرورة. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجوز ست عقبات: الأولى: يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة. والثانية: يغلق باب العز ويفتح باب الذل. والثالثة: يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد. والرابعة: يغلق باب النوم ويفتح باب السهر. والخامسة: يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر. والسادسة: يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت. وقال أبو عمر بن نجيد رحمه الله: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه. وقال أبو علي الروذباري رحمه الله: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام: أنا جائع فالزموه السوق وأمروه بالكسب. وقال ذو النون المصري رحمه الله: ما أعز الله عبدًا بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عبدًا بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه. وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: ما هالني شيء إلا ركبته. وقال محمد بن الفضيل رحمه الله: الراحة هي الخلاص من أماني النفس. وقال منصور بن عبد الله رحمه الله: سمعت أبا علي الروذباري رحمه الله يقول: دخلت الآفة من ثلاث: سقم الطبيعة، وملازمة العادة، وفساد الصحبة، فسألته: ما سقم الطبيعة؟ فقال: أكل الحرام، فقلت: وما ملازمة العادة؟ قال: النظر والاستمتاع بالحرام والغيبة، قلت: فما فساد الصحبة؟ فقال: كلما هاجت في النفس شهوة يتبعها. وقال النصرأباذي رحمه الله: سجنك نفسك، إذا خرجت منها وقعت في راحة الأبد.
পৃষ্ঠা - ৬৪৬
وقال أبو الحسن الوراق رحمه الله: كان أجل أحكامنا في مبادئ أمرنا في مسجد أبي عثمان: الإيثار بما يفتح علينا، وألا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم منه لأنفسنا، بل نعتذر إليه ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته، فمجاهدة العوام في توفية الأعمال، ومجاهدة الخواص في تصفية الأحوال، وقد تسهل مقاساة الجوع والعطش والسهر، ومعالجة الأخلاق الرديئة تعسر وتصعب. ومن آفات النفس: ركونها إلى استحلاء المدح والذكر الطيب وثناء الخلق، وقد تحتمل أثقال العبادات لذلك، ويستولي عليها الرياء والنفاق. وعلاقة ذلك رجوعها إلى الكسل والفشل عند انقطاع ذلك، وذم الناس لها، ولا يتبين لك آفات نفسك وشركها ودعواها وكذبها إلى عند الامتحان في موطن دعواها وعند الموازنة لها، لأنها تتكلم بكلام الخائفين ما لم تضطر إلى الخوف، وإذا احتجت إليها في مواطن الخوف وجدتها آمنة، وتقول قول الأبرار ما لم تمتحن بالتقوى، وإذا احتجت إليها وطالبتها بشروط التقوى وجدتها مشركة مرائية مزينة معجبة، وتصف وصف الصادقين ما لم تحتج إلى الغاية، فإذا طلبت منها ذلك وجدتها كذابة، وتدعي دعوى الموقنين ما لم تمتحن بالإخلاص، وتزعم أنها من المتواضعين ما لم يحل بها خلاف هواها عند الغضب، وكذلك تدعي السخاء والكرم والإيثار والبذل والغنى والفتوة وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، أخلاق الأولياء والأبدال والأعيان تمنيًا ورعونة وحمقًا، وإذا طلبتها بذلك وامتحنتها لم تجدها إلا {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إلى جاءه لم يجده شيئًا} [النور: 39] ولو كان ثم صدق وإخلاص وصح منها القول وصدق بالقول لسانها لما أظهرت التزين للخلق الذين لا يملكون لها ضرًا ولا نفعًا، ولصحت أعمالها عند الامتحان، فوافق قولها عملها. وقال أبو حفص رحمه الله: النفس ظلمه كلها وسراجها سرها، يعني الإخلاص، ونور سراجها التوفيق، فمن لم يصحبه في سره توفيق من ربه كانت ظلمة كلها. وقال أبو عثمان رحمه الله: لا يرى أحد عيب نفسه وهو يستحسن من نفسه شيئًا، وإنما يرى عيب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال. وقال أبو حفص رحمه الله: أسرع الناس هلاكًا من لا يعرف عيبه، فإن المعاصي بريد الكفر.
পৃষ্ঠা - ৬৪৭
وقال أبو سليمان رحمه الله: ما استحسنت من نفسي عملاً فاحتسبت به. وقال السري رحمه الله: إياكم وجيران الأغنياء وقراء الأسواق وعلماء الأمراء. وقال ذو النون المصري رحمه الله: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: أولها: ضعف النية بعمل الآخرة. والثاني: صارت أبدانهم رهينة بشهواتهم. والثالث: طول الأمل مع قرب الأجل. والرابع: آثروا رضى المخلوقين على رضا الخالق. والخامس: اتبعوا أهواءهم، ونبذوا سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وراء ظهورهم. والسادس: جعلوا قليل زلات السلف حجة أنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم (فصل) والأصل في المجاهدة مخالفة الهوى. فيعظم نفسه عن المألوفات والشهوات واللذات، ويحملها على خلاف ما تهوى في عموم الأوقات، فإذا انهمك في الشهوات ألجمها بلجام التقوى والخوف من الله عز وجل، فإذا حرنت ووقفت عند القيام بالطاعات والموافقات ساقها بسياط الخوف وخلاف الهوى ومنع الحظوظ. (فصل) ولا تتم المجاهدة إلا بالمراقبة. وهي التي أشار إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، واستدامة لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا هو أصل كل خير، وإنما يصل إلى هذه الرتبة بعد المحاسبة وإصلاح حاله في الوقت، ولزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله تعالى، وحفظ الأنفاس مع الله عز وجل، فيعلم أن الله تعالى عليه رقيب، ومن قلبه قريب، يعلم أحواله ويرى أفعاله، ويسمع أقواله، ولا تتم أيضًا إلا بمعرفة خصال أربع: أولها: معرفة الله تعالى. والثانية: معرفة عدو الله إبليس.
পৃষ্ঠা - ৬৪৮
والثالثة: معرفة نفسك الأمارة بالسوء. والرابعة: معرفة العمل لله تعالى. ولو عاش إنسان دهرًا في العبادة مجتهدًا ولم يعرفها ولم يعمل عليها لم تنفعه عبادته، وكان على الجهل ومصيره إلى النار، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته. فأما معرفة الله عز وجل، فهو أن يلزم العبد قلبه قربه عز وجل، وقيامه عليه وقدرته عليه وشهادته وعلمه به، وأنه رقيب حفيظ، وأنه واحد ماجد، لا شريك له في ملكه، وأنه عندما وعد صادق، وعندما ضمن واف، وعندما دعا إليه وندب إليه مليء، وله وعد ينجزه، ووعيد صادق ينفذه، ومقام تصير إليه الخلائق، ومصدر يتصرف من عنده، وله ثواب وعقاب، ليس له شبه ولا مثيل، وأنه كاف رحيم ودود سميع عليم، وأنه كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، يعلم الخفي وفوق الخفي، والضمير والخطوات الوسوسة والهمة والإرادة والوسواس والحركة والطرفة والغمزة والهمزة، وما فوق ذلك وما دون ذلك، مما دق فلا يعرف، وجل فلا يوصف، مما كان وما يكون وأنع عزيز حكيم، وقد استوفينا ذلك في باب معرفة الصانع من قبل. فإذا لزم هذا قبله في اليقين الراسخ والعمل النافع، ولزم ذلك كل عضو منه وكل جارحة وكل مفصل وعرق وعصب وشعر وبشر، وكذلك يتيقن أن الله تعالى قائم على ذلك عالم به، أحاط به علمًا لا تعزب عنه عازبة، وأنه خلقه فأحسن خلقه، وصوره فأحسن صورته، وثبت جميع ذلك في قلبه، وصح به عزمه وأكمل عقله، وثبت حينئذ فيه المحاسبة، ووصلت إليه المعرفة وقامت عليه الحجة، وكان في مقام من الله شريف، والحذر يصحبه في ذلك كله، فحفظتن جوارحه وقلبه، ولا ينال شيئًا من هذه الجملة إلا أن يقطع الأشغال كلها، إلا ما دله على هذا، والفرق لا يفارق قلبه حذرًا من سطواته، لقدرته عليه لما قد سلف، وبما يكون منه، وحياء منه لقربه منه، ولم تسقط منه إرادة، ولم تزل منه همة ولا خطرة إلا له فيه علم، فيكون العالم القائم بما يحب الله منه، والنازل له عما يكرهه منه، ولا تكون منه خطرة ولا لحظة ولا وسوسة ولا إرادة ولا حركة ظاهرًا ولا باطنًا، إلا وعلم الله عنده قائم في قلبه قبل الخطرات والحركات والوساوس وهو مقام العلماء بالله عز وجل، الخائفين العارفين الأتقياء الورعين.
পৃষ্ঠা - ৬৪৯
وأما معرفة عدو الله إبليس، فقد أمر الله تعالى بمحاربته ومجاهدته في السر والعلانية، في الطاعة والمعصية، وأعلم العباد بأنه قد عادى الله عز وجل وعبده ونبيه وصفيه وخليفته في الأرض آدم عليه السلام، وضاره في ذريته، وأنه لا ينام إذا نام الآدمي، ولا يغفل إذا غفل الآدمي، ولا يسهو إذا سها الآدمي دائبًا مجتهدًا في عطب الآدمي وهلكته في نومه ويقظته وفي سره وعلانيته في الطاعة ليبطلها وفي المعصية ليوقعه فيها، لا يألو به خديعة وحيلة ومكرًا، مصائده الشهية اللذيذة في طاعته ومعصيته، ما يجهله كثير من خلق الله تعالى من العابدين المغرورين المخدوعين، وكثير من الغافلين، ليست راحته أن يوقع ابن آدم في معصية ولا رياء ولا إعجاب، إنما بغيته أن يرده معه حيث يرد جهنم، حيث قال جل وعلا: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:60]. فإذا عرفه العبد بهذه الصفة فينبغي له أن يلزم قلبه معرفته في الحق والباطن، بلا غفله ولا سهو منه، فيحاربه بأشد المحاربة، ويجاهده بأشد المجاهدة، سرًا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا لا يقتصر في ذلك حتى يبذل مجهوده في محاربته، ومجاهدته في كل ما يدعو إليه من الخير والشر ولا يدع التضرع واللجأ إلى الله عز وجل والاستعانة به في حركاته كلها ليعينه عليه، ويرى الله عز وجل من نفسه الفقر والفاقة إليه، فإنه لا حيلة ولا قوة إلا به، ويستغيث بالله عز وجل بالبكاء والتضرع، ويسأله النصر عليه جاهدًا متذللاً، ليلاً ونهارًا، سرًا وعلانية، في الخلأ والملأ، حتى تصغر في عينه مجاهدته لمعرفته، بتوفيق الله تعالى إياه، فإنه عدو مولاه، وهو أول من عصى الله من خلقه، وأول من مات من خلقه، يعني من عصاه، وكل عاص لله عز وجل ميت، كما جاء في الحديث، قال الله عز وجل: "إن أول من مات من خلقي إبليس" وهو الذي عادى أولياء الله من الأنبياء والصديقين وأصفياءه من خلقه أجمعين. وينبغي للعبد أن يعلم أنه في جهاد عظيم، وفي قرب من الرب جل ثناؤه، ولا يوصف شرف مقامه، فليثبت ولا يعجز فإنه إن عجز أو مل فقد عصى ربه عز وجل ووقع في جهنم، وغضب الله عليه، ويكون قد أعطى عدو الله أمنيته منه، وقوى عليه لعنة الله، ولي لإرادته في العبد غاية وانتهاء إلا بالكفر بالله، فإنه إنما ينقله من حال إلى حال حتى يغضب الله عليه، فيكله إلى نفسه فيعطب ويقع في النار مع الشيطان، فلا خلق أشد على العبد منه، فالحذر الحذر، فإنه هو الورود على العطب، أو النجاة
পৃষ্ঠা - ৬৫০
بفضل الله ورحمته، أعاذنا الله وجميع المسلمين من شر إبليس وجنوده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما معرفة النفس الأمارة بالسوء، فيضعها حيث وضعها الله عز وجل، ويصفها بما وصفها الله تعالى، ويقوم عليها بما أمره الله عز وجل فإنها أعدى له من إبليس، وإنما يقوى عليه إبليس بها وبقبولها منه، فيعرف أي شيء طباعها، وما إرادتها، وإلام تدعو، وبم تأمر، وكيف خلقها خلقة ضعيفة قوي طمعها شرهة مدعية خارجة عن طاعة الله سبحانه، متملكة متمنية، خوفها أمن، ورجاؤها أماني، وصدقها كذب، ودعواها باطلة، وكل شيء منها غرور، وليس لها فعل محمود، ولا دعوى حق فلا تغرنه بما يظهر له منها، ولا يرجو بما تأمل، إن حل عنها قيودها شردت، وإن أطلق وثاقها جمحت، وإن أعطاها سؤلها هلكت، وإن غفل عن محاسبتها أدبرت، وإن عجز عن مخالفتها غرقت، وإن اتبع هواها تولت إلى النار وفيها هوت، ليس له حقيقة ولا رجوع إلى خير، وهي رأس البلاء ومعدن الفضيحة، وخزانة إبليس ومأوى كل سوء، ولا يعرفها أحد غير خالقها عز وجل، فهي في الصفة التي وصفها الله عز وجل، كلما أظهرت خوفًا فهو أمن، وكلما ادعت صدقًا فهو كذب، وكلما ذكرت إخلاصها فهو رياء وإعطاء عند الحقائق، يبين صدقها ويعرف كذبها، وعند الامتحان يرجع إلى دعواها، فليس بلاء عظيم إلا وقد حل بها، فعلى العبد محاسبتها ومعرفتها ومراقبتها ومخالفتها ومجاهدتها في جميع ما تدعو إليه وتدخل فيه، فليس لها دعوى حق، وإنما تسعى في هلاكها ودمارها، ولا توصف بشيء إلا وهي أكثر مما توصف، فهي كنز إبليس ومستراحه ومسامرته ومحدثته وصديقته. فإذا عرف العبد صفتها فقد عرفها وهانت عليه، وذلت وقوي عليها بالله عز وجل، فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال الثلاث، فليستعن بالله عز وجل عليهن، ولا يغفل لأنه إذا قوي على أدب نفسه ومخالفتها عما تهوى قوي على الخصال كلها إن شاء الله تعالى، فعليه ببذل التقدم بالعزم بالله عز وجل وحده لا شريك له، ولا يميلن في هذا كله إلى أحد غير الله عز وجل، فإن لم يفعل ذلك فلا يوفق لخير ويكله الله عز وجل إلى نفسه. فينبغي له أن يستعين بالله تعالى في هذا كله ويتبع مرضاته في جميع ما أمره الله به
পৃষ্ঠা - ৬৫১
ونهاه، لا يريد بذلك أحدًا غير الله عز وجل، فإن فعل ذلك أرشده الله ووفقه وأحبه وجنبه مكارهه وستره بستر الأصفياء العلماء بالله، الذين بذلك نالوا العلم بالله عز وجل. وأما معرفة العمل لله عز وجل، فإن يعلم العبد أن الله عز رجل أمره بأمور ونهاه عن أمور، فالذي أمره به هو الطاعة، والذي نهاه عنه هو المعصية له عز وجل وأمره بالإخلاص فيهما والقصد إلى سبيل الهدى على نهج الكتاب والسنة، ولا يكون في ضميره في فعله كل شيء غير الله عز وجل، ولا يكن ممن ترك المعاصر الظاهرة، وأعرض عن ترك المعاصي الباطنة التي هي أمهات الذنوب وأصولها، لأن الله تعالى ليس على هذا وعد بالمغفرة، ولا على هذا ضمن الثواب في دار الجزاء، فلا يجهدن العبد في العبادة بالظاهر بفساد النية وسقم الإرادة، فتعود إذ ذاك طاعاته معاصي كلها، فتخل به عقوبات الدنيا والآخرة مع تعب البدن وقلة المراد به وترك الشهوة واللذة، فيسخر الدنيا والآخرة، ولكن يزين طاعته بالإخلاص والتقوى والورع، ونيته بالصدق، ويحفظ إرادته بالمحاسبة، وليكن همه طلب النية الصادقة، وعزمه طلب الإخلاص والتوحيد في أقواله وأفعاله وأحواله أجمع عند أخذه في الطاعة، وإعراضه عن المعصية، حتى يثبت معرفة النية، كما يثبت معرفة العمل. وينبغي له أن يتحرز من أن يخدعه إبليس اللعين بغوائله، ويصرعه بمصائده، ويوقعه في فخوخه، ويذهب به بكره وخدعة، فإن له مصائد مسجلات في القلوب، وغوائل شهية وظرائف لذيذة، يحسبه الجاهل نورًا ويقينًا، وهو شك وظلمة، يفتح له مائة باب من الطاعة، يريد بذلك أن يدخله في أدنى منزلة يستغرق عمله بها، فإياه ثم إياه الحذر الحذر، فإن قدر أن يتعلم خدعه كما يتعلم القرآن فليفعل، فبهذا أمره الله جل ثناؤه، فليحذره العبد في طاعته، كما يحذره في معاصيه، فإن خطر بباله أمر أو دعته نفسه إلى شيء أو تحرك بحركة فلا يعجلن دون المعرفة والعلم، وليرفق بنفسه ويترسل بترسل العلماء، ويجالس الفقهاء العالمين بالله وبأمره ونهيه، حتى يدلوه على طريق الله عز وجل، ويعرفوه ذلك ويدلوه على دوائه ودائه على ما قدمناه في مجلس التوبة. ولا ينبغي له أن يفتر بطول القيام وكثرة الصيام والنوافل الظاهرة بلا معرفة منه بعمله، فإن كان كذلك ورأى فعله مع معرفته بنفسه وبربه وبعدوه صح فعله، فعندما
পৃষ্ঠা - ৬৫২
يورث العلم والفقه، فما كان من علم ظاهر أو باطن ظاهر أو باطن نظر إن كان لله خالصًا صادقًا قلبه الله منه وأثابه عليه، وإن كان غير ذلك رده عليه فلم يسقط له عند ذلك فعل ولا يخفى عليه أمر، فإذا كان كلك فقد أعطى كل خلق حسن وصح عقله وثبت عمله وزاد حلمه، وكان من أولياء الله وأصفياءه الذين بالله ينظرون، وبالله يتكلمون، وبه يأخذون، وبه يعطون، ومع ذلك اتهم نفسه واتهم هواه على نفسه ودينه، واتهم إبليس، فحينئذ اتهم مع ذلك معرفته بنفسه على معرفته بها. (فصل) ولأهل المجاهدة والمحاسبة وأولى العزم عشر خصال جربوها لأنفسهم، فإذا أقاموها وأحكموها بإذن الله تعالى وصلوا إلى المنازل الشريفة: أولها: ألا يحلف العبد بالله عز وجل صادقًا ولا كاذبًا، عامدًا ولا ساهيًا، لأنه إذا أحكم ذلك من نفسه وعود لسانه رفعه ذلك أن يترك الحلف ساهيًا وعامدًا، فإذا اعتاد ذلك فتح الله به بابًا من أنواره يعرف منفعة ذلك في قلبه، وزيادة في بدنه، ورفعه في درجته، وقوة في عزمه وفي بصره، والثناء عند الإخوان وكرامة عند الجيران حتى يأتمر به من يعرفه ويهابه من يراه. والثانية: أن يجتنب الكذب هازلاً وجادًا، لأنه إذا فعل ذلك وأحكمه من نفسه واعتاد لسانه، شرح الله به صدره وصفى به علمه، حتى كان لا يعرف الكذب، وإذا سمعه من غيره عاب ذلك عليه وعيره به في نفسه، وإن دعا له بزوال ذلك كان له ثوابًا. والثالثة: أن يحذر أن يعد أحدًا شيئًا فيخلفه إياه، وهو يقدر عليه إلا من عذر بين، أو يقطع العدة البتة، فإنه أقوى لأمره وأقصد لطريقه، لأن الحلف من الكذب، فإذا فعل ذلك فتح له باب السخاء، ودرجة الحياء، وأعطى مودة في الصادقين، ورفعه عند الله جل ثناؤه. والرابعة: يجتنب أن يلعن شيئًا من الخلق، أو يؤذي ذرة فما فوقها، لأنها من أخلاق الأبرار والصادقين، وله عاقبة حسنة في حفظ الله إياه في الدنيا، مع ما يدخر له عنده من الدرجات، ويستنقذه من مصارع الهلكة ويسلمه من الخلق، ويرزقه رحمة العباد والقرب منه عز وجل. والخامسة: يجتنب أن يدعو على أحد من الخلق وإن ظلمه، فلا يقطعه بلسانه ولا
পৃষ্ঠা - ৬৫৩
يكافئه بفعاله، ويحتمل ذلك لله تبارك وتعالى، ولا يكافئه بقول ولا فعل، فإن هذه الخصال ترفع صاحبها في الدرجات العلا، إذا تأدب بها ينال منزلة شريفة في الدنيا والآخرة، والحب والمودة في قلوب الخلق أجمعين، من قريب وبعيد، وإجابة الدعوة والعلو في الخير، والعز في الدنيا في قلوب المؤمنين. والسادسة: ألا يقطع الشهادة على أحد من أهل القبلة بشرك ولا كفر ولا نفاق، فإنه اقرب للرحمة وأعلى في الدرجة، وهي تمام السنة وأبعد عن الدخول في علم الله سبحانه وتعالى، وأبعد من مقت الله عز وجل، وأقرب إلى رضا الله تعالى ورحمته، فإنه باب شريف كريم على الله، يورث العبد الرحمة للخلق أجمعين. والسابعة: يجتنب النظر والهم إلى شيء من المعاصي ظاهرًا وباطنًا، ويكف عنها جوارحه، فإن ذلك من أسرع الأعمال ثوابًا للقلب والجوارح في عاجل الدنيا، مع ما يدخل الله تعالى له من خير الآخرة، نسأل الله تعالى أن يمن علينا أجمعين بالعمل بهذه الخصال، وأن يخرج شهواتنا من قلوبنا. والثامنة: يجتنب أن يجعل على أحد من الخلق منه مؤنة صغيرة ولا كبيرة، بل يرفع مؤنته عن الخلق أجمعين، مما احتاج إليه واستغنى عنه، فإن ذلك تمام عزة العابدين وشرف المتقين، وبه يقوى على الأمر بالمعرفة والنهي عن المنكر، ويكون الخلق عنده أجمعون بمنزلة واحدة في الحق سواء، فإن كان كذلك نقله الله تعالى إلى الغنى واليقين والثقة به عز وجل، ولا يرفع أحدًا بهواه، ويكون الناس عنده في الحق سواء، ويقطع بأن هذا الباب عز المؤمنين وشرف المتقين، وهو أقرب باب إلى الإخلاص. والتاسعة: ينبغي له أن يقطع طمعه من الآدميين لا يطمع نفسه في شيء مما في أيديهم، فإنه العز الأكبر، والغنى الخالص، والملك العظيم، والفخر الجليل، واليقين الصادق، والتوكل الشافعي الصحيح، وهو باب من أبواب الثقة بالله عز وجل، وهو باب من أبواب الزهد، وبه ينال الورع ويكمل نسكه، وهو من علامات المنقطعين إلى الله تبارك وتعالى. الخصلة العاشرة: التواضع لأن بها يشيد محل العابد وتعلو درجته ويستكمل العز والرفعة عند الله تعالى وعند الخلق، ويقدر على ما يريد من أمر الدنيا والآخرة، وهذه الخصلة أصل الطاعات كلها وفروعها وكمالها، وبها يدرك العبد منازل الصالحين الراضين
পৃষ্ঠা - ৬৫৪
عن الله تعالى في الضراء والسراء، وهي كمال التقوى والتواضع، هو ألا يلقى العبد أحدًا من الناس إلا رأى له الفضل عليه، ويقول عسى أن يكون عند الله خيرًا مني وأربع درجة، فإن كان صغيرًا قال: هذا لم يعص الله وأنا قد عصيت، فلا شك أنه خير مني، وإن كان كبيرًا قال: هذا عبد الله قبلي، وإن كان عالمًا قال: هذا أعطي ما لم أبلغ ونال ما لم أنل، وعلم ما جهلت وهو يعمل بعلم، وإن كان جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم، ولا أدري بم يختم له، وبما يختم لي، وإن كان كافرًا قال: لا أدري عسى يسلم هذا فيختم له بخير العمل، وعسى أكفر أنا فيختم لي بشر العمل، وهذا باب الشفقة والوجل، وأول ما يصحب وآخر ما يبقى على العباد، فإن كان العبد كذلك سلمه الله من الغوائل، وبلغ به منازل النصيحة لله عز وجل، وكان من أصفياء الرحمن وأحبابه، وكان من أعداء إبليس عدو الله لعنه الله وهو باب الرحمة، ومع ذلك يكون قد قطع طريق الكبر وحبال العجب، ورفض درجة العلو وجانب درجة التعزز في نفسه في الدين والدنيا والآخرة، وهو ملح العبادة وغاية شرف الزاهدين وسيما الناكسين، فلا شيء أفضل منه ومع ذلك يقطع لسانه عن ذكر العالمين، فلا يتم له عمل إلا به، ويخرج الغل والبغي والكبر من قلبه في جميع أحواله، وكان لسانه في السر والعلانية واحدًا ومشيئته في السر والعلانية واحدًا وكلامه كذلك، والخلق عنده في النصيحة واحدًا، ولا يكون من الناصحين وهو يذكر أحدًا من خلق الله بسوء أو يعيره بفعل، أو يحب أن يذكر عنده بسوء، أو يرتاح قلبه إذا ذكر عنده بسوء، وهذا آفة العابدين وعطب النساك وهلاك الزاهدين، إلا من أعانه الله عز وجل على حفظ لسانه وقلبه برحمته. * * * (فصل) وأما التوكل: فالأصل فيه قوله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]، وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 23]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت الأمم بالموسم، فرأيت أمتي قد ملأت السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، فقيل لي: أرضيت؟ قلت: نعم، قيل: ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، لا
পৃষ্ঠা - ৬৫৫
يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللهم اجعلهع منهم، فقام آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: سبقك بها عكاشة". وحقيقة التوكل: تفويض الأمور إلى الله عز وجل، والتنقي عن ظلمات الاختيار والتدبير، والترقي إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير، فيقطع العبد ألا تبديل للقسمة، فما قسم له لا يفوته، وما لم يقدر له لا يناله، فيسكن قلبه إلى ذلك، ويطمئن إلى وعد مولاه، فيأخذ من مولاه. والتوكل ثلاث درجات: وهي التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض، فالمتوكل يسكن إلى وعد ربه، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. وقيل: التوكل بداية، والتسليم وسط، والتفويض نهاية. وقيل: التوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. وقيل: التوكل صفة العوام، والتسليم صفة الخواص، والتفويض صفة خاص الخاص. وقيل: التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم، والتفويض صفة نبينا صلوات الله عليهم أجمعين. فالتوكل على كمال الحقيقة وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه حتى لم يبق لها أثر، فلم ير مع الله تعالى غير الله عز وجل. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله عز وجل كالمبيت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير، فالمتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون لا يسأل ولا يريد ولا يرد ولا يحبس. وقال أيضًا: التوكل هو الاسترسال. وقال حمدون رحمه الله تعالى: هو الاعتصام بالله عز وجل.
পৃষ্ঠা - ৬৫৬
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء مما سوى الله عز وجل. وقيل: التوكل رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد. وقال أبو علي الروذباري رحمه الله تعالى: مراعاة التوكل ثلاث درجات: الأولى منها: إذا أعطي شكر، وإذا منع صبر. والثانية: أن يكون العبد المنع والعطاء عنده واحد. والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه لعلمه باختيار الله تعالى له ذلك. وروي عن جعفر الخلدي قال: قال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصًا وحشيًا، فجئت إليه فقلت: أجني أم إنسي، فقال: بل جني، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة، فقلت له: بلا زاد ولا راحلة؟ قال: نعم. فينا أيضًا من يسافر على التوكل، فقلت له: ما التوكل؟ قال الأخذ من الله. وقال سهل رحمه الله تعالى: هو معرفة معطي أرزاق المخلوقين، ولا يصح لأحد التوكل حتى يكون عنده السماء كالصفر والأرض كالحديد، لا ينزل من السماء مطر، ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن له من رزقه بين هذين. وقيل: هو ألا تعصي الله تعالى من أجل رزقك. وقال بعضهم: حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله تعالى، ولا لرزقك خازنًا غيره، ولا لعملك شاهدًا غيره. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه. وقال النوري رحمه الله تعالى: هو أن تفنى تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلاً ومدبرًا ونصيرًا. قال الله تعالى: {وكفى بالله وكيلاً} [النساء: 81]. وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل، كاكتفاء الخليل بالجليل حين لم ينظر إلى عناية جبريل عليه السلام. وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادًا على خالق الأرض والسموات. وقيل لبهلول المجنون رحمه الله تعالى: متى يكون العبد متوكلاً؟ قال: إذا كان بالنفس غريبًا بين الخلق، وبالقلب قريبًا إلى الحق. وقيل لحاتم الأصم رحمه الله تعالى: علام بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: على
পৃষ্ঠা - ৬৫৭
أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست اشتغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأبادره، وعلمت أني بعين الله تعالى في كل حال فأنا مستح منه. وعن أبي موسى الدبيلي قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ إلى الرسغ لم تخف مع الله شيئًا، فقال أبو موسى رحمه الله تعالى: فخرجت إلى أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى أسأله عن التوكل فدخلت بسطام ودققت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: يا سيدي افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، خذ الجواب من الباب، فانصرفت، فلو أن الحية التي هي مطوقة بالعرش همت بك لم تخف مع الله شيئًا، قال أبو موسى رحمه الله تعالى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل، فأقمت بها سنة، ثم اعتقدت الزيارة، فخرجت إلى أبي يزيد، فقال لي: الآن جئتني زائرًا مرحبًا بالزائر ادخل، فأقمت عنده شهرًا لا يقع لي شيء إلا أخبرني به قبل أن أسأله، فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك فقال: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، فانصرف، فجعلتها فائدة وانصرفت. وعن ابن طاوس اليماني رحمه الله تعالى عن أبيه طاوس رحمه الله تعالى قال: إن أعرابيًا جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك، حتى أخرج إليها ومضى، فخرج الأعرابي من المسجد الحرام، وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرع رأسه إلى السماء وقال: اللهم ما سرق مني شيء وما سرق إلا منك. قال طاوس: فبينما نحن كذلك مع الأعرابي إذ رأينا رجلاً نازلاً من رأس جبل أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى، ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي فقال: خذ راحلتك وما عليها، فسألته عن حاله، فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس، فقال لي: يا سارق مد يدك، قال: فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فبتلها وعقلها في عنقي، وقال: انزل ورد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو توكلتم
পৃষ্ঠা - ৬৫৮
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا". وروى محمد بن كعب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه مما في يديه". وكان عمر رضي الله عنه يتمثل بهذين البيتين: هون عليك فإن الأمور ... بأمر الإله مقاديرها فليس يأتيك مصروفها ... ولا عازب عنك مقدورها وسئل يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً. وقال بشر رحمه الله تعالى: يقول أحدهم: توكلت على الله يكذب، واليه فإن لو توكل على الله رضي بما يفعل به. وقال أبو تراب التخشبي رحمه الله تعالى: هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطي شكر، وإن منع صبر. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: التوكل: ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة. وقال ذو النون رحمه الله تعالى أيضًا لرجل سأله عن التوكل فقال: هو خلع الأرباب، وقطع الأسباب، فقال له السائل: زدني، فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية. وقال أيضًا: هو انقطاع المطامع. وأما الحركة بالظاهر التي هي الكسب بالسنة فلا تنافي توكل القلب بعدما يتحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى في قلبه، لأن محل التوكل القلب، وهو تحقيق الإيمان، فمن أنكر الكسب فقد أنكر السنة، ومن أنكر التوكل فقد أنكر الإيمان، فإن تعسر شيء من الأسباب فبتقدير الله عز وجل، وإن تيسر شيء منها فتيسيره عز وجل، فتكون جوارحه وظواهره متحركة في السبب بأمر الله عز وجل، وباطنه ساكن لوعد
পৃষ্ঠা - ৬৫৯
الله عز وجل. وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "جاء رجل على ناقة له فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- اعقلها وتوكل". وقيل: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه عز وجل. وقيل: التوكل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك. وقيل: التوكل الثقة بما في يد الله عز وجل، واليأس مما في أيدي الناس. وقيل: التوكل إفراغ السر عن التفكير للتقاضي في طلب الرزق. * * * (فصل) وأما حسن الخلق: فالأصل فيه قول الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في كتابه المنزل عليه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. وما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "قيل: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: أحسنهم خلقًا". الخلق الحسن أفضل مناقب العبد وبه تظهر جواهر الرجال، والإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه. وقيل: إن الله عز وجل خص نبيه ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بما خص به من المعجزات والكرامات والفضائل، ثم لم يثن عليه بشيء من خصاله بثمل ما أثنى عليه بخلقه، فقال عز من قائل: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. وقيل إنما وصفه الله تعالى بالخلق العظيم لأنه جاد بالكونين، واكتفى بالله عز وجل. وقيل: الخلق العظيم: أن لا يخاصِم ولا يخاصَم من شدة معرفته بالله تعالى. وقيل: معناه لم يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق. وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى: هو ألا تكون له همة غير الله عز وجل.
পৃষ্ঠা - ৬৬০
وقال الجنيد رحمه الله تعالى: سمعت الحارث المحاسبي يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء معه الوفاء. وقيل: الخلق الحسن استصغار ما منك، واستعصام ما لك. وقيل: علامة حسن الخلق كف الأذى، واحتمال المؤن. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه رضي الله عنهم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق". وحسن الخلق مع الله عز وجل أن تؤدي أوامره، وتترك نواهيه، وتطيعه في الأحوال كلها من غير اعتقاد استحقاق العوض عليه، وتسلم جميع المقدور إليه من غير تهمة، وتوحده من غير شرك، وتصدقه في وعده من غير شك. وقيل لذي النون المصري رحمه الله تعالى: من أكثر الناس همًا؟ قال: أسوأهم خلقًا. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وثيابك فطهر} [المدثر:4] أي خلقك فحسن. وقيل في قوله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان:20] قيل: الظاهرة: تسوية الخلق، والباطنة: تصفية الخلق. وقيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: هل فرحت في الدنيا قط؟ فقال: نعم مرتين، إحداهما: كنت قاعدًا ذات يوم فجاء كلب وبال علي، والثانية، كنت قاعدًا فجاء إنسان وصفعني. وقيل: كان أويس القرني رحمه الله تعالى إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فيقول: إن كان لابد فالرموني بالصغار لئلا تدموا ساقي وتمنعوني عن الصلاة. وقيل: شتم رجل الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى وكان يتبعه، فلما قرب من الحي وقف وقال: يا فتى إن كان بقي في قلبك شيء فقله كيلا يسمعك بعض سفهاء الحي فيجيبوك. وقيل لحاتم الأصم رحمه الله تعالى: يحتمل الرجل من كل أحد، قال: نعم، إلا
পৃষ্ঠা - ৬৬১
من نفسه. وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا غلامًا له فلم يجبه، فدعاه ثانيًا وثالثًا فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعًا، فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: نعم، قال: ما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، قال: امض فأنت حر لوجه الله عز وجل. وقيل: الخلق الحسن أن تكون من الناس قريبًا وفيما بينهم غريبًا. وقيل: الخلق الحسن قبول ما يرد عليك من جفاء الخلق وقضاء الحق بلا ضجر ولا قلق. وقيل: مكتوب في الإنجيل: عبدي اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله تعالى: يا مرائي، فقال: يا هذه قد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تعرف ثلاثًا إلا عهد ثلاث: الحليم عند الغضب، والشجاع في الحرب، والأخ عند الحاجة إليه. وقال موسى عليه السلام: يا إلهي أسألك ألا يقال لي ما ليس في، فأوحى الله تعالى إليه: ما فعلت ذلك لنفسي، فكيف أفعله لك؟ * * * (فصل) وأما الشكر: فالأصل فيه قوله عز وجل: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] وما روي عن عطاء رحمه الله تعالى قال: "دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكت ثم قالت: وأي شيء من شأنه لم يكن عجبًا؟ إنه أتاني في ليلة فدخل معي في فراشي، أو قالت: في لحافي: حتى مس جلدي جلده، ثم قال: يا بنت أبي بكر ذريني أتعبد لربي، قالت: فقلت: إني أحب قربك، ولكني أؤثر هواك، فأذنت له -صلى الله عليه وسلم- فقام إلى قربة من ماء، فتوضأ وأكثر صب الماء، ثم قام فصلى، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل -صلى الله عليه وسلم- كذلك حتى جاء بلال رضي الله عنه فأخبره بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال -صلى الله عليه وسلم-:
পৃষ্ঠা - ৬৬২
أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ ولم لا أفعل، وقد أنزل الله عز وجل علي: {إن في خلق السموات والأرض} [البقرة:164] ". وحقيقة الشكر عند أهل التحقيق: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخصوص، وعلى هذا المعنى وصف الله تعالى نفسه بأنه الشكور توسعًا، معناه أنه يجازي العباد على الشكر، فسمي جزاء الشكر شكرًا، كما قال الله عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:4]. وقيل: حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بذكر إحسانه له، ثم إن إحسان العبد طاعته لله، وإحسان الحق سبحانه إنعامه على العبد، وشكر العبد على الحقيقة إنما هو نطق اللسان وإقرار القلب بإنعام الرب. ثم الشكر ينقسم أقسامًا إلى: شكر اللسان وهو اعترافه بالنعمة بنعمت الاستكانة. وشكر بالبدن والأركان وهو اتصاف بالوفاء والخدمة. وشكر القلب وهو انعكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة. وقيل: شكر العينين أن تستر عيبًا تراه لصاحبك، وشكر الأذنين أن تستر عيبًا تسمعه فيه. وفي الجملة الشكر ألا تعصي الله تعالى بنعمه. ويقال: شكر هو شكر العالمين فيكون من جملة أقوالهم، وشكر هو شكر العابدين، فيكون نوعًا من أفعالهم، وشكر هو شكر العارفين، يكون باستقامتهم له عز وجل في عموم أحوالهم، واعتقادهم أن جميع ما هم فيه من الخير وما يظهر منهم من الطاعة والعبودة والذكر له عز وجل بتوفيقه وإنعامه وعونه وحوله وقوته عز وجل، وانعزالهم عن جميع ذلك والفناء فيه، والاعتراف بالعجز والقصور والجهل، ثم الاستكانة إليه عز وجل في جميع الأحوال. وقال أبو بكر الوراق رحمه الله تعالى: شكر النعمة مشاهدة المنة وحفظ الحرمة.
পৃষ্ঠা - ৬৬৩
وقيل: شكر النعمة أن ترى نفسك فيه طفيليًا. وقال أبو عثمان رحمه الله تعالى: الشكر معرفة العجز عن الشكر. وقيل: الشكر على الشكر أتم من الشكر، وذلك أن ترى شكرك بتوفيقه، ويكون ذلك التوفيق من أجل النعم عليك فتشكره على الشكر ثم تشكره على شكر الشكر إلى ما يتناهى. وقيل: الشكر إضافة النعم إلى مولاها بنعت الاستكانة له. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: الشكر ألا ترى نفسك أهلاً للنعمة. وقيل: الشاكر الذي يشكر على الموجود، والشكور الذي يشكر على المفقود. وقيل: الشاكل الذي يشكر على النفع، والشكور الذي يشكر على المنع. ويقال: الشاكر الذي يشكر على العطاء، والشكور الذي يشكر على البلاء. ويقال: الشاكر الذي يشكر عند البذل، والشكور الذي عند المطل. وقال الشبلي رحمه الله تعالى: الشكر رؤية النعم لا رؤية النعمة. وقيل: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود. وقال أبو عثمان رحمه الله تعالى: شكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعاني قال الله عز وجل: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]. وقال داود عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: الآن قد شكرتني. وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر. وقيل: لما بشر إدريس عليه السلام بالمغفرة سأل الحياة، فقيل له: لم؟ فقال: لأشكره، فإني كنت أعمل قبله للمغفرة، فبسط الملك جناحه وحمله إلى السماء. وقيل: مر بعض الأنبياء عليه السلام بحجر صغير يخرج من الماء الكثير، فتعجب منه، فأنطقه الله له، فسأله عن ذلك، فقال: منذ سمعت الله عز وجل يقول: {نارًا وقودها الناس والحجارة} [مريم: 6] فأنا أبكي من خوفه، فدعا ذلك النبي عليه السلام أن يجير ذلك الحجر من النار، فأوحى الله عز وجل إليه، إني قد أجرته من النار، فمر ذلك النبي، فلما عاد وجد الماء يتفجر منه أوفر مما كان قبل ذلك، فعجب، فأنطق الله
পৃষ্ঠা - ৬৬৪
تعالى الحجر له، فقال له: لِمَ تبكي وقد غفر الله لك؟ فقال: ذلك كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور. وقيل: الشاكر مع المزيد، لأنه في شهود النعمة، قال الله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] والصابر مع الله لأئذ به تعالى لأنه في شهود المبلى، قال الله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153، والأنفال:46]. وقيل: الحمد على الأنفاس، والشكر على نعم الحواس. وقيل في الخبر الصحيح: "أول من يدعى إلى الجنة الحمادون لله على ما صنع". وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخًا كبيرًا قد طعن في السن، فسألته عن حاله، فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي، وهي كذلك كانت تهواني، فاتفق أني تزوجت بها، فليلة زفافها قلت لها: تعالي حتى نحيي هذه الليلة شكرًا لله عز وجل على ما جمعنا، فصلينا تلك اللية ولم يفرغ أحدنا إلى الآخر، فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك، فمنذ سبعين سنة أو ثمانين سنة ونحن على تلك الحالة كل ليلة، أليس كذلك يا فلانة؟ فقالت العجوز: هو كما قال الشيخ. * * * (فصل) وأما الصبر: فالأصل فيه قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]. وقوله عز وجل: {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النمل: 127]. وما روي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الصبر عند الصدمة الأولى". وما روي "أن رجلاً قال: يا رسول الله ذهب مالي وسقم جسمي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه، إن الله تعالى إذا أحب عبدًا ابتلاه، وإذا ابتلاه صبره".
পৃষ্ঠা - ৬৬৫
وما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله عز وجل لا يبلغها بعمله حتى يبتلي ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك". وما جاء في الخبر "أنه لما نزل قوله تبارك وتعالى: {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: غفر الله لك يا أبا بكر أليس تمرض؟ ألي يصيبك البلاء؟ أليس تصبر؟ أليس تحزن؟ فهذا ما تجزون به". يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك. فالصبر على ثلاث أضرب: أحدهما: صبر لله عز وجل، وهو على أداء أمره وانتهاء نهيه. وصبر مع الله عز وجل، وهو الصبر تحت جريان قضائه وافعاله فيك من سائر الشدائد والبلايا. وصبر على الله عز وجل، وهو الصبر على ما وعد من الرزق والفرج والكفاية والنصر والثواب في دار الآخرة. وقيل: الصبر على قسمين: أحدهما: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على مال ليس بكسب له. فالصبر على الكسب ينقسم على قسمين، أحدهما: على ما أمر الله به عز وجل، والثاني على ما نهاه عز وجل عنه. وأما الصبر على ما ليس بكسب للعبد: فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله وقضائه فيما له فيه مشقة وألم في القلب والجسد. وقيل: الصابرون ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار. وقيل: وقف رجل على الشبلي رحمه الله تعالى فقال له: أي الصبر أشد على الصابرين؟ قال: الصبر في الله، فقال: لا، فقال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، قال: فأيش؟ قال: الصبر على الله، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.
পৃষ্ঠা - ৬৬৬
وقال الجنيد رحمه الله تعالى: السير من الدنيا إلى الآخرة سهم هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الحق شديد، والسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد. وسئل رحمه الله تعالى عن الصبر؟ فقال: تجرع المرارة من غير تعبيس. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"، وقيل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحة المعيشة. وقيل: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى. وقيل: الصبر هو المقام مع البلاء بحسن الصحة، كالمقام مع العافية. وقيل: أحسن الجزاء على العبادة الجزاء على الصبر ولا جزاء فوقه، قال الله تعالى: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 96]، وقال عز وجل: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10]. وقيل: الصبر هو الثبات مع الله عز وجل، وتلقي أذية بلائه بالرحب والدعة. وقال الخواص رحمه الله تعالى: الصبر الثبات مع الله تعالى على أحكام الكتاب والسنة. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين، واعجبًا كيف يصبرون؟ وأنشد: الصبر يحمل في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمل وقيل: الصبر ترك الشكوى. وقيل: هو الاستكانة والاستعاذة بالله عز وجل. وقيل: الصبر كاسمه. وقيل: الصبر هو ألا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، والتصبر
পৃষ্ঠা - ৬৬৭
هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة. * * * (فصل) وأما الرضا: فالأصل فيه قول الله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة:22، والبينة: 8]. وقوله تبارك وتعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} [التوبة: 21] الآية. وروي عن ابن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله عز وجل ربًا". وقيل: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر. وروي عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا} [النحل:58]، هذا صنيع مشركي العرب، أخبرنا الله عز وجل بخبيث صنيعهم. فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له، وقضاء الله عز وجل خير من قضاء المرء لنفسه، وما قضاء الله لك يا ابن آدم فيما تكره خير لك مما قضى الله عز وجل لك فيما تحب، فاتق الله تعالى وارض بقضائه، قال الله تبارك وتعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. يعني ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، فالله عز وجل طوى عن الخلق مصالحهم وكلفهم عبوديته من أداء الأوامر وانتهاء المناهي، والتسليم في المقدور والرضا بالقضاء فيما لهم وعليهم في الجملة، واستأثر هو عز وجل بالعواقب والمصالح، فينبغي للعبد أن يديم الطاعة لمولاه، ويرضى بما قسم الله له ولا يتهمه. واعلم أن تعب كل واحد من الخلق على قدر منازعته المقدور للقدر، وموافقته لهواه وترك رضاه بالقضاء، فكل من رضي بالقضاء استراح، وكل من لم يرض به طالت شقاوته وتبعه ولا ينال من الدنيا إلى ما قسم له، فما دام هواه متبعًا قاضيًا عليه فهو غير راض بالقضاء، لأن الهوى منازع للحق عز وجل، فتعبه متكاثف متزايد، فاستجلاب
পৃষ্ঠা - ৬৬৮
الراحة في مخالفة الهوى، لأن فيه الرضا بالقضاء بلا بد، واستجلاب التعب والنصب في موافقة الهوى، لأن فيه منازعة الحق عز وجل بلا بد، فلا كان الهوى، وإذا كان فلا كنا. واختلف أهل العلم والطريقة في الرضا هل هو من الأحوال أو من المقامات؟ فقال أهل العراق: هو من جملة الأحوال، وليس هو كسبًا للعبد، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال ثم تحول وتزول ويأتي غيرها. وقال الخراسانيون: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل يعني يؤول إلى غاية ما يتوصل إليه العبد باكتسابه. والجميع بينهما ممكن بأن يقال: بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وهي ليست بمكتسبة. وفي الجملة الراضي هو الذي لا يتعرض على تقدير الله عز وجل. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: ليس الرضا ألا تحس بالبلاء، إنما الرضا ألا تعترض على الحكم والقضاء. وقد قالت المشائخ رحمهم الله تعالى: الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وجنة الدنيا: أكرم من أكرم بالرضا فقد لقي بالرحب الأوفى، وأكرم بالقرب الأعلى. وقيل إن تلميذًا قال لأستاذه: له يعرف العبد أن الله تبارك وتعالى راضٍ عنه؟ قال: لا، كيف يعلم ذلك، ورضاه غيب، فقال التلميذ: يعلم ذلك. فقال: كيف؟ قال: إذا وجدت قلبي راضيًا عن الله تعالى علمت أنه راض عني، فقال الأستاذ: لقد أحسنت يا غلام، ولا يرضى العبد عن الله حتى يرضى الحق جل جلاله عنه، قال الله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة: 22، والبينة: 8] أي برضاه عنهم رضوا عنه. وقيل: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: إلهي دلني على عمل إذا عملته رضيت عني فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى عليه السلام ساجدًا متضرعًا، فأوحى الله عز وجل إليه يا ابن عمران إن رضائي في رضاك بقضائي. وقيل: من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله عز وجل رضاه فيه. وقيل: الرضا على قسمين: رضا به، ورضا عنه، فالرضا به مدبر، والرضا عنه فيما
পৃষ্ঠা - ৬৬৯
يقتضي حاكمًا وفاصلاً. وقيل: الراضي أن لو جعلت جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره. وقيل: الرضا إخراج الكراهية من القلب حتى لا يبقى إلا فرح وسرور. وسئلت رابعة العدوية رحمها الله تعالى متى يكون العبد راضيًا بالقضاء؟ فقالت رحمها الله تعالى: إذا سر بالمصيبة كما يسر بالنعمة. وقيل: قال الشبلي رحمه الله تعالى بين يدي الجنيد رحمه الله تعالى: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الجنيد رحمه الله: قولك ذا لضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. وقال أبو سليمان رحمه الله تعالى: الرضا ألا تسأل الجنة من الله ولا تستعيذ به من النار. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: ثلاثة من علامات الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: هو سرور القلب بمر القضاء. وسئل أبو عثمان رحمه الله تعالى عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك الرضا بعد القضاء" قال: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا. وروي أنه قيل للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: إن أبا ذر رضي الله عنه يقول: الفقر أحب إلى من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له. وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي رحمهما الله تعالى: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلة، والذي قال الفضيل هو الصحيح، لأن فيه الرضا بالحال، وكل خير في الرضا بالحال، قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {إني أصطفيك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} [الأعراف: 144] أي ارض بما أعطيتك، ولا تطلب منزلة غيره، وكن من الشاكرين: يعني بحفظ الحال.
পৃষ্ঠা - ৬৭০
وكذلك لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتهم فيه} [طه: 131] فأدب نبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بحفظ الحال والرضا بالقضاء والعطاء بقوله تعالى: {ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131] أي ما أعطيتك من النبوة والعلم والقناعة والصبر وولاية الدين والقدوة فيه أولى مما أعطيت غيرك وأحرى، فالخير كله في حفظ الحال والرضا به، وترك الالتفات إلى ما سواه، لأنه لا يخلو إما أن يكون ذلك قسمك أو قسم غيرك، أو أنه لا قسم لأحد، بل أوجده الله تعالى فتنة. وإن كان قسم غيرك فلا تتبع فيما لا تناله ولا يصل إليك أبدًا. وإن كان ليس بقسم لأحد بل هو فتنة، فكيف يرضى العاقل ويستحسن اللبيب أن يطلب لنفسه فتنة ويستجلبها. وقال قوم: الرضا بالقضاء هو أن يستوي عندك ما تحب وما تكره من قضائه عز وجل. وقال بعضهم: هو الصبر على مر القضاء. وقال آخر: هو طرح الكف بين يدي الله عز وجل والتسليم لأحكامه. وقال آخر: هو إسقاط التخيير على المدبر. وقال آخر: هو ترك الاختيار. وقال بعضهم: أهل الرضا هم الذين قطعوا عن قلوبهم في الأصل الاختيار، فهم لا يختارون شيئًا من الأشياء مما تريد أنفسهم، ولا شيئًا مما يريدون به الله، ولا يسألونه ولا يطالعون حكمًا قبل نزوله، فإذا وقع حكم من الله حيث لا يتشوقون إليه ولم يطالعوه، رضوا به فأحبوه وسروا به. وقال: إن لله عبادًا إذا وقع بهم الحكم من البلوى رأوه نعمة من الله عليهم، فشكروه عليها وسرّوا بها، ثم رأوا بعد سرورهم بالنعم أن اشتغالهم بالنعمة عن المنعم نقص، فاشتغلت قلوبهم بالمنعم عن النعم فكان البلاء جاريًا عليهم وقلوبهم غائبة عنه، فلما استوطنوا هذا المقام وداوموا عليه نقلهم مولاهم إلى ما هو أعلى لهم وأسمى من ذلك، لأن مواهبه عز وجل لا غاية لها ولا نهاية.
পৃষ্ঠা - ৬৭১
وأقل ما في الرضا بالقضاء أن ينقطع طمعه عما سوى الله عز وجل، وقد ذم الله عز وجل الطمع في غيره عز وجل، فروى عن يحيى بن كثير أنه قال: قرآن التوراة فرأيت فيها أن الله سبحانه وتعالى يقول: ملعون من كان ثقته بمخلوق مثله. وروي في بعض الأخبار أن الله سبحانه يقول: وعزتي وجلالي وجودي ومجدي لأقطعن أمل كل مؤمل آمل غير باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة بين الناس، ولأبعدنه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمل غير في الشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي، ويرجى غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وهي مغلقة ومفاتيحها بيدي. وروي في خبر آخر أن الله عز وجل يقول: ما من عبد يعتصم بي دون خلقي، أعلم ذلك من قلبه ونيته، فتكيده السموات والأرض ومن فيهن، إلا جعلت له من ذلك مخرجًا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني، إلا قطعت أسباب السماء من فوقه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم أهلكه في الدنيا وأتعبته فيها. وروي عن بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تعزز بالناس ذل". وقيل: من اتكل على مخلوق مثله ذل، فكفاه الطمع بما يناله من اطلاع قلبه، وتشتت همه وذله ومسكنته، فقد اجتمع عليه أمران: ذل في الدنيا، وبعد من الله عز وجل بلا ازدياد في رزقه ذرة واحدة. وقال بعضهم: لا أعرف شيئًا أضر على المريدين والطالبين من الطمع، ولا أخرب لقلوبهم ولا أذل لهم ولا أظلم لقلوبهم ولا أبعد لهم ولا أشد تشتيتًا لهمهم من الطمع، إنما كان ذلك كذلك لأنه أشرك بالله عز وجل حيث طمع في م خلوف مثله لا يملك ضرًا ولا نفعًا ولا عطاء ولا منعًا، فجعل ملك الملك المملوكة، فأنى يكون له ورع، فلا يتحقق ورعه حتى ينسب الأشياء إلى مالكها عز وجل، فيطلبها منه ولا يطلبها من غيره. وقيل: الطمع له أصل وفروع، فأصله الغفلة وفرعه الرياء والسمعة والتزين والتصنع وحب إقامة الجاه عند الناس. وقال عيسى عليه السلام للحواريين: الطمع القتول الموجى.
পৃষ্ঠা - ৬৭২
وعن بعضهم أنه قال: طمعت يومًا مرة في شيء من أمر الدنيا، فهتف بي هاتف وهو يقول: يا هذا إنه لا يحمد بالحر المريد إذا كان يجد عند الله كل ما يريد أن يركن بقبله إلى العبيد. واعلم أن لله عبادًا يخفى عليهم الطمع فيمن يملك لهم ما فيه يطمعون حتى تكون الأشياء داخلة عليهم من حيث لا يطمعون، ويرون أن حالة الطمع نقص في الأحوال، وهو أدنى درجة من درجات العارفين من أهل التوكل، ولا يخطر على قلب مريد شيء من الطمع ويساكنه، إلا لأجل كمال البعد من الله عز وجل، حيث طمع في مخلوق مثله، وهو يرى أن مولاه مطلع عليه، ثم لم يحجزه الخوف من ذلك. * * * (فصل) وأما الصدق: فالأصل فيه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]. وما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". وقيل: إن الله أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته. واعلم أن الصدق عماد الأمر وبه تمامه وفيه نظامه، وهو ثاني درجة النبوة، وهو قوله عز وجل: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69]. والصادق هو الاسم اللازم من الصدق، والصديق هو المبالغة منه، وهو من تكرر منه الصدق فصار دأبه وسجيته، وصار الصدق غالبه، فالصدق استواء السر والعلانية، فالصادق هو الذي صدق في أقواله، والصديق من صدق في أقواله وجميع أفعاله وأحواله.